بحث واعداد: محمود حسين خلف ملكاوي ( المركز الجغرافي الملكي الاردني) خريج فرنسا

لقد كان للحضارة العربية الاسلامية دورها ومساهمتها في خدمة الحضارة الانسانية وتطور العلوم،وان حاول البعض الانتقاص من قدر هذه الحضارة لأسباب لم تعد خافية على احد، وقد يسأل احدهم عن ميزة تراث الاقدميين كالعرب ومن قبلهم الاغريق وجدوى العناية والاهتمام بهذا التراث في ظل تحولات العصر وما نشهده اليوم من تقدم مذهل في شتى المجالات ، وتكمن الاجابة في ان ما خلفه الاقدمون ومنجزاتهم المتتابعة هي التي اوصلت ومهدت لبلوغ ما وصل اليه الانسان في عصرنا الحاضر، فالفكر البشري يجب ان ينظر اليه ككائن ينمو ويتطور.
ومن الخطأ ان ننجر الى مقولة ان العرب كانوا مجرد ناقلين – كما ذكر بعض المؤرخين- بل انهم نقحوا واضافوا مما يدل على الفهم والابتكار. ولست هنا بصدد سرد المجالات التي برع فيها علماء الحضارة العربية الاسلامية ، ولكن استعرض هنا جانبا ابدع فيه علماء الحضارة العربية الاسلامية المعنيون وهو" تطور العلوم الجغرافية وصناعة الخرائط".
لقد ساهم العرب المسلمون طوال القرون الوسطى بشكل فعال في تطوير صناعة الخرائط والعلوم الجغرافية ، وساعدهم في ذلك امتداد رقعة الدولة الاسلامية التي شملت ارجاء واسعة من المعمورة، وعوامل اخرى سنأتي على ذكرها، اذ ان العرب المسلمين بحكم فتوحاتهم ولعوامل تتصل بالتجارة وطلب العلم والحج، وجهوا الكثير من عنايتهم للاتصال بالعالم الخارجي، واثبتوا انهم مرنون قابلون لمسايرة الحضارات المختلفة والاستفادة منها ، فوضعوا مؤلفات قيمة وابدعوا فيها ودعموها بالخرائط والاشكال وربطوا الجغرافيا بالفلك وظهر فيهم جغرافيون زادوا في ثروة البشر العلمية ومنهم ياقوت الذي ما زال معجمه معتمدا عند الباحثين ومرجعا لهم ، والادريسي الذي كان حلقة الوصل بين جغرافية الاسلام وجغرافية الافرنج.
وقد يكون من المفيد ان نستعرض سريعا تطور انتاج الخرائط لدى الامم القديمة ولنبدأ من العهد البابلي: حيث تشير المصادر التاريخيةالى اعتبار البابليين اول من وضع اسس فن صنع الخرائط، اذ قام سكان العراق القدامى بتمثيل ظواهر ومعالم سطح الارض الطبوغرافية على الواح مستوية من الطين، واستخدموا الرموز الاصطلاحية ، واهتموا بخرائط تنظيم الري وتثبيت ملكيات الحقول الزراعية والقرى ، فقد وجدت احدى هذه الخرائط التي يزيد عمرها عن 3500 سنة منقوشة على لوح من الطين وهي الان محفوظة في متحف جامعة بنسلفانيا الامريكية، وللبابليين دراسات في رصد النجوم والكواكب ، وانتقلت فكرتهم عن العالم الذي مثلوه على شكل قرص مستدير تحيط به المياه الى الاغريق ثم الرومان وظل هذا الاعتقاد سائدا حتى العصور الوسطى.
اما الخرائط المصرية القديمة فقد كان الاهتمام منصبا بالدرجة الاولى على بيان مواقع المناجم والمعادن والطرق المؤدية اليها وخاصة الذهب، وقد يكون السبب في قلة ما عثر عليه من خرائط مصرية قديمة يعود الى ان تلك الخرائط كانت ترسم على ورق البردى الذي يتلف بسرعة بخلاف الفخار الذي استخدمه البابليون.
