أحقية ذرية إسماعيل في أرض فلسطين كما ترويه حقائق التاريخ والمنظمات الدولية وأدلة العقل والنقل:
المعهود لدى إسرائيل أنها لا تقيم وزناً للأعراف ولا للمواثيق الدولية، ولا للقيم ولا للمبادئ الإنسانية، ويشهد التاريخ كم هو حجم القوانين التي صدرت بحقها على امتداد أكثر من خمسين عاماً دون أن تلقي لها بالاً، ونذكر من جملة تلك القرارات التي تدين وتبطل جميع الأعمال التي تقوم بها إسرائيل بما في ذلك أعمال القتل والإبادة والتدمير ومصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير الوضع القانوني للقدس بالقوة:
قرار الأمم المتحدة رقم 2253 بتاريخ 4/7/1967، وقرارها رقم 2254بتاريخ 14/7/1967، وقرارها رقم 2851 بتاريخ 20/12/1971، وقرارها الصادر في أول ديسمبر عام 1996 وقرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ22/11/1967، وقراره رقم252 في 21/5/1968 ، وقراره رقم298 بتاريخ25/9/1971، وقراره رقم 338 بتاريخ22/10/1973، وقراره رقم 476 الصادر في يونيو عام 1980، وقراره رقم478 في 20/8/1980 الذي يقضي بعدم الاعتراف بقانون القدس الذي أصدره الكنيست في 30/7/1980بشأن توحيد القدس (الشرقية والغربية) وجعلها عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، كما دعا الدول التي أقامت بعثات دبلوماسية في هذه المدينة المقدسة إلى سحب هذه البعثات، وأكد المجلس في قراره أن قانون الكنيست يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ويتعارض مع اتفاقية جنيف الرابعة الموقعة في 12/8/1949 والمتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب، وقد سبق هذا القرار سالف الذكر، القرار رقم 267 بتاريخ 3/7/1969 المؤكد لعدم قبول مبدأ الاستيلاء على الأرض بالغزو العسكري وأبدى أسفه لعدم احترام إسرائيل لقرارات المجلس والجمعية العامة وشجب بشدة جميع الإجراءات المتخذة لتغيير وضع القدس واعتبرها باطلة، ودعا إسرائيل مجدداً إلى إلغاء جميع هذه الإجراءات وقراره رقم 592 في 8/12/1986، وقراره رقم681 في 30/12/1990، وقراره الصادر في 16/5/1996، وقراره الصادر في 14/7/1998، وقراري منظمة اليونيسكو 15م/3342، 15م/3343 في خريف عام 1968، وقرارها رقم/3422في نوفمبر 1972، وقرار لجنة حقوق الإنسان رقم4 بتاريخ 14/3/1973، وما صدر مؤخراً من محكمة العدل الدولية بشأن عدم أحقية إسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20/ 7 / 2004 بأغلبية 150 صوتاً ضد 6أصوات منها بالطبع الولايات المتحدة وامتناع 10 عن التصويت بهدمه وإرجاع الأراضي المغتصبة التي بني عليها لأصحابها، وما ذكر هنا في الحقيقة يعد قليلاً من كثير غير أن جميع هذه القرارات من كل هذه المنظمات الدولية لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، ولم تفكر أي من هذه المنظمات الدولية في معاقبة هذه الدولة المدللة والقائمة على الإرهاب واغتصاب أراضي الغير والتي تدافع عنها أمريكا باستماتة، بأي من تلكم العقوبات التي تستخدم ضد الدول الإسلامية والعربية للا سبب أو لأتفه الأسباب أو عقب اختلاق أسباب، حتى وصل حال إسرائيل الآن والمسلين- الذين تداعت عليهم الأمم بسبب إعراضهم عن منهج ربهم فأضحوا كالأيتام على مائدة اللئام- إلى ما وصل إليه.
وإذا كان يهود عصرنا لا يكفون عن دعوى أحقيتهم في أرض الميعاد بل وفى قبلة المسلمين الأولى (المسجد الأقصى) فيعملون- جاهدين وجادين لإثبات هذا الحق المزعوم والوعد المكذوب- على نقضه وطمس معالمه لحد أن صار هدمه لا قدر الله مسألة وقت على ما ذكرت صحيفة (هاآرتس) الإسرائلية في 12/ 8/ 1969، فإن الثابت شرعاً وتاريخ:
1- أن سليمان الذي يريدون أن يرفعوا على أنقاض المسجد الأقصى هيكلا له خالوه، عمل على تجديد هذا المسجد العتيق المبارك الذي بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاماً.. ، وذلك بعد أن اندرست معالمه عبر القرون المتطاولة، فكيف بمن يجدد مسجداً هو ثاني مسجد بنى على وجه الأرض، وله من المكانة ما له، أن يبنى مكانه أو أسفله أو حتى بجواره هيكلا تتنافى رسالته مع رسالة المسجد تنافيا يصل إلى حد أن يبنى أحدهما على أنقاض الآخر كما تزعم يهود؟.
