من العجيب أن يشكل الفهم الأعوج لما قال نبي الله عيسى عليه السلام سبيلا للتأسيس إلى ملك عقيم لا يمكن أن يكون خصيبا أبدا ، وبور ذلك الملك سببه هذا الفصل القبيح ، والقسمة الضيزى في ملك الله سبحانه ،
لقد بات من المتسالم عليه حتى لدى كبار قساوسة الكنيسة المسيحية بمختلف طوائفهم أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يشرع للفصل بين الدين والدولة ، بمعنى أن ملكوت الله (الدين) لا علاقة له بملكوت الناس (الدولة وإدارة شؤونهم) ، وهم بهذا الفصل يصلون إلى ما يتوهمونه راحة للضمير بدعوى أن ما يقع من معاصٍ مرجعه إلى الخلل في ملكوت الناس ، أما ما يقع من خير فهو من ملكوت الله سبحانه ، ومن ثم فرجال الدين ليس عليهم سوى أن يملؤوا بطونهم من الحقوق الشرعية بحجة القيمومة عليها وما يصيب الناس من مصائب الفقر والعوز والحاجة فالمؤسسة الدينية لا علاقة لها لأن ذلك خطأ الدولة وخللها الذي لا سبيل إلى تعديله أو إعادة توجيهه لأنه سبيل الخطأ والخطيئة ، ولقد أعجب هذا المنطق الأعوج الطواغيت كلهم ن ذاك لأن هذا المنطق يشرع للطواغيت ملكهم العقيم ، ومسؤولية العقم والخيبة والعصيان يتحملها هذا العالم لأنه ـ بحسب ما يروج الكثير من علماء الدين بمختلف صبغاتهم اليهودي والمسيحي والمسلم ـ عالم الخطيئة والعصيان ، ومن ثم فمن شاء أن يتطهر من ذنوبه فعليه أن يتبتل ويعتزل الحياة وينزوي للعبادة في زاوية من زوايا الكنيسة أو الدير أو المسجد ، واعتزال الحياة هو السبيل لغفران الذنوب ، ومن ثم فرجال الدين ليس عليهم مسؤولية سوى بذل النصيحة والموعظة بما لا يثير حساسية الطواغيت ، ويزيد من استلاب الناس نفسيا وجعلهم يوقنون فعلا ؛ أن لا حل سوى الاستسلام للمنطق القائم على الظلم والجور!!! لأن هذا العالم لا سبيل فيه إلى تحقيق العدالة المطلقة ، وكل ما يستطيعه أهل هذا العالم هو تحقيق ما يصطلحون عليه بـ(العدالة النسبية) بمعنى أن ما هو عدل بالنسبة إليك قد يكون ظلما لغيرك ، وغاية العمل هو أن يزداد إحساس من يشعر بالعدالة ؛ أن العدالة قائمة ، ومحاولة تخفيف مشاعر الظلم لدى من يرى أن ما حصل عليه ليس عدلا!!!
يبدو أن بلية أنبياء الله سبحانه في هذا العالم لا تنتهي إلا في اليوم المعلوم عندما يسقط الخطاب الشيطاني المساند لخطاب الأنا البشري الجاهلي ، وعند ذاك سوف لا يجد الخطاب البشري له ما يسنده ويتعرى انحرافه من غلالة الشيطان كي يرى سوءته التي غطى عينه عنها الشيطان ، وأوهمه أن سوءته لم تزل مستترة على الرغم من انحرافه عن سبيل الستر والهداية!! وإنه لمن المحزن فعلا أن نلحظ هذا الانحراف القبيح لعلماء الديانات بسوادهم حتى أن الواقع البشري بدأ يستشعر فقدان الثقة بكل ما يقولون فضلا على فقدانه لتلك الثقة في كل عمل يقومون به ، بعد أن وجدهم يختارون العيش في الأقبية ، ويتخذون منطق النفاق الذي حكاه عن لسانهم القرآن {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}(البقرة/14) ، ولذلك تشريعهم لمنطق فصل الدين عن الدولة استنادا إلى الفهم المنحرف لقول نبي الله عيسى عليه السلام بل العمل على تحريفه حتى على مستوى الكتابة فيجعلونه هكذا (ما لله لله ...) ليكون الله سبحانه جل في علاه ، وقيصرهم على حد سواء!!! ثم أين هي تلك العقول التي تدعي العلمية والأعلمية ؛ أ ليس كتابة هذا القول وعلى تلك الصورة هو إقرار بالشرك؟؟؟!!! وألا يعني هذا بصورة مباشرة اتهام قبيح لنبي الله عيسى عليه السلام بأنه يدعو لدين الشرك وليس لدين الوحدانية؟؟؟!!!
