تقصية هاجر كان بمثابة التمهيد لإيجاد البديل المستحق لموعود الله:
لقد أراد الله أزلاً من هذه التقصية التي ورد ذكرها ضمن نصوص العهد القديم والجديد، تحقيق وعد آخر لإبراهيم الخليل، ذلك أن عليه السلام لما وضع زوجه هاجر وابنها منه- إسماعيل- بأمر الله في جزيرة العرب توطئة لرفع قواعد البيت الحرام، وإيذانا بأعمار هذا المكان، وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود، جأر إلى ربه ودعا- على نحو ما نطق القرآن - ضمن ما دعا: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم.. البقرة/129).
وقد وافقت هذه الدعوة التي أجيبت بعد حين، قضاء الله الأزلي في تعيين محمد عليه السلام رسولاً في الأميين، بل والى سائر الأعجميين من الأنس والجن، فكانت هذه الرسالة العامة وهذا التحول المشرف.. ليس إجابة لدعوة إبراهيم فحسب، ولا إنفاذاً لبشارة عيسى وإعمالاً للميثاق الذي قطعه الله عليه وعلى سائر الأنبياء بأن ينصروه ويؤمنوا به ويأمروا بذلك أقوامهم.. وفقط، بل إنقاذاً في المقام الأول للبشرية وللكون من الوهدة التي سقطا فيها، والذي سببه لهما إفساد بنى إسرائيل في الأرض، وفي شأن ذلك من نصوص التوراة الدالة على هذا التواصل الممتد في سلالة إسماعيل والممهد لإيجاد البديل المستحق لوعد الله، جاء في سفر ملاخي4: 5-6 "هاأنذا أرسل إليكم إيلياء النبي قبل مجيء يوم الرب. اليوم العظيم والمخوف. فيرد قلب الآباء على الأبناء. وقلب الأبناء على الآباء لئلا آتى وأضرب الأرض بلعن".
والمعنى واضح في أن المراد: أرسل إليكم قرب الساعة النبي محمد عليه السلام، فيرد بنى إسماعيل من العرب لحقيقة وحي الأنبياء والمرسلين، ويرد قلوب اليهود والنصارى إلى دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام، والعجيب أن تأتى هذه البشارة في آخر ما في كتب العهد القديم، وكأنها كلمة الله ووصيته الأخيرة لبني إسرائيل بل ولغيرهم من أهل الكتاب وصدق الله القائل حكاية عمن غيروا وبدلوا وحادوا عن الحق: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين* قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل إسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.. البقرة/135، 136)، والقائل في خطابه لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.. النحل/123)، ولأمته: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس .. الحج/78).
وفي سفر أشعياء42: [1، 2 ،11-13]،"هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي وضعت روحي عليه فيُخرج الحق للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمَع في الشارع صوته.. لترفع البرية ومدنها صوتَها الديارُ التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا. ليعطوا الرب مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر. الرب كالجبار يخرج، كرجل حروب يُنهض غَيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه" ، وهذا واضح أيضاً في الكلام عن نبي يظهر في بلاد العرب ويكون من سلالة قيدار أحد أبناء إسماعيل، وهذا النبي قد اختاره الرب ليعلي مجد الإسلام ويعلن الحرب على أعدائه، ويجدد دعوة أبيه إبراهيم في الناس بالحج والدعاء على رؤوس الجبال في عرفات والمزدلفة ومنى بمكة محل مساكن قيدار، ومعلوم أنه لم يكن عند الإسرائيليين حج كما لم يكن عند المسيحيين حتى يقال أن المراد بهذا النص وما جاء على شاكلته غير المسلمين من ذرية إسماعيل.
وقد سبق أن ذكرنا من نصوص العهد الجديد في هذا الصدد- على سبيل الاستشهاد- ما به تقام الحجة، وإلا فبشارات التوراة والإنجيل بصفاته وبمقدمه عليه الصلاة والسلام أكثر من أن تحصى .
