ثم وقفة وسؤال..هذه الثروة وهذا الكنز العظيم... ثروة التاريخ الإسلامي الطويل..فمن مِن البشر في زماننا .. أمّنّاه عليها ؟!مَن مِن البشر أعطيناه مفاتيح الكنوز التاريخية.. لينقب فيها ويستخرج جواهرها؟مَن مِن البشر أسلمناه أذاننا... وعقولنا.. وأفئدتنا..ليلقي عليها ما استنبط من أحكام وما عقله من أحداث؟عجبا لأمتنا !لقد أعطت ذلك لحفنة من الأشرار..طائفة من المستشرقين..وطائفة من المفتونين بهم من أبناء المسلمين ...تسلموا كنز التاريخ..لينهبوا أجمل ما فيه ..وليغيروا ويبدلوا ويزوروا..فيخرج التاريخ إلينا مسخا مشوها عجيبا..فتًقطع حلقة المجد..وينفصل المسلمين في حاضرهم عن ماضيهم..كما تنفصل الروح عن الجسد تماما بتمام..ولقد انتبه الشباب ..فوجدوا بين أيديهم سجلا حافلا ..من الصراعات والمؤامرات والخيانات والسرقات..صفحات سوداء تتلوها صفحات أسود..واحتار الشباب في تاريخهم ..أيمسكونه على هونٍ أم يدسونه في التراب؟!فويل..ثم ويل لمن افترى على الله كذبا.. ليضل الناس بغير علم...وويل..ثم ويل لأبناء المسلمين الذي فتنوا بمناهج العلمانية..فصاغوا التاريخ صياغة مشوهة مزورة محرفة..فحرموا المسلمين من أمثلة عملية تطبيقية رائعة لكل أمر من أمور الدين...وويل..ثم ويل لمن يقدر على التصحيح فلم يفعل..ولمن يقدر على التوضيح والتبيين فلم يفعل..ولمن يقدر على النصح والإرشاد فلم يفعل...يقول جابر بن عبد الله..إذا لعن آخر هذه الأمة أولها..فمن كان عنده علم فليظهره..فإن كاتم العلم يومئذٍ ككاتم ما أُنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) ..سبحان الله .. ألهذه الدرجة .. ؟!من سمع طعنا في الصحابة.. أو في الصالحين من الأمة.. ثم لم يَرُد..كان كمن كتم ما أُنْزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..!نعم..لأنه... كيف وصل إلينا ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ألم يصل إلينا عن طريق الصحابة والتابعين.. وتابعي التابعين؟فإذا طُعن في هؤلاء دون توضيح لحقيقتهم الطاهرة.. لم يُقبل ما يأتي عن طريقهم...و هذا هدم للدين بالكلية..إذن تزوير التاريخ أمر خطير مروع... يحتاج إلى وقفات ووقفات...و لهذا كانت هذه السطور...أول حدث جليل بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) ..هو استخلاف الرجل الجبل (أبو بكر الصديق) .. رضي الله عنه وأرضاه..ونقول .. استخلاف .. وليس خلافة .. فهذا له مقصد آخر سنوضحه لاحقا .. لكن .. كيف اختير (أبو بكر الصديق) خليفة للمسلمين؟وكيف تم؟وما هي خطواته وما هي تبعاته؟وماذا حدث في سقيفة بني ساعدة؟وماذا أثير حولها من شبهات من المستشرقين وأحبابهم؟والحق أن كثيرا من القراء ...قد يتعجبون لإفراد هذا الحدث...الذي يعدونه حدثا قصيرا بسيطا في التاريخ ببحث خاص...فالحدث تم في أقل من يوم واحد..وتاريخ المسلمين 14 قرنا من الزمان .. فهل يجب أن نفرد له بحثا خاصا ؟!ولماذا هذا الحدث بالذات؟ونجيب عن هذا السؤال .. بـ 5 نقاط .. أولا إن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين (أبي بكر وعمر وعثمان وعلي) .. رضي الله عنهم أجمعين..تعتبر من أهم الأمور التي يجب أن يحرص عليها المسلمين..ويجب أن يحرصوا على دراستها دراسة وافية...مستفيضة شاملة لكل نقاط حياتهم..فهي فترة من أهم فترات التاريخ الإسلامي..بل هي أهمها على الإطلاق بعد فترة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ..لماذا؟لأن هذه الفترة تعتبر جزءا من التشريع الخاص بالمسلمين..وقد يستغرب البعض أن هناك تشريعا بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..لكن الواقع أن كثيرا من الأمور جدت على حياة المسلمين بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم)..وكانت هذه الأمور تحتاج إلى فقهٍ واجتهاد..فاجتهد فيها هؤلاء الأخيار واختاروا آراء سديدة ساروا عليها..وسارت الأمة معهم..فكانت تشريعا للمسلمين...ولقد حدثت أمور ...ما كان لها شبيه في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)..