لكن السؤال الأصعب..
الذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلاً عن غير المسلمين هو..

(1) حتى نفهم موقف الأنصار..
لا بد أن نسمي الأشياء بمصطلحات العصر الحديثة.. حتى ندرك أبعاد الموقف بأكمله..
الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم أهل البلد الأصليون..
كانت المدينة وكأنها دولة مستقلة.. يعيش فيها الأوس والخزرج..
وذلك قبل قدوم الرسول (صلى الله عليه وسلم) .. والمهاجرين إليها..
ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة.. دولة مستقلة أخرى بجوار المدينة المنورة..
وضُيق على المهاجرين الخناق..
فاضطروا إلى ترك البلد.... واللجوء إلى المدينة المنورة..
أي أن التعريف الحديث للمهاجرين ..هو مجموعة من اللاجئين السياسيين في المدينة المنورة..
وكدولة كريمة سخية عادلة استقبلت المدينة اللاجئين..
أو المهاجرين خير استقبال وأكرمتهم وأعطت لهم..
ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد...
ومرت الأيام ولم تفرض أبدًا عليهم قيودًا تعوق من حياتهم..
بل على العكس كثيرًا ما آثرتهم على أهل البلد الأصليين..
ثم مرت أيام أخرى..
ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)..
وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة..

أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين.. أم من اللاجئين إليها؟

أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قَدّموا لأجل من قَدِم إليهم ..
أم يُقَدّم الذي جاء طريدًا من بلده فاستقبل في بلد آخر؟

لو هاجر مجموعة من الفلسطينيين مثلاً إلى أمريكا، أو إنجلترا، أو حتى إلى بلد إسلامي مجاور..
أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن يُختار الرئيس الجديد ..
من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟
هذا في عرف كل من فكر في القضية تفكيرًا عقلانيًّا بحتًا لا يصح..
ما لم يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك...
وليس هناك -فيما أعلم- بلد في العالم وضع مثل هذا القانون..
الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.

هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
هم أصحاب البلد، وأكثريتها، وملاكها، أرض آبائهم وأجدادهم..

فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟

إذن هذه نقطة.

(2) أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها..؟
واضح أن المدينة هي دار الإسلام الرئيسية ومكة والطائف ..
وغيرها ما هي إلا مدن تابعة..
أليس من المنطقي الذي يخطر على بال الأنصار ...
أنه من المصلحة أن يقود هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها..
وبتاريخها، وجذورها، أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟
هذا ولا شك خطر على بال الأنصار..
فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.

(3) أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دولة بغير الأنصار؟
المهاجرون قضوا 13 سنة كاملة في مكة..
ولم يفلحوا هناك في تحويلها لبلد إسلامي..
فكان لا بد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية للعودة مرة أخرى إلى مكة..
وسعى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى بلاد شتى لكي يئوه، وينصروه..
فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله..
ذهب الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف..
فأبوا عليه وطردوه، ورجموه بالحجارة..
خاطب معظم قبائل العرب في مواسم الحج، فردوه جميعًا..
خاطب بني حنيفة، وبني كندة، وبني شيبان، وبني عامر بن لؤي، وبني كلب، وغيرهم، وغيرهم..
فردوه جميعًا إلا طائفة صغيرة من الخزرج..
ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا بغيرهم..
ثم بعدها دخلوا في الدين أفواجًا..
وعرضوا استقبال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. والمهاجرين في بلادهم..
وبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على بذل النفس، والمال، والجهد..
والوقت، والرأي، وكل شيء..

وهاجر فعلاً رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة..
فقامت دولة الإسلام..
ولا شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت..
إلا عندما يظهر فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار...
لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.

(4) الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة ..
بعد وفاة رسول (صلى الله عليه وسلم)...
مكة البلد الحرام..
مكة التي تركوا فيها ديارهم وأرضهم وأموالهم التي صادرها المشركون..
الآن أسلم المشركون.. ومن حقهم العودة إلى بلادهم..
لأخذ ما صودر منهم هناك...
ومن حقهم أن يعيشوا في البلد الحرام حيث الصلاة بمائة ألف صلاة..
ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى..
والعائلات الأصلية في مكة وما حولها..
والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل..
خاصة في غزوة حنين ..

(5) الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)..
فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار..
لأنهم هم الذين نصروا محمدًا (صلى الله عليه وسلم)...
وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة..
وليس لهم الشرف الذي كان في قريش..
وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك..
فإن لم يكن لهم قوة الحكم والسلطان فقد يُسْتأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب..
وسيظهر هذا الإحساس في كلامهم كما سنرى في سقيفة بني ساعدة.

لهذه الأسباب مجتمعة...
ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه..
واعتقد الأنصار أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين..
ليس تقليلاً لشأن المهاجرين في نظرهم ولا إهمالاً لهم..
ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا ينازعهم فيه أحد

مع كل ما سبق ..
لعله كان من الألطف أن يخبر الأنصار إخوانهم المهاجرين بما يعتزمون فعله..

فلعلهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلاً في الخلافة.. لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل.
ولعلهم أرادوا غلق باب الفتنة.. ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر.
ولعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.

المهم أن الأنصار ذهبوا بالفعل أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة..
لتجري عملية انتخاب الخليفة..
وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبليتين الكبيرتين.

أين المهاجرون من هذه الأحداث ؟

فعلاً كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح.. في بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحوله..
وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن..
وكانوا مختلفين في قضية الدفن..

أين يدفن (صلى الله عليه وسلم)؟

أفي البقيع؟

أم مع شهداء أحد؟

أم في مكة بلده؟

أم في مكان خاص به؟

حتى جاء أبو بكر الصديق...
وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قبل.

لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟
لا بالطبع..

رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين ..هذا الجمع من الأنصار في السقيفة..
فأسرع إلى بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم أجمعين..

نادى الرجل على عمر بن الخطاب وقال: اخرج إليَّ يا ابن الخطاب.

قال عمر : إليك عني فإنا عنك مشاغيل.

لكن الرجل أصر على عمر..

فخرج له، فقال الرجل: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه..
إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًا
.

هنا أدرك عمر بن الخطاب خطورة الموقف..
فأسرع إلى الصديق أبي بكر..
وأخبره بالأمر

وقال له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار.

فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.

وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلاً..
فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف جدًّا..

فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون..
فإما أن يبايعوا على ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة.. وفي هذا فساد..

وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى..
ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية..
وشهدوا كل معارك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
هما .. عوين بن ساعدة ، ومعن بن عدي ...

فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة..
وليقضوا أمرهم -أي المهاجرين- فيما بينهم..
ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما..

لكن الصديق وعمر أصرا على الذهاب إلى السقيفة..
ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح .. وهو رجل من أعاظم المهاجرين ..
فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة..

ومن الواضح أن المهاجرين لا يضمرون في أنفسهم شرًّا..
ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة..
كما اتهمهم كثير من المستشرقين ، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط..
ولا يجمعون المهاجرين لأجل هذا الحدث الهام؟

وفي هذه الأثناء..
وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة..
كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة..
لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار سعد بن عبادة زعيمًا للمسلمين..
و سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج..
ومع ذلك أيده كل الأوس..
وهذه ولا شك فضيلة إيمانية عالية..