2- إن الملاحظ في حديث المؤرخين القدامى من أمثال ابن الأثير ت630هـ في كتاب (الكامل) وابن كثير ت 747هـ في كتابه (البداية والنهاية) وغيرهما ، أنهم لم يعرضوا سوى لبناء المسجد وإتمامه علي يد داود وسليمان عليهما السلام ولم يتطرقوا للحديث عن الهيكل ، بل إن الذين كتبوا في هذا الموضوع من الباحثين التوراتيين والإفرنج ومن ساندهم من حراس الفكر الآسن العربي في جامعاتنا ومراكز أبحاثنا ممن أشاروا إلي وجوده لم يقدموا دليلاً أو مصدراً واحداً يكشف عن حقيقة هذه المفردة كما خالها معشر يهود سوى التوراة، إذ لم تسهم المخلفات الأثرية في إثبات ذلك كما لا توجد مصادر تاريخية تدعم السجل التوراتي، وممن قرروا تلك الحقيقة من علماء الآثار في الجامعة العبرية وغيرها (أمنون بن ثور) و (طومسون) و (روني ريك) و (ميللر) و(غاريبيى) و(ليتش) و(فلاناغن) وغيرهم، ومن ثم بدأ الإجماع في السنوات الأخيرة علي أن فكرة مملكة سليمان وهيكله المزعوم في فلسطين تتداعي تدريجياً وقد أسهم هذا الغياب للأدلة والآثار، بقوة في إسقاط ماضي هذا الهيكل المتخيل، وإن كانت فكرته لا تزال تهيمن علي خطاب الدراسات التوراتية على الرغم من أن التوراة باعتبارها نصا مقدسا ليست مرجعاً ولا تعكس بالضرورة الحقائق التاريخية، والأمر فيها- علي ما يبدو- لا يعدو أن يكون محاولة ممن صاغوا التوراة في القرن الثاني ق. م لإثبات تواجد لليهود بأي شكل في أرض الميعاد .
3- وتدعيماً لما سبق تقريره من عدم وجود أي أثر يدل على وجود الهيكل نقول: إنه ومنذ أن وطئت أقدام الاستعمار الأوربي الأرض العربية في القرن التاسع عشر، والمستشرقون وعلماء الآثار ما انفكوا يتوافدون على القدس باعتبارها مهد المسيح ومكان دعوته وأيضا بوصفها أرض التوراة، وقد استغلت الحركة الصهيونية هذا الأمر في خططها للترويج لدعوى عودة اليهود إلي الأرض المقدسة، مستفيدة من أطماع القوى الأوربية الاستعمارية في الشرق وكونت من أجل العثور على أي أثر يثبت حقها للعودة، جمعيات ومؤسسات ومدارس بحثية كان من أهمها:
صندوق استكشاف فلسطين وهو هيئة بريطانية أنشئت عام 1865م، جمعية الاستكشاف الفلسطينية وهي جمعية يهودية أمريكية تأسست عام 1870م، جمعية الآثار التوراتية وهي جمعية بريطانية أنشئت عام 1870م، والجمعية الألمانية للأبحاث الفلسطينية أنشئت عام 1877م، والمدرسة الفرنسية للدراسات التوراتية والأثرية أنشأت عام 1892م، والجمعية الألمانية للدراسات الشرقية أنشأت عام 1879م، والمدرسة الألمانية للأبحاث الشرقية للقدس تأسست عام 1900م وهي تعرف الآن باسم مدرسة أولبرايت نسبة لاسم العالم التوراتي وليام فولبرايت يهودي الأصل، والمعهد البروتستانتي الألماني للدراسات التاريخية في الأرض المقدسة أنشأ عام 1902م، وقد باءت كل مساعي هذه الجمعيات بالفشل الذريع في إيجاد دليل أثري واحد يثبت وجود بقية للهيكل أسفل الحرم القدس الشريف أو المسجد الأقصى.
وخارجاً عن نطاق العمل المنظم والكثيف لهذه الجمعيات ووريثاتها من المؤسسات الإسرائيلية فقد عملت في مدينة القدس تحديداً، للبحث عن بقايا هيكل سليمان، عدة بعثات أثرية معنية بالحفائر، انطلقت جميعها من فرضية صحة ما جاء في التوراة من معلومات تاريخية وحضارية كان أهمها:
حفائر باركلي المبشر الأمريكي وكانت عام 1839م، حفائر شارلفروارن الضابط الإنجليزي وكانت عام 1867م، حفائر بلبيس وهي فيما بين عامي 1893و1896م، حفائر الكابتن واركر ضابط إنجليزي وكانت عام 1911م بناء على طلب وتمويل المليونير اليهودي روتشيلد، حفائر ماكاليستر الإنجليزي 1923- 1926م، حفائر كروفوت عام 1927، حفائر المدرسة الإنجليزية للآثار عام 1961م، حفائر مصلحة الآثار الإسرائيلية عام 1967م تحت إشراف دهنس، الحفائر المشتركة بين الجامعة العبرية وجمعية الكشف الإسرائيلي منذ 1968م، ولم تسفر كل هذه الحفائر كذلك عن أي شيء سوى تشويه معالم الآثار والحضارة الإسلامية .
4- بل ومما يدعم ما سبق تقريره من عدم وجود أي أثر للهيكل المتخيل.. ما أعلنه العالم الأثري الإسرائيلي (زئيف هرتسوغ) حديثاً، وذلك في تقريره المثير للجدل الموسوم بـ (التوراة: لا إثبات على الأرض) .. ذكر "أنه بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق، ولم تحتل فلسطين، ولا ذكر لامبراطورية داود وسليمان"، ويأتي تقريره هذا- بالطبع- بعد أن استفرغ الدارسون التوراتيون والآثاريون ومنهم إفرنج ومنتسبون إلى دائرة الآثار الإسرائيلية الرسمية كل ما في وسعهم، وبعد أن بحثوا في كل مكان ورد اسمه في التوراة التي جعلوها في يد والمجرف في اليد الأخرى، وكانت المفاجئة أن ما وجد يؤكد بطلان ما جاءت به التوراة ويوجب قراءة التاريخ العربي عامة والفلسطيني خاصة قراءة جديدة وموضوعية .
5- كما يدعمه شهادة الدكتورة (كاتلين كابينوس) مديرة الحفائر في المدرسة البريطانية للآثار بالقدس التي قررت سنة 1968م ضمن فريق من علماء الآثار المسيحيين عدم وجود أي أثر لهيكل سليمان، وشهادة فريق المهندسين العالميين الذين درسوا التربة التي يقوم عليها المسجد الأقصى في وقت لاحق، وتعمقوا فيها، وخلصوا إلى أنه لا يوجد في ذلك المكان أي دليل أو شبهة لأي أثر من الهيكل الذي تدعي الصهيونية أنه مدفون بجوار حائط البراق الغربي بالمسجد الأقصى .
