قال القس النصراني: كانت الدعوة إلى محمد أن يوحد بين أحزاب النصارى … وكان هاجسه ألا يقال عنه أنه فرق بينهم: «إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل» (طه 94). اهـ.

بالطبع يضحك المسلم – وإن قل علمه – عند قراءة هذا الهراء، فالقول القرآني المذكور ليس على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل قاله هارون عليه السلام. وعليه، فدليل القس لم يدل على صحة دعواه، لكن دل على مبلغ علمه وهمته من الدناءة والتسفل.

والقس هو الأب (جوزيف قزي) مؤلف كتاب (قس ونبي). قال د/ عبد الرحيم الشريف – وهو الشامى – : مؤلف كتاب (قس ونبى) هو الأب ج. قزي، مدرس جامعى معروف فى إحدى أشهر الجامعات التبشيرية فى أحد بلاد الشام. وما زال على قيد الحياة إلى الآن. اهـ.

قلت: والقس الشجاع يكتب تحت أسماء مستعارة، أشهرها (أبو موسى الحريري)، ومنها (محمد حسان التنير). ويحاول إيهام القارئ بأنه ملحد أو علماني. وله كتبه الكنسية تحت اسمه الحقيقي. لكن خرج الفأر من جحره مؤخرًا، فظهر له كتاب في نقد الإسلام تحت اسمه الحقيقىالذي يعنينا من ذلك كله، هو ضرب المثال لكسل القساوسة بحال (قزي) أفندي في كتابه (قس ونبي).والحق أن الكلام يطول على كسل القساوسة في البحث، يكفيك أنهم ينقلون عن بعضهم بعضًا دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة التثبت أو عناء المراجعة، ولذلك إذا كذب أولهم الكذبة تناقلها الباقون ضرورة لازمة، وقل مثل ذلك في رواج الأخطاء والجهالات والتخبطات. ولا يفكر واحد منهم في تصحيح النقل الذي سرده أولهم.
هذا غرضي الأول. وغرضي الثاني إبطال وهم باطل ينقدح في ذهن من لا علم له ولا بصيرة إذا طالع الأعداد الكثيرة من الكتابات النصرانية في تثبيت دينها أو نقد الإسلام أو غيره، فيحسب أن لدى علماء القوم همة أو بعضها. فإن كان المقصود همة النسخ واللصق .. همة النقل دون العزو .. همة التشدق بالمسروقات .. فنعم، للقوم في ذلك همة. لكن إن كان المقصود همة البحث والتحري والتدقيق والتثبت، فالقوم بمنأى عن ذلك.