منها هذا الحدث الذي نحن بصدده وهو... اختيار خليفة للمسلمين...ومنها فتوحات عظام في أراض شاسعة... وما تبع ذلك من أمور...ومنها أمور فقهية..ومنها شبهات أثيرت فدافعوا عنها...فترة جليلة حكم فيها خير المسلمين على الإطلاق..وكان المحكومون هم خير أهل الأرض بعد الأنبياء...من هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. الذي رواه الترمذي رحمه الله.. ورواه أبو داود .. عن العرياض بن سارية.. قال.."وعظنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موعظة بليغة وجلت منها القلوب .. وذرفت منها العيون..فقلنا: يارسول الله كأنها موعظة مودع.. فأوصنا .. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد..وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا..."وصدقت يا رسول الله..ونحن الآن نعيش في هذا الزمن الذي فيه اختلاف كثير..تشعبت بنا الطرق..وكثرت عندنا المناهج..وتعددت أمامنا الأساليب..فماذا نفعل؟وفي أي طريق نسير؟وأي المناهج نتبع؟وأي الأساليب نختار؟ولنكمل قوله (صلى الله عليه وسلم) أعلاه .. "وإنه من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا .. فعليكم بسنتي .. وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي..عضّوا عليها بالنواجذ (الأضراس) .. وإياكم ومحدثات الأمور .. وكل بدعة ضلالة .. "فندما تتشعب الطرق ...عليك بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...وهذا بالطبع مفهوم..لكن لماذا يضيف (صلى الله عليه وسلم) .. "وسنة الخلفاء الراشدين المهديين"؟!إذا كان الخلفاء الراشدون سيعيشون حياة ليس فيها اختلاف عن حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)..فإنه من الطبيعي والمنطقي ..أن يقلدوا الرسول في كل شيء...ولا يبقى مجال لاجتهادهم..ومن ثم لا يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم).."عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين"..لكن الواقع ..أن الأمور التي جدت على الأمة في عهدهم ..وضعت أشياء كثيرة كانت تحتاج إلى عقول ذكية..وقلوب طاهرة كعقول وقلوب الخلفاء الراشدين..فأصبح ما يفعلون ليس مقبولا فقط..بل شَرْع للأمة إلى يوم الدين...خلاصة هذه النقطة ..أن دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين المهديين جزء من الدين والشرع..ولا بد أن يعطي له المسلمون اهتماما خاصا..ثانياالذي يهمنا في قصة استخلاف (أبي بكر الصديق).. أننا سنستخلص أحكاما وأمورا هامة من هذه الحادثة ..تفيد جدا في بناء الأمة الإسلامية بناء صحيحا..فما هو معنى الشورى؟وكيف التصرف عند الاختلاف؟وما هي طرق عرض وجهات النظر؟ولماذا يختار رجل دون آخرٍ لإمارة ما؟ثالثاإن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. .ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام...فغياب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرُ صعب..والأصعب من ذلك غياب الوحي الذي كان يأتي عن طريقه (صلى الله عليه وسلم)..فالصحابة كانوا يعيشون الوحي...فكل يوم يحدثهم (صلى الله عليه وسلم) بما يريده الله منهم .. ليس قرآنا فحسب..لكن يقول لهم .. الله غفر لفلان...الله يحب فلان...الله يبشر فلان بالجنة...وكانوا إذا اختلفوا ...نزل الوحي يؤيد رأيا على رأي...ويعدل المسار ويصحح الوجهة...وفجأة .. انقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبينه (صلى الله عليه وسلم)..وأصبح عليهم أن يجتهدوا لكي يعرفوا .. أين غضب الله... وأين رضاه؟رابعاتأتي أهمية حادث الاستخلاف أيضا ...في أنه تبعه أحداث جسام في حياة المسلمين ما كانت لتتم ..لولا أن هدى الله فاختار المسلمون (أبا بكر) ليكون خليفة للمسلمين..فالرجل له طابع يختلف عن كثير من الصحابة..سنتعرف عليه إن شاء الله في سطور قادمة .. وستستشعر كم كان الله رحيما بالمؤمنين... ومسدِدا لخطاهم ..لما يسر لهم اختيار هذا الصحابي الجليل لهذه المهمة الثقيلة..