مايكل ف.سترميسكا
الأستاذ بكلية ميازاكي الدولية باليابان

أي دارس واعٍ للتاريخ لا بد أن تقوده دراسته إلى أن يقتنع بأن أن الأحداث الكبرى التي أثرت على أعداد كبيرة من الشعوب يمكن تناولها وتقييمها انطلاقا من زوايا ووجهات نظر متعددة. وحقيقة أن «التاريخ يكتبه المنتصرون» هي بديهية ثابتة تدعمها كثير من الأحداث التاريخية التي تتناول العصور الغابرة التي تميل إلى دعم مصالح أمم أو مجموعات اجتماعية معينة على حساب مصالح أمم أخرى أقل سطوة.
أدى ظهور النزعات الفكرية والاجتماعية مثل حركات تحرير المرأة والتفكيكية وأفكار ما بعد الكولونيالية والحركات الوطنية الشعوبية في العصر الحديث إلى رفع مستوى الوعي بأهمية قبول آراء الشعوب والمجموعات والأمم التي تجاهلها التاريخ وقلل من شأنها ومن شأن وجهات نظرها لأن من قام بتدوين التاريخ وتفسيره و الترويج له هي تلك الجماعات التي انتصرت خلال العصور القديمة.
حينما نظرت إلى تاريخ الأديان في أوروبا، هالني نطاق الهيمنة على المعرفة التي تمتعت بها وجهة نظر محددة وكيف أن هذه الهيمنة عرقلت المقاربة النقدية لواحدة من التحولات التاريخية الرئيسة في العصور القديمة والوسيطة: أعني تغير الأديان الذي جرت أحداثه في أوروبا حينما انتشرت المسيحية إلى ما وراء حدود الإمبراطورية الرومانية لكي تحل بديلا عن الأديان التقليدية المكرسة لعبادة مظاهر الطبيعة في باقي أجزاء أوروبا.ونظرا لغياب مصطلح يمنح أديان ما قبل المسيحية تعريفا أكثر وضوحًا، فسأطلق عليها في هذا البحث اسم الديانات الوثنية أو «عبادة الأوثان».
بوجه عام، كان الانتقال من الوثنية إلى المسيحية ينظر إليه عبر وجهة نظر كانت تفترض أن الهيمنة المسيحية على الديانات الوثنية السابقة لها في الوجود والقمع الذي مارسته بحقها هو أمر طبيعي وضروري. هذه النظرة إلى التاريخ الأوروبي، التي وجدت لها أساسا في اليقين العقائدي بالتفوق الجوهري للمسيحية على الديانات الأخرى جميعا، لها تاريخ طويل بل ومقدس بحد ذاته. وقد كان الكتاب المقدس نفسه مصدرًا لهذا التقديس.
بالنسبة لدارسي العصور الوسطى في هذا الخطاب الذي يتمركز حول المسيحية، الحضارة الأوروبية هي نفسها«العالم المسيحي» وحتى في عالم اليوم من الشائع جدا أن نشير إلى أوروبا باعتبارها «الغرب المسيحي». خلال السنوات المائة وخمسين الأخيرة أو أكثر أو أقل، رغم ذلك، كانت سلطة هذه الصيغة الحرفية للتفوق المسيحي عرضة للتآكل عبر العلمنة العامة للمجتمعات الغربية وعبر تنامي احتكاك الشعوب الغربية بمعارف الديانات الأخرى حول العالم.
تقلص مفهوم التميز المسيحي كان له لوازمه في الحاضر والمستقبل بالنسبة لموقع المسيحية فيما يتصل بالديانات الأخرى في المجتمعات المؤمنة بالتعددية المتزايدة عدديا وله كذلك تشعبات مهمة فيما يتعلق بالكيفية التي ننظر بها إلى الماضي والتي نفسره بها.
في حضور التفوق المسيحي غير القابل للتشكيك به والذي نتج عنه ظهور تسامح وتعايش دينيين مثاليين وعصريين نُظِرَ إلى التعددية الدينية في ظلهما باعتبارها الأصل، لدينا أسباب منطقية لأن ننظر نظرة مختلفة لموضوع التحول من الوثنية إلى المسيحية في أوروبا.
تغيير الأديان هذا كان يوصف دائما بأنه «شروق» المسيحية، رغم ذلك أرى أنه من الضروري أيضًا أن ينظر إلى الوجه الآخر للعملة وهو «غروب»الديانات الوثنية في أوروبا؛ إنه «الغروب» الذي لم يكن بحال بالعملية السهلة أو الخالية من الآلام، بل كان بالأحرى صراعا ممتدا ودمويا. فالمسيحية لم«تشرق» ببساطة مثل زهرة من زهور الربيع أو كطلوع فجر النهار، بل كان شروقها «غزوا». والوثنية لم يكن غروبها «سقوطا» عاديا مثل سقوط ورقة من فرع أو ثمرة من شجرة، بل إن سقوطها كان قمعا.
