الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.وبعدُ:
فمن المعلوم أن أحد أهم العقائد التي ترتكز عليها الديانة النصرانية، العقيدة بإلهية السيد المسيح عليه السلام، وهذه العقيدة تُشكِّل أحد الاختلافات الرئيسة بين النصرانية والإسلام الذي يرى أن المسيح لم يكن إلا عبدًا مخلوقًا لله تعالى.
في حينٍ تُقرِّر العقيدة النصرانية أن المسيح هو الله تعالى نفسه، وبتعبيرٍ أكثر تفصيلًا: هو شخص الابن من الذات الإلهية "الواحدة المؤلفة من ثلاثة أشخاص"! الذي تجسّد وصار بشرًا وجاء إلى هذا العالم بصورة إنسان مثلنا؛ كى يعيش بيننا ثم يتألّم ويُصلَب حتى تكون آلامه ودمه المسكوب على الصليب وموته وسيلة لتكفير خطيئة البشر الأصلية التي ورثوها جميعًا بالولادة عن أبيهم آدم!
ومفاد ذلك أنّ الجمهور الأعظم من النصارى يعتقد أن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاث، والأقنوم لفظة يونانية تعني الشخص Person، وهذه الأقانيم أو الأشخاص الثلاث هي: شخص الآب، وهو الخالق لكل شيء والمالك والضابط للكل، وشخص ابنه، المولود منه أزلًا المساوي لأبيه في الألوهية والربوبية، وشخص الروح القدس. وهذا ما دعا إلى اعتقاده قانون الإيمان النيقوى [325 م] (نوفل أفندي نوفل: سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان، ص: [137]، ط 1922م، المطبعة الأمريكية - بيروت).

وأقول:
ولو كانت هذه الصفات المتناقضة لشخصين اثنين اتحدا بمظهرٍ واحد لكان هناك مجال لفَهْم ما يقولون، لكن الذي يعسُر على العقل فهمه، بل يستحيل فهمه وقبوله عقلًا هو أن تكون هذه الصفات لشخصٍ واحد وذاتٍ واحدة!

والحاصل أن جميع الفرق المسيحية تتفق على أن المسيح بشرٌ وإلهٌ بنفس الوقت! وإنما تختلف عن بعضها في مدى تأكيدها وإبرازها لأحد الجانبين الإلهية أو البشرية في المسيح، فاليعاقبة يؤكدون الجانب الإلهي أكثر وعلى عكسهم النساطرة الذين يبرزون أكثر الجانب البشري في حينٍ يطرح الجمهور الأعظم رؤية متوازية ومتعادلة للجانبين الإلهي والبشري دون ترجيح أي منهما على الآخر.

لكن تاريخ النصرانية يشهد أن مِنَ النّصارى مَنْ أنكر تأليه المسيح ورفض عقيدة التجسُّد والتثليث مؤكدًا تفرّد الله بالألوهية والربوبية والأزلية، وأن المسيح عليه السلام مهما علا شأنه يبقى حادثًا مخلوقًا.
ومن أمثلة هؤلاء:
1- ديودوروس أسقف طرطوس.
2- بولس الشمشاطي، وكان بطريركا في أنطاكية.
3- الأسقف لوسيان الأنطاكي أستاذ آريوس [ت 312م].
4- آريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية [ت 336م].
5- الطبيب الإسباني ميخائيل سيرفيتوس Michael Servitus [ت 1553] الذي تأثر بحركة الإصلاح البروتستانتية، وخطا في الإصلاح خطوات جذرية وجريئة؛ حيث أعلن بطلان عقيدة التثليث ورفض ألوهية المسيح بشدة وكان يُسمّي الثالوث بـ" الوحش الشيطاني ذي الرءوس الثلاثة".
6- اللاهوتي الإيطالي فاوستو باولو سوزيني Fausto Paolo Sozini [ت 1604] اشتهر باسم سوسيانوس Socianus، نشر كتابًا إصلاحيًا ينقد عقائد الكنيسة الأساسية من تثليث وتجسُّد وكفارة وغيرها.

