اختار الأنصار سعد بن عبادة ..
وكان مريضًا..
ويجلس وهو مزمل بثوبه.. ولا يكاد يسمع صوته...
فأراد أن يتكلم بعد اختياره..
فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا..

فكان يبلغ ابنه بالكلام.. ويتحدث ابنه إلى الناس..

فقال سعد بن عبادة بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله... يا معشر الأنصار....

ونلاحظ أنه لم يدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بعد.. فليس هناك أحد من المهاجرين.

يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.

ونلاحظ هنا أنه يرفع شأن الأنصار فوق كل قبائل العرب بما فيها قبائل مكة وفيها قريش..

لماذا؟

هو يفسر في خطبته فيقول: إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لبث بضع عشر سنة في قومه ..
يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان..
فما آمن به من قومه إلا رجال قليل..
ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
ولا أن يعزوا دينه..
ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة
.

وهنا ما نسي أن ينسب سعد بن عبادة الفضل لله . يقول: وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له، ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.

وطبعًا كلام سعد بن عبادة هنا ...كلام حقيقي وصحيح..
فالمهاجرون في بدر مثلاً كانوا 82 أو83 ....بينما كان الأنصار231 رجلاً.

ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول: حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا.

أي أن العرب جميعًا سلمت القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.

يقول: حتى أغنى الله لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب.

وهنا سعد بن عبادة ....
وكأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم)..
لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الاتباع.

ثم يختم سعد بن عبادة خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفَّى الله رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.

مع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معان عميقة كثيرة..
ويمكن القول إجمالاً أن سعد بن عبادة ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم..
وحب الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب.

ذكر كل ذلك لهدفين رئيسيين فيما يبدو لي:

الهدف الأول

رفع الحالة المعنوية للأنصار بعد المصاب الفادح بوفاة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
ونفي الإحباط واليأس..
والدعوة لاستمرار المسيرة كما بدأها.. والثبات على أمر هذا الدين...

الهدف الثاني

التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة..
فيما يبدو لهم من حيث إنهم الذين نصروا، وآووا، وقاتلوا العرب، ومكنوا للدين.

وإجمالاً فالخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة ..

بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة ..
دخل الصديق أبو بكر ... ومعه عمر بن الخطاب.. وأبو عبيدة بن الجراح....
ورآهم الأنصار..
ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن..
فهذا قد يعطل البيعة..

نعم..
الأنصار استقروا على سعد بن عبادة..
لكنه لم يبايع بعد..
والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل..
والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين..
لقد دخل الصديق أبو بكر الوزير الأول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وثاني اثنين..
والصاحب القريب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
والملهم المحدث.. الفاروق..

ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح..
وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة..
ولقد مات أبو عبيدة في خلافة عمر ..
ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة.. لو كان حيًّا.

إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة..
ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين..

إذن هنا ستحدث مواجهة..
فالأنصار يريدون سعد بن عبادة ..
والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم..
لكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب..

ترى ماذا سيقول المهاجرون؟

أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟
ما حدث في سقيفة بني ساعدة

لنرَ كيف صور عمر بن الخطاب الموقف.. كما جاء في صحيح البخاري ومسلم..

يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة
فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم
قلت: من هذا؟
قالوا: سعد بن عبادة.


وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس..
فلفت نظر عمر بن الخطاب... ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.

يقول عمر: قلت: ما له؟
قالوا: يوعك -أي مريض- ..
فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم.


حدثت لحظة من الصمت..
ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور..
ويحدث ما لا يريدونه..
فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون...
وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه..
وإن كان ابن حجر يقول في (فتح الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس ..
فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار... والله أعلم بحقيقة الأمر..
المهم أنه أراد أن يتكلم كلامًا فصلاً..

فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر: تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد..
فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام..
وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية أخرى: رهط منا.


هنا بوادر مشكلة..
الخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله..
بينما المهاجرون رهط.. أي: عدد قليل..
وفي رواية أخرى: رهط منا... أي عدد قليل بالنسبة لنا..
وكأنه التقط أن المهاجرين سيريدون الخلافة فيهم..
فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار...
والأنصاري بالطبع يقصد المهاجرين قبل فتح مكة...
والذين يعيشون في المدينة الآن..

وإلا فلو اعتبروا أعداد القرشيين في مكة.. والذين أسلموا بعد الفتح..
فسيكونون أضعاف وأضعاف الأنصار..
وبذلك فإن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح..
أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر..
والذي نصر الإسلام في كل المشاهد والمواقع ..
هذا كان من باب التلميح..

ثم إنه بعد ذلك صرح، قال الخطيب الأنصاري: وقد دفت دافة من قومكم -أي جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا -أي يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر -أي يخرجونا منه-

ثم سكت..

لقد صرح الأنصاري الآن بشيء لا بد أن يحدث بعده جدال طويل..
فقد قال صراحة إنكم أيها المهاجرون...
ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ..
قد جئتم لتخرجونا من أمر هو يرى أنه حق الأنصار..

فكيف يكون هذا؟

وها قد جاء موقف يقول فيه المسلمون: نحن الأنصار، و: نحن المهاجرون.
وهذا أمر خطير..
ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهى عن ذلك تمامًا ...
ونهى عن دعوى الجاهلية والقبلية..
ونهى عن فساد ذات البين..
ولا بد من الحكمة الشديدة..
والحرص البالغ في معالجة الموقف وهو ما زال في بدايته..

ويجب أن نلاحظ أن كل هذا الموقف...
يحدث نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)... ولم يدفن بعد..!!!!

يقول عمر بن الخطاب : فلما سكت -أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني -أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك.

أي على مهلك...
يعني أسكته..
يريد أن يتكلم هو ..
ولعله خشي أن يقول عمر كلامًا شديدًا يعقد الموقف...

يقول عمر : فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر..

وعمر وكذا كل الصحابة... كانوا يجلون أبا بكر إجلالاً كبيرًا...
وكان إذا تكلم أنصتوا..

يقول عمر: فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.

فماذا قال أبي بكر ؟!