ولابد ان اهتمامات الاشوريين الحربية والفنيقيين في اعمالهم التجارية ورحلاتهم البحرية الواسعة اعتمدوا على خرائط, وان لم يعثر على اي منها لاسباب قد تعود لسريتها وبالتالي حفظها في اماكن بعيدة عن متناول اليد. اما في اقصى الشرق/ الصين فقد نشأت هناك حضارة زراعية قديمة عاصرت تلك الحضارات القديمة في كل من وادي النيل والرافدين, ومع ذلك لم تتأثر بها في بادىء الامر لبعد المسافة وصعوبة المواصلات ، وقد ظهرت في الخرائط الصينية القديمة ملكيات الاراضي الزراعية وتنظيم المياه وتوزيعها وحدود الدولة، ولم يعثر على نسخ اصلية من تلك الخرائط ، بل وجد وصفا لها في كتب المؤرخين الصينيين ، وبعد ان اصبح الاتصال سهلا بين الشرق والغرب ظهر التأثير الواضح للكارتوغرافيا" علم رسم الخرائط " العربية على الكارتوغرافيا الصينية.
اما خرائط الاغريق " اليونان القدماء " فقد تميزت بانها كانت فيها المحاولات الاولى لرسم الخرائط على اسس علمية دقيقة معتمدين فيها على القياسات الفلكية والرياضية في وضع خطوط الطول ودوائر العرض وتحديد المواقع الجغرافية بالنسبة لها، وكان الفيلسوف وعالم الرياضيات الاغريقي فيثاغورس اول من نادى بكروية الارض على اساس فلسفي، ورغم ذلك استمرت خرائط الاغريق بالظهور على شكل قرص دائري تحيط به البحار من كل جانب متأثرين بفكرة البابليين والكلدانيين والتي ورثها عنهم العرب فيما بعد. ومن اهم ما انتجه الاغريق في هذا المجال خريطة العالم المعروف آنذاك مؤلفة من 26 قطعة رسمها بطليموس الاسكندري الذي ولد ونشأ في الاسكندرية بمصر في القرن الثاني الميلادي.
وفي العهد الروماني ورغم توسعهم وانشاء امبراطوريتهم التي شملت حوض البحر الابيض المتوسط الا انهم اهملوا النواحي العلمية للخرائط وخطوط الطول والعرض، ومن الخرائط التي اهتم بها الرومان تلك الخرائط التخطيطية او البيانية للطرق التي تتفرع من عاصمتهم روما مبينا عليها المسافات كما هو الحال في لوحة " بوتنجر " في القرن الثالث الميلادي.

وقد استمر تدهور صناعة الخرائط في العصور الوسطى فاصبح الانساتن الاوروبي خلالها يصور العالم كما تمليه عليه عقيدته الدينية فجعل العالم على شكل قرص محاطا بالمياه من كل جانب ومركزه مدينة القدس والصليب ورأس القرص تمثله الجنة الواقعة في اقصى الشرق.
دور العرب المسلمين في تقدم العلوم الجغرافية وصناعة الخرائط :
لقد كان عرب الجاهلية يتجولون في بوادي وقفاري شبه الجزيرة العربية ويسافرون الى الشام صيفا والى اليمن شتاء ، وكانوا يهتدون بالشمس والقمر والنجوم في ترحالهم ، وراقبوا طلوع ومغيب نجوم معينة واستطاعوا بواسطتها تحديد فصول السنة الزراعية ، الا ان بزوغ نور الاسلام واتساع رقعة الدولة الاسلامية ادى الى ظهور عوامل دفعت العرب والمسلمين الى الاهتمام بدراسة الظواهر الجغرافية والاسهاب في وصفها ورسم خرائط لها ومن هذه العوامل :
اولا) النظام الاداري الجديد في جمع الضرائب والخراج ، الامر الذي يتطلب معرفة المعلومات الدقيقة عن الحيازات والمحاصيل الزراعية والصناعية والتجمعات السكانية وتقدير الخراج والضرائب النقدية والعينية.
ثانيا) فتح الطرق ومحطات البريد وضرورة ايجاد بيانات وصفية وافية لها وتحديد المسافات وظروف السفر
ثالثا) زيادة نشاط الحركة التجارية برا وبحرا نتيجة لاتساع رقعة الدولة وانتشار الامن ، ولم تقتصرهذه التجارة على ارجاء البلاد الاسلامية فحسب ، بل شملت كذلك العالم المعروف آنذاك " آسيا ، اوروبا وافريقيا " .
