إن الكارثة الكبرى التي حلت بالنصارى منذ القرون الأولى من بداية دعوتهم هي فقدان الإنجيل المنزل من الله على عبده ورسوله عيسى (عليه السلام) ، وانقطاع السند عن صاحب الدعوة أو تلاميذه المؤمنين به، فاهتدوا بغير هديه ، ويرى بعض الباحثين من النصارى وغيرهم ، أنه يوجد بعد رفع المسيح عليه السلام مباشره كتاب يحتوى على أقواله وسمى (LOGIA) ، وآخر يحتوى على سيرته وعرف ب (QUELLE) ، وأن الأناجيل الاربعه الموجودة حالياً إنما هي مجموع هذه الأقوال والسيرة ، وأما الكتابان الأصيلان فقد فقدا بعد ذلك ! وهذا من أقوى الأدلة على فقدان الإنجيل المنزل من رب العالمين ، وقد أثبتت الدراسات العلمية أنه لم توجد نسخه خطية واحدة للعهد الجديد كله قبل القرن الرابع الميلادي .
ولعل من أهم العوامل التي أدت لفقدان أنجيل عيسى(عليه السلام) :
1ـ بولس شاوؤل الذي تمكن من التظاهر بالنصرانية خداعاً وجعل لنفسه مقاماً لم يصل أليه أكابر تلاميذ المسيح فشرع في إسقاط ناموس موسى وتعاليم المسيح (عليه السلام) شيئاً فشيئاً إلى أن تمكن من إلغائها كلياً.
ومما يقوى هذا أن ما يعرف اصطلاحا بالأناجيل لم يظهر منها شئ على الإطلاق إلا بعد بداية نشر بولس لأفكاره بما يقرب من ربع قرن .
2ـ الترجمات : وهذه كان لها دور بارز في تحريف الأناجيل ، فقد ذكر شارل جنيير : (والنتيجة الأكيدة لدراسة الباحثين هي أن عيسى لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر ، ولم يقل عن نفسه أنه (أبن الله) وذلك تعبير لم يكن في الواقع ليمثل بالنسبة إلى اليهود (سوى خطأ لغوى فاحش)، وقد توصل علماء مقارنة الأديان بل وعلماء التاريخ في أوربا لنتائج مذهله حول ضياع الأصل الديني الذي جاء به عيسى (عليه السلام) ،وأن رسالته قد طورت في أطوار متعددة بما أبعدها كلية عن أصل دعوة عيسى (عليه السلام).
يعترف علماء الكتاب المقدس بضياع النسخ الأصلية من الكتاب المقدس و بالخطأ في نساخة هذه الكتب فيقولون : (وأما صيانة الكتب المقدسة إلى يومنا هذا ، فأنه وأن كانت النسخ الأصلية قد ضاعت لكن كتب العهد الجديد قد حفظت بلا تحريف ولا خلل جوهري ، وهى مثلما صدرت أولاً من أيدي كتابها فى جميع الظروف المعتبرة ، ومن المعلوم أنه في نساخة هذه الكتب خطأ من زمان إلى زمان لعدم معرفة صناعة الطباعة يومئذ ، ربما وقع حذف أو تغير أو خلل فى الحروف أو الكلمات فى بعض النسخ) أنظر : (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين ، صفوة من علماء الكتاب المقدس)، فهم يثبتون ضياع النسخة الأصلية ويقولون أنها قد حفظت ويقرون بأخطاء النساخه من زمان إلى زمان ووقوع الحذف و التغير والخلل ويذهبون إلى أن الكتاب المقدس مثلما صدر أولاً من أيدي كاتبيه !! كيف ، هم يبررون ذلك :(وأما وقوع بعض الاختلافات في نسخ الكتب المقدسة فليس بمستغرب عندما يتذكر انه قبل صناعة الطبع في القرن الخامس عشر كانت الكتب تنسخ بخط القلم ولابد أن يكون بعض النساخ جاهلاً وبعضهم غافلاً فلا يمكن أن يسلموا من وقوع الزلل ، ولو كانوا ماهرين في صناعة الكتابة ،ومتى وقعت غلطة في النسخة الواحدة فلابد أن تقع أيضاً في كل النسخ التي تنقل عنها ، وربما في كل واحدة من النسخ غلطات خاصة بها، لا توجد في النسخ الأخرى ، وعلى هذا تختلف الصور في بعض الأماكن على قدر اختلاف النسخ ... وإذا نظرنا إلى هذه الاختلافات اليسيرة يحصل من ذلك ألوف القراءات المختلفة في مئات النسخ الموجودة من الكتب المقدسة). لكن بعضهم يقول أن هذه التغيرات ربما تكون قد حدثت عن قصد يقول الأب جورج سابا: (ومعظم فروق القراءات بين المخطوطات يمكن إرجاعها إلى تغيرات حدثت عن غير دراية من الناسخ أو قصد منه خلال عملية النساخة).
