التربية الاجتماعية في الإسلام

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

التربية الاجتماعية في الإسلام

صفحة 1 من 3 1 2 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 29

الموضوع: التربية الاجتماعية في الإسلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي التربية الاجتماعية في الإسلام

    التربية الاجتماعية في الإسلام



    نظرة الإسلام إلى المجتمع الإنساني



    سورة الحجرات(49)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وقبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكرمكُمْ عندَ الله أتقاكُمْ إنَّ الله عليمٌ خبير(13)}


    ومضات:


    ـ إن مسؤولية بناء المجتمع الإسلامي العالمي تقع على عاتق الرجل والمرأة على السواء.
    ـ خلق الله تعالى آدم وحواء وجعل من ذريَّتهما الشعوب والقبائل والأجناس والألوان، فالناس كلُّهم إخوة، لذلك فلابدَّ لجسور التوادد والتواصل من أن تبقى قائمة بينهم، فلا تفاضل بين لون وآخر، أو عرق وآخر، بل مساواة بين الجميع أمام الله تعالى؛ الَّذي يُكرَمُ الناس لديه على درجة تقواهم، فمن نال شرف التَّقوى حصل على وسام مرضاة الله، والله أعلم بأعمال مخلوقاته خبير بنواياهم.


    في رحاب الآيات:

    في ثنايا الآية الكريمة معنى الخطاب الإلهي الموجَّه للبشر جميعاً: يا أيُّها الناس! نحن خلقناكم بقدرتنا من أصل واحد، وأوجدناكم من أب وأم، فلا تفاخر بالأجداد والآباء، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلُّكم لآدم وآدم من تراب. وجعلناكم شعوباً شتَّى، وقبائل متعددة ليحصل بينكم التعارف والتآلف، ويتلاشى التناحر والتخالف. أمَّا اختلاف الألسنة والألوان، وتباين الطباع والأخلاق، وتفاوت المواهب والاستعدادات، فإنما هو تنوُّع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف، والعمل على نهوض المجتمع الإنساني وتحقيق الخلافة في الأرض. لذلك لا يكون التفاضل بين الناس بالأحساب والأنساب، بل بالتَّقوى والعمل الجادِّ المخلص، فمن أراد شرفاً في الدنيا، ومنزلة في الآخرة فليتَّق الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «من سرَّهُ أن يكون أكرم الناس فليتَّقِ الله» (رواه الترمذي وقال حسن صحيح). والتَّقوى معناها مراعاة حدود الله تعالى أمراً ونهياً، والاتِّصاف بما يرضيه عنَّا. وقد رفع الإسلام لواء التَّقوى لينقذ البشرية من عواقب العصبية للجنس، أو للقبيلة، أو للأسرة، بشتَّى الأسماء، وهي في حقيقتها عصبيَّة جاهلية، والإسلام منها براء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: «دعوها فإنها نتنة» (رواه أبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم : «إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبُّرها بآبائها، كلُّكم لآدم وحواء، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، فإذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه» (أخرجه البيهقي)، وأخرج الترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اتقى الله أهاب الله منه كلَّ شيء، ومن لم يتَّق الله أهابه الله من كلِّ شيء».
    وهذه هي القاعدة الَّتي يقوم عليها المجتمع الإسلامي؛ المجتمع الإنساني العالمي الَّذي تحاول البشرية في خيالها المحلِّق أن تحقِّق لوناً من ألوانه ولكنَّها أخفقت، لأنها لا تسلك الطريق الوحيد الموصل إليه، وهو الطريق إلى الله تعالى. لذلك نجد أن الله جلَّ وعلا يخاطب رسوله الكريم بتلك العبارة الشاملة، الَّتي تتَّسع لتشمل سائر الأجناس والمذاهب والَّتي تنفي التحيُّز أو التعصُّب: {قُلْ أعوذُ بربِّ النَّاس * مَلِكِ النَّاس * إله النَّاس} (114 الناس آية 1ـ3). فالله هو ربُّ الناس جميعاً، والربُّ هو المربِّي والموجِّه والراعي والحامي، وهو ملك الناس جميعاً، والملك هو المالك الحاكم المتصرِّف، وهو إله الناس جميعاً، والإله هو مَنْ وَلِه الكلُّ به ولهجوا باسمه، ونادوا من أعماق قلوبهم أن الحمد لله ربِّ العالمين.


    ومن هنا نرى أن الإسلام بعد أن وضع القواعد السليمة لبناء النفس المؤمنة، سعى لإشباع نوازع النفس البشرية التوَّاقة إلى الفوز والتفوُّق على الآخرين، فبيَّن أن سبيل التنافس والتسابق ينحصر في المكرمات الَّتي تكسب رضا الله، كما قال تعالى: {…وفي ذلك فليتنافسِ المُتَنافسون} (83 المطففين آية 26) أي في الأسباب الموصلة إلى ذلك النعيم ليَكُنِ التنافس والتسابق، وما أكثر هذه الأسباب كالاستزادة من التخلُّق بالأخلاق الفاضلة قولاً وعملاً، والإكثار من البذل والتضحية والفداء، والإقبال على العلم والتعلُّم بنَهم.
    وهكذا يأخذ كلُّ مؤمن مكانه في فردوس النعيم حسب جِدِّه وجهده، ولذا كانت الجنَّة درجات، وكانت علِّيون الدرجة العليا الَّتي ينالها أولو الألباب، وهم الصفوة من خواص المحبِّين لحضرة الله، والعاملين الملتزمين بشرعه الخالد الحنيف.
    سورة النساء (4)
    {ياأيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَهَا وبثَّ منهما رِجالاً كثيراً ونساءً واتَّقوا الله الَّذي تَسَاءَلُونَ به والأرحامَ إنَّ الله كان عليكُمْ رقيباً(1)}


    ومضات:



    ـ إن الناس كلَّهم عائلة واحدة، مهما تعدَّدت أجناسهم وتلوَّنت بشرتهم، فأبوهم جميعاً آدم وأمُّهم حواء.
    ـ إن قضية خلق هذا الكمِّ الهائل من الناس من نفس واحدة، منذ سيِّدنا آدم وإلى يوم القيامة، لهي معجزة وآية رائعة تدلُّ على عظمة الله تعالى، وتدفع إلى إجلاله والخشية منه.
    ـ بمقدار ما نخشع لعظمة الله، علينا أن نصل أرحامنا ونقوِّي أواصر المحبَّة معهم، وندعمهم بالعطاء المادي والروحي لتزهر شجرة العلاقات الإنسانية بورد الرحمة والتراحم.


    في رحاب الآيات:


    لقد افتتح الله تعالى سورة النساء بخطابه للناس جميعاً، داعياً إيَّاهم إلى عبادته وحده، ومنبِّهاً لهم إلى قدرته الَّتي خلقهم بها من نفس واحدة؛ وهي نفس آدم عليه السلام والَّتي خلق منها زوجها وهي حوَّاء، فالأصل البشري واحد والنماذج لا حصر لها. وإن إلقاء نظرة على التنوُّع في خصائص الأفراد، على هذا المدى الواسع الَّذي لا يمكن أن يتماثل فيه فردان تمام التماثل على توالي العصور، لتدلُّ على دقَّة إبداع اليد المدبِّرة عن علم وحكمة، وتجعل العين والقلب يجولان في ذلك المتحف الحي، فيتمليان النماذج الَّتي لا تنفد. ومهما تشعَّب الناس بعد ذلك إلى أمم وبلدان وأجناس فإنما تشعُّبهم هذا ما هو إلا كتشعُّب العائلة الواحدة، والإخوة من أب واحد وأم واحدة، وحريٌّ بهذا التوحُّد في منشئهم وأصلهم أن يؤدِّي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، والَّذي يرتكز على المبدأ الإنساني؛ وأن يصلوا أرحامهم ليكونوا أتقياء حقاً، وليظفروا بمرضاة الله، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: أمَّا ترضَيْن أني أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك».



    وقد تَرفعُ ظروف الحياة أفراداً وتخفض آخرين، وقد تغني فئات، وتفقر فئات، وقد يؤدي تباعد البلدان واختلاف المناخ إلى تنوُّع ألوان البشر وتمايز العادات والأفكار، وكلُّ ذلك بإذن الله وإرادته، لكن الكلَّ عند الله سواء في آدميتهم وإنسانيتهم، وهم سواء أمام القانون الإلهي وفي كيان المجتمع الإنساني الواحد، يتأثَّر مجموعهم بفردهم وفردهم بمجموعهم، وليس لأحدهم فضلٌ على الآخر إلا بالتَّقوى.
    إن التفكُّر في أصل الإنسان وتكوُّن الأجناس البشرية، يستوجب العمل على تمتين العلاقات الأسرية والاجتماعية والأممية، ليستمر التعاون والنماء بين جميع أبناء العالم كأفراد لأسرة واحدة. وهكذا يؤكِّد الإسلام على الوحدة الإنسانية بين الناس، بوصفهم إخوة ينحدرون من أصل واحد.


    وهنا يجدر بنا أن نلاحظ كثرة خطاب القرآن للناس بهذه الألفاظ الَّتي تشعرهم بوحدة أصلهم الإنساني: (ياأيُّها الناس .. يابني آدم..) فالتشريع القرآني يسمو بالناس إلى أفق ترقى معه كرامة الإنسانية جمعاء، بصرف النظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم فيقول: {ولقد كرَّمْنَا بني آدمَ..} (17 الإسراء آية 70) وتلك الكرامة تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة، والفكر والعقيدة والتعلُّم والعيش الكريم، ويرقى إلى ذروة السمُوِّ الإنساني حين يجعل أساس الثواب والعقاب للناس مرتكزاً على نواياهم وأعمالهم لا على ظواهرهم، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم).
    وقد كرَّر الله تعالى الأمر بالتَّقوى في أوَّل الآية وفي آخرها، ليشير إلى عظيم حقِّه على عباده، كما قرن تعالى بين التَّقوى وصلة الرحم ليدلَّ على أهمِّية هذه الرابطة الوثيقة؛ فعلى الإنسان أن يرعى رابطة الإيمان بالله، وروابط القرابة وصلة الرحم، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمن، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرحم معلَّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» (متفق عليه). وصلة الرحم تنبثق من الأسرة الواحدة، وتمتدُّ لتشمل أفراد المجتمع بكامله، ولا تستقيم أمور الأسرة الَّتي هي الخلية الأولى في بناء المجتمع، إلا إذا تراحم أفرادها، وتوثَّقت عرى المحبَّة فيما بينهم. ولن تستطيع الأسرة أن تحيا بمعزل عن الآخرين، لأن أعباء الحياة كثيرة، ولابدَّ من التعاون بين الأفراد، ومن باب أولى التعاون بين الأهل، إذ الأقارب للإنسان كالرِّداء الواقي الَّذي يحميه من حرِّ الصيف وقرِّ الشتاء، وهم كالمحارة الَّتي تنغلق على اللؤلؤة لتحميها من عوادي الزمن، فإذا ما تخلَّى الإنسان عن قرابته فكأنما انسلخ عن جلده، أو ترك أعضاءه هملاً مشاعاً تعبث بها الخطوب وصروف الأيام!.
    ولا يمكن أن تقوم علاقة وطيدة بين الأفراد وذويهم، إلا على أسس المحبَّة والرحمة، والتسامح والإيثار وبذل الخير، ومدِّ يد المساعدة، ونفي التشاحن والبغضاء والأنانية الَّتي تعمل كالمعول في هدم الروابط الاجتماعية. وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الرحمة في قوله: «الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شحنة من الرحمن من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله تعالى» (أخرجه أبو داود والترمذي).