إن كل علماء الدين على اختلاف مسمياتهم ممن يتبنى أطروحة فصل الدين عن الدولة بذريعة الفهم المنحرف ، والمنطق المحرَّف لقول نبي الله عيسى عليه السلام أن الدين لله والملك لقيصر ، أو بحسب ما طوره المنطق العلماني ؛ الدين لله والوطن للجميع ، هم مشركون لاشك في ذلك ولا ريب ، ذاك أن أولئك يجعلون لله سبحانه ندا وشريكا في ما ينبغي أن يتجلى فيه التوحيد عملياً ، فحكومة الله سبحانه والانصياع للمنصب من الله سبحانه هو دال على ممارسة عقيدة التوحيد عمليا ، أما من ينطق لسانه بالتوحيد ، ويتبنى عمليا خطاب ؛ الدين لله والوطن للجميع ، فهو مصداق لقوله تعالى{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة/22) ، والآية المباركة تشير فيما تشير إليه ؛ أن المال لله سبحانه بوصفه ؛ المنزل الماء ، والمالك للأرض ، والمخرج للثمرات ، وهو الرازق بها ، فماذا يملك قيصر بعد ذلك؟؟؟!!! ليجعل له أولئك المنحرفون ملكاً ، وينسبون هذا الجعل لنبي من أنبياء الله سبحانه!!! غير أن من يتأمل حال رجال الدين في الديانات الثلاثة ، وخاصة في هذا الزمان ، يستبين السبب الذي دعاهم إلى الاجتماع على هذا القول المحرَّف ، والفهم المنحرف ، بعد أن كان جملة من علماء الإسلام السالفين ـ سواء من أتباع نبي الله موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام أو محمد صل الله عليه وسلم من العلماء العاملين كانوا قد بذلوا مهجهم رخيصة للثبات على القول ؛ إن الدين والملك لله سبحانه وحده لا شريك له ، والسبب الذي دعا أولئك إلى مناغاة العلمانيين فيما يعتقدون هو أنهم يعلمون تماما أن وقت المنقذ المنتظر قد أزف وبدأت طلائعه ببعثه لمندوب عنه يدعو الناس إلى دينه الذي يستند إلى التوحيد الخالص لله سبحانه حتى لا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه قبله ومعه وبعده ، ، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن ولا يملك من دونه من أمره شيئا ، ولذا كان قول نبي الله عيسى عليه السلام ليفهم الناس تلك الحقيقة حيث أن عيسى عليه السلام لما رأى الدينار ورأى عليه الصورة والكتابة ، سألهم ؛ هذه لمن؟! أجابوه ؛ لقيصر ، فقال لهم عيسى عليه السلام؛ ما لقيصر لقيصر ، بمعنى أن الكتابة والصورة عائدة لقيصر ، والقيمة لا تكمن فيهما ، فهذا فعله عائد إليه وهو يبوء بإثمه ، وحقيقة المال لله سبحانه وهو عائد إليه ، بمعنى أن ليس لقيصر شيء ، فهو مملوك لا مالك!!!