معابد ديانات أوروبا القديمة لم تنهَر ببساطة بسبب تقادم الزمان ، بل لقد دمرها المسيحيون وفي بعض الأحيان أعادوا استعمالها لبناء الكنائس المسيحية. في كثير من المناطق، حارب المؤمنون بهذه الديانات الوثنية بإصرار دفاعا عن بقاء تقاليدهم الموروثة، ورغم أن جهود هؤلاء ذهبت في النهاية سدى و ورغم أن تقاليدهم الدينية قد اجتثت بقسوة لدرجة أن ما تبقى منها لم يزد عن بقايا في هيئة كِسَر. كان ولا يزال لهذه الرواية الواحدة وجهان، لكننا عادة ما نستمع فقط إلى إحدى هاتين الروايتين، وأعني تحديدا تلك التي تحتفي بانتصار المسيحية. ما ذا كنا سنعرف إذا استمعنا إلى الطرف الآخر من المعادلة؟ إلى أصوات الوثنيين الذين عانوا الهزيمة والخسارة وتعرضت ديانتهم للاستئصال؟ ماذا كنا سنجد لو أننا سعينا لاستكشاف حقيقة هؤلاء البشر الغابرين وديانتهم بدلا من أن ننبذهم؟
أؤمن أن الدرس الأساسي وربما الأكثر الأهمية الذي سنخرج به من هذه الأبحاث ومن هذا التفكير العميق هو إدراكنا أنه كان ثمة تعددٌ دينيٌّ عرفته أوروبا في العصور الوسطى منذ ألف سنة مضت؛ وأنه كان ثمة صراعٌ محمومٌ بين الديانتين المتنافستين، المسيحية والوثنية. وفقا للعالم الروسي صاحب النظريات«باختين»، كان ثمة تعدد ديني، أو حوار ثنائي ديني الطبيعة. هذا الحوار الثنائي(ديالوج) ذو الطبيعة الدينية انتهى بانتصار وجهة النظر المسيحية الأحادية الطبيعة (مونولوج)، لكن هذا المونولوج المسيحي لم ينجح أبدًا وكليةً في اجتثاث كل آثار وثنية الماضي. هذه الوثنية عاشت في الفولكلور وفي العادات والاحتفالات الشعبية، بل لقد غزت حتى الديانة المسيحية نفسها عبر آلهة الوثنيين التي تحولت إما إلى قديسين مسيحيين وإما جرى التشهير بها باعتبارها نوع من الشياطين في المسيحية، كما جرت عملية إعادة إنتاج للأيام المقدسة الوثنية لتتحول إلى أعياد للقديسين المسيحيين.
إدراكنا أن الديانة الوثنية مثلت بعدًا آخر مميزا للحياة الأوروبية سواء قبل مرحلة التنصير أو أثنائها أو بعدها يفتح الطريق أمام فهم أدق ومتعدد الأبعاد للتاريخ والثقافة الأوروبيين. إدراكنا أن قوى التنصير كانت باستمرار متعطشة لفرض نوع من الوحدة الدينية ولمحو ذاكرة الثنائية الدينية والتعددية يشتمل على قضية جديرة بالاعتبار في الوضع المعاصر لعالمنا، كما سأبين في خاتمة هذا المبحث.
في حالة الدراسة المختصرة التالية، بدراستنا أولا لدور الإمبراطور شارلمان، ثم في مرحلة تالية دور «الفايكينج» في الصراعات الدينية بين الوثنيين من جهة والمسيحيين من جهة أخرى في أوروبا في العصور الوسيطة، أحاول أن أبين أن دراسة التاريخ الأوروبي انطلاقا من وجهة نظر الوثنيين بمقدوره أن يلقي الضوء على قضايا مهمة وأن يثير أسئلة ذات قيمة بالنسبة لمفهومنا المعاصر عن التاريخ الأوروبي.
شارلمان...إعادة نظر
فترة حكم ملك الفرنجة، وإمبراطور روما المقدسة شارلمان فيما بعد، كثيرا ما ينظر إليها باعتبارها معلمًا من معالم نشأة الحضارة الأوروبية المسيحية.
في العصر الحديث، ومع تزايد قوة المؤسسات الوحدوية الأوروبية، ينظر إلى شارلمان باعتباره الباكورة المبكرة للوحدة الأوروبية.
فترة حكمه كثيرا ما يتم تمجيدها باعتبارها تمثل «النهضة الكارولينجية» التي عززت من المنجزات في مجالي الفنون والعلوم بالاشتراك مع المؤسسات التابعة للكنيسة المسيحية. مع ذلك، هناك أبعاد أخرى لفترة حكم شارلمان نادرًا ما كانت مجالا للنقاش لأنها لا تتماهى مع الصورة الوردية للملك الحكيم المعطاء الذي ازدهرت تحت لواءه الديانة والثقافة.
فلنتأمل الحرب التي خاضها شارلمان في مواجهة السكسونيين. لقد كانت سلسلة من الصراعات الشرسة، دارت رحاها بين العامين 772 و 804 ، أي طوال ما يقرب من 32 عامًا، صاحبها الكثير من المعاهدات وعقود الهدنة التي مهدت الطريق حتما للمزيد من المعارك. في سيرة شارلمان التي ألفها القاضي«أينهارد» خلال العام 830 تقريبًا، يصرح المؤلف أن هذه الحرب تعهد بإمضائها شارلمان ليضع حدا للهجمات المتكررة وللأفعال الخبيثة التي قام بها السكسونيون على تخوم مملكة الإفرنج. ربما كان «إينهارد» ليدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذه كانت حربا دفاعية لا مراء في ذلك، لكن من الواضح أن شارلمان كان له طموحات إقليمية جعلت حربه ذات دوافع استعمارية أكثر من أن كونها حروبا دفاعية.