ثم يصرح : (ليس لدينا من تأليف خطه أحد الكتاب القدماء بيده أو أملاه على أحدهم). وبذات المعنى يؤكد : (وقد يندهش البعض إذا عرفوا أن هذه المخطوطات جميعها لا تشتمل على النسخ الأصلية و المكتوبة بخط كتبه الوحي أو بخط من تولوا كتابتها عنهم فهذه النسخ الأصلية جميعها ، فقدت ولا يعرف أحد مصيرها).
وأمثال هذه الشهادات لا تحصى في كتب النصارى وعليها إجماعهم من ذلك قول شنودة ماهر : (ليس بين أيدينا الآن المخطوطة الأصلية أي النسخة التي بخط كاتب أي سفر من أسفار العهد الجديد أو القديم فهذه المخطوطات ربما تكون استهلكت من كثرة الاستعمال أو ربما يكون بعضها قد تعرض للإتلاف أو الإخفاء في أزمنة الاضطهاد)، ويعضد هذا القول يوسف رياض : (مع أن النسخة الأصلية المكتوبة بخط كتبة الوحي أو من أمليت عليهم منهم قد فقدت ، ولا يعرف أحد مصيرها ، إلا أن كلمة الوحي ذاتها لم تفقد). لكنه لم يوضح كيف ضاعت النسخ الأصلية ولم يفقد محتواها ؟! فضياع أصول الكتاب معناه ضياع الكتاب نفسه وضياع الكتاب معناه ضياع محتواه.
أما د. منيس عبد النور فقد كان أكثر أنصافاً حيث قال : (لا توجد بين أيدينا نسخ للأسفار المقدسة الأصلية ، بل النسخ التي نسخت فيما بعد ، فمن المحتمل وقوع بعض الهفوات وغيره فى النسخ).
حداثة الإنجيل الحالي
الحقيقة أن الكتاب المقدس نفسه لم يدع بأنه كلام الله المنزل من أوله إلى آخره ، لكن النصارى ـ كما هو واضح ـ يقدمون قول بولس في تأييد إدعاء الكتاب بأنه وحى منزل : (كل الكتاب موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ والتقويم والتأديب الذى فى البّر)، وبغير ذلك فلا يثبت أن الكتاب المقدس بوصفه مؤلفاً واحداً لم يدعى أنه كتاب الله المنزل ، وطبيعته ـ كما وقف عليها الباحث ـ لا تختلف عن طبيعة الكتب التاريخية وشبه التاريخية التي ظلت تروى شفاهة قروناً طويلة ، وتمت كتابتها وتسجيلها فيما بعد إلى أن أصبحت وثائق دينية فى العصور المتأخرة جداً ، وقد ذكر مؤلفوهم المنصفين ، أن الكتاب المقدس قد أشتمل على الحكايات الشعبية و التواريخ و الأساطير الخرافية و الأناشيد : (والذي يوجد لدينا من النصوص في الأناجيل هو كل ما كانت تقوله الكنيسة وتعلمه ناسبه أياه إلى شخصية المسيح التاريخية .)
أما دائرة المعارف الأمريكية فتذهب إلى أن : (العهد الجديد الكامل في صورته التي نجده عليها الآن لم يكن قد نشأ نشأةً كاملة حتى القرن الرابع).
