نقول منصفين : إن المسيحية القائمة في العـالم اليوم ، وفي الغرب خاصة ، لا تستطيع أن تقوم بدور المنقذ للبشرية المعـاصرة مما تعانيه من القلق والتخبط تحت سلطـان الحضارة الغربية السائدة ، وأن تبني الإنسان المنشود ، وذلك لعدة أسباب نجملها فيما يلي :
1 ـ إن المسيحية في صورتها الحالية لا تحمل رسالة حضارية ، بل هي - في صلب تعاليمها - لا تهتـم بالحياة ، ولا تحتكم للعقل ، ولا تدعو إلى العلم ، ولا تحنو على فِطرة الإنسان ، هذا إن لم نقل بصراحة : إنها - كما صوَّرها كهنتها - معادية للحياة ، مناوئة للعقل ، مجافية للعلم ، قاسية على فطرة الإنسان . والمسيحي المثالي يتجسد في " الراهب " المعتزل للحياة ، المنقطع عن الدنيا ، المعرض عن الطيبات، حتى عن الزواج .
والأخلاق المسيحية أخـلاق غير واقعية ، لأنها فوق الطاقة المعتادة للبشر ، كما في قول الإنجيل : أحبوا أعداءكم ، باركوا لاعنيكم ، مَن ضربك على خدك الأيمـن ، فأدر له خدك الأيسر ، ومَن سرق قميصك فأعطه إزارك ...


إن المسيحية الأصلية كانت رسالة مؤقتة ، لفترة محدودة ، ولقوم معينين ، ولم تكن مهيأة قط لتكون رسالة عامة ولا خالدة ، وقد عبَّر المسيح عن ذلك بأنه إنما بُعِث لخراف بني إسرائيل الضالة ، وأنه لم يقل كل الحق ، كما بشَّر بمن يأتي بعده ليُبيِّن للناس كل شيء ، ويكسر عمود الكفر . فكيف والمسيحية الأصلية نفسها قد غُيِّرت وبُدِّلت ، وذهب كتابها الأصلي ، ودخل عليها من التحريف اللفظي والمعنوي ، في عقائدها وشعائرها وأصولها وفروعها ما مسخها وأضاع حقيقتها ، وأخرجها من التوحيد إلى التثليث ، ومن عبادة الله الواحد إلى عبادة المسيح أو العذراء !
والمسيح يقول : " لا يدخل الغني ملكوت السماوات حتى يدخل الجمل في سم الخياط " ويقول لمن أراد أن يتبعه : " بع مالك ثم اتبعني " .
وشعار المسيحية المتوارث المشهور : اعتقد وأنت أعمى ! أي اعزل إيمانك عن عقلك .
والإيمان المسيحي بطبيعته وتاريخه شيء خارج دائرة العقل ، حتى قال القديس " أوجستين " يوماً في تعليل إيمانه بغير المعقول : أومن بهذا ، لأنه محال !
معنى هذا أن المسيحي الحق لا بد أن يختار بين الحضارة والدين ، فإما دين بلا حضارة ، وإما حضارة بلا دين .
2 ـ إن المسيحية ينوء كاهلها بتاريخ شديد الظلمة ، حالك السواد ، ملطخ بدماء العلماء والمفكرين الأحرار ، تاريخ تقشعر لمجرد ذكره الأبدان ، وتشيب لهوله الولدان ، تاريخ وقفت فيه الكنيسة مع الجمود ضد الفكـر ، ومع الخرافة ضد العلم ، ومع الاستبداد ضد الحرية ، ومع الظـلام ضد النور ، وصنعت من المجازر البشرية - وخاصة مع النخبة والصفوة - ما لا ينساه التاريخ . وبهذا لم يعد وجه المسيحية مقبولاً بحال للقيام بالدور المنتظر ، حتى لو افترضنا قدرتها على ذلك ، وما هي بقادرة .
3 ـ إن المسيحية لا تنفصل عن " الإكليروس " - رجال الكهنوت - وسيادة المسيحية تعني سيادة هؤلاء الذين يتحكمون في ضمائر الناس ، ويزعمون أنهم وحدهم الممسكون بمفاتيح أبواب الملكـوت ، وأنهم حلقة الوصل بين السماء والأرض ، ومحتكرو الوسـاطة بين الله وعبـاده ، والبشرية التي دفعت ما دفعت للتحرر من استبداد الملوك ورجال الدين ، ليست مستعدة أن تقع أسيرة لاستبداد رجال الدين .
4 ـ إن الحضارة الغربية يزعم لها الكثيرون أنها حضارة مسيحية ! ويحاولون إلصاقهـا بالمسيح ، وإن كان المسيح منها براء ، فهي - كما قلت مرة - حضارة المسيح الدجّال ، لا حضارة المسيح ابن مريم ، لأن الدجّال أعور وهي حضارة عوراء ، تنظر إلى الحياة بعين واحدة ، هي العين المادية .

ولهذا كله يستبعد المفكرون الغربيون أنفسهم أن تكون المسيحية هي مصدر الخلاص ، وسبيل النجاة . فدور المسيحية قد انتهى إلى غير رجعة ، والمسيح عندهم " قد مـات " ، وهو ما عبَّر عنه " نيتـشة " وغيره بأن الإله قد مات !
وعبارة " موت الإله " شديدة الوقع على الحس الإسلامي ، والعقل الإسلامي ، لأن الإله عندنا هو رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، الذي خلقهم وسواهم ، وأحياهم ثم يميتهم ثم يُحيـيهم ، ومثل هذا الإله المحيي المميت لا يتصور أن يموت ، بل هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم ، بلْهَ أن يعتريه موت .
أما إله الغرب ! أو إله المسيحيين ، فهو - في اعتقادهم - مجرد بشر تجسد فيه ، أو حل فيـه روح الإله ، وهم يعتقدون أنه صُلِبَ من قبل ، فلا غرابة أن يموت من بعد !!
يقول البروفسور " رينيه دوبو " في نقده للحضارة الغربية ، وبعد فصل كامل سماه " البحث عن معنى " وتحت عنوان فصــل جديد : " التخلص من أسطورة النمو والتنمية " : " إذا راجعنا التاريخ ربما يظهر موضوع " البحث عن معنى " عملاً لا فائدة منه . ففي كل مرة تتعرض البشرية لمثالية تعطيها معنى لحياتها تتجزأ هذه المثالـية ، وتختفي ، ولقد ظهر في الماضي كثير من العقـائد الدينـية والفلسفية والاجتماعية أنارت للبشر طريقهم لمدة ما ، وضاعت من بعد ذلك في مستنقع من شكوك فلسفية وجدل ضيق عقيم :
بدت المسيحية في القرون الوسطى كقوة موحدة عندما أعطت شعوب أوروبا بعض الآمال ، والمطامح المشتركة والسلوك الاجتماعي المستوحى من محبة الله وخوفه . ولقد حركت أفكار المسيحية القدرات البشرية في أعمال جماعية مدهشة ، كبناء الأديرة ، والكاتدرائيات ذات الفن القوطي والروماني . ولكن بعد ذلك انشغل المسيحيون باطراد في مجادلات لاهوتية مكررة ، وتحولت المسيحية من عقيـدة روحانية من المحبة إلى اعتقاد جامد محافظ خال من أي إلهام ، والآن كثيراً ما نراها - أي المسيحية - تتفتت لتصبح فئات متعددة تتبنى أخلاقاً اجتماعية مبهمة .
" فاللاهوتيون مشغولون بمناقشات فلسفية زائفة لمحاولة التوفيق بين المسيحية والرأي الذي لا معنى له ، عن " موت الإله .....