يخبرنا«أينهارد»كذلك أن «شارلمان» كان عازما أشد العزم على إدخال السكسونيين إلى حظيرة المسيحية. فهو يشير في إحدى المراحل إلى أن الحرب«كانت من الممكن أن تحل نهايتها بخطى أسرع، لولا وثنية السكسونيين». وفقا لوجهة نظر «أينهارد»، كان الرفض المتواصل من جهة السكسونيين للدخول في المسيحية ، أو كما يقول «أينهارد» حرفيًّا:«هجر عباداتهم الشيطانية»، هو السبب الرئيس لطول أمد حالة الحرب. بحسب فكر «أينهارد» المبني على مفهوم السيادة المسيحية، كان السكسونيون كفَّارًا عنيدين مخادعين بررت سلوكياتهم غير المسيحية تبريرًا كاملا استعمال القوة المفرطة ضدهم.
مع ذلك، وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية الرؤيا السكسونية الوثنية، ستأخذ القضية بعدًا مختلفًا تمام الاختلاف. وفقًا لوجهة النظر هذه، كان الفرنجة(الفرانكيين)، وخاصة مليكهم«تشارلمان»، محاربين متعصبين تعتمل في نفوسهم رغبة عنيدة لفرض ديانتهم فرضًا على السكسونيين. ومهما يكن ما قد يقال عن السكسونيين، فليس هناك أي إشارة إلى أنهم كانوا يحاولون فرض دينهم على الفرنكيين. ولو أخذنا مأخذ الجد كون السكسونيين يمتلكون تقاليدهم الدينية التي كانوا يحاولون الدفاع عنها ضد هجمات الفرانكيين، فعندئذ ستختلف نظرتنا إلى رفضهم المتواصل لاعتناق دين أجنبي يفرض عليهم بالقوة اختلافا كبيرا عن تلك النظرة التي يقترحها «أينهارد». ليست القضية إذن كفر السكسونيين وضلالاتهم، بل إيمانهم الراسخ واستعدادهم للتضحية بأنفسهم دفاعًا عمَّا يؤمنون به.
انطلاقا من الرؤية الوثنية، هناك سبب آخر يجعلنا نتشكك في إصرار«أينهارد» على أن الحرب التي شنها الفرانكيون على السكسون لم تكن سوى ردَّ فعل لا فكاك منه على أعمال النهب التي قاموا بها وما شنوه من غارات. فعلى الرغم من أن هذا العصر كان عصرًا غنيًّا بمثل هذه الأفعال، فثمة عوامل أخرى لا مفر أمامنا من وضعها في الاعتبار. كانت البعثات التبشيرية المسيحية، قبل زمن طويل من بداية حملات «شارلمان» على السكسون، قد بدأت نشاطها داخل الأراضي السكسونية وأراضي الشعوب الألمانية الأخرى. حينما فشلت الأساليب الناعمة مثل التبشير والمجادلة بالحجة في إقناع الوثنيين الألمان أن يهجروا تقاليدهم الموروثة ، كثيرًا ما كانت البعثات التبشيرية تلجأ إلى أساليب أكثر عنفًا. من هذا قيام المبشر الأنجلوسكسوني «بونيفيس» بقطع شجرة سنديان مقدسة في قرية «جايمار»، الواقعة في منطقة«هيسا»، لكي يظهر تفوق الإله المسيحي على الإله الوثني الذي ترتبط به شجرة السنديان هذه. بعد هذا الفعل التخريبي، صادر«بونيفيس» الخشب الناتج عن سقوط شجرة السنديان المقدسة لاستعمالها في بناء كنائس مسيحية فكان كمن يصب مزيدًا من الزيت على النار.
مثل هذا التدنيس ومثل هذا التخريب للمواقع والمواضع الوثنية المقدسة صار ممارسة تبشيرية مقبولة خلال هذه الفترة، وهو الفعل الذي مارسه «شارلمان»نفسه ليدشِّن به أعماله العدوانية الموجهة ضد السكسون. حدث هذا في عام 872 م، حينما غزا جيش «شارلمان» مدينة سكسونية تقع على نهر «دريمل» وخرَّبَ ضريحا مقدسًا منحوتا من الخشب(يبدو أنه كان جزع شجرة مزخرفًا)، وكان معروفًا باسم«إيرمينسول» وكان محل توقير كبير ضمن الطقوس الدينية للسكسونيين باعتباره تجسيدًا لشجرة العالم.
لم يترك «شارلمان» بهجومه على قدس أقداس المواقع السكسونية شكا في أن نيته هي استعمال القوة العسكرية لمحو ديانة السكسونيين ولغزو بلادهم. أثبت تدمير شارلمان لشجرة العالم أن ذلك كان فيه رمز مناسب للخسف الشامل الذي سيحيق على يديه بالشعب السكسوني وممتلكاته ومجتمعه وثقافته خلال الثنتين وثلاثين عاما المقبلة. هذا الهجوم الذي شن على المواقع والمواضع شديدة القدسية لابد أنه تسبب في إثارة أقوى مشاعر الصدمة والغضب بين السكسونيين وربما الشعوب الوثنية الأخرى، ولعل ذلك كان شبيها بالهجوم المعاصر على مركز التجارة العالمي في نيويورك.