إذاً فهو كتاب ناتج عن جهود الكنائس الأولى ولم يكن أساساً لها ، والذي يدل على ذلك أنه عند مراجعة وقراءة كتب الآباء القديمة وتلمس إيمانهم حول ما بات يعرف بالعهد الجديد لا نستطيع إلا أن نقول ما قالته الموسوعة الكاثوليكية : (فكرة وجود العهد الجديد بأكمله وبشكل قطعي منذ البدء منذ عصر الآباء الرسل فكرة ليس لديها أي دليل تاريخي). وهذا يعنى أن فكرة العهد الجديد ككتاب مقدس لم توجد إلا متأخرة ومتأخرة جداً ، فلم يكن ثمة كتاب يسمى بالعهد الجديد عند الآباء القدماء ، وهذا ما تؤكده الموسوعة البريطانية : (إن جميع النسخ الأصلية للعهد الجديد التي كتبت بأيدي مؤلفيها الأصلين قد اختفت ، وأن هناك فاصلاً زمنياً لا يقل عن مائتي أو ثلاثمائة سنة بين أحداث العهد الجديد وتاريخ كتابة مخطوطاته الموجودة حالياً) ، وفناء النسخ الأصلية يعنى ببساطة أننا لا نستطيع أن نتأكد من موثوقية المخطوطات و النسخ الموجودة بين أيدينا الآن ، ذلك إذا أضفنا الفارق الزمني بين تاريخ كتابة الأناجيل وتاريخ مخطوطاتها والذي يزيد عن مئتى عام ، وهو فاصل زمني كبير يجعل الأناجيل بلا سند متصل بين كتبها ومخطوطاتها التي تختلف فيما بينها اختلافا يستحيل معه الوصول إلى نص واحد متفق عليه ، وهو ما تؤكده الموسوعة البريطانية حيث تقول : (إن مقتبسات آباء الكنيسة من كتب العهد الجديد والتي تغطية كله تقريباً تظهر أكثر من مائة وخمسين ألفاً من الاختلافات بين النصوص) .فهي إذا نسخ غير متطابقة وعددها كبير فلا مجال بحال من الأحوال الأمل فى الوصول إلى النص الأصلي نفسه .
يقول (أتين دينيه) الرسام الفرنسي الذي أسلم بعد دراساته الواسعة في الأديان : (أما إن الله سبحانه قد أوحى الإنجيل إلى عيسى(عليه السلام) بلغته ولغة قومه فالذي لاشك فيه أن هذا الإنجيل قد ضاع واندثر ولم يبق له أثر أو أنه أبيد) .
ونخلص مما تقدم إلى الآتي :
* أن الإنجيل الأصلي الذي أنزل على عيسى(عليه السلام) قد فقد من النصارى ولا يعرفون له أثراً .
* أن النصارى لما فقدوا الإنجيل الصحيح كتبوا كتباً تقرب أو تبعد عنه وهى كتب بالعشرات وقد ابتداء ذلك في العصور الأولى .
* أن المتقدمين من النصارى لا يعرفون عن الأناجيل الأربعة الحالية شيئاً وإنهم لم يذكروها ألبته ، وفقدان الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام فتح الباب للتحريف العقدي .