6- وكما عجزت تقارير وشهادات الصهاينة ومن والاهم عن إيجاد أي أثر للهيكل وعن إثبات أي دليل تاريخي يؤكد وجوده، فقد عجزت كذلك عن إثبات أي أثر أو دليل يقطع بأن حائط البراق الذي يسمونه بـ (حائط المبكى)، جزء من سور كان حول هيكل سليمان، بل إن اللجنة الدولية المتفرعة عن عصبة الأمم المتحدة التي تكونت سنة 1929برئاسة (وولترشو) للنظر في الخلاف حول ملكية المبكى ومكثت شهراً كاملاً في فلسطين من 19/6: 19/7/1930 واستمعت لأحد عشر محامياً من مسلمين ومسيحيين من مختلف دول العالم كما استمعت لأقوال 22 شاهداً قدمهم الجانب اليهودي، أثبتت من خلال وثيقة فندت فيها إيماءات الإسرائيليين بحقهم التاريخي في القدس، بأن الحائط وقف للمسلمين العرب ولا يجوز لأحد أن ينازعهم فيه، ومن ثم لم تقر هذه اللجنة وجهة النظر الصهيونية وما تخطط له من إخراج 10 آلاف مسلم من القدس القديمة بأي شكل وبمختلف الأساليب وإحلال 5000 يهودي مكانهم، ومن إزالة الأبنية التاريخية والآثار الإسلامية الملاصقة لسور المسجد الأقصى من الجهة الغربية وتوسيع حائط المبكى، ومن فتح أنفاق تحت المسجد، وحكمت لجنة (وولترشو) الدولية بعد دراسة وافية لكافة الوثائق، بإبقاء الحال على ما هو عليه ومنع اليهود من إدخال أي تغيير فيه .. وبنحو ذلك فعلت منظمة اليونسكو التي أدانت بقراريها 82، 83 في 1970 إسرائيل على إحراق المسجد الأقصى وعلى استمرارها في الحفريات كما دعتها للالتزام فورأً بالقرار 17م/3422الصادر في نوفمبر 1972 القاضي بالكف عن تغيير معالم القدس، الأمر الذي يؤكد من جديد عدم وجود أية أدلة مادية تشير من قريب أو من بعيد إلى الهيكل المزعوم وبالتالي كذب الادعاء اليهودي بالحق التاريخي لهم في أرض فلسطين.
7- كما يؤكده موقع المسجد الأقصى نفسه، ذلك أن من أبرز المعالم التي تميز الحرم الإسلامي الشريف أنه مستطيل ويأخذ الاتجاه من الشمال إلى الجنوب في اتجاه قبلة مكة المكرمة على خلاف الهيكل قبل إبادته وتدميره ومحوه ـ إن صح ما ورد في هذا الصدد ـ فإنه ـ كما أفادت دراسة الأثرى الفرنسي (دي سولس) في كتابة (تاريخ الفن اليهودي)- كان يأخذ الاتجاه من الغرب إلى الشرق، وهذا في حد ذاته ينفي نفياً قاطعاً الرأي القائل بأن الهيكل يقوم مكان الحرم الإسلامي الشريف ، إن افترضنا جدلاً وجود هيكل في الأصل.
8- ثم إن القول بثبوت أحقية اليهود في بلاد المسلمين المقدسة بحجة الهيكل وبمجرد انتسابه لنبي الله سليمان الذي يعدونه نبياً من أنبيائهم، قول خاطئ ومجاف للحقيقة، ذلك أن سليمان وجميع آبائه وأجداده من النبيين ما كانوا قط في يوم من الأيام يهوداً أو نصارى أو عابدين لعجل أو وثن، والعقل والنقل يقضيان بهذا، فجميعهم كانوا على ملة أبيهم إبراهيم حنيفاً مسلماً، والشرك أبغض ما يكون إلى قلوبهم، وهم ما بعثوا إلا لترسيخ عقيدة التوحيد التي هي في الأساس ملة إبراهيم ووصيته إليهم، واليهودية والنصرانية ما ظهرت وما وجدت إلا فيما بعد، فأنى له أن يكون هو أو أحد من أبنائه كذلك (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده..آل عمران/65)؟، وعليه فعندما يقرر القرآن حقيقة (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.. آل عمران .. /67)، يكون قد وافق العقل في تقرير ما كان عليه أبو الأنبياء وما كان عليه أبناؤه بالطبع من التوحيد الخالص، وما عند القوم من دليل يثبت أنهم أو أن واحداً منهم سواء سليمان أو غيره كانوا على غير ذلك، ومن هنا ساغ لرب العزة أن يوجه خطابه مستنكراً وقائلاً: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون.. البقرة/140)، وإذا كان الجواب عن هذه التساؤلات بالنفي فـ (إن أولى الناس بإبراهيم، للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا.. آل عمران/ 68)، ذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه هم الذين اتبعوا الملة الإسلامية التي هي وصية إبراهيم أبي الأنبياء كما أنها وصية نبي الله إسرائيل نفسه اللتين جاء ذكرهما في قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. البقرة/132)، فاتبعها محمد واتباعه وخالفها ولا يزال أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
وهكذا كان الحال في أمر اتّباعها من دونهم بالنسبة لسليمان عليه السلام، وماذا بعد أن صار الخلق والطير المسخر له دعاة لدينه الإسلام، فلقد جاءه الهدهد- بعد أن استعرض عليه السلام ملكه ولم يجده ـ جاءه مستنكرا لما تفعله ملكة سبأ قائلا: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم .. النمل/24-26)، وبعد محاورة ومداورة بينها وبين سليمان (قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين .. النمل/44).