المصادر المسيحية مثل سير حياة القديسين والإرساليات التبشيرية تزعم عادة أن أعمال التخريب تلك كانت ناجحة جدا في اكتساب المهتدين الجدد إلى المسيحية. هذا النجاح المزعوم يفسره بالتأكيد منطق الأحداث غريب الأطوار. فلقد آمن المبشرون أن قدرتهم على تدمير المواقع الوثنية من غير أن يحيق بهم غضب الآلهة الوثنية يثبت أن الآلهة الوثنية ليس لها وجود ، وأن الديانة برمتها بالتبعية ليست سوى حماقة.
هؤلاء المؤلفون لم يتوقفوا يوما ليسألوا أنفسهم ما إن كان نفس المعيار لن ينطبق على دينهم هم، أعني بعبارة أخرى أن تكون مميزات الإيمان المسيحية عرضة للإبطال مع رفض الرب الرد بالقوة على إحراق كنيسة أو شق صليب نصفين.
على أية حال، ليس بوسع المصادر نفسها التي تتباهى بتلكم النجاحات التبشيرية، برغم الأعمال التي تنم عن تطرف ديني مثل تدمير تدمير «الإيرمينسول»، أن تخفي حقائق الانتقام الجماعي الذي قام به الساكسونيون والشعوب الأخرى عندما وقعت تقاليدهم المقدسة ضحية الهجمات المسيحية. لقد شن الساكسونيون مرارا وتكرارا هجمات على الكنائس المسيحية وأحرقوا منها؛ وكثيرا ما حملوا كنوزها بالطريقة نفسها التي نقل بها بونيفيس الأخشاب من شجرة السنديان المقدسة في جايسمار. في خطاب أرسل إلى البابا ستيفان الثالث عام 755، يعتذر بونيفيس عن تأخره في الكتابة بسبب انشغاله في استعادة ثلاثين كنيسة نهبها المتمردون الوثنيون وأضرموا فيها النيران. الأمر الأكثر أهمية يتمثل في أن الحقيقة المجردة لتدمير شارلمان للـ«إيرمينسول» الذي كان طلقة البداية لحرب استمرت لثلاثة عشر عاما قبل أن يستسلم الساكسون لشارلمان ويقبلون الانضواء في دين الفرانكيين تؤكد على أن هذه الأعمال كان من المرجح أنها ستشعل فتيل المقاومة وبنفس الدرجة كانت ستجتذب المتنصرين.
ومع أن المرء قد يتوقع أن تتسبب حرب ودمار تواصلا طوال ثنتين وثلاثين عاما في الكثير من أعمال العنف وسفك الدماء، فثمة حادثة واحدة معينة قام بها شارلمان تتفوق على غيرها تماما في قسوتها المفرطة. ففي يوم مروع من أيام عام 782، أمر شارلمان بقطع رؤوس أربعة آلاف ساكسوني لأجل تمردهم على الحكم الفرنجي ومواصلتهم ممارسة تقاليد دينهم الوثني الموروث، بعدما وقوعوا من قبل معاهدة يقبلون بموجبها اعتناق المسيحية والخضوع للحكم الفرنجي.
لم تنته مثل هذه الإجراءات القاسية بالاستسلام النهائي للساكسون في عام 840. فلقد فرض شارلمان شروط استسلام متشددة على الساكسون أوقعت أحكاما بالإعدام على دائرة واسعة من الجرائم كانت تشمل أعمالا ذات طبيعة دينية في جوهرها. فأي إنسان كان قد ارتكب جرم السرقة من كنيسة وأكل لحما خلال الصوم المسيحي الكبير، أو ظل وثنيا ورفض الخضوع لطقس المعمودية، أو تورط في مؤامرة وثنية موجهة ضد المسيحيين كان يحكم عليه بعقوبة الموت. في الوقت نفسه، ألزم السكسونيون بإمداد الكنائس والقساوسة بالعمال والطعام وأشكال الدعم الأخرى. فإن كان المنظور الذي تنظره به إلى هذه الأعمال مسيحيا، فستجد في نفسك بعض الانزعاج من قسوة الإجراءات التي طبقها شارلمان، لكن لا شك في عدالة غايته النهائية وهي تنصير الساكسون بوصفه مرحلة من مشروع أكبر هدفه توحيد أوروبا في إمبراطورية مسيحية.
قسوة شارلمان وتعصبه في الحرب على الساكسونين لم تحط يوما من قدر صورته في عين الشعب بوصفه عاهلا واسع الأفق ومتسامحا. يبدو أن هذه الجرائم لا تتسبب في أي إزعاج لهذه الشعوب في يومنا الحاضر الذين يرون شارلمان بوصفه رمز الوحدة الأوروبية الجذاب. فإن نظرنا للأمر من وجهة نظر الوثنيين، سيبدو شارلمان، رغم ما سبق، نموذجا للا شئ سوى التعصب الديني والاضطهاد والاستخراب، والأب الروحي لبعض التوجهات الأكثر قبحا والأكثر إثارة للمشكلات في التاريخ الأوروبي، وليس للوحدة الأوروبية. لقد وضعت حرب شارلمان ضد الساكسونيين حجر الأساس لمثل هذه القضايا المفصلية في تاريخ الحضارة الأوروبية مثل الحملات الصليبية ومحاكم التفتيش ومهدت السبيل لاندلاع الحروب والاضطهادات والمذابح الدينية المنظمة في المستقبل.