وينقل رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق) عن بعض علماء النصرانية إقرارهم بوجود إنجيل يسوع قبل ضياعه و اختفائه ، ومنهم مارش وليكرك وكوب و أكهارت وغيرهم ، يقول إكهارت : (أنه كان في ابتداء الملة المسيحية في بيان أحوال ورسالة المسيح رسالة مختصره يجوز أن يقال أنها هي الإنجيل الأصلي ، والغالب أن هذا الإنجيل كان للمريدين الذين كانوا لم يسمعوا أقوال المسيح بأذانهم ، ولم يروا أحواله بأعينهم، وكان هذا الإنجيل بمنزلة القلب ، ويصف الدكتور / هارناك هذا الإنجيل فيقول:(والإنجيل الذي قام بتبليغه المسيح إنما كان يتعلق بالأب نفسه ، ولا يتعلق بالابن، وليس ذلك أمراً متضاداً كما أنه ليس عقلانية ، وإنما هو عرض بسيط ساذج للحقائق التي بينها مؤلفوا الأناجيل)، وقد أثبت (إينوك باول) في كتابه (تطور الإنجيل) : (أن هناك متناً سابقاً للإنجيل قد اختفى أو تم إخفاؤه عمداً فضاعت آثاره وأن المتن الحالي لأنجيل متى ـ أقدم الأناجيل ـ إنما يرجع إلى فترة تقع حوالي عام (100) للميلاد في أبعد تقدير ، وليس قبل ذلك ، وكان ذلك العمل تالياً لوضع المتن الأصلي الأسبق ، الذي يحدده المؤلف بعد عام 70 ميلادية وكل هذه التواريخ متأخرة عن زمن حياة المسيح) ، وقد قادته ـ إينوك ـ نتائج دراسته إلى استنتاج هام وهو أن المتن الأصلي للمتن الأول السابق للإنجيل قد تعرض لتحريفات وتعديلات جذرية على متنه خلال عملية استنباط إنجيل متى منه وهذه التحريفات و التعديلات أدت ـ فيما يرى المؤلف ـ إلى تحريف العقيدة الدينية للإنجيل ، لا بل إلى طمسها ... ـ ويرى بأول ـ أن التحريف المذكور قام به بعض الكتبة و الكهنوتيين في روما ، لغايات موضوعية أ و لاهوتية ، كان من جملتها محاولاتهم تبرئة ساحة روما وريثة الإمبراطورية الرومانية الغربية من دم المسيح.
ولا ريب أن الحقيقة الثانية التي خرج بها المؤلف عن وجود متن أصلى سابق للإنجيل هي الأهم وهى لا تعدو كونها مقدمة أولية وباباً يفتح أو ينبغي إعادة فتحه بالضرورة بغية التثبت من حقيقة موثوقية الأناجيل الحالية المتداولة اليوم طالما ثبت أنها ليست الأصلية ، وأعترض عليها الكثيرون ومن ذلك قول الدكتور روبرت : (لن يدعى أحداً أبداً : أن الله هو مؤلف كل أجزاء هذا الكتاب وأنه قد أوحى إلى الكتبة هذه التحريفات) .
ومن الواضح أن ما أدخله النساخ من التبديل على مر القرون تراكم بعضه على بعض ، فكان النص الذي وصل آخر الأمر إلى عهد الطباعة مثقلاً بمختلف ألوان التبديل ، و المثال الأعلى الذي يهدف إليه علم نقد النصوص هو أن يمحص هذه الوثائق المختلفة ، لكي يقيم نصاً يكون أقرب ما يمكن من الأصل الأول ، ولا يمكن في حال من الأحوال إلى الوصول إلى الأصل نفسه .
وهكذا مع اعتراف النصارى و المسلمين بأن إنجيلا نزل من الله على عيسى بن مريم عليها السلام، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يأتي بهذا الإنجيل كاملاً أو ناقصاً ، ولا حتى بصورة منه ، فنجد في أيدي النصارى أناجيل أربعه مقدسة عندهم ، وعليها معتمدهم بينما طمس مجمع نيقية بقية الأناجيل ـ يقال أنها أكثر من مائة ـ ويظهر جلياً أن في كثرة هذه الأناجيل واختلاف اتجاهاتها وأهداف كتبتها دلالة قوية على اختلافها فيما بينها نصاً ومضموناً ، وهذا أدعى للشك المفضي إلى اليقين في كتب النصارى ذلك لأن ما نزل على عيسى عليه السلام كان إنجيلاً واحداً .