    وتتَّسع دائرة الرحمة لتشمل الناس جميعاً، فالناس كما علمنا إخوة، وما أجدر الإخوة أن يتراحموا، فيعطي الغني الفقير، ويصفح المحسن عن المسيء، ويرحم الكبير الصغير، ويعين القوي الضعيف. بمثل هذه الأخلاق ساد المسلمون الأوائل، وأرسَوْا دعائم حضارة رائعة، أضاءت ظلمات الجهل الَّذي تَمَلَّكَ الإنسانَ ردحاً طويلاً من الزمن. والله تعالى حفيظ مطَّلع على جميع أحوالنا، فلا مفرَّ من الرقابة الإلهية الَّتي ترصد كلَّ حركة وكلَّ سكنة، وتعلم ما أسررنا وما أعلنَّا، فلا يغيب عن علم الله شيء في الأرض ولا في السماء، ولابدَّ أن يجازي من يفرِّط في تعاليم الله، جزاءً شديداً عادلاً، ويكافئ الساجدين له المستسلمين لعظمته المحافظين على تطبيق شرعه.
    فالعاقل هو من يقدِّر حساباته بدقَّة ويعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، وتكون دنياه مزرعة يحصد إنتاجها يوم الحساب، فقد روى أبو يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أَتْبَعَ نفسَهُ هواها وتمنَّى على الله» (رواه الترمذي).


    ولا تقف الرحمة الإلهية عند حدود الإنسان بل تتعدَّاه إلى الحيوان، فعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثمَّ خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبُ من العطش مثلَ الَّذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفَّه ماءً ثمَّ أمسكه بفيه، حتى رَقِيَ فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كلِّ كبد رطبة أجر» (متفق عليه).

    التعديل الأخير تم بواسطة فداء الرسول ; 02-09-2013 الساعة 11:52 PM
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    بـِرُّ الوالدين


    سورة الإسراء(17)
    قال الله تعالى: {وقضى ربُّكَ ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدين إحساناً إمَّا يبلُغَنَّ عندكَ الكِبَرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لهما قولاً كريماً(23) واخفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمةِ وقُلْ ربِّ ارحمْهُما كما ربَّياني صغيراً(24) ربُّكُمْ أعلَمُ بما في نفوسِكُمْ إن تكونوا صالحينَ فإنَّه كان للأوَّابينَ غفوراً(25)}
    سورة الأحقاف(46)


    وقال أيضاً: {ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أمُّهُ كُرْهاً ووضعَتْهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وفصَالُهُ ثلاثونَ شهراً حتَّى إذا بلغَ أَشُدَّهُ وبلغَ أربعينَ سنةً قال ربِّ أَوْزِعْنِي أن أشكُرَ نعمَتَكَ الَّتي أنْعَمْتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمَلَ صالحاً تَرْضَاهُ وأَصْلِحْ لي في ذُرِّيَّتي إنِّي تُبْتُ إليك وإنِّي من المُسْلمين(15) أولئك الَّذين نَتَقَبَّلُ عنهم أحسنَ ما عمِلوا ونتجاوزُ عن سيِّئاتِهِمْ في أصحابِ الجنَّةِ وَعْدَ الصِّدقِ الَّذي كانوا يُوعدون(16)}
    ومضات:


    ـ يريد الله تعالى أن نتوجَّه إليه وحده بالعبادة بكلِّ ذرات وجودنا وأصدق عواطفنا ومشاعرنا.
    ـ إن النتاج العملي لصلتنا بحضرة الله تعالى يتجلَّى بالرحمة والعطف على الناس جميعاً وخاصَّة الوالدين، لاسيَّما عند بلوغهما مرحلة الكبر بما تحمله من الوهن والضعف الجسدي.
    ـ يشعر الإنسان عادة بالقوَّة والجبروت أمام الضعفاء والمسنين، لذا كان لابدَّ له من إذلال نفسه على قدمي والديه وتأمين راحتهما، متذكراً كم تعبت أمه في رعايته صغيراً، وكم بذل والده من العناية به والاهتمام حتى غدا يافعاً ناضجاً.
    ـ في برِّ الوالدين كفَّارات لكثير من الذنوب ومغفرة تشمل معظم السيئات.


    في رحاب الآيات:



    تـكمن العبادة الحقيقيـة لله في التوجُّه إليه ـ تعـالى ـ جسـداً، وروحاً، قلباً وتفكيراً وقالباً، إنها تتجلَّى في السير على منهجه وتعاليمه، ومن أهمِّ هذه التعاليم أن نحسن صحبتنا لوالدينا، وأن نعاملهم بأحسن ما تكون عليه الأخلاق من حلو الكلام وكريم الرعاية والعناية، وذلك بالتذلل لهما، مع الرحمة بهما والعطف عليهما والإحسان إليهما؛ لاسيَّما وأنَّ برَّنا بوالدينا ينعكس علينا ببرِّ أولادنا بنا، والعكس بالعكس فإن ثمرة عقوقنا لوالدينا هي عقوق أولادنا لنا. إن معاملة الوالدين زرع ولابدَّ لكلِّ زرع أن يثمر ثمره فالحلو يثمر ثمراً حلواً، والمرُّ يثمر ثمراً مُرّاً، وكما تدين تدان وبالكيل الَّذي تكيل تكتال. ونظراً للتضحية العظيمة الَّتي يقدِّمها الوالدان لأبنائهما فقد أمر الله ببرِّهما وقرن بين عبادته والإحسان إليهما، وجعل أمره حكماً مبرماً مقضياً، حثاً على هذا البر وإعلاءً لشأنه، أخرج الحاكم وصححه البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين». وقال صلى الله عليه وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، و دعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده » (رواه أبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة ).
    إن القرآن الكريم يستثير مشاعر العطف والرحمة في وجدان الأبناء تجاه أمَّهاتهم وآبائهم، ذلك أن الحياة في خضَمِّ اندفاعها توجِّه اهتمامهم نحو الأمام إلى الذرِّية، إلى الناشئة الجديدة، وقلَّما توجِّه اهتمامهم إلى الوراء، إلى الجيل الذاهب المُوَلِّي، بينما يندفع الوالدان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، وإلى التضحية من أجلهم بكلِّ شيء حتى بالذات. فكما تمتص النبتة الخضراء كلَّ غذاء الحبَّة فإذا هي خاوية، فكذلك شأن الأولاد يمتصون كلَّ جهد، وكلَّ عافية، وكلَّ اهتمام من الوالدين، إلى أن يدخلا طور الشيخوخة الَّتي تسير بهم نحو الضعف والموت، بينما يدخل الأولاد طور الشباب الَّذي يسير بهم نحو النَّماء والقوَّة.
    إن أوَّل مرتبة من مراتب برِّ الوالدين ألا يظهر من الولد ما يدلُّ على الضجر أو التأفُّف من والديه، فقد قال تعالى: {ولا تنهرهما} أي لا يصدر منك ما يسيء إليهما. والفرق بين النهي عن التأفُّف، والنهي عن الانتهار: أنَّ الأوَّل للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، والثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول، بالرد أو التكذيب، وقد ورد في الأثر: [لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أُفٍّ لحرَّمه]. إن الإسلام يدفع الابن إلى مرتبة أعظم تكريماً، وأكثر إيجابية بأن يكون كلامه مع والديه ليِّناً مفعماً بالإكبار والاحترام، مُعرِباً عن حبِّه وامتنانه. ثمَّ إنه يرقى درجة أعلى فيصل به إلى الرحمة، الَّتي ترقُّ وتلطُف حتى لكأنَّهاالذل، الَّذي لا يرفع عيناً ولا يرفض أمراً مشروعاً، وكأن للذل جناحاً يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام. أخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ولد بارٍّ ينظر إلى والديه نظرة رحمة، إلا كتب الله له بكلِّ نظرة حجة مبرورة، قالوا: وإن نظر كلَّ يوم مائة مرة؟ قال: نعم والله أكبر وأطيب». والآيات تعود بالإنسان إلى مرحلة طفولته الضعيفة حيث رعاه والداه خلالها أحسن رعاية، فإذا أصبحا مُسنَّين واعتراهما شيء من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان، فإن الإسلام يهيب بالابن أن يتوجه إلى الله من خلال رعايتهما، طالباً منه أن يشملهما برحمته الواسعة. أمَّا من قصَّر في حقِّهما عن جهل، فقد ترك الله له باب المغفرة مفتوحاً للتوبة والإنابة، ليكون في عداد الأوَّابين الَّذين يسارعون إلى ربِّهم مستغفرين منيبين؛ كلَّما زلَّت بهم القدم. فمن قصَّر في حقِّ من حقوق أبويه فلْيُعلن توبته ولْيستدرك تقصيره تجاههما ولو بعد موتهما، ولْيُسرع إلى ربِّه نادماً مستغفراً علَّه يغفر له، إنه غفور رحيم. أخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه، أنَّ رجلاً قال: «يا رسول الله، هل بقي علي من برِّ أبويَّ شيء بعد موتهما أبرُّهما به؟ قال: نعم الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم الَّتي لا رَحم لك إلا من قبلهما، وإكرام صديقهما». وأخرج الحاكم والذهبي والبيهقي والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجِّله لصاحبه في الحياة قبل الممات». والأبناء ملزمون ببرِّ الوالدين وإن كانا غير مسلمين، فقد جاء في صحيح البخاري عن أسماء رضي الله عنها قالت: «قَدِمَتْ أمِّي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمِّي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صِلِي أمَّك».



    ومن الملاحظ أن توصية الآباء بالأبناء قليلة إذا ما قورنت بتوصية الأبناء بالآباء، وذلك لأن الفطرة كفيلة برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية لا تحتاج إلى محرِّض، وقد تصل أحياناً إلى حد الموت في سبيل الأبناء. وتخص الآيات الكريمة الأم بالذِّكر تقديراً لها على ما تعانيه من آلام الحمل والوضع، فهي تحمل طفلها كرهاً وتضعه كرهاً، تلك هي صورة الحمل وخاصَّة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وآلامه، فالوضع عملية شاقَّة، ولكنَّ آلامها الهائلة كلَّها لا تقف في وجه الفطرة، ولا تُنسي الأم حلاوة الثمرة، ثمرة التلبية لفطرتها، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش وتمتد. ثمَّ تأتي مرحلة الرضاع والرعاية حيث تعطي الأم خلاصة غذائها لبناً سائغاً، وعصارة قلبها وأعصابها حباً ورعاية، لا تملُّ ولا تكلُّ، ولا تكره ولا تضجر، بل تؤدي واجبها فرحة سعيدة سعادة غامرة، وغاية ما تتطلع إليه من الجزاء أن تراه يسلم وينمو. وعلى الرُّغْم من عظمة هذا العطاء، نجد ظاهرة العقوق لا تزال متفشية في كثير من الأسر والمجتمعات، حيث يُقابَلُ فيها الإحسان بالإساءة، والمعروف بالمنكر، والفضل بالجحود، إلا أنه غالباً ما يكون هذا العقوق حصاداً لزرعٍ غرس بذوره الآباء، ونتيجة لأسباب يقع بها الكثير منهم إمَّا بشكل عفوي تقليدي، وإمَّا عن قصد وتعمُّد، ومن هذه الأسباب:


    1 ـ معاملة الآباء لأبنائهم بالأسلوب التقليدي الَّذي عوملوا به من قبل آبائهم، مدفوعين بدافع التقليد الأعمى، أو مهملين متجاهلين لِدَوْرِ المرونة الفكرية، الَّذي تتطلبه عملية التطور والتغيير، الَّذي يطرأ على المجتمعات والعلاقات الاجتماعية بمرور الأيام.
    2 ـ مخالفة الوالدين بعض القواعد التربوية الَّتي تشكل كبرى الدعامات لنشأة الأولاد نشأة سويَّة وسليمة. ومن الأمثلة على ذلك التفريق في المعاملة بين صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وعدم التسوية بينهم في الحقوق والواجبات، والعواطف والمشاعر. وفي هذا روى أنس رضي الله عنه : «أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبَّله وأجلسه على فخذه وجاءت ابنة له، فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا سَوَّيْتَ بينهما» (رواه البزار).