من وجهة نظر الوثنيين، بوسعنا أن نتساءل ماذا كان سيحدث لو أن شارلمان قد انتهج منهجا مختلفا. ماذا لو أنه انتهج سياسة تسامح ديني بدلا من الاضطهاد الديني؟ ماذا لو أتاح للساكسونيين فرصة الانضواء تحت مظلة إمبراطوريته بدون أن يتخلوا عن تقاليدهم الموروثة؟ لعل الطرفان كانا سيتجنبان حرب الثنتين وثلاثين عاما ولكان المسرح قد أعد لبروز حضارة تسامح وتعددية أوروبية كبديل عن التعصب وعدم التسامح. لو كان شارلمان قد انتهج سبيلا آخر، فلربما صار بالفعل بطلا صالحا ورمزا لعصرنا.

زيارة أخرى إلى الفايكينج...
إن تكن النظرة الشعبية لشرلمان قد استفادت من المعاملة الوردية التي تعامل بها مؤرخو المسيحية المنتصرة، فإن الاسكندنافيون البحريون في القرون التاسع والعاشر والحادي عشر الذين نعرفهم باسم الفايكينج قد يقال عنهم أنهم عانوا من المشكلة العكسية: من صورة تاريخية تصورهم بوصفهم وحوشا دموية نهمة ومفترسة تدين بدين وتتثقف بثقافة هما الأكثر بدائية. هذا الصورة شديدة السلبية للفايكينج والتي تعتمد كثيرا على كتابات مؤلفي القرون الوسطى المسيحيين، قد خضعت لإعادة نظر جوهرية خلال الأعوام الأخيرة غالبا بسبب الهيكلية المتعاظمة للأبحاث الأركيولوجية التي تظهر أن الفايكينج كانوا بناة حضارة وتجارا كما كانوا مخربين ومغيرين. لن ينكر أحد أن الفايكينج كانوا قادرين على إحداث عنف ووحشية عظيمين، لكننا الآن قادرين على أن نرى بوضوح تاما أن الفايكينج كثيرا ما كانوا كذلك ممتهنين لأعمال سلمية ومثمرة.
أحد أسباب التي جعلت هذه السمعة الشيطانية تلتصق بالفايكينج لهذه الفترة الطويلة هو أنهم كانوا بوضوح يمتلكون حسا مروعا بالعلاقات العامة. في القرون الوسطى، وفي أيامنا هذه، كان من يتمنى أن يكون موضع محبة واحترام من زعيم أو مجموعة من البشر يحتاج إلى أن يدفع ثمنا غاليا كي يحابيه مؤلفو السجلات التاريخية المعتمدة ومشكلو الرأي العام. وفي هذا كان قادة الفايكينج ذوي مهارة خاصة داخل مجتمعاتهم مغدقين التشريفات والثروات على الشعراء عموما وشعراء الملاحم البطولية خصوصا الذين سبحوا بحمدهم فعليا. ويشتمل الأدب الأيسلندي على نماذج كثيرة من مثل هذه الأشعار المديحية التي تحتفي بالبطولات التي تنم عن شجاعة شيوخ القبائل والملوك الذين ينتمون إلى عصور الفايكينج وعصور أخرى أكثر قدما. من بقايا النجود على المقابر يمكننا أن نخمن أن فن الزخرفة ربما أدى مهمة مشابهة في أوساط طبقات النخبة. مع ذلك، عندما اتجه الفايكينج إلى خارج البلاد، لم يفشلوا فحسب في تملق الأفراد الذين كانوا في موضع التأثير على سمعتهم ورشوتهم، بل إنهم أغاروا عليهم وسلبوهم وأحيانا قتلوهم وهكذا أثاروا هذه الفئة من صناع الرأي العام ومن حفظة السجلات التاريخية لينقشوا على صفحات التاريخ صورة سوداء قاتمة للفايكينج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. أعني أن الكتب التاريخية في القرون الوسطى كان مؤلفوها بشكل أساسي هم الرهبان المسيحيون والقساوسة ولهذا حينما هاجم الفايكينج الأديرة المسيحية والكنائس وأعملوا فيها السلب والنهب مرارا وتكرارا، فقد عمل هؤلاء المؤلفون على التأكد من أن هؤلاء المغيرين سيذكرون في التاريخ بوصفهم وحوشا وقتلة وكفارا.
من وجهة نظر المؤرخين المسيحيين، لم يكن ميل الفايكينج إلى العنف وجشعهم فقط هو الذي ألهب مشاعر الاشمئزاز لديهم نحو سكان الشمال الاسكندنافي، بل لعبت حقيقة أن الفايكينج لم يكونوا مسيحيين، وأنهم كانوا يعبدون آلهة كثيرة، وأنهم كانوا يمارسون تقاليد كانت موضع استهجان المسيحيين، دورا في ذلك. فمن وجهة نظر مسيحية، لم يكن الوثنيون الفايكينج يتخلقون بأخلاق الشياطين فحسب، بل كانوا يعبدونهم كذلك.