ولقد جاء أمر الله واستنكاره لأولئك الزاعمين أنهم على درب هذه الصفوة من الخلق المتمحكين فيهم على الرغم من براءة هذه الصفوة منهم، وذلك في قوله سبحانه: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .. البقرة/136)، ولكن (كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين ..آل عمران/86).
ونخلص من هذا إلى أمرين مهمين لا تقل إحداهما أهمية عن الأخرى،الأول: أن الديانات لا تقوم على الأعراق أو النزعات، وأن الإسلام ما كان قط للعرب وحدهم وإلا كانت الديانات السماوية حواجز تحول دون التقاء الشعوب. والأمر الثاني: أن المسلمين من سلالة إسماعيل هم الوارثون الشرعيون لتراث الأنبياء لأنهم الذين آمنوا برسالاتهم الحقة بعد أن كفر بها غيرهم وهم الذين ورثوا بيت المقدس وسائر المقدسات الإبراهيمية والموسوية والسليمانية بعد أن تسبب غيرهم في خرابها، وهم الذين حافظوا ـ على مدار الأحقاب والأزمان- على تيك المقدسات واعتبروها جزءاً لا يتجزأ من تراثهم الديني والروحي بعد أن شوه غيرهم معالمها بالحفائر والجرافات، ألا يدل كل هذا ـ بعد أن عرفنا أن القدس بأنبيائها ورسلها تنتمي إلى الإسلام قلباً وقالباً من قديم الحقب ـ على أحقية المسلمين في هذه المدينة المباركة، سيما وأنه لا يوجد أي معلم أثرى لليهود في أرجائها؟ وألا يدل ذلك أيضاً وفي ظل ما يحدث للمسلمين هناك وفي بلادهم من انتهاكات لهم ولمقدساتهم على أنهم أولى الناس في الحفاظ على الممتلكات والأرواح والمقدسات؟.
9- وإذا كان الخليل إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد البيت الحرام بصحبة ابنه من هاجر إسماعيل عليه السلام، وكانت المدة الزمنية بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى على نحو ما ورد في الصحيح أربعين عاماً.. فمن المعقول ـ سعيًا وراء تحقيق موعود الله لشيخ الأنبياء عليه السلام ـ أن يكون إسحاق عليه السلام ابنه من سارة، هو الذي أسس بإيعاز من أبيه أو بأمر من الله المسجد الأقصى في الأرض التي بارك سبحانه فيها وحولها، وعليه فليس لداود وسليمان من عمل سوى رفع قواعده وتجديده.
وإذا كان هذا المسجد هو عينه الذي أسرى برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليه وقد رآه ـ بالطبع ـ على الحال الذي كان عليه، وإلا لما أطلق عليه القرآن مسجداً، ولما تسنى للرسول أن يصفه للمشركين عندما جادلوه في أمره صبيحة أسرى به إليه.. فإن هذا يعني أن المسجد الأقصى خلال هذه المدة الطويلة التي استمرت من عهد إسحاق الذي كانت ولادته في القرن العشرين قبل الميلاد إلى مبعث النبي محمد سنة610 على الأرجح، وإسرائه صلى الله عليه وسلم إليه بعيد ذلك، مروراً بعهد داود ثم سليمان الذي توفي سنة 930ق.م وبحكم البابليين والفرس واليونان والبطالمة والرومان لم تطله يد التخريب والإبادة، الأمر الذي يشكك في وجود هيكل أصلاً بل وفى مصداقية ما جاء في التوراة بشأنه، إذ كيف يتأتى أن يكون ثمة هيكل قد دمر على نحو ما ورد في الكتاب المقدس – سفر الملوك الثاني 24: 13، 25وما بعدهما، وإرميا 52: 30- وهو في مكان المسجد الذي ظل طوال هذه المدة وسيظل شاهداً على كذب وادعاءات اليهود في زعمهم أن الهيكل المزمع بنائه الآن من جديد، يقع أسفله أو بجواره، أو حتى في محيطه؟، إن الجواب المتعقل يقضي بأن لو كان الأمر على نحو ما يدعون لتم تخريب الأقصى هو الآخر لوقوعه في زمام البلاد التي طالها التدمير سيما وقد قيل إن آخر تدمير لحق المدينة كان بعد ميلاد المسيح بـ 138عاماً أي قبل تشريف النبي صلى اله عليه وسلم له وللبقعة المباركة من حوله بزمن ليس بالبعيد.
10- وحين هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة عقد بعد الهجرة مباشرة عقداً مع يهودها أقرهم فيه على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم، فلو كان هناك هيكل بحق كما يزعم يهود عصرنا لما خفي ذلك عن أسلافهم ممن عاصروا رسول الله وساكنوه، بل ولطالبوه صلى لله عليه وسلم به ولأثبتوا أحقيتهم له أو لنصوا على الأقل على ملكيتهم إياه إن لم يتظاهروا بشأنه ويحتجوا على ذهابه إليه، سيما وقد عرفوا بإسرائه إليه ومعراجه منه للسماء، منازعته إياهم فيه.
11- ثم إن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يكره التشبه باليهود والنصارى حتى قال قائلهم: إن محمدا لم يدع لنا شيئاً نحن عليه إلا وخالفنا فيه، فهل يعقل أن يحط رحل النبي عليه السلام ليلة الإسراء في موضع كان في يوم ما معبداً أو مكاناً معظماً لدى يهود؟ وهل يُظن بالنبي أن يقع فيما تورع أحد أصحابه وهو عمر أن يقع فيه؟ وهل يتصور وجود هيكل تتنافى رسالته مع رسالة المسجد الذي بني عليه في مكان اعترف اليهود- قبل وبعد تحويل قبلة المسلمين إلى الكعبة- بأنه قبلتهم في صلاتهم مع علمهم واعترافهم كذلك بأنه صلى الله عليه وسلم وصحابته ما كانوا يتجهون في صلاتهم أيضا إلا إلى المسجد الأقصى؟.
