الاقتداء الكامل برسول الله

كان الأمر الثاني الذي قاده إليه حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
فهو الاقتداء الكامل به (صلى الله عليه وسلم) ...حتى وإن لم يدرك الحكمة..

وهو يتمثل بقوله

(وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)

وقوله ..

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

و(أبو بكر) يحب الله سبحانه حبا لا يُقَدر..
ويعلم أن الطريق الطبيعي لحب الله هو اتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) الاتباع المطلق...
فإن علم الحكمة ..فبها ونعمت..
وإن لم يعلمها... فالعمل هو العمل بنفس الحماسة ونفس الطاقة...!

وكثير من الناس يعرضون أقوال الرسول (صلى الله عليه وسلم) على عقولهم القاصرة..
فإن وافقت موافقة من عقولهم فعلوها..
وإن لم توافق عقولهم أو أهوائهم تركوها ونبذوها..
بل قد يسخرون منها..

أما (أبو بكر) فلم يكن من هذا النوع..
بل كان يقتدي به (صلى الله عليه وسلم) في كل صغيرة وكبيرة..
حتى لتشعر أنه لا يفرق بين فرض ونافلة..
التصاق شديد بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وبطريقته ومنهجه..

فإذا كنت تريد أن تصل إلى ما وصل إليه (أبو بكر) وأمثاله ..
فاعلم أن قدر السنة عندهم ...كان عظيما جدًا..

لكن .. ما معنى السُنّة ؟!

ليس المقصود بالسنة ...النوافل التي كان يؤديها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
بل هي الطريقة ..
المنهاج..
و السبيل الذي كان يسلكه في حياته كلها...

السنة هي طريقته (صلى الله عليه وسلم) في السلم والحرب..
في الأمن والخوف..
في الصحة والمرض..
في السفر والإقامة..
في السياسة والاقتصاد..
في الاجتماع..
وفي المعاملات..
في كل وجه من أوجه الحياة...


ولقد ابتليت الأمة الآن بمن يقللون من شأن السنة ..
ويكتفون كما زعموا بأوامر القرآن..
ويتركون توجيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..
وكأنه توجيه رجل من الصالحين أو شيخ من الشيوخ..
ونسوا أن له (صلى الله عليه وسلم) مقاما لا يصل إليه أحد من البشر..
فهو يتلقى عن رب العزة..
ويصف لك ما فيه خير الدنيا.. وخير الآخرة...

وقد تنبأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هذه الكارثة ..
وهي التقليل من شأن السنة..

فقد روى أبو داود والترمذي أنه (صلى الله عليه وسلم) قال..

"يوشك رجل منكم متكئا على أريكته.. يُحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ..
فما وجدنا فيه من حلال استحللناه.. وما وجدنا فيه من حرام حرمناه.."


أي أنه سيكتفي بكتاب الله...
وينكر السنة..
وكلهم جاهل بكتاب الله..
ولو قرأه لعلم ما فيه من آيات تخص اتباع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)

ألا وإن ما حرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مثل الذي حرم الله...

ومشكلة خطيرة يقع فيها كثير من الناس إما بجهل..
وإما بقصد.. وتلك هي الطامة الكبرى.

فعندما ننظر إلى حياة الصديق ...تجد اقتداء برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فاق كل اقتداء..
تشعر به في أقواله..
وفي أفعاله..
وفي حركاته وسكناته.. وبهذا بلغ المنازل..
لو رأينا اقتداء (أبو بكر) برسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
في إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما..

والحقيقة أننا نسمع عن إنفاذ جيش أسامة...
فلا نعطيه قدره..
ونتخيل أنه مجرد جيش خرج...
ولم يلق قتالا يُذكر ...فأي عظمة في إخراجه؟!


بيد أن دراسة ملابسات إخراجه... وتأملها ..
تدل على عظمة شخصية الصديق..
وكيف أنه بهذا العمل وهو أول أعمال خلافته..
قد وضع سياسة حكمه التي تعتمد في المقام الأول على اتباع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دون تردد..

ولا شك..
فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أعد هذا البعث ..
لإرساله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية..

وقد أمّر عليه (أسامة بن زيد) .. ولم يبلغ الـ 18 من العمر ..
ثم توفي (صلى الله عليه وسلم)..
وارتدت جزيرة العرب كلها إلا 3 مدن ...
هي مكة والمدينة والطائف وقرية صغيرة..
وهي جواثا في منطقة هجر بالبحرين.

الجزيرة العربية كلها تموج بالردة ...
ومع هذا أصر (أبو بكر) أن ينفذ بعث (أسامة بن زيد) إلى الروم ...!

مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر..
لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين ..
فكيف يرسل جيشا كاملا إلى الروم ويترك المرتدين...؟!

والحق أنه قرار عجيب...
فالبلاد في حرب أهلية طاحنة..
وبها أكثر من 10 ثورات ضخمة..
ثم يرسل زعيم البلاد جيشا لحرب دولة مجاورة..
كان قد أعده الزعيم السابق...!

لكن (أبو بكر) كانت الأمور في ذهنه في منتهى الوضوح ...
ما دام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أمر فلا مجال للمخالفة...
حتى وإن لم تفهم مقصوده (صلى الله عليه وسلم) ..
حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية..
وهذه درجة عالية من الإيمان..

كما أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد علم بردة مسيلمة في اليمامة..
والأسود العنسي في اليمن..
ومع ذلك قرر تجهيز الجيش.. وإرساله إلى الشام..

وما دام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أمر..
فالخير كل الخير فيما أمر..
فأصر (أبو بكر) على إنفاذ البعث إلى الروم..

وجاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه..
وهم على قدرهم الجليل لم يفهموا فهم الصديق ..

فماذا قال لهم؟

قال... والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ..
ولو أن الطير تخطفنا.. والسباع من حول المدينة..
ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ... لأجهزن جيش أسامة..!


الله أكبر .. !

ولما رأى الصحابة إصرار (أبي بكر) ..

قال بعضهم لـ (عمر) .. قل له فليؤمر علينا غير أسامة... !

فانتفض (أبو بكر) .. وأخذ بلحية (عمر) .. وقال .. ثكلتك أمك يا ابن الخطاب..
أؤمر غير أمير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟


وقد كانت لحظات الغضب في حياته قليلة جدا..
وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله ..
أو عطل أمر من أوامر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..

وبالفعل ..
أنفذ جيش (أسامة بن زيد)..
وكان الخير في إنفاذه...
إذ أرعبوا قبائل الشمال..
وسكنت الروم..
وظنوا أن المدينة في غاية القوة..
وإلا لما خرج من عندهم هذا الجيش الضخم..
وحفظ الله المدينة بذلك..

ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق ..
لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه..
لأنه يرى بعين رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..