صورة الفايكينج في الخيال المسيحي كمتوحشين وشياطين هي صورة متماسكة وعليها انعقد إجماعهم. غير أنها رغم ذلك صورة أحادية الجانب لأنها تخبرنا فحسب عن الفايكينج أنهم تعاملوا بأساليب عدوانية ضد البلاد والشعوب الأجنبية. لكنها لم تقدم لنا أي وصف لمجتمع الفايكينج وأسلوب حياتهم في بلدانهم الأصلية. وعلى هذا النحو تكون صورة الفايكينج التاريخية هي تقريبا على العكس تماما من صورة شارلمان والمملكة الكارولينجية. فبينما تم التقليل من شأن الأعمال الوحشية والبطش الذي مارسه شارلمان ضد السكسونيين والشعوب الأخرى وتبريرها عن طريق وضعها في خلفية إنجازاته الأكثر إيجابية في دعم الفنون والثقافة كنسية الطابع في مملكته الفرنجية، جرى تضخيم عنف الفايكينج وأعمالهم التخريبية في الأراضي المسيحية نتيجة غياب أي معلومات عن أي مظاهر أخرى لحياتهم وثقافتهم.
فإن نظرنا للأمر من وجهة نظر الوثنيين، نجد أن هناك سببا منطقيا للثناء على الفايكينج والاحتفاء بهم، لا لأفعالهم الوحشية التي لا يمكن إنكارها، وإنما لما خلفوه من إبداع وفنون وآداب، وأولا وقبل أي شئ آخر، لدفاعهم عن تقاليدهم الدينية المتوارثة ضد موجة التنصير العاتية التي اكتسحت الشمال باتجاه شبه جزيرة إسكيندينافيا.
وهجماتهم على المؤسسات المسيحية التي عادة ما يجري تصويرها بوصفها أعمال سلب ليس أكثر قد ينظر إليها باعتبارها هجمات مضادة على التوسع ذي الطبيعة العدوانية للمسيحية. هذا قد يبدو جليا لو أننا قمنا بعقد مقارنة بين تاريخ غزوات الفايكينج والأحداث الهامة التي شهدها التوسع المسيحي. الهجوم الأول من طرف الفايكينج على مؤسسة مسيحية رئيسة المتمثل في الهجوم على دير ليندسفيرن الواقع في الأراضي البريطانية عام 793، كان معاصرا للحرب الفرنكية ضد الساكسونيين؛ وبعد أحد عشر عاما من المذابح الشاملة التي أوقعها شارلمان بالوثنيين السكسونيين وبعد واحد وعشرين عاما تقريبا من هجومه على المعبد السكسوني الذي كان يضم نصب الإيرمينسول المقدس المنحوت من خشب السنديان. ومع أن اللينديسفيرن لم يكن تابعا للمملكة الفرنكية، لكن الشماليين على الأرجح لم يكونوا يدركون أن إرساليات مسيحية كثيرة جاءت إلى القارة من بريطانيا، وبهذا ربما كانوا يعتقدون أن الهجوم على موقع مسيحي بريطاني رئيس هو وسيلة للهجوم على منبع الدين العدواني الذي حل محل الديانة الوثنية.
دوافع الغارات التي شنها الفايكينج على الكنائس والأديرة كانت محل نزاع وجدال لسنوات طويلة، والاتجاه الحديث كان نحو التأكيد على البعد الاقتصادي، حيث يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أن الدافع الأساسي للإغارة على المواقع المسيحية ربما كان السعي وراء الذهب والأشياء النفيسة الأخرى التي كانت بيوت الله هذه تشتمل عليها. وإنني لا أقصد، بافتراضي وجود بعد ديني محتمل للغارات التي شنها الفايكينج على المنشآت المسيحية، أن أشكك في الدافع الربحي الواضح، وإنما أريد أن أؤكد فحسب على أنه على الأرجح كان ثمة عدد من الدوافع والأغراض المختلفة والمتشابكة. فلأن الكنائس والأديرة كانت مستودعات لثروات طائلة جنبا إلى جنب مع كونها مراكزا للسلطتين الدينية والسياسية، فلا شك أن غارات الفايكينج على هذه الأماكن قد أخلت الطريق لتحقيق عدد كبير من الأهداف المحتملة في وقت واحد: أهداف عسكرية وسياسية ودينية واقتصادية كذلك. الأمر نفسه يصدق على العدوان الفرنكي على المعابد الوثنية والأماكن المقدسة في سكسونيا والأماكن الأخرى لأن هذه المواقع الدينية الوثنية غالبا ما كانت تضم بين جنباتها ثروات ما كان المغيرون المسيحيون ليترددوا لحظة في اغتنامها.
