أبو بكر الصديق يبكي عند قراءة القرآن

كان (أبو بكر) رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن...
ولقد أفزع ذلك أشراف قريش من المشركين..

فأرسلوا إلى (ابن الدغنة) فقدم عليهم..

فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره.. فقد جاوز ذلك...
فابتنى مسجدا في فناء داره... فأعلن بالصلاة والقراءة فيه... وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا..فانهه..


وهذا أمر طبيعي جدا..
فإذا وصلت كلمات الله وكلمات الرسول خالصة نقية إلى أسماع الناس...
وجردوا قلوبهم من المصالح...
فمن الطبيعي جدا أن يؤمنوا بها..

(فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

وطبيعي جدا ...أن يقاتل الكافرون دون ذلك... وهم يعلمون صوابها

(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)

فقالت قريش.. فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل...
وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك..
فإنا قد كرهنا أن نخفرك.. ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان...


هنا وُضع (ابن الدغنة) في موقف حرج ..
فهو لا يريد أن يخسر كل أهل قريش..
كما أنه ليس من أهل مكة الأصليين ...
ويبدو أن الكفر الشديد والعناد الكبير سيجعل مكة تغير من قوانينها وأصولها..
فتكسر قواعد الحماية وتعطل قانون الإجارة..

ولذا قالت (عائشة)... فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر ..
فقال: قد علمتَ الذي عاقدتُ لك عليه.. فإما أن تقتصر على ذلك..
وإما أن ترجع إلي ذمتي.. فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له...


هنا لا يتردد (أبو بكر)..
فالدعوة في مقدمة حياته على كل شيء ..
حتى على حياته وروحه..

فقال (أبو بكر).. فإني أرد إليك جوارك.. وأرضى بجوار الله..!

كانت هذه طبيعة (أبي بكر)..
موقف أبي بكر مع ربيعة الأسلمي

هذه النفس الرقيقة.. والقلب الخاشع...
والروح الطاهرة النقية..
والطبيعة الهينة اللينة ..
تفسر لنا كثيرا من مواقف أبى بكر العجيبة..

أخرج أحمد بسند حسن عن (ربيعة الأسلمي)..

قال (ربيعة) .. جرى بيني وبين أبي بكر كلام... فقال لي كلمة كرهتها وندم...

ولنتأمل أن هذا الكلام يدور في المدينة..
و (أبو بكر) هو المستشار الأول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
بمعنى أنه نائب الرئيس مباشرة..
و (ربيعة الأسلمي) هو خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فقال (أبو بكر) كلمة كرهها (ربيعة)...
ويبدو أن الخطأ كان في جانب (أبي بكر).. الذي أدرك ذلك ..
ويحدث أن يخطئ البشر مع علو قدرهم.. وسمو أخلاقهم..

لكن (أبو بكر) ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة...
وشعر بالندم كما قال (ربيعة) وهو يصف الموقف..

لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟

أبدا..

فرقة نفس (أبي بكر) خرجت بهذا الندم إلى خير العمل وأسرع..

وهو نائب الرئيس يقول لربيعة الخادم.. يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصا..

فقال (ربيعة) .. لا أفعل...

قال (أبو بكر).. لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

فقال (ربيعة) .. ما أنا بفاعل...

يقول (ربيعة) وهو يصف الموقف .. انطلق (أبو بكر) إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)..
وانطلقت أتلوه..
وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر..
في أي شيء يستعدي عليك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..وهو الذي قال لك ما قال..
فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق..
هذا ثاني اثنين..وهذا ذو شيبة في الإسلام..
إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه..
فيغضب.. فيأتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيغضب لغضبه..
فيغضب الله لغضبهما.. فيهلك ربيعة..!


والله إنه لمجتمع عجيب...!

وأعجب منه الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات معدودات ..حتى أصبحوا كالملائكة..

فقال الناس لـ (ربيعة) .. ما تأمرنا ؟!