أخطاء النساخ
لقد أساء النساخ كثيراً إلى نصوص العهد الجديد ، وكان أكبر خطاياهم ، كما يقول النصارى ـ أنفسهم ـ ما فعلته أيدهم من تغيير وتبديل ، (إن نسخ العهد الجديد التي وصلتنا ليست كلها واحدة ، بل يمكن للمرء أن يرى فيها فوارق مختلفة الأهمية ، ولكن عددها كثير جداً على كل حال ... أما نص العهد الجديد قد نسخ ثم نسخ طوال قرون كثيرة بين النساخ وكان صلاحهم للعمل متفاوت ، وما من أحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون أن تتصف أي نسخة كانت مهما بذل فيها من الجهد ، بالموافقة التامة للمثال الذي أخذت منه ، يضاف إلى ذلك أن بعض النساخ حاولوا أحياناً عن حسن نية أن يصونوا ما جاء في مثالهم وبدأ لهم أنه يحتوى على أخطاء واضحة ، أو قل الدقة في التعبير اللاهوتي ، وهكذا أدخلوا إلى النص قراءات جديدة تكاد تكون كلها خطأ) .
و الواضح أن رجال الكنيسة ليس لديهم حل لذلك ـ أي مشكلة النص ـ وإنما يقولون بقبول الوضع الحالي بكل ما علية من تحفظات و مآخذ ، باعتباره أحسن ما استطاعت مجهوداتهم البشرية للوصول إليه . وفى ذلك تقول السيدة إيلين ج . وايت ـ (نبيه الطائفة السبتية) ـ في تعليقها على أصالة وصحة الكتاب المقدس : (إن الكتاب المقدس الذي نقرؤه اليوم هو نتيجة عمل نساخ عديدين استطاعوا في معظم الأحيان أن ينفذوا عملهم بإتقان مدهش ولكن النساخ ، لم يكونوا معصومين من الخطأ، و الرب فى هذه الأحيان لم ير ضرورة حفظه من أخطاء النسخ) .فهذه السيدة تقول ما معناه أن الكتاب المقدس محرف لكنه مع ذلك نقى وطاهر ، إنه من عمل البشر لكنه سماوي .
ويُعزي النصارى بعض أسباب أخطاء الكتاب المقدس لعمل النساخ وأخطائهم يقول (هورن) في دلائل تحرف الكتاب المقدس:(ولوقوع اختلاف العبارة سواءً بين النسخة الواحدة أو بين النسخ وبعضها البعض أربعة أسباب :
1ـ غفلة الكاتب ونسيانه أو سهوه.
2ـ قلة النسخ المنقول عنها .
3ـ التصحيح التخيلي و إصلاح المعاني ، مثل تبديل الجمل الغير بليغة بجمل بليغة.
4ـ التحريف القصدي الذي صدر عن بعضهم لأجل أغراضه مثل أن يكون المحرف من أهل الدين ...وأحياناً من الهراطقة ... لتأييد مسألة ما لتصبح مقبولة أو لدفع اعتراض وارد .
أما د. إميل ماهر فيقول : (وقد أظهر باك في دراسته عن طريق أوريجانوس في مقارنة النصوص الكتابية ، أن اوريجانوس يرجع الفروق فى القراءات الى أسباب يسوق منها : الأخطاء أثناء عملية النقل بالنساخة والنسخ التي يتلفها الهراطقة عمداً ببث أفكارهم فيها أثناء النساخة (ومعنى ذلك أن بعض النساخ كانوا من الهراطقة)، و التعديلات التي يجريها بعض النساخ عن وعى بشئ من الاندفاع بهدف تصحيح ما يرون أنه أخطاء وقعت من نساخ سابقين).
