ثبات أبي بكر أمام فتنة الموت

الموت فتنة عظيمة..
والفراق ألمه شديد..
وكم من البشر يسقطون في هذه الفتنة..
إلا أن الصديق كان كما عودنا ...رابط الجأش... مطمئن القلب..
ثابت القدم أمام كل العوارض التي مرت به في حياته..

فقد ماتت زوجته الحبيبة القريبة إلى قلبه أم رومان ..
والدة السيدة عائشة .. وعبد الرحمن بن أبي بكر ...
ماتت في سنة 6 هـ في المدينة..
بعد رحلة طويلة مع الصديق في طريق الإيمان..
أسلمت قديمًا وعاصرت كل مواقف الشدة والتعب، والإنفاق، والإجهاد، والهجرة، والنصرة، والجهاد، والنزال..
كانت خير المعين لزوجها الصديق ..
ثم ماتت، وفارقت..
وفراق الأحبة أليم، لكن صبر الصديق صبرًا جميلًا، وحمد واسترجع...

ومات كثير من أصحابه وأحبابه ومقربيه..
مات حمزة بن عبد المطلب...
ومات مصعب بن عمير..
ومات أسعد بن زرارة..
ومات سعد بن معاذ..
ومات جعفر بن أبي طالب..
ومات زيد بن حارثة..
وغيرهم كثير ... ماتوا وسبقوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ..
فانتظر الصديق صابرًا غير مبدل..

(مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)

وجاءت فتنة كبيرة..
فتنة موته هو شخصيًا ...
ونام على فراش لا بد من النوم عليه..
نام على فراش الموت..

فماذا فعل وهو في لحظاته الأخيرة؟

ماذا فعل وهو يعلم أنه سيغادر الدنيا وما فيها؟

ماذا فعل وهو سيترك الأهل والأحباب والأصحاب؟

هل جزع أو اهتز؟

حاشا لله..

ها هو على فراش الموت يوصي عمر بن الخطاب ..
في ثبات، وثقة، واطمئنان..

اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملًا بالليل لا يقبله بالنهار..

يحذره من التسويف..
وتأجيل الأعمال الصالحة..
ويحفزه على السبق الذي كان سمتًا دائمًا للصديق في حياته...

ثم قال له ..

وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة...
وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة.. باتباعهم الحق في دار الدنيا، وثقله عليهم..
وحق لميزان يوضع فيه الحق غدًا أن يكون ثقيلًا..
وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة، باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم..
وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدًا أن يكون خفيفًا..
وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه..
فإذا ذكرتهم قلتَ: إني أخاف ألا ألحق بهم.
وإن الله تعالى ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه..
فإذا ذكرتهم قلتَ: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء.
ليكون العبد راغبًا راهبًا لا يتمنى على الله..
ولا يقنط من رحمة الله..
فإن أنت حفظت وصيتي ...فلا يك غائب أحب إليك من الموت ولست تعجزه...


انظر إلى صدق الوصية..
وحرص الصديق أن يصل إلى بكل المعاني التي كانت في قلبه إلى عمر بن الخطاب ..
الخليفة الذي سيتبعه في خلافة هذه الأمة..
ثم انظر إلى هذا الموقف العجيب...
وهو ما يزال على فراش الموت..

إذ استقبل المثنى بن حارثة قائد جيوش المسلمين آنذاك في العراق..
وكان قد جاءه يطلب المدد لحرب الفرس..
فإذا بالصديق الثابت لا تلهيه مصيبة موته..
ولا تصده آلام المرض..
وإذا بعقله ما زال واعيًا متنبهًا..
وإذا بقلبه ما زال مؤمنًا نقيًا..
وإذا بعزيمته، وبأسه وشجاعته كأحسن ما تكون..

أسرع يطلب عمر بن الخطاب الخليفة الجديد، يأمره وينصحه ويعلمه، قال:

اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به..
إني لأرجو أن أموت من يومي هذا.
فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى..
ولا تشغلنكم مصيبة، وإن عظمت عن أمر دينكم، ووصية ربكم..
وقد رأيتني مُتَوَفّى رسول الله وما صنعت، ولم يُصَب الخلق بمثله..
وإن فتح الله على أمراء الشام..
فاردد أصحاب خالد إلى العراق (كان خالد قد انتقل بجيشه من العراق إلى الشام)..
فإنهم أهله وولاة أمره وحده.. وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم.