    فيكون مثل هذا السلوك الخاطئ سبباً في عقوق الأبناء لآبائهم من جهة، وفقدان روح المحبَّة والتعاون فيما بين الأبناء أنفسهم من جهة أخرى. وقد يتصف بعض الآباء بالقسوة الشديدة على أبنائهم، ويتعمَّدونإهانتهم وتحقيرهم ممَّا يؤدي إلى أسوأ النتائج السلبية، ونادراً ما يسلم الأبناء من الإصابة بالأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية والشخصية، الَّتي تكون ثمرة الأخطاء التربوية الَّتي يرتكبها الآباء في حقِّ الأبناء.
    3 ـ سيطرة الفكر المادي على العلاقة بين الأب والابن، وذلك حين ينظر الأب إلى أولاده على أنهم أفواه تلتهم أمواله، وتحرمه من التلذُّذ بها، والإنفاق منها على مُتَعِهِ وراحته، ويشتدُّ حرص الأبناء على أخذ حقِّهم الكامل من مال أبيهم، فيسعَوْن للحصول عليه عاجلاً للتمتع به كيفما شاؤوا.
    4 ـ شـعور الآباء بأن لهم دَيناً على أولادهم مقابل رعايتهم والسـهر عليهم، ومطالبتهم المتكررة لهم بردِّ هذا الجميل والعناية بهم، خاصَّة عند كبرهم وضعفهم.
    5 ـ الصراع الفكري الدائم بين الأجيال بسبب تطور العلوم والمعارف والعادات؛ حيث يُعْتَبَرُ الأب المُدافع الشديد عن الماضي الموروث، ويمثِّل الأبناء الجيل المتطلِّع إلى حاضر ومستقبل يوافق المعطيات الجديدة.
    لقد عالج الإسلام هذا الموضوع بشكل عقلاني ووجداني في آن واحد، فعاد بذاكرة الولد إلى أياَّمه الأولى، وإلى معاناة والديه وآلامهما في رعايته، وطلب منه بالمقابل أن يقدِّم لهما أحلى ما عنده من معاني الودِّ والوفاء. ويخلص الإسلام من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، إلى مرحلة النضج والرشد، مع استقامة الفطرة، واهتداء القلب وبلوغه أَشُدَّه ما بين الثلاثين والأربعين عاماً، حين تكتمل جميع القوى والطاقاتويتهيَّأ الإنسان للتدبُّر والتفكر في رويَّة وهدوء. وفي هذه السن تتَّجه الفطرة السليمة المستقيمة بنظرها واهتمامها إلى ما وراء الحياة الحاضرة، فتتدبَّر شؤون المصير والمآل، وهنا يصوِّر القرآن الكريم ما تختلج به نفس الإنسان وهو في مفترق الطريق بين شطر من العمر ولَّى، وشطر يكاد آخره يتبدَّى، فيتَّجه إلى الله يدعوه أن يعينه لينهض بواجب الشكر، وأن يرشده إلى صالح العمل وأن يصلح له ذريته، وهي رغبة القلب المؤمن في أن يستمر عمله الصالح في ذرِّيته، وأن يؤنس قلبه الشعور بأن في نسله من يعبد الله ويطلب رضاه. فالذرِّية الصالحة هي أمل العبد الصالح، وهي أحبُّ إليه وآثرُ عنده من الكنوز والذخائر، وأسعدُ لقلبه من كلِّ زينة. إن العمل الصالح يمتدُّ من الوالدين إلى الذرِّية ليصل الأجيال المتعاقبة بطاعة الله، روى أبو داود في سننه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلِّمهم أن يقولوا في التشهُّد: اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرِّياتنا، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك وأتـمَّها علينا».
    وجملة القول: إن حياة المؤمن تستقيم بأمرين اثنين؛ أوَّلهما عبوديَّته لله تعالى، وثانيهما الإحسان إلى الوالدين، وإلا فإنه يخسر إنسانيته الَّتي كرَّمه الله بها على كثير ممَّا خلق في هذا الكون
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    مكانة المرأة في الإسلام



    سورة الممتحنة(60)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ إذا جاءكَ المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شيئاً ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنين ولا يَقْتُلْنَ أولادهنَّ ولا يأتِينَ ببهتانٍ يفتَرِيْنَهُ بين أيدِيهِنَّ وأرجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ فبايعْهُنَّ واستَغْفِر لهنَّ الله إنَّ الله غفورٌ رحيم(12)}


    ومضات:


    ـ في هذه الآية تكريس لدور المرأة المؤمنة الموحِّدة، الطاهرة الشريفة الأمينة، المحافظة على حدود الله، المطيعة لأوامره. وفي مضمونها تشجيع لها لتأخذ دورها البنَّاء للنهوض بأعبائها تجاه المجتمع وأبنائه.
    في رحاب الآيات:


    كان المجتمع قبل الإسلام يمتهن كرامة المرأة، فلم تكن في نظره إلا مجرد أداة لإرواء الغرائز والإنجاب، فكان يوكل إليها جميع أعمال الخدمة، بينما يخص الرجل بالمزايا، فيعتبره السيِّد المطلق في أسرته، فهو للفروسية والقتال، وللحبِّ والشعر، وللزعامة والمفاخرة، أمَّا النسوة فما خُلقن إلا لخدمته وتأمين متطلباته. ثمَّ جاء الإسلام ليأخذ بيد المرأة، ويضعها في المكان اللائق بها، شريكة لا خادمة، أُمّاً مكرَّمة لا جارية، فحفظ لها كرامتها، وصان لها أموالها الخاصَّة بها، وكلَّف الرجل بالإنفاق عليها، سواءً كان أباً أو زوجاً أو ابناً، أو أخاً أو عماً أو خالاً؛ بحيث يكون كلٌّ من هؤلاء ملزماً بها في حال فقدان سابقه أو عجزه. وبالمقابل طلب منها التعهُّد بصيانة نفسها وتربية أولادها على مكارم الأخلاق، وأن تكون مؤمنة موحِّدة، طائعة في مرضاة الله، وبذلك حقَّ للصحابيات المؤمنات التشرُّف بمبايعة النبي الكريم، مع ما في ذلك من إقرارٍ بقيمتهن في المجتمع، وبدورهن في المحافظة على بنيته طاهرة نظيفة من كلِّ دنس. تلك البيعة الَّتي كانت عهداً على صيانة المقوِّمات الأساسية لبناء العقيدة والمجتمع وهي:


    1 ـ عدم الشرك بالله.
    2 ـ عدم ارتكابهن ما يُخِّل بأمانتهن وشرفهن كالسرقة والزنا.
    3 ـ عدم قتل الأولاد، بما في ذلك الإجهاض دون مبرر شرعي، فهنَّ مؤتمنات على ما في أرحامهن.
    4 ـ ألاَّ يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم، وأن يحافظن على العفة صيانةً لأنفسهن ولأُسَرهن.
    5 ـ ألاَّ يعصين الرسول صلى الله عليه وسلم في معروف، وهذا يشمل العهد بطاعته في كلِّ ما يأمرهن به، وهو لا يأمر إلا بمعروف. أخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: «كان فيما أُخِذَ على النساء من المعروف ألاَّ يَنُحن، فقالت امرأة: لابدَّ من النَّوْح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن كنتن لابدَّ فاعلات فلا تخمشن وجهاً، ولا تخرقن ثوباً، ولا تحلقن شعراً، ولا تَدْعُنَّ بالويل، ولا تقلن هجراً إلا حقاً».
    فلما بايعت النساء على هذه الأسس الخمسة قُبلت بيعتهن، واستغفر الرسول لهن عما سلف. أمَّا كيفية البيعة، فقد أخرج ابن سعد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثمَّ يغمسن أيديهن، فكانت هذه بيعته.
    سورة التحريم(66)
    قال الله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذين كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتا تحت عبدين من عبادِنا صالِحَيْنِ فخانَتَاهُمَا فلم يُغنيا عنهُما من الله شيئاً وقيلَ ادخُلا النَّارَ مع الدَّاخلين(10) وضَرَبَ الله مَثَلاً للَّذين آمنوا امرأةَ فرعونَ إذْ قالتْ ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنَّة ونجِّني من فرعونَ وعَمَلِهِ ونجِّني من القومِ الظَّالمين(11) ومريمَ ابنةَ عِمْرانَ الَّتي أحصنَتْ فرجها فنفخنا فيه من روحِنا وصدَّقَتْ بكلماتِ ربِّها وكُتُبهِ وكانت من القانتين(12)}
    ومضات:
    ـ إن هذا النص القرآني يسلِّط الضوء على نموذجين متناقضين من النساء، وهذا التناقض بينهما قائم على أساس التناقض بين الكفر والإيمان. يتجسَّد النموذج الأوَّل بزوجتي نَبِيَّيْن صالحين هما نوح ولوط عليهما السلام، عاشت كلٌّ منهما في بيت النبوة وتنعمت فيه، ولكنَّ الشقاء غلب عليهما فلم تنفعهما قرابتهما الجسدية للأنبياء شيئاً، ووقعتا في شرِّ أعمالهما وكفرهما.
    أمَّا النموذج الثاني فيتجلَّى بآسية زوجة فرعون، والصدِّيقة مريم العذراء؛ فالأولى عاشت في بيت فرعون مدَّعي الألوهية، وهي توحِّد الله وتعبده وتبتهل إليه ليخلِّصها منه ومن أعوانه الظالمين، والثانية لم تكن زوجة لنبي أو ابنة له، ومع ذلك فقد كانت عابدة، تقيَّة، ورعة، استحقَّت أن تكون أمَّ النبي الرسول عيسى المسيح عليه السلام. فالفرق ما بين النموذجين بيِّن شاسع، كالفرق ما بين عمليهما ومصيريهما.
    في رحاب الآيات:
    أي نوع من النساء تلك الَّتي عاشت في بيت النبوة والعلم والحكمة، وكانت زوجة النبي وشريكة حياته، لكنَّها لم تؤمن به ولم تستجب له، ولم تتعرض للنفحات الربَّانيَّة الَّتي كانت تُغدق عليه من غير انقطاع!. لقد جعل الله هذه المرأة الكافرة مثالاً يبيِّن به حال الكافرين الَّذين لم ينتفعوا بعظات النبيين والمرسلين، لظلمة قلوبهم، وسوء أعمالهم، وفساد نفوسهم، فكانت امرأة نوح وامرأة لوط، مثلاً بيِّناً على أن النسب والقرابة، لا يحولان بين الكافر وبين عذاب الله في الدنيا والآخرة؛ لقد كان جديراً بهما وهما في عصمة نَبِيَّيْن أن تنتفعا بهديهما، وتحصلا على ما فيه سعادتهما في المعاش والمعاد، لكنَّهما رفضتا ذلك، وارتكبت كلُّ واحدة منهما خيانة في حقِّ الدعوة والنبوة، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون، وأرشدت الثانية قوم لوط إلى ضيوفه ليكونوا هدفاً لمآربهم الخبيثة، فلم تدفع عنهما صلتهما بالنبيَّيْن شيئاً، وحاق بهما سوء عملهما، وستدخلان النار في زمرة داخليها جزاءً وفاقاً.
    وجعل الله تعالى زوجة فرعون، ومريم ابنة عمران نموذجاً رائعاً للمرأة الصالحة، فقد عاشت آسية بنت مزاحم زوجة فرعون في قصره، وهو راعي الكفر ومدَّعي الألوهية فلم تعبَأْ بكفره وتسلُّطه؛ بل فتحت قلبها للهداية فراح يشرب من مناهل الإيمان، ويحلِّق في أجواء التعبُّد لله الواحد الأحد العزيز القهار. فقد آمنت بموسى عليه السلام ولما بلغ ذلك فرعون أمر بقتلها، فدعت ربَّها قائلة: ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنَّة النعيم، وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه، ومن أتباعه الطغاة؛ فنجّاها الله من شره، ولم يضرَّها اتصالها به وهو زعيم الكافرين. وفي هذا دليل على أن سنن الله تقضي بألا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكلِّ نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ودعاؤها هذا وموقفها هما مثلٌ للاستعلاء على عَرَض الحياة الدنيا في أزهى صورة، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن سلمان رضي الله عنه قال: كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت تَرى بيتها في الجنَّة.
    وأمَّا مريم ابنة عمران العفيفة، الطاهرة الشريفة، الَّتي حفظت فرجها وصانته عن مقارفة الفواحش، وآمنت بشرائع الله القدسية وكتبه، وكانت من الطائعات العابدات، حتى أثنى الله عليها لكثرةخشوعها وتضرُّعها، وتعبُّدها، ثمَّ أرسل جبريل الأمين إليها لينفخ في جيبها فحملت بعيسى عليه السلام، وأصبحت أُمّاً لرسول كريم.
    إن إفراد امرأة فرعون بالذِّكر هنا مع مريم ابنة عمران، يدلُّ على المكانة العالية الَّتي جعلتها قرينة مريم في الذِّكر، بسبب معاناتها وبلائها، فكلاهما نموذج للمرأة المتطهرة المؤمنة القانتة، يضرب الله بهما المثل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنات من بعدهن في كلِّ جيل. أخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل نساء أهل الجنَّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
    فكلُّ نفس رهينة بما اكتسبته في الدنيا؛ فلا القرب من الصالحين ينجي مع ارتكاب الذنوب، ولا القرب من العصاة يضر مع الامتثال والطاعة، فلتنظر كلُّ نفس ما قدمَّت لغدٍ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
    والخلاصة: أن الإسلام يقدِّم صوراً زاهية للقنوت وحسن العبادة من خلال امرأتين كريمتين، ولا يخفى على كلِّ ذي لبٍّ ما في هذا من تكريم للمرأة عموماً، حين يجعل منها مثلاً يُضرَب للمؤمنين، رجالاً ونساءً، ليحثَّهم على الاقتداء بهما.
    سورة النحل(16)
    قال الله تعالى: {وإذا بُشِّرَ أحدُهُمْ بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مُسْوَدّاً وهوَ كظيم(58) يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّرَ به أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرابِ ألا ساءَ ما يحْكُمون(59)}
    ومضات:
    ـ لو نظر الوالد إلى ابنته الوليدة بعين البصيرة والتدبر، لرأى فيها وجه أمِّه الَّتي احتضنته وأحسنت إليه، ورأى فيها أمَّ المستقبل، الَّتي في حجرها يستمر النوع البشري ويتواصل، ولشعر بالسرور الغامر، لأنه يمكنه من خلال ابنته أن يتابع رسالة البناء والإعمار بحُسن تربيتها وتزويدها بالعلوم والفضائل.
    في رحاب الآيات:
    إن نظام الحياة قائم على قانون الزوجية، ومن التزاوج بين الذَّكر والأنثى يستمر النسل وتتكاثر الأحياء. وإذا ما تأمَّلنا عالم الحيوان، وجدنا الذَّكر منه يتعاون مع الأنثى، ويرعى أولاده من الجنسين، ويذود عنهما بخوف واندفاع واحد، وبدرجة اهتمام واحدة، فلا فرق عنده بين ذكر وأنثى. فما بال الإنسان يتمرَّد على قانون الله، وينحطُّ في هذا الشأن إلى رتبة دون رتبة الحيوان، فيتألَّه على الله يحيي ويميت، يستحيي الذكور ويقتل الإناث، لا لشيء إلا لأن مجتمعه ينبذ الإناث ويفضِّلُ الذكور، ولأن العُرف الجائر يقضي بمثل هذا الظلم والتعسُّف الَّذي يهدر قيمة الإنسان، الَّتي رفعها الله وأعلى قدرها، فقال: {ولقد كرَّمنا بني آدم..} (17 الإسراء آية 70).
    وقد درج المجتمع البشري القديم بأَسْرِهِ، بما في ذلك اليونان والرومان، على إهانة المرأة، فَعَدَّها بعضهم مخلوقة من نسل الشيطان، وَعَدَّها بعضهم الآخر خادمة للرجل السيِّد وجارية عنده، وكانت بعض القبائل العربية في المجتمع الجاهلي تَئِد البنات، فيدفن الأب ابنته في التراب عقب ولادتها خشية العار. فجاء الإسلام ليردَّ لها كرامتها، ويُبدِّل ظلمة قلوب الناس إلى نور وَضَّاء، ويحيل قسوتهم تجاهها رحمة؛ فهذا كتاب الله يأتي بالقول الفصل في قضية الدفاع عنها، ويغوص في أعماق العالم الداخلي للإنسان الجاهلي ليشعره بالخجل من فعلته، ويرصد حركاته الداخلية والخارجية رصداً دقيقاً، فهو حين يُبشَّر بالأنثى يَعَدُّ ذلك نعياًيعود عليه بالعار والذل بين قبيلته، فتنقبض أسارير وجهه، ويتقطَّب جبينه، ثمَّ يَنْسَلُّ من بين الناس وكأنه لصٌّ يخشى أن يُضبط متلبِّساً بجريمته، حتى إذا انفرد بنفسه، وقع فريسة صراع نفسي لا أقسى ولا أمر، هل يحتفظ بالمولودة ويعرِّض نفسه للذل والعار بين أفراد قبيلته؛ لتعيش في بيته مقهورة ذليلة، لا ترث ولا تتمتع بأي امتياز يحظى به الذَّكر؟ أم أنه يلقي بحمله الثقيل في ثنايا التراب، فيدفنها ويدفن معها ما يظنه عاراً، مخمداً صوت الحياة الَّذي يصدح في صدرها؟؛ إنه في الحالتين مجرم آثم، لأنه لم يتقبَّل هبة الله بما تستحقُّ من التكريم وحسن الوفادة. إن ما يفعله هذا السفَّاح اعتداءٌ على حقوق الله واستهانة بمخلوقاته، وخروج عن قوانينه، وقد قبَّح الله تعالى عمل هؤلاء وأظهـر فظـاعـة جـرمهـم بقولـه: {وإذا الموؤودَةُ سُـئِلَتْ * بـأيِّ ذنـبٍ قُتِلت} (81 التكوير آية 8ـ9). إن مجرد تصوُّر عملية خلق الإنسان في معمل الرحم، وكيف تتطور النطفة المهينة إلى إنسان سوي لجدير بأن يهز ضمير الإنسان، وأن يحفزه على احترام بذرة الحياة وهي تُصَنَّع في هذا المعمل العظيم، وتحمله على حُسن استقبالها حين تخرج إلى النور، فكيف يغتمُّ من يبشَّر بالأنثى، وهو لا يملك أن يخلق جناح بعوضة؟.
    وقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على العناية بالبنات، فورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهنَّ كُنَّ له ستراً من النار»، وأخرج أبو نُعَيم الحافظ من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له بنت فأدَّبها فأحسن أدبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نِعم الله الَّتي أسبغ عليه كانت له ستراً أو حجاباً من النار».
    والسؤال الَّذي يطرح ذاته هو: هل تعيش المرأة اليوم في عصر العلم، حياة أفضل من تلك الَّتي كانت مثيلاتها تعيشها في العصر الجاهلي؟ وهل تتمتع بالإنصاف والإحسان، فتُستَقْبَل الأنثى بالفرح نفسه الَّذي يستقبل به الذَّكر؟ الجواب: لا. فما زالت عقدة رعاية الأنثى تلاحق بعض الآباء وكأنها آفة، فمتى يَنْفُضُ هؤلاء عن عقولهم رواسب الجهل، ويعودون إلى القرآن العظيم ليستقوا منه نور الإسلام، ويؤمنوا بأن الحياة هي هبة الله المقدَّسة، الَّتي علينا أن نصونها وفق قوانين الله تعالى ومشيئته، وأن نكرِّم مخلوقاته وفق ما يُرضيه عنا، ليبقى للحياة الديمومة مع العزَّة والكرامة؟.
