قاعدة / ترك الاستفزاز واستخدام الحجة.


قال تعالى (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) [الأنعام 108].
يقول سيد رحمه الله ((إن الطبيعة التي خلف الله الناس بها، أن كل من عمل عملا، فإنه يستحسنه ويدافع عنه، فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها. وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنه. وإن كان على الهدى رآه حسنا، وإن كان على الضلال رآه حسنا كذلك فهذه طبيعة في الإنسان.. وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرزاق.. ولكن إذا سب المسلمون آلهة اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله، دفاعا عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم!.. فليدعهم المؤمنون لما هم فيه: (ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) وهو أدب يليق بالمؤمن المطمئن لدينه، الواثق من الحق الذي هو عليه. الهادئ القلب، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور. فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عنادا، فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه. وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون. من سب المشركين لربهم الجليل العظيم؟!)).
فليس من واجب الدعاة سب رموز الضلال، وخصوم الدعوة أو الاستهزاء بهم، ولئن كان هذا هو أسلوبهم فليس من اللائق أن يتشبه بهم الدعاة في هذه الأساليب الرخيصة وينزلوا إلى مستواهم والالتزام بهذا الخلق يؤدي إلى كسب الأنصار ويجعل المكابر المعاند يصغي إذا دعوناه للحق.
• محطم الأصنام..
والإسلام دين فيه قوة ذاتية، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى الإرهاب والقسر والسلاسل والحديد لإقناع الناس باتباعه، فمن طبيعته أنه دين حجة، ومنطق لا يخالف الفطرة أبدا ولا يصادمها، ومشهورة قصة محطم الأصنام إبراهيم عليه السلام مع قومه في شأن الأصنام، وكيف جادلهم عليها حتى ألجمهم فلم يستطيعوا أن يقاوموا حججه التي كان يرسلها عليهم كالقذائف، فما كان لهم إلا أن أمروا بتحريقه وإعدامه، وهذا هو شأن أصحاب المناهج العقيمة التي لا تملك الحجة، فتلجأ مضطرة إلى استخدام العنف لإقناع أتباعها بالمنهج العقيم المصادم للفطرة، ثم تتهم من عارضها بالعنف والتطرف.
ونرى إبراهيم عليه السلام مع النمرود الطاغية الذي أراد أن يكون إلها من دون الله، كيف يخاطبه، وكيف يعرض عليه الحجج دون أن يجرحه، أو يسبه أو يستهزئ بطريقة تفكيره. يقول تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ يقول إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) [البقرة 258].
كان من الممكن أن يكون جواب ذلك الملك الذي حاج إبراهيم في ربه مستفزا لإبراهيم عليه السلام، ومفقدا لأعصابه، وبذلك يتمكن عدو الله منه بسهولة، لكن إبراهيم عليه السلام، الداعية الحكيم تمالك أعصابه ولم يستفزه هذا الجواب من ذلك الملك الأحمق، ولم يرد أن يدخل معه في جدال عقيم وسباب ومشاتمة فينحرف عن الهدف الذي حدده مع ذلك الطاغية، وما أحب أن يدخل معه في نقاش طويل حول ما ادعاه من الإحياء والإماتة، لأن الملك ما كان يستوعب أو أنه كان مكابرا ويعتقد أنه يمكن أن يحيي بالعفو عن رجل حكم عليه بالإعدام، ويمكن أن يميت بقتل رجل بريء، وما دام هذا هو تفكيره بما فيه من سطحية، فلقد انتقل معه إلى حجة لا يمكن إنكارها. وهذا هو فن الدعوة، وفن الإنكار بالحجة.
يقول الشوكاني ((أراد إبراهيم عليه السلام أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد الكافر أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة، فكان هذا جوابا أحمق لا يصح نصبه في مقابلة حجة إبراهيم، لأنه أراد غير ما أراده الكافر، فلو قال له: ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ ذي بدء، وفي أول وهلة، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسا لخناقه، وإرسالا لعنان المناظرة فقال ((فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب)) لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة)).
إن الداعية الذي تستفزه كلمات أعداء الدعوة، فيفلت من لسانه ما يكون حجة عليه من خصومه، معتمدا على قاعدة ((السن بالسن والعين بالعين)) لا يعلم أنه يساهم في تأصيل المنكر، وتثبيته في نفوس أصحاب الضلال، ويفقده التأييد من جمهور المستمعين إلى الطرفين، ويجعل لأصحاب الضلال المبرر لسب دينه وقرآنه وكل ما هو مقدس وبسبب هذه النتائج الخطيرة نهى الله سبحانه وتعالى سب الآلهة المزيفة التي يعبدها أصحاب الباطل.