رابعا)كان للعامل الديني اثره في زيادة حركة الاسفار خاصة الحج كفريضة على كل مسلم يأتي من كل فج عميق ودعوة الاسلام للتفكر في الكون وفي مخلوقات الله، وكذلك تحديد مواقيت الصلاة وبداية الصيام ونهايته وضرورة تحديد اتجاه القبلة وخطوط الطول والعرض.
خامسا)طلب العلم الذي حض عليه الاسلام ، اذ ترك الكثيرون اوطانهم ورحلوا الى بلاد اخرى طلبا للعلم والمعرفةوالتفقه في الدين.
سادسا)لقد كان لاهتمام كثيرمن الخلفاء المسلمين اثر بالغ لتنشيط حركة البحث والترجمة وازدهار العلوم ومنها الجغرافية ورسم الخرائط على اسس علمية، هذا بالاضافة الى توفر الامكانات والظروف الملائمة على مستوى الحكومات والافراد.
لقد كان العرب يطلقون على الخريطة اسم " الصورة او المصور الجغرافي " او لوح الرسم، وجاءت كلمة خريطة متأخرة وهي اشتقاق من اصل اغريقي . ويمكن القول ان اول خريطة عرفت عند العرب تلك التي امر الحجاج بن يوسف الثقفي عام 89 هجرية القائد قتيبة بن مسلم الباهلي ان يرسل له بها كمصور او خريطة للمنطقة التي طال حصارها خلال فتوحاته لبلاد ما وراء النهر . اما المحاولات الاولى الجادة فكانت في بداية العصر العباسي عندما بدأ الاهتمام يزداد بصناعة الخرائط الدقيقة نسبيا وتمثل سطح المعمورة وتتضمن الظواهر الجغرافية بمواقعها الحقيقية تبعا لخط طول وعرض كل مكان، وعمل جداول لمختلف المواقع في العالم آنذاك وكان يطلق على هذه الجداول " الزيجات " وكان الخوارزمي من اشهر المهتمين بوضعها ، وصنعت بامر من الخليفة المأمون جداول سميت بالزيج المأموني مدعمة بعمليات رصد فلكي اجريت في كل من بغداد ودمشق ، وتم قياس طول الدرجة الواحدة من درجات العرض فكانت تقل كيلو مترا واحدا فقط عن تلك التي اجريت في القرن التاسع عشر ، وقاس الفلكيون كذلك درجة عرض محلة باب الطاق في بغداد فكانت 33 درجة و20 دقيقة شمالا وهي مطابقة للحقيقة والواقع . وتأثر الجغرافيونالعرب باليونان والهند في اعتماد خط طول اساسي " صفر "، فتارة اعتبروا خط الصفر يمر باقصى سواحل غرب افريقيا وتارةاخرى اعتبروا خط الصفر هو المار بجزيرة لانكا او سرنديب وهي ما يعرف بسيلان او سيريلانكا حاليا التي اعتقدوا انها تقع على خط الاستواء ، وكانت النقطة التي يتقاطع فيها خط طول صفر مع خط الاستواء يطلق عليها العرب " قبة الارض " وتقع عللى ابعاد متساوية غربا وشرقا ، شمالا وجنوبا .
واهم اثر جغرافي من عصر المأمون ما سمي بالصورة او الخريطة المأمونية التي لم يعثر على اصل لها بل عثر على وصف لها في كتب المعاصرين واستخدمت فيها الاصباغ والالوان لتمثيل مختلف الظواهر.
ويلاحظ ان الخرائط العربية رسمت بشكل مخالف للخرائط الحديثة من حيث اتجاه الشمال الذي وضعوه اسفل الخريطة والجنوب في اعلاها، وربما كان السبب يعود لاهمية الجنوب عندهم باعتباره القبلة، في حين يكون الشرق يسارا والغرب يمينا، وكانت مكة المكرمة مركز خريطة العالم التي كانت ترسم بشكل مستدير.
ان استناد الخرائط العربية الى قواعد حسابية ورياضية دقيقة كانت الخطوة الاولى والمهمة في تاريخ انتاج وصناعة الخرائط ، اما الخطوة الثانية فتمثلت في " اطلس الاسلام" في القرن الرابع الهجري الذي تضمن وصفا مفصلا لبلاد العالم الاسلامي آنذاك في خرائط مستقلة الواحدة عن الاخرى بلغ عددها 21 لوحة ويمكن ربطها معا لتكوين خريطة عامة، وصورت فيها الظواهر الجغرافية من تجمعات سكنية ومراكز حضرية وسواحل وانهار وغيرها تصويرا هندسيا ، ومن اشهر جغرافيي العرب المسلمين الذين ساهمو في صنع هذا الاطلس: البلخي، الاصطخري، المقدسي وابن حوقل.