    سورة النحل(16)
    قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيِيَنَّهُ حياةً طيِّبةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أجرَهُمْ بأحسنِ ما كانوا يعملون(97)}
    ومضات:
    ـ ردَّ الإسلام للمرأة كرامتها، وحفظ لها حرمتها، وحثَّها على العمل البنَّاء المنتج، شريكة للرجل، في سبيل سعادة المجتمع ورقيِّه الأخلاقي والعلمي.
    ـ العمل الصالح المثمر هو ما اقترن بالإيمان، لأن ما كان من العمل لله دام واتصل، وما كان لغيره انبتَّ وانفصل.
    في رحاب الآيات:
    المساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل أمر طبيعي، لأن المكانة الاجتماعية لأيٍّ منهما لا تقلُّ أهمِّـيَّة عن الآخر، لذلك حثَّ الله تعالى كلا الجنسين على العمل المنتج، لما فيه خير المجتمع، وعدَّ ذلك من العبادة، وقد ساوى الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً بين المرأة والرجل في أمور كثيرة تُعَدُّ أسس الحياة الكريمة، وقوام الاعتبار الإنساني الرفيع في إثبات الحقوق وإيجاب الواجبات منها:
    1 ـ المساواة في الإنسانية، قال تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ اتَّقوا ربَّكُمْ الَّذي خَلَقَكُمْ من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زَوجَها وبَثَّ منهما رِجالاً كثيراً ونساءً..} (4 النساء آية 1).
    2 ـ المساواة في الخَلْق، فنفس الرجل ونفس المرأة سواء قال تعالى: {ونفسٍ وما سوَّاها * فألهمَهَا فُجورَهَا وتقواها * قدْ أفلحَ من زكَّاها * وقدْ خابَ من دسَّاها} (91 الشمس آية 7ـ10).
    3 ـ المساواة في حقِّ الحياة، لذا حرَّم الله تعالى وَأْدَ البنات فقال سبحانه: {وإذا الموؤودَةُ سُئِلَتْ * بأيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (81 التكوير آية 8ـ9).
    4 ـ المساواة في التكاليف الشرعية والتحلِّي بمكارم الأخلاق والثواب على ذلك، قال تعالى: {إنَّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصَّادقينَ والصَّادقاتِ والصَّابرينَ والصَّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدِّقينَ والمتصدِّقـاتِ والصَّائمينَ والصَّائمـاتِ والحافظينَ فروجَهُمْ والحافظاتِ والذَّاكرين الله كثيراً والذَّاكراتِ أعـدَّ الله لهم مغفرةً وأجراً عظيماً} (33 الأحزاب آية 35).
    5 ـ المساواة في التحذير من العقاب، قال تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفُسَكُمْ وأهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ..} (66 التحريم آية 6).
    6 ـ المساواة في فريضة العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» (رواه مسلم) وكلمة مسلم اسم جنس، وهي تشمل في اللغة العربية الذكر والأنثى.
    7 ـ المساواة في العقوبات كالزنا والسرقة، إذ لاتتغير العقوبة على أية جريمة باختلاف جنس الجاني، قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة} (24 سورة النور آية 2). وكذلك المساواة في القِصاص، فالرجل يُقتَل بقتل المرأة عمداً في الشريعة الإسلامية، كما يُقتَل بقتل الرجل، كذلك المرأة تُقتل بقتل الرجل عمداً، كما تُقتل بقتل المرأة.
    8 ـ المساواة في حقِّ العمل بما يتفق مع فطرتها ووظيفتها في الحياة، قال تعالى: {وقُلِ اعمَلوا فسيرى الله عملَكم ورسولُهُ والمؤمنون..} (9 التوبة آية 105).
    9 ـ إقراره لحقِّ المرأة في الميراث، قال تعالى: {للرِّجالِ نَصيبٌ مـمَّا تَركَ الوالدانِ والأقرَبُونَ وللنِّساءِ نَصيبٌ مـمَّا تَركَ الوالدانِ والأقربونَ مـمَّا قلَّ منه أو كَثُرَ نَصيباً مفْروضاً} (4 النساء آية 7).
    10 ـ المساواة في الأهلية لإجراء العقود وسائر التصرُّفات المالية القولية والفعلية: كالتبرُّع والصدقة والدَّين والوقف والبيع والشراء والوكالة والكفالة... إلخ.
    11 ـ المساواة في حقِّ التملُّك وأن يكون لها ملكيَّة منفصلة عن ملكيَّة الرجل، سواء كان أباً أو أخاً أو ابناً أو زوجاً أو غيرهم، وأن يكون لها حرية التصرُّف في هذه الملكية بمعزل عن سيطرة الرجل وخصوصاً الزوج.
    12- المساواة في الحقوق الاجتماعية مثل حقِّ البيعة بدليل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبيُّ إذا جَاءَكَ المـُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ …} (60 سورة الممتحنة آية 12). وكذلك حقُّ الإجارة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ بنت أبي طالب حين أجارت الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة: «قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمَّنتِ» (رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله ابن عكرمة). وينسحب على ذلك جميع الحقوق السياسية، طالما أن في وجود المرأة المناسبة تأدية الخدمات السليمة لمجتمعها.
    وبعد أن أعلن الإسلام موقفه الصريح من إنسانية المرأة وأهليتها وكرامتها، نظر إلى طبيعتها، وما تصلح له من أعمال الحياة فأبعدها عن كلِّ ما يناقض تلك الطبيعة، أو يحول دون أداء رسالتها كاملة، وخاصَّة دورها في الأمومة، ولهذا خصَّها ببعض الأحكام دون الرجل زيادة أو نقصاناً، كما أسقط عنها بعض الواجبات الدِّينية في ظروف معينة للغرض نفسه، وليس في هذا ما يتنافى مع مبدأ مساواتها بالرجل في الإنسانية والأهلية، والكرامة الاجتماعية، والحقوق والواجبات العامَّة، بل هو توفيق بين إمكاناتها وكفاءاتها من جهة، وظروفها من جهة أخرى.
    والآية الكريمة تقرِّر أن من يعمل صالحاً من كلا الجنسين، بشرط الإيمان، فله الحياة الطَّـيِّبة، والجزاء الأوفى عند الله تعالى، فالله جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب، لأنه لابدَّ له من قاعدة أصيلة يرتكز عليها وهي الإيمان بالله، وعلى غير هذه القاعدة لا يقوم بناء. والعقيدة هي المركز الَّذي تُشَدُّ إليه الخيوط جميعها، وهي الباعث على هذا العمل حتى تتحقَّق الغاية المرجوَّة منه. والعمل الصالح هو ما كان لوجه الله وطلب رضاه، ليس فيه هوىً ولا رياء، وجزاؤه حياة طيِّبة على هذه الأرض؛ وفي الحياة أشياء كثيرة تطيب بها: منها الاتصال بالله، والثقة به، والاطمئنان لرعايته وستره ورضاه، ومنها الصحة والهدوء والرضا والبركة، والرزق الحلال والكسب المشروع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: « اللهم قنِّعني بما رزقتني وبارك لي فيه، واخلُف عليَّ كلَّ غائبة لي بخير» (أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي).
    وهكذا نجد أنَّ لكلِّ عمل صالح جزاءً في الدنيا والآخرة، وأن الجزاء الطَّـيِّب في الدنيا لا ينقص من الأجر الحسن في الآخرة، بشرط أن نحتسب ما نعمل لوجه الله تعالى، وأن نؤمن أن ما نقوم به من عمل هولمصلحة الجماعة وبدافع حبِّ الآخرين، فلا فائدة من مؤمن منغلق على نفسه، منعزل عن أمَّته، لا يشاركها همومها وأفراحها، ولا يمدُّ لها يد العون متكاتفاً مع إخوانه لأن: «الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه» (رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    بناء الأسرة في الإسلام
    سورة الروم(30)
    قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكم من أنفسِكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إليها وجَعَل بينَكُمْ مودَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرون(21)}
    ومضات:
    ـ جعل الله تعالى للرجل والمرأة دورين متكاملين يتمِّم أحدهما الآخر، ولا يطمئن أحدهما إلا بالآخر، ولا يزالان في قلق واضطراب حتَّى يلتقيا ويدخلا معاً مجتمع السكينة والطمأنينة. وطبقاً لهذه العلاقة التكاملية يمكن للبيوت أن تشاد، وللأسر أن تزدهر، وللمجتمعات السعيدة أن تؤسَّس.
    ـ الأسرة تَجمُّع مقدَّس له غايات سامية، طالما حرص الإسلام على إبقائه قوياً متماسكاً، يحقِّق أهدافه ويصمد أمام الطوارئ والأحداث.
    ـ الغاية من بناء الأسرة إنجاب النسل الصالح، وحصول السَّكَنِ النفسي بين الزوجين، وانسجام أفراد الأسرة في ظلال شرع الله الخالد.
    ـ الأسرة الَّتي تُبنى على قواعد الإسلام الحقيقية، هي أسرة باقية مدى العمر لا تنفصم عراها ولا تنحل أوصالها.
    ـ يحافظ الإسلام على الحقوق المتبادلة بين الزوجين، ويربِّي كلاً منهما على احترام حقوق الآخر، والاكتفاء بالحقوق الشرعية الَّتي منحها له شرع الله.
    ـ لا يُلجأ إلى الطلاق إلا في الحالات النادرة، وعندما تصبح الحياة بين الزوجين عقيمة لا تحقِّق غايتها، عندها يأذن الشرع بإيقاع الطلاق؛ لتجد الزوجة رجلاً آخر تتعاون معه على تحقيق أهداف الإسلام من الزواج، وليجد الرجل امرأة يتعاون معها على بناء أسرة سليمة.
    في رحاب الآيات:
    الأسرة كيان مقدَّس في نظر الإسلام، وهي اللَّبِنَة الصالحة الأساسية في بناء المجتمع الإنساني السليم، ولهذا أَوْلَى الإسلام بناءها عناية فائقة، وأحاط إنشاءها بأحكام وآداب تكفل أن يكون البناء متماسكاً قويّاً، يحقِّق الغاية الكبرى من وجوده. إن الزواج الإسلامي هو بداية الطريق، فالحياة الزوجية في الإسلام علاقة شرعية مقدسة، قَلَّ من يلتزم شرع الله فيها، ويراعي حقوقها وواجباتها؛ نتيجة للجهل بأحكامها وآدابها أو تجاهل ذلك، لذا فإن كثيراً من المشكلات والأزمات تحدث بين الزوجين، فتتعرض الأسرة إلى هزَّات عنيفة، قد تؤدِّي إلى زعزعة أركانها وانفصام عراها. ونحن بإزاء آية كريمة تُشِعُّ نوراً وتنطق حكمة، فهي تقرِّر أن المرأة آية من آيات الله تعالى، خلقها من جنس الرجل لأن المجانسة من دواعي التآلف، والمخالفة من أسباب التباعد والتنافر، ولقد خلقها الله تعالى لتكون زوجةً له وسكناً لقلبه، والسكن أمر نفساني، وسر وجداني يجد فيه المرء سعادة تشمل جميع أجزاء حياته، وهذا من الضرورات المعنوية الَّتي لا يجدها الرجل إلا في ظل المرأة. ولا يخفى أن ما يجده الرجل في المرأة تجد المرأة نظيره في الرجل، وما لم يكن هناكسكن ومودَّة ورحمة بين الزوجين، فإن الخلل يصيب الحياة الزوجية، ولابدَّ من إصلاحه؛ لتعود تلك الحياة إلى المنهج الإلهي، فتعود إليهما المكافأة الربانيَّة العاجلة من الألفة والمحبَّة، والتفاهم والتعاون على النهوض بأعباء المسؤولية الزوجية. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن معنى {مودَّة ورحمة}، فقال: (هي التنازل عن حقوقك)، فأنت عندما تحبُّ إنسانا تتغاضى عن هفواته وعثراته.
