أسبانيا قبل الإسلام

تمثل شبه جزيرة "أيبيريا" الطرف الغربي لأوروبا من ناحية الجنوب قليلا، وهي تشمل: كلا من أسبانيا، والبرتغال، وكان سكان هذه البلاد خليط من القبائل الجرمانية والرومانية؛ مثل قبائل السيوف والآلان والوندان، وظلوا هكذا لفترات طويلة حتى تغلبت قبائل القوط الغربية، وأصلها من جنوب فرنسا على هذه القبائل الجرمانية والرومانية، وانفردت بحكم البلاد، وذلك ابتداء من سنة 410م، وكانت قبائل القوط على المذهب الأريوسي في النصرانية، وهو المتعارض تماما مع المذهب الكاثوليكي؛ لذلك دخلت هذه القبائل في صراع طويل مع بابوية روما رأس الكاثوليكية في أوروبا؛ استمر قرابة القرنين، وانتهى بدخول هذه القبائل في المذهب الكاثوليكي، وذلك سنة 587 م؛ وهو التاريخ الحقيقي للديانة النصرانية بأسبانيا؛ أي أن النصرانية لم تكن عميقة الجذور بالبلاد عند دخول المسلمين كما يدعي مؤرخو أوروبا.

أما عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية بالبلاد؛ فكانت تشير وتبرهن على قرب سقوط وانهيار، وذلك لأن الحكم كان مقصورا على الأسرة المالكة وكان المجتمع فاسدا يقوم على نظام الطبقات على الطراز الهندي البغيض؛ وانقسم أهل اسبانيا إلى:

أ- طبقة النبلاء: وهم سلالة القوط الفاتحين، والتي استولت على أكثر الأرض الخصبة الزراعية، مع إعفائها من الضرائب، وكانت لهم مناصب الجيش والرياسة، وتستأثر هذه الطبقة بغالب خيرات البلاد الوفيرة.

ب- طبقة رجال الدين: وهي المسئولة عن السيادة الدينية، والزعامة الروحية، ولكن الفساد كان متغلغلا بها حتى النخاع؛ فقد كانت تمتلك قسطا كبيرا من الأراضي الزراعية المعفاة من الضرائب، وكانت تشارك النبلاء في حكم البلاد، وتبرر الظلم والطغيان من قبل الحاكم على الرعية.

ج- الطبقة الوسطى: وتضم التجار وأصحاب الضياع الصغيرة وموظفي الدولة، وهذه الطبقة كان يقع عليها معظم العبء المالي للدولة؛ فمعظم الضرائب مفروضة عليهم، وغالبية احتياجات ورغبات الطبقتين السابقتين تقع عليها.

د- طبقة الأقنان -عبيد الأرض-: وهؤلاء كانوا يفلحون الأرض لكبار الملاك، ويدخلون بأنفسهم وعائلاتهم في عداد ثروة المالك، ولم تكن لهم أية حقوق، وكانوا ينتقلون مع ملكية الأرض من سيد لآخر.

هـ - طبقة اليهود: وكان لهم دور كبير في الحياة الاقتصادية للبلاد كعادتهم؛ حتى سيطروا على أهم المرافق والصناعات، حتى أحس الحكام بوطأتهم؛ فراحوا يناصبونهم العداء حتى أرغموهم على التنصر.

وهكذا نرى أن الطبقات العاملة في المجتمع الأسباني كانت محرومة من الحقوق، وهذا ما جعل الحياة فاسدة، وأدى إلى قيام الثورات إثر الثورات؛ لأن هؤلاء المحرومين ليس عندهم أية اعتبارات وطنية أو قومية، ولا انتماء عندهم مما سهل طريق الفتح أمام المسلمين.