وطاف الاصطخري البلاد الاسلامية ودون اخبار رحلاته في كتابه المعروف " المسالك والممالك " حيث قسم البلاد الى عشرين اقليما، وكل اقليم شمل منطقة جغرافية واسعة ، وكذلك الرحالة الجغرافي المقدسي الذي دون اخبار مشاهداته ورحلاته عام 375 هجرية في كتابه المعروف " احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم " ، ونبغ في أوائل القرن الخامس الهجري العالم الفلكي والرياضي المسلم "البيروني" من خوارزم الذي الف عدة كتب باللغة العربية ووضع جدولا كاملا لخطوط طول وعرض معظم المواقع الجغرافية وخريطة كبيرة لنصف الكرة الارضية يظهر فيها مدى اهتمامه بوصف كل ما هو على سطح الارض وبجغرافية البحار والطرق التي تربط الممالك بعضها ببعض ، وهذا ما اكده الرحالة ماركوبولو الايطالي الذي اقر انه اعتمد في رحلاته البحرية شرقا على خرائط ورسومات بحرية لملاحين عرب.
ويمكن اعتبار خريطة الادريسي المولود في سبتة بمراكش عام 493هجرية الخطوة الثالثة في تقدم صناعة الخرائط العربية والذي طاف
الاندلس وشمال افريقيا وآسيا الصغرى وسواحل فرنسا وانجلترا ونزل في صقلية عند ملكها روجر الثاني الذي اهتم به وقربه اليه لسعة علمه,والف كتابا في الجغرافيا سماه " نزهة المشتاق في اختراق الآفاق " , احتوى على مجموعة من الخرائط بلغ عددها سبعون خريطة, وفي مقدمتها خريطة مستديرة للعالم تمتاز بدقة الرسم , كما تضمن الكتاب وصفا لأحوال البلاد وبقاعها وبحارها وجبالها وانهارها ومزروعاتها وغلاتها وعمرانها والصناعات والتجارة والضائع التي تجلب اليها وتحمل منها , واحوال اهلها وطباعهم ولغاتهم وملابسهم
وكان ذلك عام 548 هجرية الموافق لعام 1154 ميلادية. وقد جاء في دائرة المعارف الفرنسية " ان كتاب الادريسي هو اوفى كتاب جغرافي تركه لنا العرب وان ما يحتويه من تحديد للمسافات والوصف الدقيق يجعله اعظم وثيقة جغرافية في القرون الوسطى " .
* الخرائط في العصر الحديث:
- ساعدت الكشوف الجغرافية الواسعة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وإختراع الطباعة إضافة إلى حركة الترجمة الواسعة للتراثين الإسلامي والإغريقي على مضاعفة الاهتمام بالخرائط ومحاولة رسمها بطرق خالية من الأخطاء لتفي بالغرض الذي صنعت من أجله.
- واستفاد منها الملاحون بشكل كبير جداً ساهم في وصولهم إلى المناطق والأماكن المطلوبة بكل يسر ونجاح ومن الملفت للنظر أن الخرائط في القرن الثامن عشر الميلادي جعل من فرنسا رائدة في هذا المجال، بعد أن ظل الإيطاليون رواداً لها ردحاً من الزمن.
- لقد تسيدت فرنسا هذه المدارس الأوربية في مجال صنع الخرائط بعد أن مثلت على جميع خرائطها خطوط الطول ودوائر العرض بشكل دقيق جداً ويعد هذا الأمر سبقاً علمياً، ثم توالى تطور الخرائط الجغرافية التقني شيئاً فشيئاً حتى وصلت خرائط القرن العشرين إلى مكانة غير مسبوقة بفضل ما هيأ الله سبحانه وتعالى للإنسان من وسائل تقنية متطورة جعلته يستخدم أحدث الوسائل وأفضل الأجهزة المتطورة في ذلك.
- واليوم أصبحنا نرى العالم من خلال صور الأقمار الصناعية ذات الدقة المتناهية في تصوير الكرة الأرضية وتوضيح أهم المعالم الطبيعية والبشرية عليها، مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى: ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) الإسراء - الآية