ونرمق تأييد القران لما نطقت به الكتب السابقة في مثل قوله تعالى على لسان إبراهيم حين أودع زوجه وولده إسماعيل بواد غير ذي زرع (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الأخر.. البقرة:126)، (ربنا أنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.. إبراهيم/37)، ناهيك عن دعائه الصريح بأن يبعث في ذرية من أودعه عند بيته المحرم من به- على أساس من منهج الله- يستمر صلاح الكون، وتستقيم حركة الحياة والأحياء، ويتحقق موعود الله له بوراثة الأرض وإمامة من عليها.
وإذا كان القرآن قد قص لنا من دعاء إبراهيم إبان إيداعه زوجه هاجر وابنها منه عند البيت الحرام، ما يومئ إلى نقل موعود الله إلى بني إسماعيل .. فقد جاء ما يفيد ذلك أيضاً ويومئ إليه في سفر التكوين 22: 16- 18رغم ما انتابه من تحريف، وذلك أنه لما هم إبراهيم بذبح خصيصه وابنه الوحيد، سر الله من قوة إيمانه وأرسل إليه ملاكاً ناداه ثانية بقوله: "بذاتي أقسمت يقول الرب إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه . ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي"، وقبلها 22: 11-13جاء ما نصه: "فناداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم إبراهيم فقال: هاأنذا . فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني . فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسَكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده مُحرقةً عوضاً عن ابنه"، ويدرك أي منصف أن الذبيح هنا هو إسماعيل، إذ لا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاد إبراهيم وأنه الذي ظل وحيد أبيه أربع عشرة سنة كما جاء التصريح بذلك في سفر التكوين 16: 1، 2، 4، 15، 16"وأما ساراي امرأة أبرام فلم تلد له وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر. فقالت ساراي لأبرام هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة أدخل عليّ جاريتي لعلي أرزق منها بنين فسمع إبرام لقول ساراي .. فدخل على هاجر فحبلت ولما رأت أنها حبلت صغُرتْ مولاتها في عينيها .. فولدت هاجر لأبرام ابناً ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر، إسماعيل. كان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام".
وبعد أن قال الرب لأبرام تكوين 17: 4-9"هو ذا عهدي معك وتكون أباً لجمهور من الأمم. فلا يدعى اسمك بعدُ أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أباً لجمهور من الأمم. وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمماً وملوك منك يخرجون . وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم"، في إشارة لما جاء في قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين. ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون .. البقرة/131، 132).. "قال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة. وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً، أباركها فتكون أمماً وملوك شعوب منها يكونون . فسقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه هل يولد لابن مئة سنة وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة"تكوين 17: 15-17.
ولا معنى لهذا إلا أن يحكم على من ادعى من كتبة العهد القديم بـ "أن الله امتحن إبراهيم .. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المُريّا.. فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هناك إبراهيم المذبح ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء .. فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني" تكوين 22: 1-2، 9-12، بواحد من اثنين إما أنه يستخف بعقول قراء العهد القديم وإما أنه يهرف بما لا يعرف، لأن من كان وحيد إبراهيم ساعة إقدامه على ذبح ولده وبنص التوراة هو إسماعيل لا إسحاق الذي ما ذهب إلى أرض الحجاز قط، وبالتالي يكون ما جاء في التوراة من قول الرب: "إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك . أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ويرث نسلك باب أعدائه"، تكوين22: 16-17هو من نصيب ولد إسماعيل بعد تحول موعود الله إليهم، بقرينة لفظة "وحيدك" التي تكررت مراراً وبدليل ما يومئ إلى هذا التحول من قول الرب: "ويرث نسلك باب أعدائه"، إذ لا معنى له إلا أخذ ميراث الحكم والنبوة ممن لم يحافظوا عليهما من ولد إسرئيل ممن عادوا الله ورسله وإعطائه لأهله ممن حفظوا وصايا الرب وشرائعه من ولد إسماعيل.