مقدمات فتح الأندلس

كانت تولي القائد العظيم موسى بن نصير قيادة الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب بمثابة النقطة الفارقة والحاسمة في مسار الفتوحات الإسلامية؛ حيث بدأ موسى بن نصير في التوجه للضفة الأخرى من المحيط حيث بلاد أسبانيا وبلاد القوط؛ ذلك لأن القائد المحنك قد استطاع بسط راية لفتح الإسلامي حتى آخر بلاد المغرب، ووصل لضفاف المحيط الأطلنطي ولم يبق هناك بلد لم يفتحه المسلمون إلا منطقة "سبته" الحصينة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت سبتة محكومة من قبل القوط في أسبانيا وعليها وال من عندهم إسمه "يوليان". وقيل جوليان

كما قلنا من قبل كانت أسبانيا أرض قلاقل واضطرابات وثورات إثر ثورات؛ فوافق الفتح الإسلامي لبلاد المغرب أيام موسى بن نصير ثورة كبيرة بأسبانيا قام بها أحد رجال الملك
"وامبا" القوطي، واسمه "رودريجو"، فاستولى على الملك، وطرد وامبا عن الحكم؛ فثار أنصار "وامبا" ضد "رودريجو" وبدأت حرب أهلية طاحنة بأسبانيا.

كان يوليان والي سبتة من مؤيدي الملك المخلوع وامبا؛ وكان من أشد الناس عداوة لرودريجو لقيام رودريجو باغتصاب ابنة يوليان التي كانت تعمل في بلاط الملك المخلوع وامبا لذلك التجأ وامبا إليه، وأقام عنده بسبتة فترة من الزمن، كان رودريجو خلالها قد أحكم قبضته على مقاليد الأمور بأسبانيا، ولكن بالحديد والنار وقد كان رجلا طاغية سفاكا للدماء، أدت غطرسته لاضطراب الأوضاع داخل إسبانيا بشدة حتى غدت على حافة الانفجار، وهذا الأمر دفع وامبا لأن يفكر في الاستعانة بالقوة الجديدة الناشئة بالمغرب: وهي قوة المسلمين، وبالفعل فوض وامبا واليه يوليان في التفاوض والاتصال بالمسلمين لهذا الغرض، وبالفعل اتصل جوليان بطارق بن زياد والي مدينة طنجة وعرض عليه تسليم سبتة مع إشارة بفكرة فتح الاندلس.

ولخطورة هذا القرار رفع طارق بن زياد الأمر لقائده موسى بن نصير الذي رفعه بدوره لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك لاتخاذ قرار حاسم؛ فأرسل إليه الوليد بن عبد الملك يقول: "اختبرها بالسرايا، ولا تغرر بالمسلمين"، أي لا يهجم بالجيوش الكبيرة، بل يختبر قوتها وصمودها بالسرايا الصغيرة أولا.

دورية استطلاعية

بعد وصول الأمر الصادر من الخليفة بدأ موسى بن نصير يحضر لغزو الأندلس؛ فأرسل أول دورية استطلاعية يقودها بطل من أبطال البربر المسلمين واسمه طريف بن مالك، ويكنى بأبي زرعة ومعه مائة فارس وأربعمائة رجل؛ فجاز البحر في أربعة مراكب مبحرا من مدينة طنجة حتى نزل على أرض الأندلس في منطقة عرفت بعد ذلك بجزيرة طريف، وما زال هذا الاسم حتى وقتنا الحاضر، وكانت هذه السرية أول أقدام مسلمة تطأ أرض الأندلس، وقد استطاعت هذه السرية أن تحقق انتصارا سريعا، ثم عادت سالمة دون أن تخسر رجلا واحداً مما أظهر سهولة الفتح.

في شهر رجب سنة 92هـ قرر موسى بن نصير التحضير لحرب شاملة وغزو كبير للأندلس بعدما استبان ضعفها وتشتت أهلها، فجهز جيشا كبيرا من العرب والبربر يقدر بسبعة ألاف مقاتل يقودهم طارق بن زياد؛ فعبر البحر من مدينة سبتة هذه المرة، وفي سفن يوليان الذي اتفق معه على حرب رودريجو نظير أملاك وإقطاعات كبيرة بالأندلس، وبالفعل وصل المسلمون إلى الشاطئ المقابل لسبتة على أرض الأندلس في المنطقة الصخرية التي عرفت من يومها لوقتنا بجبل طارق.