مهمة خلافة المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..خامسامن أهمية دراسة هذا الحدث الخطير أيضا ...أنه كثر طعن المستشرقين وأتباعهم في كل من شارك في هذه العملية الهامة...ولم يتركوا أحدا..ضربوا كل الرموز الإسلامية العظيمة..وأظهروا الأمر على أسوأ ما يكون..فطعنوا في أبي بكر وعمر... وأبي عبيدة بن الجراح..وعائشة.. وسعد بن عبادة.. وزيد بن ثابت.. وأبي هريرة.. والسيدة فاطمة..بل طعنوا في علي بن أبي طالب في صورة الثناء عليه.. وذموه في صورة المدح..و طعنوا في العباس بن المطلب عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..خلاصة الأمر ...أنهم أخرجوا لنا صورة مهلهلة قبيحة لخير الأجيال.. وخير القرون...فإن كان هم كذلك... فأي خير يرتجي مَن جاء مِن بعدهم؟وأخطر من ذلك... إن كانوا هم كذلك فكيف نأخذ ديننا عن طريقهم؟وكيف نقبل باجتهادهم؟..فالمستشرقون بذلك يضربون الدين في عمقه ...ويدمرون الإسلام في أصوله...هذا الكلام..ليس تاريخا قديما فعله بعض المستشرقين في السابق..والحال الآن غير ذلك...بل هذا الكلام ما زال يتردد في أفواه بعض من يدرسون التاريخ في الجامعات المتخصصة ..سواء في الجامعات المحلية...أو الجامعات الغربية التي تفتح فروعا في البلاد الإسلامية..وبالطبع يردد أيضا بكثرة في الجامعات الغربية في خارج الأقطار الإسلامية ..لتشويه صورة الإسلام والمسلمين...هنا وجب علينا أن ندفع هذه الشبهات..وأن نوضح للناس الصورة الحقيقية للأحداث التي تمت بخصوص هذه القصة..قصة استخلاف (أبي بكر الصديق)..ولهذه الأسباب مجتمعة .. سنشرح هذا الحدث الكبير .. إن شاء الله .. ولكي نفهم هذا الحدث ..ولكي نستوعب اختيار (أبي بكر الصديق) خليفة للمسلمين..لا بد أن ندرس في البداية شخصية هذا الرجل النادر...لا بد أن نعرض لطرف بسيط من حياته...نحن لا نستطيع أن نفتح الباب على مصراعيه لرؤية شخصية هذا الرجل الفذ العملاق..نحن فقط نلقي نظرة على استحياء لنعرف..ما هي مفاتيح الشخصية عنده؟وما سر هذه الرؤية الواضحة عنده في كل الأمور؟وما سر هذه الدرجة الرفيعة التي نالها في دنياه وآخرته؟(أبو بكر الصديق) شخصية عجيبة جمعت بين طياتها الرقة والشدة...والرحمة والقوة..والأناة والسرعة..والتواضع والعظمة..والبساطة والفطنة...وأضعاف من فضائل الأخلاق والطباع..وهبه الله حلاوة المنطق..وطلاقة اللسان..وقوة الحجة..وسداد الرأي..ونفاذ البصيرة..وسعة الأفق..وبعد النظرة..وصلابة العزيمة..وكل هذا وغيره.. وهو ليس بنبي... إن هذا لشيء عجيب..!فشخصية (أبي بكر الصديق) شخصية عجيبة ما تكررت في التاريخ..انظر تقييم (علي بن أبي طالب) لهذه الشخصية..أخرج البخاري عن محمد بن علي بن أبي طالب قال..قلتُ لأبي .. أي الناس خير بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)..قال: أبو بكر.. قلت: ثم من ؟قال: ثم عمر..وخشيتُ أن يقول عثمان .. فقلت: ثم أنت ؟قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين .. وهذا تواضع من (علي بن أبي طالب) .. رضي الله عنه وأرضاه.فيا تُرى ...كيف كانت شخصية (أبو بكر) الذي هو خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟!قال (صلى الله عليه وسلم) في حقه كما روى البخاري .. "إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر..ولو كنتُ متخذا خليلا غير ربي لأتخذت أبا بكر..ولكن أخوة الإسلام ومودته.."فهذه مقامات عالية جدا...فـ (أبو بكر الصديق) كما في الحديث ..من أَمنّ الناس عليه (صلى الله عليه وسلم).. أي أكثرهم مِنّة وفضلا...وهذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتخذ الله خليلا...ولولا ذلك لاتخذ (أبا بكر)...!ولكن أخوة الإسلام...فكيف يكون هذا الرجل الذي ظفر بتلك المنزلة الراقية؟وكيف وصل إليها؟ونحن لا نريد دراسة أكاديمية لحياة (أبي بكر الصديق).. لكن أحب أن نبحث في مفاتيح شخصية هذا الرجل العظيم..فكيف تسهل عليه فعل كل هذا الخير؟وكيف حافظ عليه؟ثم هل من سبيل بعد معرفة هذا أن نقلده فيما فعل... فنصل إلى ما إليه وصل؟