بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله

فان الاصل في موضوع الخلافة هو وجود خليفة واحد للمسلمين واجب الطاعة


عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ موعظة ذرفت منها العيون، ووجَلَتْ منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذا لموعظة مودع، فإذا تعهد إلينا قال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا، عضوًا عليها بالنواجذ

والسؤال
أوليس تقسيم الأمة إلى دول من جملة ما قاله نبينا عليه الصلاة والسلام: « ومن يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا» ؟ ولم يترك نبينا عليه الصلاة والسلام الأمر هكذا وإنما أردف بالعلاج الذي منه: « وعليكم بالطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًا ».

قال عمر بن الخطاب : « إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا منكم، فإذا مررتم براعي الإبل فنادوا يا راعي الإبل، فإن أجابكم فاستسقوه وإن لم يجبكم فأتوها فحلوها واشربوا، ثم صروها» قال البيهقي: هذا عن عمر رضي الله عنه صحيح بإسناديه جميعًا(11).
فهذه الوصية من الفاروق تدل على أن الظروف لو ألجئت جماعة المسلمين إلى أن يؤمروا عليهم أميرًا منهم، وبالتالي سيتعدد الأمراء كما هو حاصل الآن، فيكون الحال السمع والطاعة لهذا الأمير، على حسب ما جاء في تربية النبي ‏صلى الله عليه وسلم‏ لأمته في حديث العرباض بن سارية


قال الإمام ابن تيمية: «والسنة أن يكون للمسلمين إمامٌ واحد، والباقون نوّابه، فإذا فُرِض أن الأمة خرجت عن ذلك- لمعصية من بعضها، وعَجْزٍ من الباقين – فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق»



وهنا
لا بد من التنبيه أن ثمّة فرقاً بين حالتي القدرة والعجز عند تطبيق الأمر والنهي.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:((ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم, فان العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل)). ((مجموع الفتاوى)) (20/60-61).

بمعنى آخر ثمّة فرق بين حالي الاختيار والاضطرار, ومن لم يفرق بينهما ((فقد جهل المعقول والمنقول)). ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) (8/174). لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:173], وقوله تعالى:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].

حكم تعدد الأئمة وفيه عدة أقوال:

القول الأول: قول الكرّامية بجواز ذلك مطلقا" سواء في حالة القدرة أم العجز, محتجين بأن عليا" ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه, واحتجوا بجواز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة, وقد فند القرطبي حججهم في تفسيره عند قوله تعالى{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة:30], في الجزء الأول, الصفحات(273-274).

القول الثاني: قول الجمهور: عدم جواز تعدد الإمام الأعظم محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم" إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" رواه مسلم في الإمارة رقم 1853. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) [رواه مسلم في الإمارة، رقم (1852)]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع, فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) [رواه مسلم رقم (1844) وأوله: ((إنه لم يكن نبي قبلي)).وممن قال من الجمهور بعدم جواز تعدد الإمام الأعظم:
النووي: حيث رد على من قال بجواز عقد الإمامة لأكثر من واحد إذا اتسعت الأقاليم بقوله: ((وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق الأحاديث)). ((شرح صحيح مسلم)) (12/232). وقال أيضاً: ((لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعدت إقليماهما, وقال الأستاذ أبو إسحق: يجوز نصب إمامين في إقليمين لأنه قد يحتاج إليه وهذا اختيار الإمام, والصحيح الذي عليه الجمهور هو الأول)). ((روضة الطالبين)) (10/47).محمد الخطيب الشربيني: ((ولا يجوز عقدها لإمامين فأكثر ولو بأقاليم ولو تباعدت لما في ذلك من اختلاف في الرأي وتفرق الشمل)). ((مغني المحتاج)) (4/132).الماوردي: ((وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذ قوم فجوزوه)). ((الأحكام السلطانية)) (ص 9).القول الثالث: يصح للاضطرار, وله ثلاث صور:
الصورة الأولى: التباعد في الأقطار: ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة لتباعد الأقطار:

الشوكاني: ((وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر من أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك, ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته. فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه, وكذلك صاحب القطر الآخر. فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله, كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب. ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته, ولا الدخول تحت ولايته, لتباعد الأقطار, فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها, ولا يدرى من قام منهم أو مات, فالتكليف بالطاعة والحال هذا تكليف بما لا يطاق. وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد.. فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية, والمطابق لما تدل عليه الأدلة, ودع عنك ما يقال في مخالفته, فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار. ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها)). ((السيل الجرار)) (4/512).