أرأيت كيف يكون الصديق وهو في هذه اللحظات الأخيرة؟

لم ينس الجهاد..
ولم يشغل عن استنفار المسلمين..!

ما زال حتى آخر لحظة يعلم ويربي ويوجه وينصح؟
هذا هو الصديق الذي عرفناه.

ودخلت عليه ابنته أم المؤمنين عائشة ..
وهو في آخر اللحظات، ونفسه تحشرج في صدره، فآلمها ذلك، فتمثلت هذا البيت من الشعر:

لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى - إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

أي لا يغني المال عن الإنسان إذا جاء لحظة الوفاة..
فخشي الصديق أن تكون قالت ما قالت ضجرًا، أو اعتراضًا..

تقول عائشة رضي الله عنها، فنظر إلى كالغضبان، ثم قال في لطف: ليس كذلك يا أم المؤمنين..
لكن قول الله أصدق.. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)


هكذا ما زال يربي ويعلم..

ثم جاءوا لهم بأثواب جديدة كي يكفن فيها فردها..
وأمر أن يكفن في أثواب قديمة له بعد أن تعطر بالزعفران، وقال:

إن الحي أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى...

هكذا بهذا الثبات العظيم..
وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس..
وأن يدفن بجوار رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

وكان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قول الله تعالى..

(تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

غير أنه مع كل ما سبق من فتن عرضت للصديق في حياته إلى لحظة موته..
فإن كل هذه الفتن تهون، وتضعف، وتتضاءل أمام الفتنة العظمى، والبلية الكبرى..
والمصيبة القصوى التي لحقت به وبالمسلمين..
لما مات ثمرة فؤاد الصديق، وخير البشر، وسيد الأنبياء والمرسلين..
وحبيب الله..
لما مات النور المبين الذي أضاء الأرض بنبوته، وعلمه، وخلقه، ورحمته..
لما مات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
أعظم فتنة مرت بالصديق ..
وأعظم فتنة مرت بالصحابة ..

وكان من فضل الله على الصديق أنه مَنّ عليه بثبات يوازي المصيبة..
وبوضوح رؤية يقابل الفتنة..
وبنفاذ بصيرة يكشف البلوى، وينير الطريق للصديق ولمن معه من المسلمين...
ثبات أبي بكر الصديق أمام فتنة الرئاسة والمنصب

فتنة الرئاسة فتنة عظيمة.. وابتلاء كبير..
وكثير من الناس يعيش حياة التواضع..
فإذا صعد على منبر الحكم تغير، وتبدل، وتكبر..

وانظر إلى الحسن البصري يقول في كلمة عظيمة له: وآخر ما يُنزع من قلوب الصالحين، حب الرئاسة...

أما الصديق ....
إنه قد نزع منه حب الرئاسة منذ البداية..
وكان يعيش قدرًا معينًا من التواضع قبل الخلافة..
وهذا القدر تضاعف أضعافًا مضاعفة بعد الخلافة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا..
إن أعظم خلفاء الأرض تواضعًا بعد الأنبياء كان الصديق ..

والله لقد فعل أشياء يحار العقل كيف لبشر أن يتواضع إلى هذه الدرجة؟

ولولا اليقين في بشريته لكانت شبيهة بأفعال الملائكة..

وهو قد سمع قوله (صلى الله عليه وسلم) ..

"مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ لَهُمْ إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ"

والصديق جهد للمسلمين ونصح للمسلمين كأفضل ما يكون الجهد والنصح..
ولذا فهو ليس فقط يدخل الجنة معهم، بل يسبقهم إليها..

فكيف يتكبر الصديق..
وهو الذي كان حريصًا طيلة حياته على نفي كل مظاهر الكبر، والخيلاء من شخصيته..
وكان يتحرى ذلك حتى في ظاهره..

ولما قال (صلى الله عليه وسلم) .. "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"

وقعت الكلمات في قلب أبي بكر..
وتحركت النفس المتواضعة تطمئن على تواضعها..
أسرع الصديق إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...

وقال .. يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن تعاهده...

ونشعر أنه قالها، وهو يرتجف..

ويخشى من حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...

لكنه (صلى الله عليه وسلم) أثلج صدره وطمأنه..

ووضح له متى يكون استرخاء الإزار منهيًا عنه، قال: "إِنَّكَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ خُيَلَاءَ" !