قال.. ارجعوا...

ويكمل (ربيعة) لنا الوصف .. وانطلق أبو بكر الصديق وتبعته وحدي ..
حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
فحدثه الحديث كما كان..
فرفع إلي رأسه فقال (صلى الله عليه وسلم) .. "ياربيعة .. مالك والصديق ؟"
فقلت: يا رسول الله كذا وكذا... فقال لي كلمة كرهتها.. فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصا.. فأبيت..
فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. "أجل .. لا ترد عليه .. ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر"..
فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر...
قال الحسن: فولى أبو بكر وهو يبكي...!


وكان من رقته وحنانه .. أنه يشفق على المستضعفين في مكة..

يقول (عبد الله بن الزبير) ... كان أبو بكر الصديق يعتق على الإسلام في مكة..
بمعنى أنه إذا أسلم الرجل... أو المرأة اشتراه من صاحبه وأعتقه...
فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن..
فقال أبوه: أي بني أراك تعتق أناسا ضعافا...
فلو أنك تعتق رجالا جلدا يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك؟


وقد كان أبو بكر الصديق في حاجة إلى ذلك... لأن قبيلته قبيلة تيم كانت ضعيفة وصغيرة..

فرد عليه (أبو بكر) .. أي أبت ...أنا أريد ما عند الله..

فنزل فيه قول الله تعالى

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)

ونزل في (أبي بكر) كذلك قول الله تعالى..

(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى
وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى)


وتأمل معي ..حينما يَعِدُ الله سبحانه وتعالى بنفسه عبده بأنه سيرضى..

فأي ثمن دُفع وأيُّ سلعة تُشْترى؟ ..

وما أزهد الثمن المدفوع.. ولو كان الدنيا بأسرها...

وما أعظم السلعة المشتراة لأنها الجنة...

ولما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق أم المؤمنين (عائشة)..
كان ممن تكلم في حقها (مسطح بن أثاثة)..
وهو من المهاجرين..
وهو ابن خالة الصديق..
فحلف الصديق أن لا ينفع (مسطح) بنافعة أبدا...

وهذا رد فعل تجاه من طعن في عرض ابنته..
فمسطح لم يتكلم في خطأ عابر لأم المؤمنين (عائشة)..
بل يطعن في عرضها وشرفها ..
وهذه جريمة شنعاء وذنب عظيم..

فلما نزلت البراءة وأقيم الحد على المتكلمين ..

نزل قول الله تعالى..

(وَلا يَأْتَلِ أُولُو الفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)


لا يأتل: أي لا يحلف...
أولوا الفضل: وهو وصف خاص بالصديق رضي الله عنه..
وللعلماء تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين على (أبي بكر)..
أنه من أولي الفضل على إطلاقها... فهي تعني كل أنواع الفضل....

فماذا كان رد فعل (أبي بكر) على هذه الآية ؟!

قال بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا...

ثم أرجع إلى (مسطح) ما كان يصله من نفقة .. ثم قال .. والله لا أنزعها منه أبدا..

كل هذا وهو ليس بذنب..
بل قطع فضلا ولم يقطع حقا لقريبه ..

أما نحن فللأسف الشديد..
كم مرة نسمع المغفرة.. ونحن على ذنب كبير حقيقي..

ونسمع قوله تعالى ..

(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

فنقول: إن شاء الله..
ونُسَوف في التوبة..
وكم مرة سمعناها.. ونحن على ذنوبنا؟

هذا هو الفرق بين الصديق... السبّاق إلى التوبة من ترك فضل ..وبين المُسَوّفين في التوبة..
فيجب علينا أن نتوب في هذه اللحظة..
لكي نكون قد تعلمنا حق ...من (أبي بكر) سبقه في الخيرات ..

وروى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني ..