12- وعند فتح المسلمين لبيت المقدس سنة636 من الهجرة وإعطاء عمر وثيقة الأمان لأهلها تضمنت الوثيقة: "ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"، فلو كان هناك هيكلاً كما يزعم يهود الشتات لنص عمر عليه في هذه العهدة الشهيرة ولأمّنَه باعتباره مكاناً مقدساً، إذ هو عينه الذي أمن النصارى على كنائسهم وصلبانهم، وهو عينه الذي رفض أن يصلي في كنيسة القدس عندما دعاه مطرانها لذلك، خوفا من أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعة لأن يستولوا عليها ويحولونها بعدئذ إلى مسجد، بحجة أن عمر صلى فيها.
13- وعلى الافتراض جدلا أن ثمة هيكلاً بُنى ودمر مرتين كما يقال، فما الذي يمنع أن يكون محوه من الوجود قد تم عقوبة من الرب لبني إسرائيل على جرائمهم وتخليهم عن تعاليمه ووصاياه كما نُص على ذلك في كتبهم، فيكون الواجب عليهم مراجعة حساباتهم مع الله لا المزيد من استجلاب سخطه وغضبه، وفي فعل ما هو على العكس مما ينبغي عليهم فعله مما ذكرنا؟، جاء في سفر الملوك الأول9: 1-10أنه "لما أكمل سليمان بناء بيت الرب.. وكل مرغوب سليمان الذي سُرّ أن يعمل.. تراءى- الملك- لسليمان ثانية .. وقال له الرب: قد سمعت صلاتك وتضرعك.. قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد، وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام .. إن كنتم تنقلبون أنتم أو أبنائكم من ورائي ولا تحفظون وصاياي فرائضي التي جعلتها أمامكم. بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها. فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب. وهذا البيت يكون عبرة كل من يمر عليه يتعجب ويَصفُر ويقولون لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت. فيقولون من أجل أنهم تركوا الرب إلههم الذي أخرج آباءهم من أرض مصر وتمسكوا بآلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوها لذلك جلب الرب عليهم كل هذا الشر"، ولا يختلف في إغاظة بني إسرائيل للرب ولا عبادتهم للعجل ولا انتهاكهم ومن شايعهم إلى يوم الناس هذا لسائر حرمات الله اثنان، وعليه فلا عجب أن يحل عليهم غضب الله وأن ينزل بهم وعيده وأن يصبح هيكلهم في المرتين اللتين ورد ذكرهما في سفر الأخبار وسفر عزرا على ما سيأتي، أثرا بعد عين.
فقد جاء في سفر أخبار الأيام الثاني36: 14-20 أن تدميره في المرة الأولى تم على يد ملك الكلدانيين بخنتصر الذي أمر جنده فـ "أحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وأحرقوا جميع قصورها بالنار وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة. وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيدا" وذلك بعد أن "أكثروا الخيانة حسب كل رجاسات الأمم ونجسوا بيت الرب الذي قدسه في أورشليم.. وكانوا يهزأون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بأنبيائه".
وبعد عودة عزرا ونحميا إلى أورشليم في أيام كورش ملك فارس، وخضوع فلسطين للدولة الفارسية وكان ذلك عام 536ق.م، ثم إعادة بناء الهيكل وتدوين التوراة على نحو ما جاء في سفر عزرا، 1: 1-4 ولما حادوا عن الحق دمره سبحانه عليهم للمرة الثانية وأباده من الوجود هذه المرة إلى الأبد، وذلك حين بطش بهم القائد الروماني تيتوس سنة 70 من الميلاد.
وعليه فما يسعى إليه بنو إسرائيل الآن من عربدة ومن إهلاك للبلاد والعباد في محاولة منهم لإعادة الهيكل يعد تمادياً لمخالفة أوامر الرب من ناحية، كما يعد اعتراضاً على حكم الله وعدم رضاء لما قضي فيه بأمر- سيما بعد تحول موعود الله عنهم- من ناحية ثانية، كما يُعد تمرداً ومخالفة لما تنبأ به عيسى عليه السلام آخر أنبياء الله ورسله إليهم من ناحية ثالثة.
ومن النبوءات التي أشير فيها صراحة بتدمير الهيكل وإبادته ومحوه من الوجود بحيث لا تقوم بعده قائمة وجاء ذكرها على لسان عيسى- عليه السلام- الذي تآمروا على قتله وقتل غيره من الأنبياء، ما ورد في إنجيل متى23: 37 -39 "يا أورشليم يا أورشليم - يريد سكانها من اليهود- يا قتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا، هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب".. وما ورد في إنجيل لوقا 21: 20-22 من قوله- عليه السلام- لبعض تلاميذه فيما سيؤول إليه أمر أورشليم والهيكل: "متى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش فحينئذ اعلموا أنه قد اقترب خرابها .. لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب".