• نبغض الباطل ولا نبغض أهله.
الكثير يخلطون بين الباطل والقائم به، مما يجعلهم لا يتركون فراغا في قلوبهم وإن كان يسيرا فيه رحمة وشفقة تدعوهم للقيام بنصيحة ذلك العاصي، بل يتركونه مع الشيطان دون أن ينتزعوه منه أو يحاولوا الانتزاع، ويحرمونه حتى من بسمة حانية تعيد له الأمل بالرجوع إلى الجادة. وهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء يمر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فلم يعجبه ما رأى من صنيعهم، وأراد أن يضيف إليهم من خبرته العميقة في الدعوة، قاعدة لم يبد له أنهم يعرفونها فقال لهم:
((لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟
قالوا: بلى.
قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.
فقالوا: أفلا نبغضه؟
فقال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي))
• ما أنا عن نفسي براض..
إن أبا الدرداء رضي الله عنه عندما قال لهم ((واحمدوا الله الذي عافاكم)) إنما أراد أن يذكرهم فضل الله عليهم إذ هداهم للإيمان، ولولا فضل الله عليهم لربما كانوا مثل ذلك الذي يسبونه أو أشد، وأراد أن يذكرهم بنعمة الهداية والتي أنعمها الله على من كان منهم في جاهلية معتمة، فهلا تذكرون الأيام الخوالي فيتنفسوا الصعداء، ويستشعروا نعمة الله عليهم ويقولوا (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ويكون ذلك دافعا لهم بأن يشفقوا على أصحاب المعاصي، ويكفوا عن سبهم، بل يفكروا كيف ينتشلوهم من الوحل الذي يتمرغون فيه، وبعد كل ذلك لا بد أن يفكروا دائما في تقصيرهم تجاه من هداهم للإيمان، ويحاولوا دائما إكمال نقصهم، فهذا هو التابعي الربيع بن خثيم الذي تكاملت صفاته حتى قال له ابن مسعود ((لو رآك رسول الله لأحبك)).
يغتاب في مجلس رجل، وكأن القوم أرادوا أن يشاركهم في ذم ذلك الرجل فقال ((ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذمها إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله في ذنوب العباد وأمنوا على ذنوبهم)).
وكما أن القاعدة التي علمنا رسول الله  أنه ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ..)) فكذلك الحال فيمن يقع في أعراض الناس، ويسبهم ويحتقرهم ويحقد عليهم إنما دعاه لذلك نسيانه لذنوبه وعيوبه وتقصيره.
• صلة يتفنن بالإنكار..
ويمر فتى يجر ثوبه بأصحاب التابعي المشهور صلة بن أشيم، ويهمون أن يأخذوه بألسنتهم أخذا شديدا، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درسا عمليا بفن الإنكار فقال لهم ((دعوني أكفكم أمره، ثم قال:
يا ابن أخي أن لي إليك حاجة.
قال: ما هي؟
قال: أحب أن ترفع إزارك.
قال: نعم ونعمى عيني – أن أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك – فرفع إزاره.
فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم))
.
فكم من شتيمة نسمعها من أصحاب الضلال بين الحين والآخر، بسبب تصرف كتصرف أصحاب صلة.
• متى تستخدمي الغلظة..
ومع أن الأصل في دعوة الناس هو الرفق والمداراة، إلا أن بعض أنواع الناس لا ينفع معه الرفق، بل إن الرفق يجعله يتمادى في منكره، ويجعله يتجرأ ويستخدم يده لضرب صاحب الإنكار، وربما أثر إلا أنه بمنكره على بعض الضعاف فيجعلهم يتشجعون لفعل المناكر جهارا أمام الناس، خاصة إذا كان منكره يحمل طعنا في العقيدة وفي مثل هذا الوضع لا بد لصاحب الإنكار أن يقوم بزجر صاحب المنكر، وأن يريه غضبه على ذلك، حتى يكون هذا سببا لردعه في التمادي في منكره، لهذا يقول الإمام أحمد:
((والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق، الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجل معلن بالفسق، فقد وجب عليك نهيه وإعلامه، لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة فهؤلاء لا حرمة لهم)).


دعوتها