تعليق موعود الله لبنى إسرائيل على استيفاء شروط: إن وعد الله بالسيادة والإمامة كان بالنسبة لبنى إسرائيل وعداً مشروطاً بتنفيذ التعاليم، وبصون أوامر الرب وبحفظ العهود والمواثيق التي أخذت عليهم، وذلك بعد أن أتى الله إبراهيم رشده وكان عالماَ ببره وإيمانه، وبعد أن منحه أرض الميعاد وجعلها في بنيه وذريته من إسحاق وإسماعيل قائلاَ له .."اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض. فذهب أبرام كما قال له الرب".. هكذا كانت البداية على حد ما جاء في سفر التكوين- أحد أسفار العهد القديم في الكتاب المقدس- الإصحاح 12 العدد1-4.
ولقد أوضح القران ما أوضحته الكتب السماوية الأخرى، أن استخلاف الأرض - سيما أرض الميعاد- لأىٍّ، له ثمن لا بد من دفعه وتحمله، وينحصر ذلك الثمن- باختصار شديد- في عبادة الله وحده وصون أوامره واجتناب نواهيه، وذلك قوله سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.. النور/55)، ولا يبعد أن تكون الإشارة بالاستخلاف لمن قبلنا في الآية، لبني إسرائيل، بل هذا ما جزم به القرطبي وابن كثير وغيرهما وترجح لدى الآلوسي وغيره.
كما ذكر لنا المولى في غير ما سورة، تفاصيل ما كان لذرية إسرائيل بن إسحاق من تمكن إبان فترة صلاحهم، وكيف أن الله أورثهم - بعد أن كانوا مستضعفين-مشارق الأرض ومغاربها، وبوأهم - بعد ذل وقهر من فرعون وملئه- مبوأ صدق، ومكنهم من أرضهم وديارهم وجناتهم، وإن كانت بالنسبة لبني إسرائيل-على ما يبدو - تجربة قاسية وامتحاناً صعباً كشف عن جزعٍ ولؤمٍ في طباع سوادهم الأعظم أحس به موسى عليه السلام حينما بثوا شكواهم إليه من جراء ما عايشوه من بطش قال الله في شأنه: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون* قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين* قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون .. الأعراف/126- 129).
والقصة باختصار أنه لما طال مقام موسى – عليه السلام - ببلاد مصر وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون.. دعا عليهم بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاَ في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.. يونس/88).
وشاءت إرادة الله أن يجيب دعاءه فأمره أن يخرج ببني إسرائيل ليلاَ من مصر وأن يمضي بهم خفية حيث يؤمر، دون إذن من فرعون، الأمر الذي أثار حفيظته، وكان هذا الفرعون الجبار العنيد قد تسلط عليهم، يستعملهم في أخس الأعمال ويكدهم ليلاَ ونهاراَ في أشغاله وأشغال رعيته، ويقتل مع ذلك أبناءهم ويستحي نساءهم إهانة لهم واحتقاراَ، وخوفاَ من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه، فيكون هلاكه وذهاب دولته على يديه .
وقد كان، فقد أغرقهم الله في اليم الذي فرقه لموسى فجاوزه هو ومن معه من بني إسرائيل، وأقرّ أعينهم وهم ينظرون إلى فرعون وإلى جنده وقد أغرقوا في صبيحة يوم واحد، كما قال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم* وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون .. البقرة/49، 50)، وأورثهم بعد ذلك ديارهم وأموالهم وملكهم بعد أن أخرجهم الله منها كما قال تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون* وكنوز ومقام كريم* كذلك وأورثناها بني إسرائيل.. الشعراء/57-59)، وقال: (كم تركوا من جنات وعيون* وزروع ومقام كريم* ونَعمة كانوا فيها فاكهين* كذلك وأورثناها قوما آخرين.. الدخان25- 28)، وأسبغ الله عليهم - بعد ذلك- نعمه الظاهرة والباطنة والدينية والدنيوية، واستقرت الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها- وإن لم يعودوا إليها بعد خروجهم - وبلاد الشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه كما قال تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.. الأعراف/137)، وقال: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات.. يونس/93)، وتمت إرادة الله الحاصلة في تمكين أهل الحق وإهلاك أهل الباطل والماثلة في قوله سبحانه: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين* ونمكن لهم في الأرض ونريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون.. القصص/5، 6) .