ولا يخفى ما في هذين النصين وغيرهما على ما سيأتي من تلميح إلى قرب نهاية بنى إسرائيل ومبعث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم الذي سيؤول إليه أمر موعود الله سبحانه في الملك والنبوة، ومن تلك النبوءات أيضا ما جاء من مخاطبة عيسى لأورشليم في إنجيل لوقا 19: 43-46 قائلاً: "ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويُحدّقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر.. ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه. قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"، ثم راح يضرب المثل لأولئك المخاطبين من الكهنة والكتبة ووجوه الشعب الذين تآمروا على قتله، ويذكرهم بأمر الكرّامين الذين رفضوا الحجر الذي صار فيما بعد رأس الزاوية، في إشارة وبشارة واضحتين بخاتم النبيين وآخر المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الأمر الذي يعني أن يسوع وحوارييه كانوا يتوقعون ما سيحدث لمعشر يهود، كما يعني كذلك الإيذان بأنه لا عودة لأولئك الأنكاد لضياع كيانهم إلى الأبد بعد أن منحهم الله الفرصة تلو الفرصة، لكن دون جدوى، على أن ما جاء في الكتاب المقدس هو على نحو ما ذكرنا قبل أن يصبح الهيكل- بآية من الله وبسبب ما اقترفه معشر يهود- أثراً بعد عين، وعليه فلا تعارض بين ما جاء في التوراة في هذا الصدد على افتراض القول بصحته وبين القول بعدم وجوده البتة على ما هو متضح.
14- لقد صرح (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) أن ما يسمى بالهيكل ما هو إلا أكذوبة، كما صرح الكاردينال (اسطفانوس الأول) بطريك الأقباط الكاثوليك في جريدة الأهرام المصرية يوم الجمعة 22/8/1969- أي عقب إحراق اليهود للأقصى في 12/8/1969 الذي أدانه مجلس الأمن بالقرار رقم 271في 15/9/1969 - مستنطقاً ما ذكرناه في الأسطر القليلة الماضية بأن "إحراق إسرائيل للمسجد الأقصى تحد لكل النبوات والكتب المقدسة"، وأردف يقول: "إذا كان اليهود لا يؤمنون بذلك فليرجعوا إلى التاريخ وليروا ما صنعه أجدادهم في عهد الإمبراطور (يوليانوس) الذي بنى على أنقاض مدينة القدس، إيلياء عام 62ميلادية، حين حاولوا إعادة بناء هيكل سليمان فهبطت ألسنة النار وزلزلت الأرض وأزالت كل ما صنعوا ".
سبحان الله إنها إذاً الإرادة الإلهية والانتقام الرباني ولا شئ غير ذلك، وعلى معشر يهود إن كان عندهم إيمان بذلك وبأسفارهم، أن يكفوا عن عبثهم بالمقدسات وألا يزيدوا بذلك وبسحل الأبرياء وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس والنساء والأطفال وإهلاك الحرث والنسل، من سخط وغضب الرب أكثر ما هو عليه الآن، وأن يسلموا بقضاء الله فيهم ويتمثلوا أوامره ويؤمنوا بخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم ويعترفوا له بالإمامة والريادة وموعود لله له ويوقنوا بألا نجاة لهم في الدنيا والآخرة إلا بذلك إن كانوا يريدون لأنفسهم نجاة.
15- إن الفكرة الصهيونية السياسية التي نادى بها ليوبنسكر الطبيب اليهودي الروسي سنة1881م والتي تنادى بوجوب تهجير اليهود من المجتمعات التي يعيشون فيها إلى إقليم يمتلكونه ليكوِّن أمة يهوديةً، وتبعه فيها هرتزل الذي رشّح لتحقيق هذا الغرض أرض فلسطين باعتبارها الموطن الأصلي لهم، ولهم-على حد زعمه- الحق الشرعي في أن يعودوا إليه .. هذه الفكرة وإن أفلحت بفضل مسايرة الانتداب البريطاني لتدعيم هذا الاتجاه، إلا أنها حملت في طياتها الزيف والكذب والزور والبهتان .. ذلك أن الكثرة الغالبة من اليهود الذين نزحوا إلى فلسطين في العصور الحديثة لا يمتّون بأدنى صلة ليهود فلسطين القدماء، ومن ثم فليس لهم حق تحت أي مبرر فيما يغتصبونه من أراضي الغير إن صح الزعم بأن ليهود فلسطين حق شرعي أصلاً في تلك الأراضي المقدسة، سيما وأن أولئك النازحين ينتمون إلى أجناس غير سامية اعتنقت اليهودية في فترات متباينة عبر التاريخ، فقد كان من اليهود الذين طردهم الملك الكاثوليكي فرديناند من أسبانيا ليستوطنوا أرض فلسطين كثير من المواطنين الأسبان الذين تهودوا وانتشروا في إيطاليا وفرنسا والشرق الأوسط، ومثل ذلك يقال عن يهود طائفة الأشكيناز وهم يهود شرق أوربا ووسطها فهم أحفاد الخزر الذين عاشوا في جنوب روسيا واعتنقوا الديانة اليهودية في القرنين السابع والثامن الميلاديين، بل إن معظم الصهاينة أوربيون وليس هناك أي رابط عضوي بين أجداد هؤلاء جميعاً وبين الأسباط .
فأنى لقوم لا يمتّون لموطن بأدنى صلة أن يُخرجوا منه أهله بعد أن يهدروا دمه ويستحلوا باسم الدين العيش فيه على حساب من أخرجوهم من ديارهم بغير حق، وأي دين وأي عقل وأي منطق وأي قانون وأي شريعة ـ باستثناء قانون الظلم وشريعة الغاب ـ يرضى بهذا؟ والسؤال الذي يلح في فرض نفسه هو: لمَ لمْ يقم من تبنوا هذه الفكرة من الأوربيين والأمريكيين وغيرهم ممن تتقاطر قلوبهم شفقة ورحمة على أولئك الذين مزّقهم الله الرحيم بخلقه كل ممزق بعد أن قطعهم في الأرض أمماً وهاهم قد أتوا من كل حدب وصوب.. لمَ لا يقومون بهذا المعروف الذي لن ينساه لهم الرب ولا التاريخ فيقتطعون من بلادهم جزءًا يؤونهم فيه، ولن تعدم بريطانيا مقاطعة ولن تعدم أمريكا ولاية تفرغها لأولئك البؤساء المطرودين والضحايا المساكين، على الأقل ليوفروا على أنفسهم هذه الأموال الطائلة والجهود المضنية والإمدادات المكلفة التي يبعثون بها إليهم من أقاصي البلاد ومن أدانيها، وليست بلادنا بأسعد حظاً ولا أحسن حالاً من بلادهم فبلادهم رمز التقدم والحضارة، ومبعث الرقي والثقافة.