    وبهذا التصوير يضع القرآن الكريم أسس الحياة العاطفية الهانئة الهادئة؛ فالزوجة ملاذ الرجل يأوي إليها بعد جهاده اليومي في سبيل تحقيق العيش الحر الكريم، والركن الَّذي ينحاز إليه بعد كدِّه وجهده، فيأنس بها ويفضي إليها بآلامه وآماله، فتكون له خير مواسٍ ومعين، وتكون من الزوجات اللواتي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنهن عندما قيل له: «أيُّ النساء خير؟ فقال: الَّتي تسره إذا نظر إليها، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» (رواه أصحاب السنن). فحقُّ الزوج على زوجته أن تتلقَّاه كلَّ يوم فَرِحَةً مرحة، طلقة الوجه، مبتسمة الثغر، نظيفة الجسد، طيِّبة الرائحة، لا يشمُّ منها إلا طيِّباً، ولا يرى منها إلا جميلاً، ولا يسمع منها إلا عذب المنطق وطيِّب الحديث، فتستحقُّ بذلك رضوان الله فضلاً عن مرضاة زوجها، لما جاء في الحديث الشريف: «إن الله يحبُّ المرأة البَزِغَة المَلِقة» (رواه أبو نعيم في الفردوس عن الإمام علي كرَّم الله وجهه). والبَزِغة هي المتزينة لزوجها حتَّى تبدو كالشمس في بزوغها وإشراقها، أمَّا المَلِقة فهي الَّتي تتودَّد له بحسن الكلام وجميل الفعال.
    وكما يفرض الإسلام للزوج على زوجته حقوقاً ويضع عليها واجبات، فكذلك يجعل للنساء على أزواجهن حقوقاً ويضع عليهم واجبات، فخير الرجال خيرهم لزوجاتهم، والسعيد من الأزواج من يجعل من امرأته صديقاً له بكلِّ ما في هذه الصداقة من معنى؛ والسبيل إلى ذلك حسن المعاملة الَّتي نص عليها قول الله تعالى: {..وعاشِروهُنَّ بالمعروف..} (4 النساء آية 19) ومن المعروف احترامها، ومراعاة حقوقها ومشاعرها لِتُبادِلَه حسن العشرة؛ فتحترم مشاعره، وتقدِّره حقَّ قدره، وتوفِّر له أسباب الراحة والطمأنينة، والأُلْفة والمودَّة، فيَشيع في البيت جوٌّ من الاستقرار النفسي، ويخيِّم على الجميع التوادد والتراحم، وتتحقَّق بهذا، الغاية المرجوَّة من الزواج فيكون زواجاً سعيداً.
    أمَّا الزواج الَّذي لا يقوم إلا على المتعة الجسدية، فإنه لا يستحقُّ أن يسمَّى زواجاً؛ لأن السعادة في الحياة الزوجية تقوم على أساس أعمق وأبعد من هذا، إذ أنها ثمرة رباط روحي وقلبي قبل أن يكون رباطاً جسدياً. وقد اقتضت حكمة الله خَلْقَ كلٍّ من الجنسين على نحو موافقٍ للآخر، مُلَبياً لحاجاته الفطرية والنفسية، والعقلية والجسدية، بحيث يجد عنده الراحة، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء والرحمة، فما أسعد المؤمن الحقيقي بزوجته المؤمنة وما أسعد المؤمنة الحقيقية بزوجها المؤمن.
    وانطلاقاً من هذا نرى أنَّ الإسلام أحاط الأسرة بتشريعات وأحكام متوازنة، يلتزم بها كلٌّ من الزوجين، ممَّا يكفل بناءها بناءً سليماً، كما قال الله تعالى: {..ولهنَّ مِثْلُ الَّذي عليهِنَّ بالمعروفِ..} (2 البقرة آية 228). ولقد توَّج الشارع الحكيم العلاقة الزوجية بعوامل الاستقرار والمودَّة، وهي مجموعة من الأخلاق الفاضلة والمُثُل العليا الكاملة، والَّتي تعتبر بحقِّ بمثابة حوافز دافعة لتحقيق قوله تعالى: {ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكُنوا إليها وجعلَ بينكم مودَّةً ورحمةً..}، وهي في الوقت نفسه ضوابط مانعة من التجاوز والتعسُّف والإساءة إلى الكيان المقدَّس (الأسرة).
    لقد أراد الإسلام للأسرة أن تكون كياناً راسخ القواعد والجذور شامخ البنيان، مثمراً الثمار المرجوَّة، منتجاً النتاج الطيِّب المبارك، لذلك سلك بالمجتمع الَّذي أراد بناءه؛ المنهج الأمثل لإقامة مجتمع إنساني على قواعد متينة من التآخي والتحابب والتعاون والإيثار، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى» (متفق عليه من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنه ).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    وما الأسرة في الإسلام إلا لبنة متماسكة متناسقة مع ما حولها من اللبنات في البناء القوي المتين، وبغية الوصول إلى هذه الغاية الجذَّابة الكبرى نهج المنهج التالي:
    1 ـ ربَّى أفراد الأمة رجالاً ونساءً على الإيمان، حتَّى أصبح امتثال أوامر الله واجتناب محرَّماته أحبَّ إلى المسلم من الماء البارد على الظمأ الشديد.
    2 ـ ألزم الأولياء باختيار الزوج الملتزم بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه، وهو وصف ينبغي أن يتحقَّق في الطرفين.
    3 ـ سمح للخاطبين بأن يرى كلٌّ منهما الآخر ويجلسا مع بعضهما ويتحدَّثا معاً، ممَّا يعطيهما الفرصة لتعرُّفِ الميول والرغبات الشخصية لكلٍّ منهما.
    4 ـ أمر كلاً من الزوجين بالإحسان إلى الآخر ومعاشرته بالمعروف.
    5 ـ عند حدوث خلاف بين الزوجين أمر باتِّباع مجموعة من الإجراءات تكفل العودة بهما إلى الحياة الزوجية المنشودة.
    6 ـ عندما يتعسَّر الاستمرار في العلاقة الزوجية بين الزوجين أَذِنَ بالطلاق ضمن قواعد وآداب وشروط تجعل منه علاجاً، بدل أن يكون عبُوَّة ناسفة تدمِّر كيان الأسرة.
    7 ـ عند انحلال عقدة الزواج ألزم كلاً من الزوجين بالتزامات تضمن الحقوق لكلٍّ منهما، وتمنع من التجاوز واختلاط الأنساب.
    إن الدارس للمنهج الإسلامي في العلاقات الزوجية لابدَّ أن يلمس في هذا المنهج الحقائق التالية:
    أوَّلاً: أثر تديُّن الزوجين في استقرار الحياة الزوجية، وأداء الأسرة لدورها الاجتماعي المنشود:
    إن الإسلام عقيدة تملأ القلب من نور الله وخشيته، وتحمل المؤمن على العمل بمقتضى منهجه وشريعته، وتغرس فيه أخلاقاً كريمة توطِّد صِلات المودَّة بين الناس، فتجعل علاقاتهم قائمة على الانسجام والتكامل لا على التنافر والتنازع.
    وانطلاقاً من ذلك نرى أن الزوجين المسلمين حَقَّ الإسلام، المؤمنين حَقَّ الإيمان، يسعيان معاً بكلِّ صدق وإخلاص إلى تطبيق مبادئ هذا الدِّين الخالد وقِيَمِه العليا في علاقاتهما اليومية.
    إن الزوج المسلم وكذا الزوجة المسلمة يعلم كلٌّ منهما منهج الإسلام الَّذي يحدِّد مسلك العلاقة بينهما، ومادام الإيمان قد ملأ قلبيهما، ومادامت خشية الله قد ملكت عليهما السمع والبصر والإرادة، فلابدَّ أن يسعيا لأداء الحقوق لأصحابها، وتنفيذ الواجبات الملقاة عليهما بل وفوق ذلك، فإن الزوج المسلم يرى في أداء حقوق زوجته باباً من أبواب طاعة الله والتقرُّب إليه، وترى الزوجة المسلمة في قيامها بواجباتها تجاه زوجها، قربة من القربات تتقرَّب بها إلى مرضاة ربِّها، وكلٌّ منهما يرى في الآخر أنه هديَّة من الله تعالى، فيحسن صنعاً بهديَّة الله، لأن إكرام الهديَّة من إكرام مهديها، وإهانة الهديَّة إهانة لمن أهداها.
    وهكذا نرى أن العلاقة الطيِّبة تنمو بينهما باستمرار، وتزدهر بعيداً عن كلِّ ما يعكِّر صفوها، بل إن الفتور لا يجد في هذا الجدار المنيع ثغرة ينفذ من خلالها إلى حياتهما، وأن حرارة المودَّة تنبع من الإيمان الَّذي ملك عليهما السمع والبصر والتفكير، وهذا الإيمان في ازدياد مستمر يوماً بعد يوم.
    إن أسرة تقوم حياتها على هذه الأسس، وإن علاقة زوجية تحكمها مثل هذه المفاهيم، لهي أسرة بعيدة كلَّ البعد عن الظواهر المَرَضِيَّة الَّتي تنشأ في العلاقات بين الناس، الَّذين لا يلتزمون بهذه المبادئ ولا يعتقدون بهذه العقيدة، ولا يقدِّسون هذه القيم، حيث تسود الأهواء والأنانية بعيداً عن هدي الله وشرعه؛ وتبدأ المشكلة بنزاع خفيف لا يلبث أن يتطور ويستفحل أمره، حتَّى يأتي على الأسرة فيدمِّرها، لأن كلاً من طرفيه لا يحتكم إلى الشرع الَّذي يوازن بين الحقوق والواجبات، والَّذي وضع لنا الميزان لنُميِّز بين الخطأ والصواب؛ هذا الميزان الَّذي اعتاد الناس أن يستغلُّوه في حال تعرضت مصالحهم للخلل... ويتجاهلوه في حال تعرَّضت مصالح غيره للخلل... والأشد خطورة من ذلك محاولة ـ بل وأحيانا ـ الإصرار على فلسفة الخطأ لإظهاره صوابا، بغية التمادي فيه... إننا في مثل هذه الحالة نجد أن هذا الطَّرَفَ أو ذاك أو كليهما أسير شهواته ورغباته الذاتية على حساب حقوق الطرف الآخر، وهنا يكمن الخطر، وهذا هو منبع الشر، لاسيَّما وأن الشيطان يجد في هذه البيئة ضالَّته المنشودة، فيزيِّن للمبطل باطله، ويعميه عن الحقِّ ولوازمه، فإذا هو قد ضل وسلك منهج الباطل بعيداً عن منهج الحقِّ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً ويحقِّق مكسباً، ولا يدري أنه يسعى إلى شقائه الَّذي يلازم حياته ولا يفارقه؛ فيشعر بقلق دائم واضطراب مستمر ونزاع شديد مع الزوجة والأولاد والأهل والجيران، كلُّ ذلك نتيجة الإعراض عن هدي الله عزَّ وجل. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، إذ أن أمر الدنيا مهما عظُمَ فهو يسير، لأن الحياة فيها مؤقتة، لكنَّ الحقيقة الَّتي لا مراء فيها، أنَّ وراء هذه الحياة الأليمة الحاضرة، حياة أخرى دائمة أشد إيلاماً وأكثر عذاباً، مصداق قوله تعالى: {ومن أعرضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضَنْكاً ونحشرُهُ يومَ القيامةِ أعمى * قال ربِّ لِمَ حشـرتني أعمى وقد كنتُ بصيراً * قال كذلكَ أتتكَ آياتُنا فنسيتَها وكذلك اليومَ تُنسى} (20 طه آية 124ـ126).
    إن هذه المعاناة الَّتي يعيشها كثير من الناس، إنْ هي إلا صفَّارة إنذار تنبِّه الغافل عن الحقِّ، لأن يثوب إلى رشده ويعود إلى جادَّة الشرع الإلهي المُسْعِد. وفي الطرف الآخر حيث شَرْعُ الله وآدابُ الإسلام؛ يتعلَّم الزوجان سعة الصدر والصفح والمسامحة والإغضـاء عن الهفـوات، فإذا لمـس أحدهمـا من صاحبـه تقصيراً غيـر متعمَّد في واجباته ـ لاسيَّما إذا كان بسبب ظروف قاهرة ـ تجده قد صبر وسامح وتنازل عن حقِّه،وبذا يغلق الباب في وجه الخصومات والمنازعات، ويفسح المجال واسعاً لتعايش قائم على الوفاق والأُلفة والتعاون والوفاء، لا على الشقاق والنُّفْرة والتعسُّف والخيانة.
    إنَّ أُسرةً تقوم علاقات الزوجين فيها على هذا النحو، هي أسرة جديرة بأن تظللها السعادة الدائمة، وأن تكون مرتعاً خصباً لتربية الأولاد على الفضائل والمكارم، وبذا تكون قد أدَّت رسالتها وحقَّقت الهدف الأسمى من إنشائها، ألا وهو إمداد المجتمع بأفراد صالحين، وإعدادهم لتحمُّل المسؤولية، وليكونوا خلَفَاً صالحاً يرثون منهج أسلافهم الصالحين، وبذلك تدور رحى الحياة البشرية في الاتجاه الصحيح، وتسير قافلة الحياة على الطريق الآمن السويِّ، لتصل بعد أن تقطع المسافة المحدَّدة إلى السعادة الأبدية.
    ثانياً: الأساس الصالح لاختيار كلٍّ من الزوجين صاحبه:
    كثيرة هي الأمور الَّتي تُراعى عند اختيار أحد الزوجين لصاحبه، ولكلٍّ من هذه الأمور دوره في تحقيق مطلب من مطالب الزواج، وقد لخَّص النبي صلى الله عليه وسلم هذه المطالب وردَّها إلى أربعة أمور فقال:«تُنكَح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدِّين ترِبت يداك» (متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ). ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر واحدة من هذه الأمور الثلاثة الأُوَل، فلكلٍّ منها دوره في إسباغ الراحة النفسية على كلٍّ من الزوجين، لكنَّها لا تقدِّم ولا تؤخِّر في بعث الهمَّة والإرادة والتصميم على الوفاء بالحقوق الَّتي لأحدهما على الآخر، بل ربَّما كانت عاملاً مثبِّطاً لهذه الناحية الأساسية في العلاقات الزوجية، فكثيراً ما يدفع التباين الجمالي بين الزوجين وكذا التباين المادي أو الاختلاف في المستوى الاجتماعي، إلى التعالي من قِبَل من يرى أنه مَحْظِيٌّ بقسط أوفر من هذه الأمور؛ فتسوء العلاقة ويحدث الخصام والنفور.