شهادة من سيد الخلق، وممن لا ينطق عن الهوى..
إن الصديق لا يفعل ذلك خيلاء..
وكان من الممكن أن يقول له إنك لست متعمدًا للإسبال..
لكنه (صلى الله عليه وسلم) يخرج من كل هذا إلى الحقيقة المجردة..
وهو تواضع الصديق رضي الله عنه...

موقف آخر ..
هو موقف عجيب من مواقف الخليفة الرئيس أبي بكر الصديق ...
إذ كان يقيم بالسنح على مقربة من المدينة..
فتعود أن يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه.. وذلك أيام النبي (صلى الله عليه وسلم)..

وكان هو الوزير الأول له (صلى الله عليه وسلم) آنذاك ..

فسمع جارية تقول بعد مبايعته بالخلافة: اليوم لا تحلب لنا منائح دارنا..

فسمعها الصديق فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم..

فكان يحلبها..

موقف آخر أغرب..

كان عمر بن الخطاب يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواش المدينة من الليل..
فيسقي لها، ويقوم بأمرها..
فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح لها ما أرادت..
فجاءها غير مرة كيلا يسبق إليها، فرصده عمر..
فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها... وهو يومئذ خليفة ..

فقال عمر: أنت هو لعمري.

وكان من الممكن أن يكلف رجلا للقيام بذلك...
لكنه الصديق، يشعر بالمسئولية تجاه كل فرد من أفراد الأمة..
كما أنه قد آثر أن يخدمها بنفسه..
يربي نفسه على التواضع لله عز وجل..
ويربي نفسه على ألا يتكبر حتى على العجوز الكبيرة العمياء...

وفي موقف آخر ..
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ...

أن أبا بكر قام يوم الجمعة فقال:

إذا كان بالغداة فاحضروا صدقات الإبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن..

صدقات الإبل كانت قد جاءت كثيرة إلى أبي بكر ...
فوضعوها في مكان..
وسيدخل في اليوم التالي أبو بكر، وعمر ..
ليقسما هذه الصدقات..
و أبو بكر يحذر الناس..

فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الحظام لعل الله يرزقنا جملًا.

فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر قد دخلا إلى الإبل..
فدخل معهما..
و هنا الرجل ارتكب مخالفة واضحة لخليفة البلاد..
ودخل عليه بغير إذن..
مع كونه نبه على ذلك..

فالتفت إليه أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟

ثم أخذ منه الحظام، فضربه..

فلما فرغ أبو بكر من قسمة الإبل دعا الرجل، فأعطاه الحظام.. وقال: استقد..

أي: اقتص مني، كما ضربتك اضربني... سبحان الله..!

فقال عمر ...والله لا يستقيد، لا تجعلها سنة.

يعني كلما أخطأ خليفة في حق واحد من الرعية..
قام المظلوم بضرب الأمير فتضيع هيبته..

فقال الصديق : فمن لي من الله يوم القيامة؟

فقال عمر: أَرْضِهِ.

فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة..
ورحلها وقطيفة (أي كساء)، وخمسة دنانير، فأرضاه بها.

هذا خليفة البلاد..
وقد ضرب أحد رعاياه ضربة واحدة فقط..
لكنه يريد أن يُضْرب مكان هذا السوط الذي ضرب..
حتى يقف أمام الله عز وجل يوم القيامة خالصًا، ليس لأحد عنده شيء.

وفي موقف آخر ..
اقرأ وصيته إلى جيوشه، وهي تخرج لحرب الروم، في بعث أسامة بن زيد..
ثم بعد ذلك إلى فتح فارس، ثم إلى فتح الروم..
كان يوصيها بوصايا عجيبة، وكأنه يوصي بأصدقاء، وليس بأعداء..
كان يوصيهم بالرحمة حتى في حربهم كان مما قال لهم:

لا تخونوا
ولا تغلوا
ولا تغدروا
ولا تُمثّلوا
ولا تقطعوا شجرة مثمرة
ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة
وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم، وما فرغوا أنفسهم له...


وتأمل معي يا أخي... أيوصي بأحباب أم يوصي بأعداء؟!

والله ما عرف التاريخ مثل حضارة الإسلام..
ورقي الإسلام..
ونور الإسلام..
ولكن أكثر الناس لا يعلمون..

أين هذا من حروب الشرق والغرب؟

وأين هذا من حروب غير المسلمين؟

فالمسلمون قد علّموا غيرهم الرحمة في كل شيء ...حتى في الحروب.