وبالمثال يتضح المقال .. ومثالنا: (قزي) أفندي في كتابه (قس ونبي). وطريقة القس الهمام في تأليف الكتب ونقد الإسلام سهلة يسيرة. لكن قبل الكلام عليها يجب التعريف بكتاب (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) ..
كتاب جليل ألفه العلامة (محمد فؤاد عبد الباقي) رحمه الله، يسرد اللفظة القرآنية تاليًا تحتها كل الآيات التي وردت بها على مدار القرآن كله، والألفاظ القرآنية مرتبة هجائيًا ثم حسب الجذر اللغوي، ونصوص الآيات – انتبه – ليست كاملة، بل هي مقاطع صالحة فقط من الآيات.
نعود إلى القس الهمام ..
يريد القس الهمام البحث – مثلاً – عن موضوع (بني إسرائيل) في القرآن الكريم. فيعمد إلى كتاب (المعجم المفهرس) باحثًا عن مادة (إسرائيل) ليطالع نصوص الآيات التى سُردت تحتها.
إلى هنا والعيب لا يكتنف القس ..
والمفترض به بعد هذا أن يمسك بالمصحف الشريف ليطالع النصوص التامة للآيات في سياقاتها القرآنية الكاملة، ليتعرف على المحتوى القرآني كما ينبغي. وحبذا لو استعان ببعض التفاسير التي تعينه على حصول مقصوده.
لكن الهمام كلت همته عن ذلك المفترض، فاكتفى بأبعاض الآيات الواردة في المعجم المفهرس، ولم يحاول مراجعة النصوص الكاملة للآيات. فهل بعد هذا الكسل من كسل !
فالقس الهمام وجد تحت مادة (إسرائيل) قوله تعالى: {إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل}، والقرآن عنده من تأليف محمد (صلوات ربي وسلامه عليه)، فاستدل بها على زعمه المضحك الخاص بخوف النبي عليه الصلاة والسلام من التفرقة بين بني إسرائيل.
هكذا مباحث القسيسين المجتهدين، وإلا فلا !عندما قرأت الكتاب أول مرة أثارتني كثرة الاستدلالات المضحكة، لكن بعد قليل ساورني الشك في أن سبب هذه المضحكات يخرج عن باب الجهل والكذب المعروفين عن القساوسة، كما لاحظت أنه يورد المقطع من الآية لا يغيره قط، فلا يخطئ مرة فيذكر لفظًا قبله أو بعده، ومع قرائن أخرى ترجح لديّ أنه لا يرجع للمصحف أبدًا، وأنه يكتفي بكتاب آخر لا يذكر إلا أبعاض الآيات، فهداني الله لهذا، ثم راجعت كل نصوصه على (المعجم المفهرس) فوجدته مطابقًا لما ترجح لديّ بفضل الله. وبقيت في عجب من شدة كسل القساوسة !
والقس من طائفة الكاثوليك، وهم الطائفة الأكثر أموالاً وإمكانيات بين طوائف النصرانية. فلا أشك لحظة أنه امتلك الوقت والمال والإمكانيات اللازمة لإتمام كتابه.
فإذا كان مع كل هذا بهذه الهمة المتدنية، فالعزاء واجب لمتبرعي النصرانية في أموالهم الطائلة التي ينفقونها على هذه الهمم السافلة.
قال تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}.
أقدم فيما يلي بعض النماذج التي تدلنا على الهمة العالية للقس الهمام ..
1 – لا أحزاب إلا أحزاب النصارى !
قال القس: عُرِف عن النصارى من بنى إسرائيل الضاربين فى مكة والحجاز انقسامهم فيما بينهم إلى ” شيع ” و”فرق” و”أحزاب “. وأشار القرآن العربى بوضوح إلى هذه الخلافات … ولا يعجب أتباع النبى من كثرة الأحزاب هذه لأنهم حُذروا منها مسبقًا وأُعلموا بوجودها: “ولما رأى المؤمنون (من أتباع محمد) الأحزاب (عند النصارى) قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله” (الأحزاب 22). ويخشى النبى فيما يخشى أن يكون انتمى إلى حزب منها، أو يكون ساهم فى توسيع رقعة الخلاف بينها، فيقول: “إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل” (طه 94). كما يرفض أن يفرق بين الأحزاب، بل يريد لها السلم، ويبغى توحيدها: “لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (البقرة 136). اهـ.
أ – قال: ولا يعجب أتباع النبى من كثرة الأحزاب هذه لأنهم حُذروا منها مسبقًا وأُعلموا بوجودها: “ولما رأى المؤمنون (من أتباع محمد) الأحزاب (عند النصارى) قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله” (الأحزاب 22). اهـ.
لو رجع إلى المصحف لعلم أن الأحزاب المقصودة في الآية التي استشهد بها، هي أحزاب العرب التي تألفت من قبائل متفرقة لتحارب الإسلام، وليست هي أحزابًا نصرانية كما تسفه القس، ويعلم ما جهل القس كثير من طلاب المسلمين الذين لم يبلغوا الحلم، حتى الفاشلون منهم.
قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}. وفي (التفسير الميسر): “ولمَّا شاهد المؤمنون الأحزاب الذين تحزَّبوا حول “المدينة” وأحاطوا بها، تذكروا أن موعد النصر قد قرب، فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، من الابتلاء والمحنة والنصر، فأنجز الله وعده، وصدق رسوله فيما بشَّر به، وما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائه وانقيادًا لأمره.
قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}[الأحزاب/25]. وفي (التفسير الميسر): “وردَّ الله أحزاب الكفر عن “المدينة” خائبين خاسرين مغتاظين، لم ينالوا خيرًا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال بما أيدهم به من الأسباب. وكان الله قويًا لا يُغالَب ولا يُقْهَر، عزيزًا في ملكه وسلطانه”.
ب – قال: ويخشى النبى فيما يخشى أن يكون انتمى إلى حزب منها، أو يكون ساهم فى توسيع رقعة الخلاف بينها، فيقول: “إنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل” (طه 94). اهـ.
لو رجع إلى المصحف لعلم أن الكلام جاء على لسان هارون عليه السلام لا كما زعم: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} [طه/92-94]
جـ – قال: كما يرفض أن يفرق بين الأحزاب، بل يريد لها السلم، ويبغى توحيدها: “لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون” (البقرة 136). اهـ.
لو رجع إلى المصحف لعلم أن الضمير في الآية يعود على رسل الله لا على الأحزاب النصرانية المزعومة: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة/136]
وبعد .. فأنت تقرأ قوله: “ويخشى النبى فيما يخشى أن يكون انتمى إلى حزب منها” فيتملكك العجب: كيف لا يدري إنسان من نفسه: هل انتمى إلى الحزب الفلاني بعد أم لا؟ .. فلا أدري هل نصنف قوله تحت باب الجهل أم الغباء أم “الاستعباط”؟
2 – “سواء” تعني القرآن .. هذا واضح !
قال (قزي) عن (القس والنبي): فجعلا القرآن العربى “كلمة سواء” يكون الناس فيه سواء بسواء. قال: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء” (آل عمران 64)، “الذي جعلناه للناس سواء” (الحج/25)، فأصبحوا “هم فيه سواء” (النحل/71) أو “أنتم فيه سواء” (الروم/28) اهـ.
أ – قال: فجعلا القرآن العربى “كلمة سواء” يكون الناس فيه سواء بسواء. قال: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء” (آل عمران 64). اهـ.
لو رجع إلى المصحف لعلم أن “الكلمة السواء” مفسرة في نفس الآية الكريمة: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران/64]. فليست هي القرآن كما توهم، وإن كانت الدعوة إلى التوحيد هي دعوة القرآن بلا شك.
ثم أصابت القس لوثة “سواء”، فكلما طالع في (المعجم المفهرس) لفظة “سواء” لم يتخيل إلا أنها تعني القرآن.
ب – قال: فجعلا القرآن العربى “كلمة سواء” … “الذي جعلناه للناس سواء” (الحج/25). اهـ.
ولو رجع إلى المصحف لعلم أن آية (الحج) لا تتحدث عن القرآن أصلاً بل عن المسجد الحرام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج/25]. فلو رجع لعلم أن “سواء” لا تعني القرآن، بل كما جاء في (التفسير الميسر): “الذي جعلناه لجميع المؤمنين سواء المقيم فيه والقادم إليه”.
جـ – قال: فجعلا القرآن العربى “كلمة سواء” يكون الناس فيه سواء … فأصبحوا “هم فيه سواء” (النحل/71) أو “أنتم فيه سواء” (الروم/28) اهـ.
أكتفي بسرد الآيتين ليقيني أن مجرد قراءتهما تبين الحق بإذن الله:
{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل/71]
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم/28]
قال (إسكندر شديد): «أبونا قزي مصنع للفرح المتواصل