وأول ما يلقاك من أوجه اختلاف الأناجيل في الأمر الواحد الذي لا يقبل إلا حقيقة واحدة اختلاف أنجيل متى عن إنجيل لوقا في نسب المسيح ، فأن من يقابل بين نسب يوسف النجار متبنى المسيح في الأناجيل يجد الاختلاف في ستة أوجه) ، وهذه الاختلافات تدل على أن أحد الإنجيلين لم يكن بالهام بيقين و أن افترضنا أن أحدهما صادق و الآخر كاذب ، فالكاذب لاشك لم يكن بالهام ، أو أن إنجيل متى ـ وهو عندهم الأقدم ـ لم يكن معروفاً للوقا الذي يقول أنه دقق في معلوماته ، أو أنه لم يكون معترفا ًبهذا الإنجيل ، بعدها تتوارد الاختلافات في مسألة الصلب وفى موت يهوذا الذي خان المسيح ، هل خنق نفسه ومات كما قال متى أم خر على وجهه وأنشق بطنه فانسكبت أحشاؤه كلها ومات كما قال لوقا في سفر الأعمال ، فلا يمكن الإيمان بالروايتين المختلفتين وبأنهما إلهاماً ، لان الموت بالخنق يختلف عن الموت بشق البطن فأيهما نقبل ... أم نرد الروايتين معاً ؟ ومما أضافه النساخ في أنجيل لوقا ما نسبوه للمسيح في سياق جوابه على التلميذين يوحنا ويعقوب حين افترضا عليه أن ينزل ناراً من السماء فتفنى السامرين ، فألتفت إليهما وانتهرهما ، وهنا يضيف النساخ العبارة التالية لستما تعلمان من أي روح أنتما) إنجيل لوقا : إصحاح رقم (55:9) . ، يقول الأب متى المسكين : (أتفق هنا جميع العلماء وبلا استثناء إن هذه الآية أضيفت مبكراً جداً بواسطة أحد النساخ ، لأن النص الأقدم لم يحتويها ، على كل حال هى توافق الموقف و المعنى ، والكلام ينتهي فى المخطوطات القديمة عند (وأنتهرهما) . وقد حذفت هذه الزيادة في عدد من الترجمات والطبعات الحديثة من بينها الترجمة العربية المشتركة .
ومن أخطاء النساخ مثلاً ما ورد في إنجيل يوحنا ، يذكر بركة كانت الناس تأتى إليها للشفاء (لأن ملاك كان ينزل أحياناً في البركة ويحرك الماء ، فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من المرض الذي اعتراه)، يقول العلماء المسيحيون عن هذه الكلمات : (أنها محذوفة فى كثير من المخطوطات الموثقة القديمة).
ومن ذلك السجدة المحرفة التي رويت في أنجيل لوقا حيث يروى أن التلاميذ بعد قيام المسيح من الأموات وقبل صعوده إلى السماء : (سجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم) وظلت هذه العبارات تقدم دليلاً على أن التلاميذ كانوا يضعونه في درجة الإلوهية ، ولكن الدراسة الحديثة تكشف أن هذه العبارة لم تكن موجودة في كثير من المخطوطات القديمة الموثوق بها ، ولذلك يقول تفسير حديث للكتاب المقدس : (لا توجد هذه الكلمات في المخطوط البيزائى و المخطوطات الأخرى الكثيرة الأخرى ، وهى في الأغلب مقحمة لاستكمال النص) THE INTERPRETERS BIBLE (NEW YORK) 1952 ,8 P LE3 LE . .
ومن الكلمات المقحمة وغير الموجودة في المخطوطات القديمة : الجسم و الدم ، (وأخذ خبزاً وشكر وأعطاهم قائلاً هذا جسدي الذي يبزل عنكم أصنعوا هذا للذكرى).وكذلك الكأس أيضاً بعد العشاء قائلاً في لوقا: (هذه الكأس هي العهد الجديد بدمى الذي يسفك عنكم).
والكلمات هي التي بين الأقواس وهى تعتبر أساساً للعقائد المسيحية ولاسيما للطقوس مثل العشاء الرباني ، ولكنها محرفة وملحقة حسب النسخة المنقحة ، ولذلك حذفوها منها ، ولكنها أرجعت إلى الطبقة الكاثوليكية ، رغم أن المدونين سلموا بعدم وجودها فى المخطوطات القديمة .