إن أبا سفيان أتى عَلى سلمان وصهيب وبلال في نفر..
فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها..
فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟..
فأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأخبره..
فقال (صلى الله عليه وسلم).. "يا أبا بكر لعلك أغضبتهم.. لئن كنتَ أغضبتهم لقد أغضبت ربك.."!
فأتاهم فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟
قالوا: لا... غفر الله لك يا أخانا..
لما استشاره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أمر الأسرى في موقعة بدر..
ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم..
وطردوهم من ديارهم..
وحرصوا على حربهم..
وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن الله مَنَّ على المؤمنين بالنصر؟

فلو نظرنا إلى (أبي بكر) لوجدناه وكأنه يتحدث عن أصحابه ..لا يتحدث عن الأسرى..

لقد قال:
يا رسول الله... هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان.. وإني أرى أن تأخذ فيهم الفدية..
فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار.. وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا...


أما (عمر) فقد كان جوابه مختلفا..

سأله (صلى الله عليه وسلم) .. "ما ترى يابن الخطاب؟"

قال (عمر) .. وهو مُلهم .. ومحدث .. ومسدد الراي ..
والله ما أرى ما رأى أبو بكر الصديق..
ولكن أرى أن تمكنني من فلان (أحد أقرباء عمر) فأضرب عنقه..
وتمكن عليا من عقيل بن أبي طالب.. فيضرب عنقه..
وتمكن حمزة من فلان أخيه.. فيضرب عنقه..
حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين.. وهؤلاء أئمتهم وقادتهم..


لكن .. وافق رأي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .. رأي (أبو بكر)..
حتى وإن كان الصواب هو في قول (عمر) .. !.

ثم نزلت ..

(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)


والكتاب الذي سبق ...هو قوله تعالى..

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)

ويلخص هذا كله رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
بتعليق جامع بعد قضية أسرى بدر..
واختلاف العملاقين الكبيرين في الرأي ..

فيقول (صلى الله عليه وسلم).. :

"إن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)..
ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ)..
وإن مثلك يا عمر مثل نوح قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا)..
ومثلك مثل موسى قال (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ)..


ولا أحد يُخَطِّئ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعيسى عليه السلام في رحمتهما مع المذنبين..
ولا أحد يخطئ نوح وموسى عليهما السلام في شدتهما في الحق....

إذن هذه المواقف وكثير غيرها ...
توضح مدى الطبيعة الرقيقة الحانية التي جُبِل عليها أبو بكر الصديق .
هذه الرقة الشديدة والنفس الخاشعة...والطباع اللينة ...
أورثت في قلب الصديق تواضعا عظيما فاق كل تواضع....
تعالوا نرقبه بإمعان وهو يودع جيش (أسامة بن زيد)...

موقف عجيب..

فـ (أسامة) دون الـ 18 من عمره..
وهو جندي من جنود (أبي بكر).. والأخير هو زعيم الدولة ..
و خليفة المسلمين الذي يتجاوز في العمر الـ 60 سنة...
ومع ذلك يودع بنفسه جيش (أسامة)...
وهو ماش على قدميه.. و(أسامة بن زيد) يركب جواده..!

فقال (أسامة).. يا خليفة رسول الله... إما أن تركب وإما أن أنزل.

فقال (أبو بكر) .. والله لستَ بنازل.. ولستُ براكب.. وما عليَّ أن أُغَبّر قدمي في سبيل الله ساعة...

تربية راقية تربية على منهج النبوة...
يربي نفسه على التواضع..
ويربي (أسامة بن زيد) على الثقة بالنفس...
ويربي الجنود على الطاعة لهذا الأمير الصغير..
ثم هو يربي كل المؤمنين على حسن التوجه وعلى إخلاص النية ووضوح رؤية..

اللطيفة الأخرى .. أن (أبا بكر) يريد (عمر) أن يبقى معه في المدينة ..
و (عمر) في جيش أسامة...
ومع أن (أبا بكر) هو القائد الأعلى لكل الخلافة ...
إلا إنه يستأذن في ذلك (أسامة بن زيد) ... فيقول .. إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل....!