لو أننا حملنا مسألة الفايكينج على محمل الجد، ولم ننبذهم ببساطة لأنهم كانوا متوحشين وحيوانات ضارية، أعتقد أن بمقدورنا أن نتجاسر على أن نطرح شكوكا حول غارات الفايكينج العديدة وأنشطتهم العسكرية وما إن كانت تمثل هجوما وثنيا مضادا أكثر اتساعا وتنظيما على نحو تدريجي ضد التوسع المسيحي، وخاصة الفرنكي، والاستعمار. فتماما مثلما تطورت الهجمات الفرنكية على مناطق السكسونيين الحدودية من هجمات محدودة النطاق إلى غزو واستعمار واسعي النطاق، فكذلك تطور الفايكينج من غارات خاطفة على المراكز الساحلية مثل لينديسفيرن في أواخر القرن الثامن الميلادي إلى غزو واستعمار شاملين لإنجلترا وإسكتلندا وأيرلندا والمناطق الأخرى خلال القرن التاسع وما بعده. من الجدير بالملاحظة، أن الغزاة الفايكينج كانوا قادرين غالبا على التوصل إلى اتفاقيات سلام مع السلطات السياسية المحلية، لكنهم استمروا في تخريب المنشآت المسيحية. على سبيل المثال، عندما غزا ما يعرف بالـ«جيش العظيم» للفايكينج الدانيماركيين الممالك الإنجليزية في شرق إنجيليا ونورثمبريا بين عامي 865 و 867، سرعان ما توصلوا إلى تسوية مع السكان المحليين وحكامهم، لكنهم خربوا دير «ويتبي» تخريبا وحشيا. في موقف كهذا، قد يبدو أن الفايكينج كانوا يكنون نحو المسيحيين حقدا خاصا.
هذا وتجد الفرضية القائلة بأن نشاطات الفايكينج هي رد انتقامي وثني على التوسع المسيحي والفرنكي دعما أوسع في المناخ الثقافي. فبين القرنين الثامن والحادي عشر، كان ثمة ازدهار رائع للفنون والآداب الوثنية في شمال أوروبا وهو ما يمكننا أن نصفه ب«عصر النهضة الفايكينجي» والمعاصر تماما وربما المنافس عن وعي ذاتي للانبعاث الثقافي الذي رعاه بلاط شارلمان، أو ما يعرف بـ«عصر النهضة الكارولينجي». كثير من الوثائق التي نرتكز عليها كمواد مصدرية للديانة والأساطير الشمالية كانت قد تشكلت للمرة الأولى في تلكم الحقبة، لكن النصوص الباقية تعود إلى مئات عديدة من السنوات بعد ذلك. فالفكرة الرئيسية للـ«فالهالا » (Valhalla) أو الفردوس الأخروي، الذي يحكمه أودين، إله الحرب والشعر والحكمة، التي يحتفل فيها ويقاتل المحاربون استعدادا لمعركة رؤوية نهائية، هي موضوع بارز على الأنصاب التذكارية الحجرية الشهيرة التي تحمل نقوشا مكتوبة بأبجدية الرون أو التي تحمل صورا التي تقع في جزيرة جوتلاند في بحر البلطيق تعود إلى الفترة بين القرنين الثامن والحادي عشر وفي القصائد الملحمية خلال القرن العاشر. كما تعبر القبور الملكية، التي تنتمي للفترة ذاتها من الدنمارك والنرويج والتي شيدت وفق مقاييس مثير للإعجاب وزودت ببذخ بالتماثيل المنحوتة والمصنوعة بكل اتقان، عن إيمان ثابت بحياة ثانية سعيدة، وهي المقابل الوثني للآثار الشامخة التي تعبر عن الإيمان المسيحي والتي شيدت في الأراضي الخاضعة للفرانكيين. إحاطة هذه القبور الملكية الساحرة في الشمال الأوروبي بقبور أقل حجما تضم رفات المحاربين الذين دفنت معهم أسلحتهم وملابس ركوب الخيل، بل والخيول نفسها أحيانا، قد تكون ترديدا لصدى أسطورة أودين ومحاربيه الساكنين معا في فردوس فالهالا في الحياة الآخرة. الشئ الوحيد الذي يمكننا أن نثق به هو أن الفايكينج لم يكونوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم كفارا أو وحوشا آدمية. فلقد كانت لديهم تقاليدهم الرقيقة التي كانوا يتيهون بها فخرا والتي كانت يتهددها جميعا توسع الهيمنة المسيحية في شمال أوروبا.
حينما ننظر إلى كل التجليات الفنية والثقافية والدينية لحقبة الفايكينج مجتمعين، نجد ثقافة وثنية واثقة تمتلك حيوية عظيمة وأصالة ورقة متأصلة في الموروث الديني تصاحبها أساطير غنية شديدة الإبداع. يوجد في عصرنا الحالي إعجاب متنامي للفنون والثقافة التي أنتجها الفايكينج، لكن هذا الاعتراف تأخر كثيرا تحت وقع الميل إلى التركيز على وحشيتهم وإلى إقصاء هذه السمات الأخرى الأكثر إيجابية. فقط مع تقلص الحديث الطويل عن التفوق المسيحي، وخصوصا القول بأن الحضارة الأوروبية والمسيحية الأوروبية هما وجهان لعملة واحدة، صرنا قادرين على تقدير ثقافة الفايكينج وسمات التاريخ الأوروبي الوثني على نحو أفضل.