16- ومن الأمور الثابتة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوقف في أرض الخليل أول وقف وجعله للصحابي الجليل تميم بن أوس الداري وقد عرف هذا الوقف حتى الآن بالوقف التميمي نسبة إليه، كما أوقف الخليفة عمر بن الخطاب وقفاً آخر في جبل أبي غنيم للصحابي الجليل عياض بن غنم وقد عرف هذا الجبل ولا يزال باسمه، وعلى الرغم من أن الوقف الإسلامي لا يجوز أن يباع ولا أن يشترى إلا أن اليهود الذين يجيدون فنون التزوير والتزييف احتلوا هذه الأماكن وادعوها لأنفسهم وقد تبرع اليهودي (زيمسكوفيتش) بـ 600مليون دولار لبناء مستوطنة في جبل أبي غنيم ضارباً هو وقومه بكل القوانين والشرائع السماوية عرض الحائط، الأمر الذي أثار حفيظة علماء المسلمين في أنحاء المعمورة وكان من توصيات المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية في 22من ذي الحجة 1389هـ الموافق 28من فبراير 1970م أن بيت المقدس وما حوله إنما هي أرض أوقاف أوقفها المتبرعون منذ القدم على مصلحة المسلمين ومن ثم فهي ملك للمسلمين جميعاً واغتصاب شبر منه تحت أي مبرر يفرض عليهم السعي لتحريره لاتفاق أهل العلم على (أن شبراً ديس من أرض المسلمين بالمشرق وجب على أهل المغرب أن يسعوا لاسترداده)، وأكدت التوصيات على (أن الجهاد بالأموال والأنفس أضحى فرض عين) (وبما أن الأرض المقدسة والقدس الشريف والمسجد الأقصى ملك للمسلمين كلهم يتحتم على المسلمين في كل مكان أن يبادروا إلى تحمل واجباتهم في الجهاد والعمل على إرسال المجاهدين إلى ساحات القتال)، (ومن يتخلف عن تحمل أعبائه فقد سلك سبيلاً غير سبيل المؤمنين)، لكن الخيانة من قبل حكام المسلمين الذين هادنوا أعداء الله ونصبوا حروبهم ضد المجاهدين حالت دون إتمام هذه الصفة مع الله وأبت أنظمتهم ولا تزال إلا أن تسلك غير سبيل المؤمنين، فإلى الله وحده المشتكى وإنا لله وإنا إليه راجعون.

17- يضاف لكل ما ذكر من أدلة في عدم أحقية بني إسرائيل في القدس الشريف بما فيها ساحة المسجد الأقصى وما يدعونه من أمر الهيكل، أن كافة المنظمات الدولية تشهد بعدم أحقيتهم في أي من هذه الأراضي المقدسة وبالتالي عدم أحقيتهم في الاعتداء على أهلها ولا في إحداث أية تغييرات تحدث على الأرض.. ولعل أهم قرار اتخذه مجلس الأمن في هذا الشأن القرار رقم 672في أكتوبر عام 1990 والذي طالب فيه إسرائيل بصفتها قوة احتلال بالوفاء بمسئولياتها القانونية وأدان بالإجماع ارتكاب إسرائيل لأعمال العنف التي جرت ضد الفلسطينيين في ساحة المسجد الأقصى في 8/10/1990، وعندما رفضت إسرائيل تنفيذ القرار أصدر المجلس قراراً آخر برقم 673 في 24/10/1990 أكد فيه إصراره على أن تمتثل إسرائيل للقرار السابق ، وفي هذا كله فضلاً عما سبق ذكره دلالة غير مباشرة من المجتمع الدولي على عدم وجود ما يدعيه اليهود من أمر الهيكل.

18- فإذا ما أضفنا إلى تلك الأجوبة المنطقية أن أول من بنى مدينة القدس منذ ثلاثين قرناً قبل الميلاد هم اليبوسيون وهم من العرب القدامى على ما جاء التصريح به في سفر إرميا 25: 24 "وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية"، وسفر حزقيال 27: 21 "العرب وكل رؤساء قيدار.. في هذه كانوا تجارك"، وسفر أخبار الأيام الأول 11: 4" وذهب داود وكل إسرائيل إلى أورشليم أي يبوس وهناك اليبوسيون سكان الأرض"، وسفر أخبار الأيام الثاني 9: 14 "وكل ملوك العرب وولاة الأرض كانوا يأتون بذهب وفضة إلى سليمان"، وسفر يشوع 15: 63 "وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم"، وسفر القضاة 19: 11، 12 "وفيما هم عند يبوس والنهار قد انحدر جداً قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبت فيها. فقال له سيده لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا"، وعندما أراد داود أن يبني هيكلا للرب في القدس قام بشراء البيدر الذي كان ملكاً لرجل يبوسي يدعي أرونة على ما جاء في سفر صموئيل الثاني 24: 21- 25إلى غير ذلك مما يكشف من النصوص التوراتية ذاتها عن حقيقة أن القدس (يبوس) مدينة العرب اليبوسيين وأنهم الذين أقاموا وتعاقب على حكمهم فيها ملوك العرب دون أن يشاركهم في سكناها أحد من بني إسرائيل وأنها كما وصفها سيد الغلام الإسرائيلي بالنسبة إليهما ولكل إسرائيلي من باب أولى (مدينة غريبة).
