السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كثيرون هم الذين كتبوا حول القرآن الكريم , وكثيرون هم اللذين بينوا مااستطاعوا من جوانب عظمته , وآثار نورانيته التي لا يحدها حديث , ولا يجعها كلام , ولكننا ههنا نركز على جانب واحد فقط من آثار القرآن الكريم , هو جانب أثر الآيات العظيمات الكريمات في راحة البال , وهدوء النفس , وطمأنينة القلب , وسكينة الروح .


إن القرآن الكريم شفاء من كل داء , شفاء فعلي عملي , كما قال سبحانه "
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" الإسراء:82, وأكثر ما تكون الأمراض في هذا العصر هي الامراض النفسية , وأكثرها أمراض الاكتئاب الناتجة عن كثرة الهموم والأحزان , فتثقل النفس ,
وتوهن القلب وتقعد الجوارح , فلا يزال المرض بالمؤمن حتى يصير عاجزا كسلانا , مهموما , محزونا , لا يقدم شيئا إيجابيا لنفسه ولا لأسرته ولا لأمته .



وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمراض , وكان كثيرا ما يستعيذ منها , كما أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
اللهمَّ إني أعوذُ بك منَ الهمِّ والحزَنِ ، والعَجزِ والكسلِ ، والبُخلِ والجُبنِ ، وضلَعِ الدَّينِ ، وغلبَةِ الرجالِ "


إنها استعاذة الداعي إلى السلوك الإيجابي نحو النفس والمجتمع , واستعاذة المستنكر لحالة القعود السلبية التي ربما يقع فيها البعض نتيجة همومهم وأحزانهم .


القرآن الكريم هو المنهج النوراني الكامل , الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد , قد بين في كثير من آياته أن المستمسك به , التالي لآياته , الموقن بها , المحب لها , الواثق في موعودها

لا شك سيعبر لحظات الضعف ولا شك سيكسر آلام الهم , إن علاج القرآن في النفوس يثبت في الاساس العقيدة الإيمانية في نفوس المؤمنين , ويؤكد على فهم المؤمنين لعقيدتهم في الله سبحانه , وفي موعوده واليوم الآخر والقدر خيره وشره , وكان ذلك عبر نقاط ..



أولًا : بث الطمأنينة في القلب

"
أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "الرعد:28 , تأكيد وبيان ان ذكر الله تسكن معه القلوب , فتطمئن لموعود الله , فتأمن من الخوف ومن الفزع , فلا خوف إلا من الله , ولا رهبة إلا من عذابه , فتستقر الطمأنينة فيه إذ لا حول ولا قوة إلا بالله .
وذكر الله يجلي كل خوف , ويذهب كل ضعف , فتجد القلب مطمئنا ليومه , راضيا بأمسه , مستبشرا بغده , إذ اليوم متوكل على الله , وأمس راض بقدر الله فيه , وغدا مستبشر باليسر بعد العسر .


ثانيا : السكينة وسط المخاوف .

فكتاب الله سبحانه يبث السكينة في النفس , ولئن كانت الطمأنينة تخص ذات القلب , فالسكينة تخص الحوادث المارة على النفس , فعلّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا مرت بنا مصيبة أن نذكر الله ونتوكل عليه , فقال : "
ما من عبدٍ تصيبُه مصيبةٌ فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهمَّ ! أْجُرْني في مصيبتي وأَخلِفْ لي خيرًا منها - إلا أجَره اللهُ في مصيبتِه . وأخْلَف له خيرًا منها " .صحيح مسلم
وفي كتاب الله تثبت في الحوادث والمصائب بالإنابة إلى الله والرجوع إليه سبحانه , قال سبحانه "
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ "البقرة155: 157


ثالثًا الثقة ..

والثقة في الله سبحانه نوع من المشاعر يبثه ذلك الدين في المؤمنين , يقوى به القلب ويثبت به النفس , فتري القلب تتضاعف قوته , وترى النفس قادرة على خوض غمار المصاعب .
يقول شيخ الإسلام بن تيمية : لا حول ولا قوة إلا بالله لها أثر عجيب في تقوية القلب والجسد , والله سبحانه وتعالى في كتابه يقول "
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ " آل عمران173: 174,
وقد أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يثق في موعود الله عز وجل ويوقن بذلك وأن ذلك كافيه وحسبه ذلك , فقال "
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "الأنفال:64


رابعًا الأمر بأخذ الأسباب

فالقرآن الكريم يعلمنا أن راحة البال لا ينبغي أن تبنى على عمل "
أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ " الأعراف:43, لا على تواكل أو على قعود , أو انطواء , لكنها مبنية بالأساس على الثقة بالله كما اسلفنا وكذلك بعد الأخذ بالأسباب التي أمر الله بها .


قال سبحانه في كتابه حاكيا عن ذي القرنين "
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا "الكهف:89 , وقال في جهاد المشركين " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ "الأنفال:60 , وقال في موقف مريم الضعيفة بينما هي تضع مولودها : " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا " مريم25, وقال في شأن موسى عليه السلام وهو بصدد معجزة غير مسبوقة : " فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا " البقرة:60.

ولكن الله عز وجل يعلمنا ايضا أنه ليس إعداد القوة ولا رباط الخيل ولا هز جذوع النخل ولا ضرب الحجارة بالعصا , ولا غير ذلك وحده كاف للمؤمنين , بل كلها أسباب تفتقر إلى قوة العظيم القادر سبحانه ,
فيعلمنا القرآن ان الله إذا علم من عبده صدق اللجوء غليه واتخاذ الأسباب مع توكله الكامل عليه وبذل جهده القادر عليه وصبره ويقينه , أنه لا شك ناصره , ولذلك بشر الصالحين بأعظم بشرى فقال سبحانه : "
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ "غافر:51


خامسا : سمو الهدف , ونبل المقصد ..

فآيات القرآن الكريم تعالج هموم النفوس بطريقة مدهشة , عن طريق تذكير المؤمن بسمو هدفه ونبل قضيته , فكلما شعر المؤمن بعظمة ما هو بصدده , كلما هانت عليه الاحزان وصغرت أمامه العقبات .


وانظر إلى القرآن الكريم وهو يضرب لنا ذلك المثل في مؤمن سورة يس إذ دافع عن كلمة الحق ولم يبال بالأذي لأنه ينظر إلى سمو قضيته وعلو هدفه , فاقرأ قوله تعالى : "
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ *وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ *إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ *قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ *بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ " يس20: 27


إن نبل غايته أنساه البغضاء وأنساه الثأر حتى إنه لما رأى موعود ربه أحب لو أن الذين آذوه قد رأوا الحق وفهموا الصواب وتبينوا صدق المسيرة .

إنها طرائق علاجية قد بثت في كتاب الله العظيم وهي غيض من فيض , ونقطة في بحر شفاء من القرآن الكريم للنفوس والقلوب .

خالد رُوشه