المعارك الطاحنة

من جبل طارق انطلقت جيوش الفتح الإسلامي لفتح بلاد الأندلس، وتوالت الانتصارات؛ ففتح المسلمون مدينة قرطاجنة؛ وهي في ناحية الشرق، ومنها انطلق إلى ناحية الغرب يستولي طارق بن زياد على الحصون والقرى المجاورة لقرطاجنة، وأقام قاعدة حربية في موضع يقابل الجزيرة الخضراء.

أفاق "رودريجو" من غفلته، ومن حربه ضد خصومه، وقرر توحيد الصفوف من أجل التصدي لغزو المسلمين لبلاده، واصطلح مع أشد منافسيه "إيفا وسيزبوت" واستطاع أن يحشد جيشا كبيرا يقدر بمائة ألف مقاتل يتقدمهم الأساقفة والرهبانٌ توجه به سريعا نجو الجزيرة الخضراء؛ فكتب طارق بن زياد إلى القائد موسى بن نصير يطلب منه الإمدادات؛ فأرسل له موسى مدد يقدر بخمسة آلاف مقاتل؛ يقودهم طريف بن مالك؛ فأصبح الجيش الإسلامي اثنا عشر ألفا ويقود الجميع طارق بن زياد.

وفي يوم الأحد 28 رمضان سنة 92 هـ التقى الجيشان على ضفاف نهر وادي "لكة" واسم النهر بالإسباني "جوادليتي"، وقيل عند ضفاف نهر آخر اسمه نهر "بارباتي" ومنه جاءت التسمية العربية برباط قرب مدينة "شذونة" في ناحية الجنوب الغربي للأندلس، واستمرت المعركة الطاحنة بين الفريقين قرابة ثمانية أيام، وانتهت بهزيمة ساحقة لـ "القوط الغربيين"، وفروا من أرض المعركة.

استمر زحف طارق بن زياد والمسلمين، وفتحت المدن الواحدة تلو الأخرى، حتى وصل إلى مدينة "طليطلة": وهي عاصمة "القوط" الأسبان، وهناك التقى طارق بن زياد مع الملك المخلوع وامبا، وأعطاه ما أن اتفقا عليه، وكانت أوامر القائد موسى بن نصير لطارق بن زياد ألا يتجاوز الحد في التوغل في بلاد الأندلس؛ خوفا على جند الإسلام، ولكن يبدو أن سهولة الفتح أغرت طارق بن زياد وأطمعته في مواصلة الفتح، حتى وقع في حصار كبير من قبل "القوط"، وقد قل عدد جنده بسبب ما كان يتركه من حاميات في كل بلد يفتحها؛ فبعث برسالة استغاث فيها بالقائد موسى بن نصير يقول فيها: "إن الأمم تداعت علينا من كل ناحية؛ فالغوث الغوث".

بعد هذه الرسالة قرر القائد موسى بن نصير أن يعبر بنفسه لنصرة المسلمين بالأندلس؛ فاندفع بجيش كبير يقدر بثمانية عشر ألفا من عرب الشام واليمن إلى أرض الأندلس من ناحية الجنوب والغرب، وكان يفتح كل المدن الكبيرة التي تقع في طريقة لنجدة المسلمين المحاصرين، وهو بذلك يهدف لعدة أمور منها: فتح كل باقي أجزاء الأندلس، وتخفيف الضغط على المسلمين المحاصرين، وتحطيم معنويات "القوط" المدافعين عن البلاد، وانشغالهم بقتاله عن حصار المسلمين، فلما تم ما أراده موسى توجه إلى مكان المسلمين، وفك الحصار عنهم، واجتمعت القوتان الإسلاميتان وأكملا فتح بلاد الأندلس، وبعث موسى بكتاب الفتح لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك فلما قرأه خر ساجداٌ لله عز وجل.

تعتبر بلاد الأندلس أسهل بلاد فتحها المسلمون، والسبب الحقيقي وراء ذلك -كما شهد أعداء الإسلام-: العدل والفضل والرحمة؛ يقول "توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "الحق أن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون تجاه المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد"، ويقول "وول دويرانت" في قصة الحضارة: "لم تشهد بلاد الأندلس في تاريخها كله أكثر حزما وعدالة وحرية مما شهدته أيام فاتحيها العرب".