    إن العامل الأساسي الَّذي لابدَّ منه في الزوجين هو عامل الدِّين والالتزام بأحكام دستور الله الخالد، وسنة النبي المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام، فهذا الالتزام هو الكفيل بإضفاء السعادة عليهما لأنه سيطبع المواقف والأقوال والأفعال بطابع الحقِّ؛ والحقُّ هو مطلب كلِّ مؤمن صحيح الإيمان.
    إن كلاً من المال والجمال والمستوى الاجتماعي مُعرَّض للتبدُّل والتغيُّر، فكم انقلب الجمال قُبْحاً إن لم تزيِّنه الفضائل، وكم حلَّ الفقر مكان الغنى، والضَّعَةُ الاجتماعية مكان الرِّفعة، وبقي لهذا الإنسان الخلق الذميم والسلوك المنَفِّر. لكنَّ الإيمان والتديُّن يزدادان يوماً بعد يوم، والخلُق الكريم المحبب يثلج صدر الزوجين بالراحة النفسية والاطمئنان والتمتع بالحقوق الَّتي يقدِّمها مَنْ عليه هذه الواجبات، رضيَّةً بها نفسه، ورغبة في رضاء الله تعالى، وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى عندما أمر أولياء المرأة باختيار الرجل المتديِّن الخلوق فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» (رواه الترمذي عن أبي حاتم المزني).
    ثالثاً: أساس التعامل بين الزوجين في الإسلام:
    إن القاعدة الأساسية الَّتي ينبغي أن تنطلق منها العلاقات بين الزوجين هي قوله تعالى: {..ولهنَّ مِثْلُ الَّذي عليهِنَّ بالمعروفِ وللرِّجالِ عليهِنَّ درجةٌ..} (2 البقرة آية 228) فلكلٍّ منهما حقوق، وعليه واجبات، وينبغي أن يؤدِّي واجباته فلا يفرِّط فيها، ولا يطلب زيادة على حقوقه متجاوزاً حدوده. أمَّا الدرجة الَّتي للرجال على النساء فهي درجة الإشراف والقوامة على شؤون الأسرة، وتحمُّل المسؤولية المالية، وليست درجة تشريف أو تمييز بين حقوقه وحقوقها، وهذه الدرجة هي الَّتي أهَّلت الزوج لأن يُخَاطَب بأمر الله ويُسْتَوْدَعَ أمانته سبحانه حيث أمر الرجل قائلاً: {..وعاشِروهنَّ بالمعروف..} (4 النساء آية 19) والمعروف هو كلُّ ما عُرِفَ حُسْنُهُ ونفعه، ونقيضُهُ المنكر وهو كلُّ ما استُنْكِرَ إثمه وضرره.
    إن المعاشرة بالمعروف تدخل في كلِّ تصرف وكلِّ كلمة تدور بين الزوجين إلا أنَّ أظهرَ مظاهرها ما يلي:
    1 ـ تأمين جميع حوائجها العاطفيَّة والروحيَّة والماديَّة، من طعام وشراب وكساء ومأوى ودواء وغير ذلك في حدود طاقته ووسعه، على أن لا تقل عن حد الكفاية، قال تعالى: {..على المُوسِعِ قَدَرُهُ وعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ..} (2 البقرة آية 236) وقوله تعالى: {لينفقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ..} (65 الطلاق آية 7).
    2 ـ إحسان القول والمعاملة وعدم الإساءة إليها بأيِّ شكل من أشكال الإساءة.
    3 ـ الحفاظ على دينها وشرفها وعدم تعريضها للفتنة والانحراف.
    4 ـ حثُّها على حضور مجالس العلم والإيمان لتغذية عقلها بالعلم وقلبها بنور الإيمان.
    5 ـ حثُّها على أداء فرائض الله واجتناب محارمه.
    6 ـ عدم تكليفها من الأعمال ما لا تطيق ومساعدتها إذا لزم الأمر.
    7 ـ التوسعة في الإنفاق عليها وعلى سائر أهل بيته، لاسيَّما في مناسبات الأفراح والأعياد ضمن حدود الشرع وحدود طاقته.
    8 ـ الحفاظ على مالها وممتلكاتها وعدم التدخُّل في شؤون ذلك إلا بإذن منها.
    رابعاً: علاج الشرع للخلافات الزوجية:
    إن أسرة تسير في حياتها وسلوكها وفقاً لمنهج الله هي أسرة سعيدة مهما قلَّت ذات يدها، وهي أبعد ما تكون عن الخلاف بين الزوجين، ولكنَّ الالتزام المطلق بكلِّ هذا المنهج، ربَّما لا يتيسر في بعض الأسر أو لدى بعض الأشخاص في بعض الظروف والأحوال، فإذا نشأ الخلاف بينهما فإن الإسلام وضع منهجاً محدَّداً واضحاً، إذا ما طبَّقه الزوجان على هذا الخلاف تلاشى بإذن الله وزال أثره، وعادت الحياة الزوجية بينهما إلى سابق عهدها من الوفاق والألفة. وفي هذه الحالة إمَّا أن يكون المشتكي هو الزوج أو الزوجة؛ فإذا اشتكت الزوجة تغيُّراً في علاقتها مع زوجها، فإن الإسلام يأمرها أن تحاول إصلاح ما بينها وبينه بحكمتها وحسن تصرُّفها، قال تعالى: {وإنِ امرأةٌ خافت من بعْلِها نُشوزاً أو إعراضاً فلا جُناحَ عليهما أن يُصْلِحا بينَهُما صُلْحاً والصُّلْحُ خيرٌ..} (4 النساء آية 128). وأمَّا إذا أحسَّ الرجل من زوجته تغيُّراً في السلوك والمعاملة والخلق، ممَّا جعله ينفر منها ويشعر تجاهها بمشاعر الكراهية، فإن كتاب الله يأمره أن يستر ذلك فلا يشيعه، وفي الوقت نفسه يشكِّكه في هذه المشاعر ويصرف نظره إلى ما يرتضيه منها، ويبيِّن له أنه لا يدري ما ادَّخر الله له من الخير عندها، ويوجِّه نظره إلى لزوم المعاشرة بالمعروف حتَّى ولو كره منها بعض المواقف، قال تعالى: {..وعاشِروهنَّ بالمعروفِ فإن كرهتموهُنَّ فعسى أن تكرَهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً} (4 النساء آية 19)، فعلى الزوج أن ينزع من نفسه مشاعر الكراهية ويستبدلها بمشاعر المودَّة والتقدير للفضائل الَّتي تتحلَّى بها والمحاسن الَّتي تزيِّنها.
    وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يوجِّه الأنظار إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهي أن الكمال المطلق لله وحده، ولن يبلغ البشر درجة الكمال المطلق. فإذا رأى الزوج من زوجته أمراً لا يُسِر، فلا يجوز أن يغيب عن باله الأخلاق الكريمة الأخرى، والمزايا الفاضلة المتعدِّدة الَّتي تتحلَّى بها، فإذا ساءه شيء سَرَّتهُ أشياء، ولا يجوز أن يحمله ما يسوؤه منها وهو قليل، على الكراهية والبغض، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» (رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
    كلُّ هذا والرجل يكتم عن زوجته ما في نفسه ولا يبوح لها بشيء، فإذا تأكَّد من أن الإساءة مقصودة وأن التفريط في حقوقه ليس هفوة ولا خطأً عارضاً، فعليه أن يلجأ إلى قول الله تعالى: {..واللاَّتي تخافونَ نُشوزَهُنَّ فعِظوهُنَّ واهجروهُنَّ في المضاجعِ واضربوهُنَّ فإن أطعنَكُم فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلاً إنَّ الله كان عليّاً كبيراً * وإن خِفتُمْ شِقاقَ بينهِما فابعثوا حَكَماً من أهلهِ وحَكَماً من أهلها إن يُريدا إصلاحاً يُوفِّقِ الله بينَهُما إنَّ الله كان عليماً خبيراً} (4 النساء آية 34ـ35).
    إن الدارس لهذا النص القرآني لا يخفى عليه أنه قد بيَّن ما ينبغي فعله على الرجل الَّذي لمس الإساءة المتكرِّرة من زوجته، فعليه أن يصارحها بإساءتها بأسلوب لائق محفوف بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبيِّن لها ما يترتَّب على ذلك من معصية الله وتحمُّل الذنوب والسيئات، والَّتي ستجني ـ إن أصرَّت عليها ـ ثمارها من غضب الله وعذابه ما لا يطاق، وأن هذه الحياة الدنيا مؤقتة زائلة، وأن طاعة زوجها أوجبها ربُّها سبحانه، فإن أدَّت حقَّه فازت بالجنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا صلَّت المرأة خمسها وحَصَّنت فرجها وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنَّة شاءت» (رواه ابن حبان في صحيحه)، وعن أمِّ سـلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنَّة» (رواه ابن ماجه والترمذي والحاكم)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها قلت: فأيُّ الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمُّه». (رواه البزَّار والحاكم).
    إن علاج الرجل لأي ظاهرة مَرَضِيَّة في علاقته مع زوجته، وبهذا الأسلوب اللطيف، بعيداً عن مداخلات الآخرين كفيل برأب الصدع وإعادة الوفاق بينهما، لاسيَّما إذا ظهر من خلال هذا الحوار الهادئ الهادف البنَّاء، أن إساءة الزوجة كانت ردّاً على إساءة صدرت من الزوج عن غير قصد، فما أسرع عودة المؤمن عن خطئه إذا ظهر له ذلك الخطأ، وأمَّا إذا أصرَّت الزوجة على باطلها، وحملها الغرور على الاستمرار في الإساءة، فقد وجَّه القرآن الكريم الزوج إلى علاج آخر ألا وهو الهجر في الفراش.
    إن الهجر في الفراش إجراء علاجي ذو تأثير نفسي كبير على المرأة، حيث تجد تبدُّل الحال من إقبال إلى إدبار ومن مودَّة إلى جفاء. وإن المرأة العاقلة الَّتي ترى أن السعادة الَّتي كانت تلفُّ هذا البيت باتت مهدَّدة بالزوال، وأن المشاعر الطيِّبة والعواطف النبيلة الَّتي كانت تغمر علاقتها مع زوجها، قد اختفت وظهر مكانها ما يجرح العواطف ويبئس النفس، إن هذه الزوجة سُرْعان ما تتنازل عن موقفها وتهجر إساءتها وتعود إلى سابق عهدها وكريم خصالها المألوفة. فإذا فشل هذا العلاج السابق، وأصرَّت الزوجة على السير في الاتجاه الَّذي يرضي غرورها ويغضب زوجها وربَّها، فقد وضع الشرع الحكيم أمام الزوج أحد حلَّين لا ثالث لهما وهما، الضرب أو التحكيم:
    أمَّا الضرب فقد شرعه الله علاجاً لمشكلة، فإذا عرف الزوج مسبقاً ممَّا يعلم من نفسيَّة زوجته واستعدادها، أن ضربها لا يفيد في إصلاحها، بل قد يزيد النار ضراماً، فعليه أن لا يلجأ إليه بل يتجاوزه إلى الخطوة التالية ألا وهي التحكيم. ولابدَّ هنا من وقفة عند هذا العلاج، فقد ذكره القرآن الكريم في معرض ذكر وسائل إصلاح العلاقة بين الزوجين، فإذا علمنا أنه سيزيد الخلاف شدَّةً ويباعد ما بين الزوجين أكثر فأكثر، فإن الضرب والحالة هذه لا يكون مشروعاً.
    وحتَّى في الحالة الَّتي يجدي فيها الضرب، فإنه لم يُشَرَّع للانتقام، ولا ليروي الزوج المفجوع في علاقته مع زوجته غليله، في مخلوق جعله الله تحت إمرته. إن الضرب المشروع أقرب إلى الإيلام النفسي منه إلى التعذيب الجسدي، فاشتُرط فيه أن لا يترك أثراً على المرأة وأن لا يـضرب الوجه ولا يعنِّف، وقد مثَّل الفقهاء فقالوا: كأن يضربها بطرف ثوبه أو بشيء لا يؤذي ولا يؤلم ألماً مبرِّحاً.
    يذكر بعض المحدثين أن وفداً من النساء أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الضرب كلُّ واحدة منهنَّ تشتكي ضرب زوجها لها، فوجَّه النبي صلى الله عليه وسلم كلامه إلى أولئك الأزواج وأمثالهم، والَّذين لم يعرفوا حدود ما أباحته الآية، فعن إياس بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن (أي تجرَّأن) النساء على أزواجهنَّ، فرخَّص في ضربهنَّ فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهنَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أطاف بآل بيت محمَّد نساءٌ كثير يشكون أزواجهنَّ، ليس أولئك بخياركم» (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