وفى يوحنا حذفت كلمات مثل ابن الإنسان أو ابن الله و (الوحيد) و (الذي في السماء) وأحياناً كتب (ابن الإنسان) بدلاً من (ابن الله) بدليل أنها كانت محرفة . واعتبرت قصة الزانية المذكورة في إنجيل يوحنا ملحقة في النسخة المنقحة بينما هي باقية في بقية الطبقات الحديثة على أنها تحت النظر والإعادة ، وقد أعتبر الباحثون و المفسرون أنها ملحقة ، وليس أكثر ما يثير الشك في إنجيل يوحنا من عبارة موريس بوكاى : (كل شئ يدفع إلى الاعتقاد بأن النص المنشور حالياً ينتمي إلى أكثر من كاتب واحد) . ففي هذا إشارة واضحة لعبث أيدي كثيرة في هذا الإنجيل ، وينقل ـ بوكاى ـ عن الأب كانينجسر : KANNENGIESER ـ الأستاذ بالمعهد الكاثوليكي بباريس قوله (لا يجب الأخذ بحرفية الأناجيل فهي كتابات ظرفية خصامية ، حرر مؤلفوها تراث جماعاتهم عن المسيح ) ... ويمضى ناقلاً عن مؤلفي كتاب (الترجمة المسكونية للعهد الجديد) الذي شارك في تحريره أكثر من مائة متخصص من الكاثوليك و البروتستانت قولهم : (جمع المبشرون وحرروا كل حسب وجهة نظره الخاصة ، ما أعطاهم إياه التراث الشفهي)، ولعل مرد ذلك لأنه لم يؤمن بالمسيح(عليه السلام) حال وجوده سوى عشرين ومائة رجل وقليل من النسوة ـ كما في سفر الأعمال ـ وكان كل من آمن به يكتم إيمانه مخافة الأخذ و التعذيب ، واستمرت الإضطهادات بعد رفعه (عليه السلام) ، حتى كادت الدعوة أن تفنى ، فتفرق أصحابه في أقطار الأرض يدعون إلى دينه سراً ، وفى أذهانهم أشارة من أقواله وتعاليمه ، ومن ُظفر به منهم قتل وظل الناس يتناقلون الروايات الشفوية عن أقوالة وتعاليمه ومعجزاته قرابة خمس وثلاثين سنة ولاشك أن الاضطهادات التي قارنت المسيحية فى نشأتها ، مع عدم وجود من يحافظ على التراث ويدونه ، أدت إلى ضياع الإنجيل الحقيقي وضياع كثير مما نقله الحوارين عن المسيح(عليه السلام) والى ظهور أناجيل متعددة ، فيها تعاليم متناقضة .
إذا كان مصدر هذه الكتب الأربعة واحد وهو الله عن طريق الوحي ، فلماذا اختلفت هذه الكتب عن بعضها البعض ، ولماذا أوحى الله لأحد كتاب الأناجيل مالم يوح به للآخرين ؟! هل نسى الرب ؟ أم نسى كتاب الأناجيل ؟ أم أن المعلومة التي لم ترد في أحد الأناجيل ووردت في الآخر غير مهمة ؟ أم أن كل الأناجيل هي كتابات واجتهادات شخصية خاصة في جمع الأحداث و القصص المتناقلة على السن الناس كما يقول علماء ألاهوت ، إلا يتفق النصارى انه لو جاءت كل هذه الأناجيل متفقة في اللفظ و المحتوى لكان هذا أدعى للقول بإلوهية مصدرها وبأنها وحى من الله ؟ .
الخلاصة : أنه لا يعقل أن الله تعالى علم عبده المسيح (عليه السلام) إنجيلاً محرفاً يرد فيه أنه قد مات وصلب وقبر وقام من الأموات ، وأنه حضر عرساً وحول فيه الماء إلى خمر وهو ينهى عنها ، وانه سيكون هناك شخصاً يدعى بولس سيرسل قبلاته الحارة إلى النساء العاملات معه وفى خدمته ـ أي المسيح(عليه السلام) ـ ولا يعقل أيضاً أن الله قد علم عبده المسيح توراة وأقره عليها يرد فيها أن الرب يندم ويأمر بالزنا ويطير في الهواء ويتصارع مع عبده يعقوب فيغلبه الأخير ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ... بل علمه جل وعلا كما قال : (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) الإنجيل المقصود هنا بلا ريب هو الحقيقي غير المزيف الذي يحتوى على الهدى و النور