ولذلك لما فهم كهنة المعبد ذلك منه وأنه يدعو لدين التوحيد عملوا على الكيد له عند الحاكم الروماني كي يحصل كل ما حصل ، والغريب أن كهنة المعبد على الرغم من انحرافهم وضلالهم ، إلا أنهم لم يفعلوا ما فعل علماء هذا الزمان ، فالكهنة كل الذي عملوه هو أنهم لما عجزوا أمام المنطق الإلهي عمدوا على التآمر على شخص المسيح عليه السلام ولذلك كادوه عند الحاكم الروماني ، أما علماء اليوم فهم يريدون قتل المسيح عليه السلام شخصية بوصفه رسول الله سبحانه والحامل لكلمته كلمة التوحيد ، فتزييف مقالة المسيح عليه السلاموتحريفها لا تفسير له سوى تآمر علماء السوء ـ ممن يسمون أنفسهم كهنة وسدنة وقساوسة ومراجع وآيات ومشايخ وما إلى ذلك من المسميات الاستلابية ـ على شخصية المسيح عليه السلام بعد أن حاول أسلافهم قتله {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً}(النساء/157) .
ولقد وجد دعاة العلمانية في قول رجال الدين وتحريفهم لمقالة عيسى عليه السلام الفرصة المناسبة في الانقضاض على اعتقاد الناس في المنقذ الإلهي ومحاولة تسفيه ذلك المعتقد وتقويضه في النفوس والعمل على ردمه ، مستندين بذلك إلى ما ذكره رجال الدين من أن الدين والدولة كأنهما ضرتان لا يجتمعان في واقع الحياة ، وهما مؤسستان منفصلتان ، فمن يدخل مؤسسة الدين فعليه أن يتجرد من مبتنيات مؤسسة الحكومة الفكرية والواقعية ، وإذا دخل مؤسسة الدولة فلا يجوز له أن يتحدث بمبتنيات الدين فكرا وواقعا ، فهو في مؤسسة الدولة رجل سياسة يعمل على وفق المصالح المادية التي تدفع ـ بحسب ما يتوهم ـ بمسيرة الدولة إلى أمام ، فهو يتعامل مع الكل على وفق مقاييس الدولة ، بغض النظر عن الانتماء سوى الانتماء إلى الدولة ، وإذا ما تحول إلى مؤسسة الدين فهو رجل دين ينماز الناس لديه على وفق انتمائهم الديني ، ولاشك في أن هذا العمل سيخلق شخصية منافقة بامتياز ، ذاك أن أقسى ما يذهب بتوازن الشخصية البشرية هو تذبذبها في اختيار جهة ما تتوجه نحوها وتعمل بكل طاقتها بمقتضى مراداتها ، قال تعالى {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}(النساء/143) ، ولذلك فالناس على وفق ذلك ينمازون إلى ؛ منحازون إلى الدين ولا يرون سواه سبيلا يسيرون فيه ، ومنحازون إلى الدنيا فهم يعملون لها والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معيشتهم ، وصنف ثالث مذبذب بين الدين والدنيا ، أو بحسب ما يصطلحون اليوم ؛ بين الدين والدولة ، فالعلمانيون ورجال الدين الذين يتبنون مقالة فصل الدين عن الدولة هم قد حسموا أمرهم باتجاه الدنيا وانحازوا لها بالكامل ولذلك فهم يرون لله سبحانه أندادا في أرضه ، قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}(البقرة/165) ، وآية حب الله سبحانه وعلامته هو طاعة وليه المنصب من عنده خليفة له ، والعمل على قيام حكومة الله سبحانه وكلمته .