لكن معشر يهود مع اعترافهم بهذا وزعمهم الإيمان بما أنزل عليهم وتمحكهم في تسمية دولتهم باسم نبي الله يعقوب، يجادلون ويحسدون أبناء عمومتهم على ما حباهم الله من شرف، ويأبى الله إلا أن يرجع الفضل في ذلك لأهله، وهذا كتاب ربنا ينطق عليهم بالحق حيث يقول رب العزة سبحانه: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .. البقرة/146)، ويقول: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل .. الأعراف/157)، ولقد وصل علم معشر يهود بمقدم نبي بني إسماعيل ومعرفة أوصافه لحد أن كانوا يتوعدون الأوس والخزرج بقرب قدومه ويقولون لهم: سنتبعه ونقاتلكم به قتل عاد وإرم، تماماً كما كانوا يستفتحون به على الذين كفروا (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .. البقرة/89)، ولحد أن "قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفاته"، ولما قيل للحبر اليهودي عبد الله بن سلام: "أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته وإني لا أدري ما كان من أمه" ، يعني من أم ولده.
إنها القلوب المريضة القاسية والعقول المارقة الشاردة والنفوس الحاسد الحاقدة التي طالما ابتغتها عوجاً والتمست الهدى في غير طريق الله المستقيم بغياً وعدواً ومكابرة وعناداً، ففيما رواه إسحاق من حديث سلمة بن سلامة بن وقش وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان من طريقه قال: "كان لنا جار من اليهود بالمدينة، فخرج علينا قبل البعثة بزمان فذكر الحشر والجنة والنار، فقلنا له: وما آية ذلك؟ قال: خروج نبي يبعث من هذه البلاد وأشار إلى مكة، فقالوا: متى يقع ذلك؟ قال: فرمى ببصره إلى السماء وأنا أصغر القوم، فقال: إن يستنفِذ هذا الغلام عمره يدركه، قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى بعث الله نبيه وهو حيّ، فآمنا وكفر هو"، وفي الخبر عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: (لما قدم الرسول صلي الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء، غدا عليه حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب.. فهششت إليهما فما التفتُ إلي أحد منهما مع ما بهما من الهمّ، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي أهو هو (أي المبشر به في التوراة)، قال: نعم والله، قال أتثبته وتعرفه؟ قال: نعم قال فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت أبداً) ، فتلك شهادة بأنه هو عينه الموجود ذكره وصفته في كتب القوم، والشهادة إذا جاءت من العدو انتفت عنها تهمة التحيز وكان لها مزيد فضل لكونها شهادة حق على ما جاء في قول بعضهم: ومليحة شهدت لها ضراتها * والفضل ما شهدت به الأعداء، وآخر: شهد الأنام بفضله حتى العدا * والفضل ما شهدت به الأعداء.
والحق أن نفوس يهود المريضة طفحت بهذه العداوة حتى قبل مبعثه، ويظهر ذلك في قول بحيرى الراهب لعمه حين اصطحبه في بعض قوافل الشام وذلك بعد أن تفرس في وجهه عليه السلام ورأى فيه شيئاً من علامات النبوة فأشار على عمه بقوله: "ارجع بابن أخيك إلى بلده واحترز عليه من يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنّه شراً فأسرع به"، وإنما حدا ببحيرى لأن يفعل ما فعل وينصح بما نصح لما عرفه عن يهود من حقد وغدر وخوف من أن ينتقل موعود الله ويتحول عنهم إليه وإلى أمته، يعضد هذا ما أفاده ابن إسحاق حين ذكر أن زُريراً وتماماً ودريساً – وهم نفر من أهل الكتاب – كانوا قد رأوا في رسول الله ما ارتآه بحيرى، فأرادوه فردهم عنه بحيرى وذكرهم بالله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوه به لم يخلصوا إليه وخوفهم من أهله وعشيرته، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال فتركوه وانصرفوا عنه .
ويبقي بعد كل هذا وعلي الرغم منه، عتاب الله لهم ودعوته إياهم على لسان ذاك الذي يجحدون فضله (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)، (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون.. إلى آخر الآيات46-71من سورة آل عمران).