هل أحرق طارق بن زياد السفن؟

من الأمور التاريخية الشائقة في أحداث معركة وادي "لكة"، ما تناقلته الأخبار عن قيام القائد طارق بن زياد بإحراق سفن الحملة حتى يستبسل المسلمون في القتال، ويحتجون على ذلك بخطبة طارق بن زياد الشهيرة في الجند قبل القتال عندما قال لهم: "أين المفر العدو أمامكم والبحر من وراءكم"؟.

والتحقيق التاريخي لهذه الواقعة يكشف عن عدم صحتها أو أسطوريتها وذلك لعدة أسباب:

1- أن السفن في واقع الأمر لم تكن ملك المسلمين بل كانت ملك حاكم مدينة سبتة الإسباني ( يوليان ) فكيف يحرق طارق ما ليس ملكه ولا ملك المسلمين؟

2- أن المصادر التاريخية كلها أجمعت على ذكر أحداث الفتح دون ذكر حادثة إحراق السفن، ولم يذكرها سوى "الإدريسي" في كتابه "نزهة المشتاق" وهو كتاب جغرافيا كُتب بعد فتح الأندلس بثلاثة قرون؛ فكيف يقدم على المصادر الأندلسية المتخصصة والمعاصرة للفتح؟

والمراجع الأوروبية التي تذكر الحادثة إنما نقلتها في الأساس من كتاب الإدريسي الذي عاش في صقلية معظم حياته، بل كتب هذا الكتاب لملك صقلية "روجر الثاني".

3- إن تحفيز المسلمين في القتال وتشجيعهم لا يكون بتلك الصورة الغريبة؛ فمن الممكن أن يأمر السفن بالعودة أو حتى خرقها بخرق معينة يتبقي معها عاجزة عن الحركة حتى إصلاحها، وهناك العديد من الحلول غير إتلاف المال بغير وجه حق.


أهم الدروس والعبر

1- الإسلام دين الحرية والعدل والمساواة، الجميع أمام الله والأمة سواسية، والنظام الطبقي في الأندلس أيام حكم الأسبان كان من أهم أسباب فسادها وضعفها وسهولة فتح المسلمين لها.

2- جواز التعاون مع غير المسلمين من أجل نفع الإسلام والمسلمين، وذلك من غير أي خروج عن الثوابت الشرعية، مثال تعاون موسى بن نصير مع يوليان الأسباني لفتح الأندلس.

3- الطاعة والانضباط والنظام عناوين وأسرار نجاح المسلمين في فتح أجزاء كبيرة من العالم القديم في وقت وجيز، فقد استأذن موسى بن نصير الخليفة الوليد بن عبد الملك فبل فتح الأندلس.

4- حنكة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عندما أصدر أوامره بعدم التسرع في غزو الأندلس بجيوش كبيرة قبل معرفة أحوالها ومصادر قوتها وضعفها بالسرايا والدوريات الاستطلاعية.

5- معادن المسلمين لا تظهر إلا وقت الشدائد والمحن، فقد انتصروا وهم 12 ألفا علي الأسبان وهم أكثر من مائة ألف.

6- الاستعجال والاغترار ببعض المكاسب السريعة قد تورط الأمة في نكبات كبيرة؛ مثلما حدث مع طارق بن زياد عندما خالف أوامر موسى بن نصير وتوغل في الأندلس دون إذنه فكاد أن يهلك وجنوده.

عن موقع ملتقى الخطباء


المراجع والمصادر


1. تاريخ الرسل والملوك.

2. البداية والنهاية.

3. المعجب.

4. المنتظم.

5. دولة الإسلام في الأندلس.

6. التاريخ الإسلامي.

7. نفخ الطيب.

8. موسوعة التاريخ الإسلامي.

9. الكامل في التاريخ.

10.البيان المغرب.

11. محاضرات في تاريخ الأمم.

12. أطلس تاريخ الإسلام.

13. تاريخ الخلفاء.