ولكن ظلت نفوس بنى إسرائيل مع كل ذلك مشرأبة ومتطلعة وطالبة بلاد المقدس التي قصدها من قبل جدهم إبراهيم عليه السلام، مهاجراَ من وطنه الأصلي بالعراق ووعدهم ضمن من وعدهم بها، وجاءت الأوامر إثر ذلك تتراَ على يد وعلى لسان نبيهم موسى عليه السلام على ما ورد في نصوص كتبهم من نحو ما جاء في الإصحاح 6 العدد17، 18من سفر التثنية أن "احفظوا (أي إن كنتم تريدون ذلك) وصايا الرب إلهكم وشهاداته وفرائضه التي أوصاكم بها . واعمل الصالح في عيني الرب لكي يكون لك خير وتدخل وتملك الأرض الجيدة التي حلف الرب لآبائك"، وما جاء في الإصحاح السابع منه في العدد11- 16"احفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أنا أوصيك اليوم لتعملها. ومن أجل أنكم تسمعون هذه الأحكام وتحفظون وتعملونها يحفظ لك الرب إلهك العهد والإحسان اللذين أقسم لآبائك. ويحبك ويباركك ويكثرك ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك.. ونتاج بقرك وإناث غنمك على الأرض التي اقسم لآبائك أنه يعطيك إياها. مباركاً تكون فوق جميع الشعوب لا يكون عقيم ولا عاقر فيك ولا في بهائمك. ويرد الرب عنك كل مرض وكل أدواء مصر الرديئة التي عرفتها لا يضعها عليك بل يجعلها على كل مبغضيك. وتأكل (أي وتفني) كل الشعوب الذي الرب إلهك يدفع إليك".
ومما يتضح منه كذلك أن الوصية بالوعد بتوريث الأرض مشمولة بالوعيد إذا انقلبوا، ما جاء في الإصحاح 4 من العدد 25-27من سفر التثنية "إذا ولدتم أولاداً، وأولاد أولاد، وأطلتم الزمان في الأرض وفسدتم وصنعتم تمثالاً منحوتاً صورة شيء ما، وفعلتم الشر في عيني الرب إلهكم لإغاظته. أشهد عليكم اليوم السماء والأرض أنكم تبيدون سريعا عن الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها. لا تطيلون الأيام عليها بل تهلكون لا محالة. ويبددكم الرب في الشعوب فتبقون عدداً قليلاً بين الأمم التي يسوقكم الرب إليها" ، وما جاء في الإصحاح8 العدد17- 20من نفس السفر: "لئلا تقول في قلبك: قوتي وقدرة يدي اصطنعت لي هذه الثروة. بل اذكر الرب إلهك أنه هو الذي يعطيك قوة لاصطناع الثروة لكي يفي بعهده الذي أقسم لآبائك كما في هذا اليوم. وإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة أخرى وعبدتها وسجدت لها أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة. كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم".
ونظير ذلك نطقت به التوراة السامرية ، وفيها على غرار ما جاء في نص العبرانية الأخير: "ولئلا تقول في سرك حيلي وعظم يدي اصطنعت لي الأيسار هذا. بل تذكر الله إلهك أنه المعطي لك القدرة على اكتساب الغنى حتى يثبت عهده الذي أقسم لآبائك، لإبراهيم ولإسحاق وليعقوب كاليوم هذا. وتكون إن نسيان تنسي الله إلهك فتضل في اتباع آلهة آخر وتعبدها وتسجد لها، أشهدت عليكم اليوم، أن هلاكا تهلكون. كالشعوب الذين الله مهلك من قدامكم كذلك تهلكون جزاء أن لم تسمعوا من أمر الله إلهكم"، وفى الإصحاح التاسع منها 4-6 "لا تقل في سرك إذ يدفع الله إلهك إياهم من بين يديك قولاً: لزكاتي أدخلني الله لوراثة الأرض هذه، ولفجور الشعوب هؤلاء الله قارضهم من بين يديك. ليس بزكاتك ولا بسلامة قلبك أنت داخل لوراثة أرضهم، بل لفجور الشعوب هؤلاء الله قارضهم من بين يديك وحتى يثبت الأمر الذي أقسم لآبائك لإبراهيم ولإسحاق وليعقوب. فاعلم أن ليس لزكاتك الله إلهك معطيك الأرض الحسنة هذه وراثة إذ شعب قاسى العرف أنت"، وفي العدد الأول من نفس النسخة والسفر والإصحاح: "كل الوصايا التي أنا موصيك اليوم تحفظون للامتثال حتى تبقوا وتكثروا وتدخلوا وترثوا الأرض التي أقسم الله لآبائكم".