والمتتبع لمؤلفات المحققين الغربيين المعاصرين حول تاريخ المسيحية وتاريخ الأديان والمطالِع لِما تذكره دوائر المعارف البريطانية والأمريكية الشهيرة حول المسيح يجد أن الغالبية العظمى من المفكرين والكتَّاب لا تماري في كون غالب العقائد المعقَّدة للكنيسة النصرانية -لا سيما التثليث والتجسُّد والكفارة والأقانيم- ما هي إلا تعبيرات فلسفية بعدية عن رسالة المسيح التي لم تكن إلا رسالة توحيدية أخلاقية بسيطة.
بل في نصوص العهدين ما يناقض عقيدة القول بألوهية المسيح، من ذلك:
1- جاء في إنجيل مرقس (12 : 28- 32) أن أحد اليهود الكتبة سأل المسيح فقال: "أيةُ وصيَّةٍ هي أوّل الكلّ؟ فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فِكرك ومن كل قدرتك، وهذه هي الوصية الأولى. والثانية مثلها وهي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فقال له الكاتب: جيدًا يا مُعلِّم قلت: لأن الله واحد وليس آخر سواه..".
وهذا يؤكد أن توحيد الربوبية والألوهية أساس الشريعة وأساس دعوة جميع الأنبياء عليهم السلام، وهذا ما صدّقه القرآن في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل من الآية:36]، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
2- وفي إنجيل متّى (19 : 16-17): " وإذا واحد تقدّم وقال: أيها المُعلِّم الصالح أي صلاح أعمل لتكون لي الحيوة الأبدية؟ فقال (المسيح) له: ولماذا تدعوني صالِحًا؟ ليس أحد صالِحًا إلا واحد وهو الله. ولكن إذا أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا".
وأنت تلاحظ أنّ المسيح عليه السلام قد نفى بكل صراحة عن نفسه الصلاح، ولعل المقصود به الصلاح الذاتي المُطلَق، أي القداسة الذاتية المُطلَقة، وأثبته لله الواحد الأحد فقط. ولا أدل من هذا على نفيه الألوهية عن نفسه.
3- وفي سفر هوشع (13 : 4): " وأنا الرب إلهك، من أرض مصر، وإلهًا سواي لست تعرف، ولا مُخلِّص غيري".
4- وفي سفر إشعيا (45: 5 - 7): " أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي... لكي يعرفوا من مشرق الشمس ومن مغربها أن ليس غيري. أنا الرب وليس (من ربٍ) آخر. مُصوِّر النور وخالق الظلمة وصانع السلام وخالق الشر أنا صانع كل هذه".
وقد يستدِل النصارى بقول توما للمسيح عليه السلام: "ربي وإلهي!" وعدم اعتراض المسيح على ذلك. أن العبارة أطلقها توما للتعبير عن الاندهاش والتعجب الشديد فقال: ربي وإلهي! ولا يقصِد أن المسيح نفسه ربه وإلهه، بل هو كما يقول أحدنا إذا رأى فجأة أمرًا مُدهِشًا ومحيرًا للغاية: يا إلهي! فهي صيحةٌ لله تعالى وليست تأليها للمسيح.
ولو سلّمنا جدلًا أن هذه الصيحة لم تكن لله تعالى، بل قصد توما بها المسيحَ نفسه عليه السلام، فهذا أيضًا لن يكون دليلًا على تأليه المسيح؛ لأن لفظة الإله في الكتاب المقدس -عند أهله-، مثل لفظة الرب، تأتي أحيانًا على معانٍ مجازية، لا تُفيد الربوبية ولا الألوهية الخاصة بالله تعالى. فلفظة الرب -مثلًا- في أناجيل النصارى يُقصَد بها "السيد المُعلِّم" (د. محمد جميل غازي؛ مناظرة بين الإسلام والنصرانية، ص: [455]).

كذلك الحال بالنسبة للفظة الآلهة، فهي تأتي في التوراة بمعنى المؤمنين الربانيين الذين صار إليهم وحي الله فالتزموا بوحي الله وما أنزله عليهم من منهج وتعاليم [كتاب (تفسير الكتاب المقدس) تأليف: جماعة من اللاهوتيين برئاسة فرانسيس دافيد سن، ج6، ص: [714]، ط1، 1988م، دار منشورات النفير - بيروت)]. وأضيف إلى ذلك لفظة إله وردت في التوراة تعني: السيد الكبير، من ما ورد في (الخروج 17: 1): "قد جعلتك إلهًا لفرعون، وأخاك هارون رسولك".

أما بالنسبة لافتتاحية يوحنا لإنجيله (1: 1- 3) التي يقول فيها: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان".
فالرد على هذه الشبهة، كما يلي:
أولًا: إن هذا النص ليس من كلام المسيح عليه السلام ولا من كلام أي حواري أو تلميذ مباشر من تلاميذه، بل هي فقرة إلحاقية، كما شهد بذلك رحمت الله الهندي، نقلًا على لسان كبار علماء اللاهوت..

ثانيًا: وقد يكون التفسير المعقول أنّ هذه الافتتاحية قرأها كثير من القدماء على نحو فيه اختلاف بسيط في اللفظ، لكن مهم جدًا، وقد أورد الغزالي في كتابه (الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل) اللفظ القديم الذي يُمثِّل الترجمة الحرفية للمتن اليوناني الأصلي على النحو التالى: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وإله هو الكلمة، كان هذا قديمًا عند الله، كلٌّ به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان...".

والفرق بين الترجمتين هو في الجملة الثالثة، فعلى حين تقول الترجمات الحديثة: "وكان الكلمةَ اللهُ"، تقول الترجمة الحرفية القديمة: "وإلهٌ هو الكلمة" بتنكير إله [في كتابه (مناظرة علنية مع شهود يهوه) يعترف الأب جورج عطية بأن هذه الترجمة هي الترجمة الحرفية للنص اليوناني الأصلي، إلا أنه يُصِر على أنه لا فرق بين "وإلهًا كان الكلمة" وبين "وكان الكلمة الله". خلافًا لشهود يهوه الذين يرون بينهما فرقًا كبيرًا وأن الترجمة الأولى الصحيحة تنفي ألوهية المسيح وتُبطِل التثليث. (انظر: ص: [127-129] من الكتاب المذكور، بيروت، منشورات دار النور، 1986م)].
وهكذا نرى أن أحاديث القوم عن ألوهية عيسى عليه السلام ليس له ما يؤيده إلا سمادير الأوهام، وأحلام الكهف!

ياسر منير