دعوني أتساءل من جديد، قبل أن أغلق النقاش بشأن الفايكينج، بالعبارة نفسها التي استعملتها مع الحديث عن شارلمان: ماذا إذا؟ ماذا إذا لم يتحول الفايكينج للمسيحية؟ أي أثر كان سيتركه هذا على وجه التاريخ الأوروبي؟ من وجهة نظر مسيحية كان هذا ليبدو احتمالا كارثيا. فالديانة التي كان الفايكينج يؤمنون بها كانت ترتبط بعبادة الأوثان وتقيدم القرابين، بما في ذلك القرابين البشرية؛ بل كان الخيار الأخير هو أفضل ما تفعل به القرابين. وجهة نظر من هذا القبيل، رغم كل شئ، تتغاضى عن النقطة الهامة التي هي أن جميع الأديان تشهد مع مرور الزمان تغيرات وتطورات. تماما مثلما صارت المسيحية أكثر مسالمة وتسامحا عبر القرون، وأكثر تهذيبا وتقويما عبر جيل في إثر جيل من العلماء واللاهوتيين، ناهيك عن الصراعات الداخلية والثورات، فهل نستبعد أن الشئ نفسه كان سيحدث للديانة الوثنية التي كان الفايكينج والشعوب الأخرى يعتنقونها لو أن هؤلاء منحوا الفرصة؟نعلم جميعا أن الهندوسية، التي هي ديانة الغالبية في الهند، كانت منذ زمن بعيد ديانة أضحيات حيوانية تعتبر فيها الماشية الأضحية المفضلة للعمل القرابيني. مع مرور الزمان وتحت وقع الأفكار الدينية الجديدة، لم تعد هذه الأضحية الحيوانية هي القربان المفضل؛ وحلت محلها النزعة النباتية بوصفها ضرورة أخلاقية، وقد صحب ذلك نزعة إلى تصنيف الأبقار كحيوانات مقدسة محمية من أن ينالها أذى. أما كانت عملية تطوير وتهذيب مشابهة لتحدث مع ديانة الفايكينج الوثنية؟ لا يمكننا أن نعرف إجابة هذا السؤال لأن تنصير جميع الشعوب الاسكندينافية أغلق السبيل أمام أي تطوير أبعد للوثنية الشمالية. معلومات متناثرة عن ثقافة الحقبة الفايكنجية والمجتمع تفترض مع ذلك بالفعل أن الفايكينج كانوا قابلين لأن ينضووا تحت لواء المسيحية داخل مجتمعاتهم طالما لم يسعى المسيحيون إلى تقويض الموروث الوثني المحلي. فهذه أيسلندا، على سبيل المثال، كان يسكنها الطرفان كلاهما، الوثنيون والمسيحيون، وتعايشت الديانتان في سلام نسبي لما يزيد عن قرن. إنني لأعتقد شخصيا أن الفايكينج لم يكونوا يكنون مشاعر الكراهية نحو المسيحية في حد ذاتها؛ بل لقد هاجموا المسيحية حيثما رأوا أنها جزء من تهديد أكبر. أو فلنصغ الجملة السابقة بكلمات أخرى: لقد صاروا عدوانيين نحو المسيحيين ردا على العدوان المسيحي الذي مثله شارلمان وآخرون.
في البقايا الأثرية كما في الأداب الأيسلندية العتيقة، نجد مقدارا لا بأس به من الأدلة على التمازج الثقافي بين الوثنيين والمسيحيين، هذا التمازج الذي يفترض أن الفايكينج كانت لديهم القابلية لأن يمزجوا المسيحية بموروثاتهم الوطنية الخاصة. فلو كانت السلطات المسيحية عازمة على أن تتعامل بتسامح مع شكل من المسيحية أكثر مرونة، فقد كان تطور مزيج من المسيحية والوثنية يعمل كجسر يربط تقاليد الديانتين وينهي الصراعات القائمة بينهما أمرا ممكنا. لكن ما كان لهذا أن يحدث. فقد كانت هياكل السلطة المسيحية القوية في أوروبا في القرون الوسطى معنية فحسب بنوع واحد لا غير من العلاقة مع أشكال الدين الأخرى: التدمير الكامل لهذه الديانات وتنصير جميع الشعوب بالقوة إن لزم الأمر. الآن فقط بدأنا ندرك مقدار الخسارة التي حدثت نتيجة سياسة التعصب القاسية تلك.
الخاتمة
في عالم اليوم، احتضن قادة أوروبا ومناطق الأخرى المتقدمة فكرة التنوع الثقافي والتعددية، على الأقل في خطبهم. ويشمل هذا التسامح نحو الديانات الأخرى وليس فقط الأشكال المتنوعة من المسيحية التي سيطرت لقرون كثيرة على حياة أوروبا الثقافية. إنني لأؤمن أنه إن قدر لتجربة القرن الواحد والعشرين في التعددية والتسامح أن تلقى نجاحا، فإن تاريخ أوروبا سيحتاج أن تعاد كتابته لكي يتضمن وجهات نظر الشعوب غير المسيحية التي عاشت في الماضي الأوروبي، وأن تفحص المناهج التي مسحت بها الديانات الوثنية القديمة من على وجه الخارطة الأوروبية. فإن نحن قبلنا الفرضية التي تقول إن التعصب الديني هو شر محفوف بالمخاطر لا يجوز أن يكون له مكان في العالم المعاصر، فلنفهم جيدا أنه كان كذلك خطرا وشريرا في أثره على الشعوب في الماضي.
المترجم/ كرم شومان