ظاهرة العنف وزعزعة أمن المجتمع وإثارة القلاقل فيه ظاهرة عرفها التاريخ على مر عصوره ،وبقي الامر منوطا بأهل المسؤولية و اصحاب القرار في كيفية معالجة اسباب هذه الظاهرة وعلاج جذورها.
عمر بن عبد العزيز الذي استحق لقب الخليفة الراشد الخامس، والذي ملأ الدنيا عدلا، كان له سياسته الخاصة واسلوبه الحكيم في اصلاح المجتمع وتفكيك جذور العنف واحدا تلو الاخر، رغم قصر خلافته التي استمرت قرابة السنتين وخمسة شهور.
لقد راى عمر بن عبد العزيز في استبعاد منطق القوة والقهر والاستبداد مقابل استخدام لغة الحوار والاقناع ورفع غطاء القدر عن البخار المحبوس قبل ان يتحول الى قذائف يمطر بها المجتمع هنا وهناك، وراى في ذلك الدرب الامثل لإستيعاب الخارجين عن القانون والمروعين للناس. بل جعل من العدل مفتاح الحل الوحيد لوقف شلال الدم وترويع الآمنين.
تجربته رضي الله عنه مع إرهاب الخوارج الذين عاثوا في الأرض فسادا منذ مقتل الخليفة الراشد علي بن ابي طالب -رضي الله عنه وأرضاه -على ايدي الخوارج في عصره تجربة فريدة اسفرت عن ذكاء خارق ومعرفة دقيقة بطبيعة النفس البشرية ، وأدت إلى ان يضع الخوارج اسلحتهم للمرة الاولى في عهده بينما استعصوا على خلفاء بني امية الذين سبقوه في الحكم، فكان إنتصارا سجله التاريخ لهذا الخليفة العادل.
خرجت إحدى فرق الخوارج في الأيام الأولى لخلافته مستأنفة تمردها المسلح، فأرسل إلى زعيمها كتابا يقول فيه((أما بعد فقد بلغني انك خرجت غضبا لله ورسوله... ولست أولى بذلك مني...فهلم أناظرك...فإن يكن الحق معنا ،تدخل فيه، وإن يكن الحق معك، نراجع أنفسنا وننظر في أمرنا ....)).
فما لبث الزعيم الخارج بعد أن قرأ رسالة الخليفة حتى شعر بالخجل من نفسه امام منطق الخليفة الجديد، فأرسل وفدا يفاوض الخليفة،فكانت النتيجة أن القت هذه المجموعة اسلحتها وعادت تمارس حياتها الطبيعية بين أفراد المجتمع بكل رغبة وإقتناع.
لاشك أن منطق العدل الذي جبلت الفطرة البشرية على حبه وحب كل من يرفعه شعارا.
.ومع مجموعة اخرى من الخوارج ساحت في الأرض تنشر افكارها وآراؤها الفاسدة تسمى ((حرورية الموصل )). ارسل إليه حاكم الموصل يستاذنه في قمعها وإسكاتها، فأرسل إليه الخليفة عمر للوالي كتابا يقول فيه((إذا رأوا ان يسيحوا في البلاد في غير أذى لأهل الذمة ... وفي غير أذى للأمة..فليذهبوا حيث شاءوا، وإن نالوا أحدا من المسلمين،أو من أهل الذمة بسوء فحاكمهم إلى الله..))
هكذا كان يرى الخليفة ألا حق له في الحجر على آراء الآخرين ولا الوصاية عليها رغم المقدرة على ذلك، فقد كان ينظر إلى حلول جذرية تجتث جذور المشكلة بدلا من الوقوف عند حلول آنية هي أشبه بالمسكنات، وهذا هو منهج الشورى والحوار الراشد الذي كان يتبناه عمر بن عبد العزيز، وكلما طولب بإستخدام القوة كمنهج سريع لقطع دابر الفكر التصادمي في البلاد كان رده من القرآن الكريم((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين))وقوله تعالى(( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)) وقوله تعالى((إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)).
عمر بن عبد العزيز كان يدرك أن آخر الدواء الكي ، ولكنه ليس الأول على الإطلاق، فقدم- رحمه الله- منطق التعامل بالعدل والحرية في التعبير والشورى والإقناع حتى مع خصومه.
كتب له والي خراسان يستأذنه في أن يرخص له بإستخدام بعض القسوة والشدة مع أهلها قائلا في رسالته للخليفة:((إنهم لايصلحهم إلا السيف والسوط)).
فكان رده حازما مبنيا على فهم دقيق للإسلوب الأمثل في التعامل مع إنحراف الفرد والجماعة :(( كذبت ، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم ، واعلم ان الله لا يصلح عمل المفسدين)).
رحم الله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فقد أتعب من بعده من حكام الملمين، ولقد كان قربه من كتاب الله وهدي نبه صلى الله عليه وسلم وتربيته الصالحة سببا في نجاحه في إدارة دولة خلت من العنف وغدا فيها الخير والحق ملكا للجميع.