ابن كثير: بعد أن ذكر قول الجمهور القائلين بعدم الجواز قال: ((وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوّز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما. وتردد إمام الحرمين في ذلك. قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق, والفاطميين بمصر, والأمويين بالمغرب...)). ((تفسير ابن كثير)) (1/74).

القرطبيّ: بعدأن ذكر حديث "إذا بويع لخليفتين قال: ((وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم ولكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخرسان جاز ذلك)). ((تفسير القرطبي)) (1/273).

الصورة الثانية: التغلب: ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة للتغلب:إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان: ((وقال في (الغاية) ويتجه أنه لا يجوز تعدد الإمام, وأنه لو تغلب كل سلطان على ناحية كزماننا فحكمه كالإمام)). ((منار السبيل)) (2/353),

الصّنعانيّ: ((قوله: عن الطاعة, أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه. وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار, إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية, بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم. إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلّت فائدته)). ((سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام)) (3/499).

محمد بن عبد الوهاب: ((الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء, ولولا هذا ما استقامت الدنيا, لان الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد, ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم)). ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (7/932).

الصورة الثالثة: العجز أو المعصية أو غير ذلك.ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة للعجز أو المعصية أو غير ذلك:
ابن تيمية: ((والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه, فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها أو عجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة, لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود, ويستوفي الحقوق..))((مجموع الفتاوى)) (34/ 175- 176).

الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: سمى الحكومات بأنها حكومات مؤقتة للضرورة، ولها السمع والطاعة، فإن زالت الضرورة وجبت الوحدة، فقد قال: إن جمهور المسلمين أجمعوا على أن تعدد الإمامة الإسلامية غير جائز، ومقتضاه أن الحكومة الإسلامية التي تتعدد للضرورة وتعذر في ترك اتباع الجماعة هي حكومة ضرورة، تعتبر مؤقتة وتنفذ أحكامها، ولكن لا تكون مساوية للأولى، وإن كانت مستجمعة لشروط الإمامة مثلها، وظاهر القول الآخر الذي عدوه شاذًا أنها إذا كانت مستجمعة للشروط كانت إمامة صحيحة، وهذا هو التعدد الحقيقي، ولكن لم يختلف اثنان في أنها للضرورة، فإذا زالت وجبت الوحدة(17). وأسهب رحمه الله في الكلام على هذه «الضرورة» وتأسى وتحزن على أنها شقت وحدة المسلمين.

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “الأمة الإسلامية تفرقت من عهد الصحابة، تعلمون أن عبد الله بن الزبير في مكة، وبني أمية في الشام، وكذلك في اليمن أناس، وفي مصر أناس، وما زال المسلمون يعتقدون أن البيعة لمن له السلطة في المكان الذي هم فيه، ويبايعونه، ويدْعونه بأمير المؤمنين، ولا أحد ينكر ذلك، فهذا شاقٌّ لعصا المسلمين من جهة عدم التزامه بالبيعة، ومن جهة أنه خالف إجماع المسلمين من عهد قديم.. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: « اسمعوا وأطيعوا؛ وإن استعمل عليكم عبد حبشي»


ابن تيمية: ((ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة ـ أي المماليك ــ هي أقوم الطوائف بدين الإسلام علماً وعملاً وجهاداً عن شرق الأرض ومغربها... وسكان اليمن ضعاف عاجزون عن الجهاد, أو مضيعون له, وهم مضيعون لمن ملك هذه البلاد،... وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة،...وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون, وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد،...وأما بلاد أفريقية فأعرابها غالبون عليها, وهم من شر الخلق،... وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم, لا يقومون بجهاد النصارى هناك, بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم.
فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة بالشام في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام, وعزهم عز الإسلام, وذلهم ذل الإسلام،..))، ((مجموع الفتاوى)) (28/533-534).

يتبع ان شاء الله