19- وأضفنا إلى كل ذلك أن الحفائر الأثرية التي جرت حول المدينة كشفت أنه في العصر البرونزي 2600-1800ق.م كانت المنطقة عامرة وما حولها باليبوسيين .. وأن الفتح الإسلامي جاء والمدينة خالية تماماً من اليهود لأنها كانت محرمة عليهم، وهم من بعد موسى ومن بعد الغزو البابلي والروماني، قد قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزّقهم كل ممزق .. وأن وجودهم المتقطع على مدار هذه الفترة كان وجوداً طارئاً لم تقم لهم خلاله ملك ولا دولة ، تأكد لنا عدم أحقيتهم لا في مدينة القدس فحسب بل ولا في أي شبر من أرض فلسطين .. وأصبح لزاماً على كل مسلم أن يطلع بدوره في السعي الدائم لأن تظل هذه القضية ساخنة ومحور اهتمامه وفي عدم الرضوخ لما يسمى بسياسة الأمر الواقع وعدم المبالغة في وصف قوة العدو والإعداد له بكل ما أوتي من قوة ورفض التطبيع معه، وفي استشعار الهم واستثمار كل الطاقات لخدمة القضية وبث روح الأمل والتفاؤل وتمني الشهادة في سبيل الله والعمل على تربية جيل النصر المنشود، وأن يستحضر معنى ما جاء في قوله تعالى: (فلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المصير .. آل عمران/196، 197)، وقوله: (هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.. الحشر/2) .. بل وعرفنا أن ما فعله عمر عشية تسلم مفاتيح بيت المقدس حين اشترط عليه أهل إيلياء وأقرهم على ذلك بطريرك القدس ألا يسمح لليهود بدخولها أو الإقامة فيها، لم يأت من فراغ، وازداد يقيننا بوجوب أن يظل العهد العمري محترماً ومعمولا به لأن المسلمين مأمورون أن يتبعوا سنة الخلفاء الراشدين المهديين ولا ريب أن عمر أحدهم .
وعلى نصارى العالم أيضاً أن يثبتوا فوراً وعلى الملأ ولاءهم لقساوستهم فيمضوا ما عاهد عليه بطريركُ بيت المقدس (صفرنيوس) أميرَ المؤمنين عمر في عدم مساكنة يهود الشتات للمسلمين العرب أصحاب الأرض في هذه البقاع المقدسة، فليس من المعقول أن يشترط بطريرك بيت المقدس على عمر ألا يسكن بهذه البقاع المقدسة يهودي وتظل خالية منهم منذ عهد عمر وحتى خلافة السلطان عبد الحميد العثماني ثم نرى نصارى هذا العصر هم الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة لتمكين اليهود من القدس وقد تمثل ذلك في وعد بلفور سنة 1917 ثم في تمكين بريطانيا إبان فترة الانتداب على فلسطين لليهود من الهجرة إليها وتشجيعها الميلشيات اليهودية كالأرجون وعصابة شتيرن بقيادة بيجن وشامير على بث الرعب والإرهاب وإهلاك الحرث والنسل في القرى والمدن الفلسطينية، كما يتمثل في قيام أمريكا بالدفاع عن اليهود وعن ممارساتهم المنافية لأبسط مبادئ الإنسانية ضاربة بجميع العهود والمواثيق الدولية عرض الحائط.
وعلى نصارى العالم أن يثبتوا كذلك ولاءهم لكتابهم المقدس فيعملوا جاهدين على إنفاذ حكم الإنجيل في إجلاء أولئك اليهود من ديار المسلمين لأنهم ولا يزالون يحقرون الأنبياء ويهينونهم بنسبة ما لا يجوز إليهم، وهم ولا يزالون كذلك يغضبون الرب ويغيظونه بقبيح فعالهم، سيما وأن دماء السيد المسيح عليه السلام الذي تآمروا على قتله والذي أعلن عدم رضائه عنهم ولا عن وجودهم في هذه البلاد المقدسة لا تزال تلاحقهم، ففي حقهم وعلى لسان يسوع حين رأى هذه الإهانات: "أترون هذه الأحجار العظيمة؟ لا يترك حجر على حجر إلا وينقض"، وفي إنجيل متى 24: 30-33، 35-39 وعلى لسانه أيضاً: "تقولون لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء. فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملئوا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم.. يأتي عليكم كل دم زكي سفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح. الحق أقول لكم إن هذا كله يأتي على هذا الجيل. يا أوشليم يا أوشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً. لأني أقول لكم إنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب"، ولقد جاء على لسان هذا المبارك الذي جاء- فيما بعد- باسم الرب فكفروا به وهو محمد صلى الله عليه وسلم أن الله قد أخذ (ميثاق الذين أوتوا الكتاب من قبل لتبينه للناس ولا تكتمونه.. آل عمران/187).
ولعلنا ندرك الآن أكثر من أي وقت مضى أن دين الله الخاتم يحتم على المنتسبين إلى محمد وإسماعيل عليهما السلام والراغبين في ملة أبيهم إبراهيم، أن يحرروا تلك البقاع المباركة باعتبارهم وحدهم أصحاب الحق الشرعي والتاريخي فيها، والمؤتمنين عليها وبخاصة أن التاريخ يشهد ولا يزال سيل الفظائع التي يرتكبها معشر يهود في حقها وفى حق أصحابها المقيمين بها، كما يشهد ما أصابها عندما احتلها الصليبيون من قبل وقتلوا وذبحوا فيها وفى مسجدها- باسم المسيح نبي الرحمة والمحبة الذي هو منهم براء- ما يقرب من السبعين ألفاً من المسلمين دون تمييز بين شيخ أو امرأة أو عالم دين أو طفل أو مقاتل، وبقيت ترزح تحت أيديهم تسعين عاماً أهلكوا خلالها الحرث والنسل إلى أن حررها القائد المسلم صلاح الدين عام 1187م.