وقوم لا يرون لحكم الله سبحانه بديلا ولا لصراطه مثيلا ، فهم يعملون على الإعداد والاستعداد لقيام خلافة الله سبحانه في الأرض ، ولذلك فهم مؤمنون أن لا نسبية في العدل بل هو واقع لابد كائن ويتساوى في معرفته والتعامل معه الجميع وعلى حد سواء ، وقوم أضلهم علماء السوء فضلوا فلا يكادون يهتدون سبيلا ، وأولئك لا يرون حرجا في التعاطي واقعياً مع مفردات الدولة الدنيوية ، والتمسك بما يعتقدون أنه الحق ، وهذا الصنف وكذلك فتلك الحكومة الدنيوية تعمل على تقريب علماء الدين الذين لا يهمهم سوى الحفاظ على جاههم ومالهم وسلطانهم بمقابل الإغماض عن كل ممارسات الدولة المنحرفة ، وكذلك العمل على تسفيه كل من يدعو إلى الحكومة الإلهية بالدلائل والبراهين ، ويعمدون إلى استعمال لغة الاستخفاف والتضليل ، ولذا فتلك الحكومة الدنيوية تجد أن من الواجب عليها العمل على حفظ أمن المجتمع ـ بحسب ما تدعي ـ حيال أولئك الداعين إلى قيام كلمة الله سبحانه ، وجعل ميزان الله سبحانه هو الحاكم في الناس [جاء في الإنجيل (حين أذن ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة فأرسلوا إليه تلاميذهم من الهيروديسيين ، قائلين : يا معلم نعلم أنك صادق ، وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس فقل لنا ماذا تظن ؛ أ يجوز أن تعطى الجزية لقيصر أم لا؟؟! فعلم يسوع خبثهم وقال : لماذا تجبرونني يا مراءون أروني معاملة الجزية فقدموا له دينارا فقال : لهم لمن هذه الصورة والكتابة قالوا له لقيصر . فقال لهم أعطوا إذن مال قيصر لقيصر ومال الله لله ، فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا)(إصحاح متي22)
وهكذا كانوا يريدون منه أن يقول بشكل صريح وعلى رؤوس الأشهاد إنه يحرم دفع الضرائب لحكومة القيصر اللعين ، ليوقعوه بيد هذا الطاغوت وأرجاسه اللعناء ، هذا وهم دفعوا الضرائب لقيصر وأفتوا للشعب ، بجواز دفعها لقيصر مع أنها تقوي حكومة الطاغوت ، فكانوا عبيداً للطاغوت ، وانطوت نفوسهم على الجبن بسبب حبهم للحياة ، وحرصهم عليها . أما جواب عيسى فعليه السلام معناها لا تعطوا الجزية لقيصر لان الصورة والكتابة على الدينار ليس لها قيمة إنما القيمة للذهب الذي سبك منه الدينار والذهب لله ، وعلى كل حال في النهاية اعتقل علماء بني إسرائيل عيسى . عليه السلام وجاء في الإنجيل أنهم بصقوا في وجهه الشريف ، وضربوه وأهانوه ، واتهموه انه يجدف ويكذب على الله سبحانه ، ثم سلموه إلى بيلاطس ، واتهموه انه يدعي الملك ويهدد الإمبراطورية الرومانية ، وطلبوا من بيلاطس قتله وصلبه وألَحوّا عليه بذلك ، ورد في الإنجيل (وقام الحضور كلهم وجاءوا بيلاطس واخذوا يتهمونه ويقولون (وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة في شعبنا ، ويمنعه أن يدفع الجزية إلى قيصر ، ويدعي انه المسيح الملك) فسأله بيلاطس (أنت ملك اليهود ؟) فأجاب : (أنت قلت) فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع (لا أجد جرماً على هذا الرجل) ، لكنهم أصروا على قولهم (إنه يثير الشعب بتعليمه في اليهودية كلها من الجليل إلى هنا ) إصحاح لوقا – 23 .
وعندما أراد بيلاطس الحاكم الجائر إطلاق صراحه في عيد الفصح ، رفض علماء اليهود والشعب الذي استخفوه وطلبوا أن يطلق أحد القتلة بدلا عنه وألَحوّا على قتل عيسى وصلبه ، والغريب أنهم عندما جاءوا بعيسى(ع) لقصر بيلاطس ليسلموه لم يدخلوا القصر لأنهم كانوا يعتقدون بكفر بيلاطس ، وبالتالي فمن يدخل قصره منهم يتنجس ، ومع ذلك فقد وضعوا أيديهم بيد بيلاطس للقضاء على عيسى عليه السلام، انظر كيف اجتمع أهل الباطل مع اختلافهم وتناحرهم للقضاء على الحق