أبو بكر الصديق ورقة القلب

بعض النفوس تكون في طبيعتها غليظة جافة...
والبعض الآخر يكون في قلبه رحمة فطرية ...غير مصطنعة غير متكلفة..
وكان (أبو بكر) من هذا النوع الأخير...
ولقد سمع (أبو بكر) وصايا حبيبه محمد (صلى الله عليه وسلم)..
فحفظها..
وعقلها وعمل بها..

ففي الحديث النبوي ..

"لاتحاسدوا .. ولا تناجشوا .. ولا تباغضوا .. ولا تدابروا ..
ولا يبع بعضكم على بيع بعض..
وكونوا عباد الله إخوانا ..
المسلم أخو المسلم .. لايظلمه ولا يخذله ولايحقره ..
التقوى ها هنا .. (ويشير إلى صدره 3 مرات) ..
بحسب أمريء من الشر .. أن يحقر أخاه المسلم ..
كل المسلم على المسلم حرام ..
دمه وماله وعرضه.."


وكانت رقة قلب (أبي بكر).. تنعكس على حياته الشخصية..
وتنعكس على علاقاته مع الناس..

وتستطيع بعد أن تدرك هذه الحقيقة..
حقيقة أنه جُبل على الرحمة والرقة والهدوء ..فتفهم كثيرا من أفعاله الخالدة..

فعن (عائشة) كما روى البخاري ومسلم.. قالت.. لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين..
ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طرفي النهار.. بكرةٍ وعشية..
فلما ابتلي المسلمون (تقصد في فترة إيذاء المشركين للمسلمين في مكة) ..
خرج أبو بكر مجاهدا إلى أرض الحبشة..
حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة..، وهو سيد القارة..
فقال: أين تريد يا أبا بكر؟
فقال أبو بكر: أخرجني قومي.. فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي...


سبحان الله..

سيترك التجارة والمال..
والوضع الاجتماعي المرموق...
والبيت والأهل والبلد والكعبة..
بل أعظم من ذلك عنده ...سيترك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..!

وهناك بعض الناس يحبون أن يعبدوا الله بالطريقة التي يرونها هم صحيحة..
لكن (أبو بكر).. كان يعبد الله بالطريقة التي يريدها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

وكان من الممكن أن يبقى (أبو بكر) في مكة..
ويعبد الله في سرية..
ويتاجر..
ويحقق المال الذي يفيد الدعوة...
لكن رسول الله أراد له الهجرة...
لأنه ليست له حماية في مكة.. لأن قبيلته ضعيفة.. وهي قبيلة بني تيم..
فترك كل شيء وهاجر..
وإلى أرض بعيد مجهولة غير عربية..، إلى الحبشة..

و الله أراد لـ (أبي بكر) غير ذلك...أراد الله له البقاء في مكة فسخَّر له (ابن الدغنة)..

قال (ابن الدغنة).. فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله..
إنك تكسب المعدوم.. وتصل الرحم.. وتحمل الكل.. وتقري الضيف.. وتعين على نوائب الحق...


ونلاحظ أنها نفس الصفات التي ذكرتها السيدة (خديجة)..
في وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

ثم قال (ابن الدغنة) .. لـ (أبي بكر).. فأنا لك جار ارجع.. واعبد ربك ببلدك..

فرجع وارتحل معه (ابن الدغنة)..
فطاف (ابن الدغنة) عشيًة في أشراف قريش ..

فقال لهم: أتُخرجون رجلا يكسب المعدوم.. ويصل الرحم.. ويحمل الكل..
ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟!


فلم تكذب قريش بجوار (ابن الدغنة).. وقالوا ... مُر أبا بكر فليعبد ربه في داره.. فليصل فيها..
وليقرأ ما شاء.. ولا يؤذينا بذلك... ولا يستعلن به... فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا...


لأن قلوب النساء، والأبناء قلوب رقيقة...
و (أبو بكر) رجل رقيق...
يخرج كلامه من القلب، فيصل إلى القلوب الرقيقة المفتقرة للمعرفة..
لكنهم لا يخشون على الرجال فقلوبهم كانت قاسية..
عرفت الحق... واتبعت غيره.

فقال ابن الدغنة ذلك لـ (أبي بكر)...
فلبث (أبو بكر) بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ...
ولا يقرأ في غير داره (يعني لا يقرأ في الكعبة ولا في مجالس التقاء الناس ولا في السوق) ..

ثم بدا لـ (أبي بكر)... فابتنى مسجدا بفناء داره ..
وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن...
فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم ..وهم يعجبون منه وينظرون إليه...

فلننظر إليه ..
لا يريد أن يكتم أمر الدعوة..
تتحرق نفسه شوقا لإسماع غيره كلام الله..
وتشفق روحه على أولئك الذين سيذهبون إلى النار إذا ماتوا على كفرهم ...
تماما كرسول الله (صلى الله عليه وسلم)...
الذي خاطبه ربه بقوله..

(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)

هكذا كان أبو بكر الصديق .. رضي الله عنه وأرضاه..