وفي مثيلها من التوراة العبرانية: "جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم تحفظون لتعملوها لكي تحيوا وتكثروا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم"، وفي الإصحاح 11عدد8، 9تثنية: "احفظوا كل الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم لكي تتشددوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي انتم عابرون إليها لتمتلكوها. ولكي تطيلوا الأيام على الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيها لهم ولنسلهم أرضاً تفيض لبناً وعسلاً".
وفى سفر اللاويين 20: 22-24 "تحفظون جميع فرائضي وجميع أحكامي وتعملونها لكي لا تقذفكم الأرض التي أنا آت بكم إليها لتسكنوا فيها. ولا تسلكون في رسوم الشعوب التي أنا طاردهم من أمامكم، لأنهم قد فعلوا كل هذا فكرهتهم. وقلت لكم ترثون أنتم أرضهم وأنا أعطيكم إياها لترثوها أرضا تفيض لبناً وعسلاً، أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب".
وليس هناك أكثر صراحة في تعليق الجواب علي الشرط وتوقف التمكين - سواء الذي حدث لهم أيام موسى وما أعقبها أم في عهد سليمان- على أمر الطاعة وحفظ الوصايا، مما جاء في سفر الملوك الأول9: 3-9في مخاطبة الله لسليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وفيه: "قال له الرب قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعتَ به أمامي، قدستُ هذا البيت الذي بنيتَه لأجل وضع اسمي فيه إلي الأبد وتكون عيناي وقلبي هناك كل الأيام. وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلب واستقامةٍ وعملت حسب كل ما أوصيتك وحفظت فرائضي وأحكامي. فإني أقيم كرسيَّ ملكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلمت داود أباك قائلأً: لا يعدم لك رجل عن كرسيّ إسرائيل. إن كنتم تنقلبون أنتم أو آبناؤكم من ورائي ولا تحفظون وصاياي – فرائضي- التي جعلتها أمامكم بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها. فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي ويكون إسرائيل مثلا وهزأة في جميع الشعوب. وهذا البيت يكون عبرة، كل من يمر عليه يتعجب ويصْفُرُ ويقولون لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت. فيقولون من أجل أنهم تركوا الرب إلههم الذي أخرج آباءهم من أرض مصر وتمسكوا بآلهة أخرى وسجدوا لها وعبدوها، لذلك جلب الرب عليهم كل هذا الشر".
وفي سفر التثنية 30: 15-20على لسان موسى عليه السلام: "أنظر، قد جعلتُ اليوم قدامك الحياة والخير والموت والشر. بما أنى أوصيتك اليوم أن تحب الرب إلهك وتسلك في طرقه وتحفظ وصاياه وفرائضه وأحكامه لكي تحيا وتنمو ويباركك الرب إلهك في الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها. فإن انصرف قلبك ولم تسمع بل غويت وسجدت لآلهة أخرى وعبدتها. فإني أنبئكم اليوم أنكم لا محالة تهلكون، لا تطيل الأيام على الأرض التي أنت عابر الأردن لكي تدخلها وتمتلكها. أشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك. إذ تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك والذي يُطيل أيامك لكي تسكن على الأرض التي حلف الرب لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم إياها".
والسؤال: هل وفي بنو إسرائيل بعهودهم ومواثيقهم؟ وهل نفذوا تعاليم دينهم؟ وهل التزموا بأوامر أنبيائهم؟ وهل تغير حال أشياعهم .. في واقعنا المعاصر عن حال أسلافهم في الأزمان الغابرة؟.