    وواضح من الحديث أن الضرب لم يُبَحْ إلا لامرأة تجرأت على زوجها وتطاولت عليه، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ الَّذين يضربون زوجاتهم شرار الأمَّة وليسوا من خيارها. ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالقول إنما أَتبَعَ ذلك بالعمل، فهو خير من فَقِهَ كتابَ الله، فَعَلِمَهُ وطبَّقه وعَلَّمَهُ، ولم يثبت أنه ضرب امرأة قط، بل نجده صلى الله عليه وسلم أشد خوفاً من الله عزَّ وجل عندما أرسل جارية صغيرة في حاجة له، فلما أبطأت عليه خرج يتفقدها فوجدها تلعب ببهمة ـ شاة صغيرة ـ فاستدعاها وقال: «لولا خشية القَوَد ـ أي القصاص ـ لأوجعتك بهذا السواك» (رواه الإمام أحمد عن أم سلمة) وعلى ضوء هذه الحقائق ينبغي أن يفهم الرجال قضية ضرب الزوجات.
    وإذا لجأ الزوج إلى هذا العلاج فلم يُجْدِ في عودة الزوجة إلى جادَّة الحقِّ، وكذا الأمر إذا تجاوزه أصلاً فلم يلجأ إليه، وهو ما رغَّبَ به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، عندها ينبغي على الزوج ـ وفي هذا الوقت وليس قبله ـ أن يسـمح بتسـرُّب خبر خلافه مع زوجته خارج نطاق بيت الزوجية، أمَّا قبل ذلك فيجب أن يكون الخلاف بينهما محصوراً بين جدران البيت بعيداً عن مداخلات غيرهما، والَّذين قد يؤثِّرون فيه تأثيراً سلبياً فَيزيدون المشكلة تعقيداً. فإذا بلغت هذا الحد، ولم يفلح الزوج في محاصرة المشكلة ومعالجتها، فقد أمر الإسلام بأن يتولَّى العلاج شخصان حكيمان خبيران، أحدهما من طرف الزوج، والآخر من طرف الزوجة، حيث توضع أمامهما المشكلة بكلِّ حيثيَّاتها وأبعادها، ويحاولان الوصول إلى حلٍّ لها، فإن وجدا إمكانية لإعادة الوفاق والتفاهم بين الزوجين، فهذا بيت القصيد، وإن وجدا أن الخلاف عميق ولا يمكن إزالة أسبابه، أوصَيا بالطلاق، لأنه لا يمكن أن تستمر الحياة الزوجية في ظلال الخصام والتناحر والنزاع، لأن مثل هذه العلاقة لن تحقِّق أهداف الشرع من وجودها، والأولى الفصل بين هذين الزوجين، فلعل المرأة تجد رجلاً غيره تستطيع أن تتعاون معه على تحقيق مقاصد الزواج، ولعل الزوج يجد زوجة تتعاون معه، وبذلك يكون الطلاق خيراً على الطرفين وعلى المجتمع.
    خامساً: منهج الإسلام في الطلاق:
    أقرَّ الشارع الحكيم مبدأ الطلاق بعد أن أحاطه بقيود صارمة، حفاظاً على الأسرة من إساءة استعماله، وصيانةً لحقوق المرأة والأولاد من عبث العابثين من الرجال واستهتارهم. وأباح الله تعالى اللجوء إليه بعد استنفاذ فرص المصالحة كافَّة، وانقطاع الأمل من عودة المياه إلى مجاريها بين الزوجين، وعدم جدوى جميع الحلول العلاجية الَّتي وضعها للعودة بالزوجين إلى الوفاق والحبِّ والتفاهم. ولم يترك الله تعالى المتفارقَيْنِ يغرقان في صراعات نفسية داخلية؛ بل واسى الأنفس المكلومة وأمدَّها بشحنة من الأمل في قوله سـبحانه: {وإن يتفرَّقا يُغْنِ الله كُلاًّ من سَعَتِهِ وكان الله واسعاً عليماً} (4 النساء آية 130).
    فإذا وصلت العلاقات بين الزوجين إلى طريق مسدود، وأصبح الطلاق هو العلاج الوحيد للخروج من هذا المأزق العسير، فإن القرآن الكريم يخاطب هذا الرجل من خلال خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: {ياأيُّها النَّبيُّ إذا طلَّقتمُ النِّساءَ فطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصوا العدَّة واتَّقوا الله ربَّكُم لا تُخرجوهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يَأتِيْنَ بفاحشةٍ مبَيِّنَةٍ وتلك حدودُ الله ومن يتعدَّ حدودَ الله فقد ظَلَمَ نفسَهُ لا تدري لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً} (65 الطلاق آية 1) أي إذا عزمتم على طلاق النساء فطلِّقوهن لوقت عدتهن، وهذا يعني أن الزوج الَّذي سلك المنهج الَّذي حدَّده الإسلام للقضاء على الخلاف بين الزوجين، إذا وصل إلى هذا الحد فعليه أن يطلِّق إن أراد الطلاق طلقة واحدة، في طهر لم يمسها فيه، وهذا معنى لعِدَّتِهِنَّ، ولا يخفى أن الشرع الحنيف وضع في وجه الطلاق عقبة صعبة الاجتياز لأنه أبغض الحلال إلى الله تعالى؛ فحيث تكون المرأة مطلب الرجل ومبتغاه بعد امتناع عن المعاشرة الزوجية طول مدة الدورة الشهرية، ههنا يوقفه الشرع وقبل أن يقضي منها أربه ويقول له: إن شئت أصبت منها مطلبك، وعندها يمتنع عليك الطلاق إلى ما بعد دورة شهرية قادمة، وإن شئت آثرت الطلاق، وعليه فالرجل المسلم حَقَّ الإسلام لا يُقْدِم على الطلاق إلا بعد يأسه من زوال أسبابه.
    ولا يخفى أن توجيه الخطاب إلى الأمة الإسلامية من خلال الرسول صلى الله عليه وسلم أدعى إلى جلب الانتباه إلى هذا الحكم، والعناية به والالتزام بمضمونه من قبل الأمة.
    أمَّا ما يجري بين الناس من عدم الالتزام بهذا المنهج جملة وتفصيلاً، لا من حيث المراحل ولا من حيث الزمان ولا من حيث العدد، فهو ناتج عن ضعف الإيمان في نفوسهم، وهو في الوقت نفسه خروج عن مقتضى هذا المنهج وبُعدٌ عن هدي الله عزَّ وجل. وقد حدثت بعض الظواهر المَرَضِيَّة في هذا الشأن بين المسلمين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث طلَّق عبد الله بن عمر زوجته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها وإمساكها حتَّى تطهر، ثمَّ تحيض ثانية، ثمَّ تطهر، وعندها إن شاء طلَّق قبل أن يمسها، وإن شاء أمسكها بالمعروف. كما أنه حدثت حادثة أخرى وهي: «أن رجلاً طلَّق امرأته ثلاثاً دفعة واحدة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً بالمسلمين وهو مُغْضَب أشدَّ الغضب لدرجة أن غدا وجهه وردياً أحمر من شدَّة تأثُّره، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمَّ قال: أيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم»؟! (أخرجه النسائي عن محمود بن لبيد).
    ومع الإذن بالطلاق، ضمن هذه الشروط الَّتي قلَّ أن ينتهي الأمر بمن يراعيها إلى الطلاق، وعلى الرغم من ذلك كلِّه، لم يقطع الشرع الحنيف الأمل من عودة الوفاق بين الزوجين، فجاءت التشريعات لتثمر عودة الزوجين إلى الوفاق بعد الطلاق، وفي غالب الأحيان، حيث سمح بالطلاق ليكون تجربة يعيش فيها الزوجان، وخلال مدة العدَّة، وهي ثلاث دورات للعادة الشهرية؛ يعيشان حالة الفراق وهما قريبان من بعضهما في بيت الزوجية، كي ينظر كلٌّ منهما إلى ما يترتب على الفراق من آثار، فإذا وجد أن العودة إلى الوفاق أفضل كان بوسعهما الرجوع إليه فوراً، ولا يمنع منه أي مانع؛ بل إن التشريعات مهَّدت الطريق وهيَّأت الظروف لذلك.
    فهاهو ذا كتاب الله قد جعل الطلاق ثلاث مرات اثنتان رجعيتان والثالثة بائنة فقال تعالى: {الطَّلاقُ مرَّتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسان..} إلى أن يقول سبحانه: {فـإن طلَّقهـا فلا تَحِـلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه..} (2 البقرة آية 229ـ230).
    إن الطلاق الرجعي يعني أن الزوج المطلِّق يملك على زوجته المطلَّقة حقَّ إرجاعها إلى عصمته وعقد نكاحه ضمن مدة العدَّة متى شاء، دون قيد ولا شرط، ولا يحول بينه وبين استخدام هذا الحقِّ أحد، بل إن شرع الله الخالد، أمر الزوجة المطلَّقة هذه، أن تبقى طيلة مدة العدَّة في دار الزوج، حتَّى إذا غيَّرت موقفها أو غيَّر موقفه في أي وقت من ليل أو نهار تجد زوجها قريباً منها، ويجد زوجته قريبة منه، بعيداً عن مداخلات الأهل والأصدقاء وغيرهم من الفضوليين، وأكثر من ذلك فقد سمح للزوجة هذه، بأن تتصرف على نحو يشعر زوجها بوجودها وأنها مهيأة له كي يراجعها ويعود إلى سابق عهده معها، ولم يأذن بخروجها من دار الزوج، كما لم يأذن بإخراجها من قبل الزوج إلا إذا ارتكبت الفاحشة كما مر معنا قوله تعالى: {..لا تخرجوهُنَّ من بيوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أن يأتِينَ بفاحشةٍ مبيِّنة..}.
    وما كان هذا الحكم إلا مراعاة لهذه الناحية الإيجابية، وليكون العامِلَ?المساعد على اغتنام أي فرصة تسنح خلال مدة العدَّة لإعادة المياه إلى مجاريها، ولو كانت المطلَّقة بعيدة أو خاضعة لسيطرة الأهل، لفاتت هذه الفرصة، لذا نبَّه القرآن الكريم إلى هذه الناحية الهامة والنتيجة السارَّة، كما مرَّ معنا في قوله تعالى: {لا تدري لعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً}.
    وأمَّا ما نراه في المجتمعات الإسلامية اليوم، من مخالفات لهذه القواعد والأسس الواضحة، فما هو إلا فسق عن أحكام الشرع وصراطه المستقيم، وإن ما تعاني منه الأسر الكثيرة من المعضلات العائلية، ليس إلا نتاجاً خبيثاً، لهذا الفسق والانحراف والبعد عن الظلال الظليلة الَّتي يوفِّرها شرع الله تعالى ودينه القويم.
    فإذا أصرَّ الزوج على الطلاق على الرغم من جميع ما تقدَّم من الظروف والعوامل المساعدة على العودة إلى التفاهم، وانتهت العدَّة دون أن يراجع زوجته، تحوَّل الطلاق الرجعي إلى طلاق بائن، وتسمى هذهبالبينونة الصغرى إن كان الطلاق في المرة الأولى أو في المرة الثانية، وقد بيَّن كتاب الله تعالى هذه الحالة وأحكامها إذا ما أوشكت العدَّة على الانتهاء، فخاطب الرجل قائلاً له: {فإذا بلَغْنَ أجلَهُنَّ فأمسكوهُنَّ بمعروفٍ أو فارقوهُنَّ بمعروفٍ وأَشْهِدوا ذَوَي عدْلٍ منكم وأقيموا الشَّهادةَ لله ذلكُم يُوعَظُ به من كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ ومن يتَّقِ الله يجعلْ له مخرجاً * ويرزُقْهُ من حيثُ لا يحتسبُ ومن يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُهُ إنَّ الله بالِغُ أمرِهِ قد جعلَ الله لكلِّ شيءٍ قَدْراً} (65 الطلاق آية 2ـ3).
    ولا يخفى أن الحقَّ سبحانه وتعالى، قدَّم في الذِّكر الإمساك ترغيباً للزوج فيه، وأخَّر المفارقة تنفيراً له منها، كما أمر بالإشهاد على الأمر الَّذي اختاره، وأن يكون الشهود عدولاً أخياراً، لأن الزوج واقف على مفترق طرق، فإذا ولج في أحدها كان الشهود مثبتين لذلك المسلك. ثمَّ إن كتاب الله بيَّن أن هذه الأحكام والتشريعات يلتزم بها الَّذين ملأ الإيمان قلوبهم، فوجدوا في امتثال أمر الله ضالَّتهم المنشودة. وقد وعد الله من يطيع أمره ويجتنب نهيه بأن يجعل له من كلِّ همٍّ فرجاً، ومن كلِّ ضيق مخرجاً، وأن يرزقه الرزق الَّذي يرضيه من حيث لا يتوقع ولا يخطر له على بال، وهذا شأن كلِّ متوكِّل على الله معتمد عليه، فالله تعالى يكفيه مؤونة الصعاب الَّتي تلاقيه، ولا يستطيع أحد أن يَحُولَ دون ذلك، فهو سبحانه بالغ أمره الَّذي يريد فلا يفوته منه شيء، لكنَّ حصول ذلك مرهون بحلول الزمن الَّذي قدَّر الله حصوله فيه، في الوقت والمقدار والشكل المحدَّد. فإذا اختار الزوج المفارقة، وأصرَّ عليها، وآن أوانها بانقضاء العدَّة، ملكت المرأة أمر نفسها، وأصبح موضوع الرجعة إلى زوجها أكثر صعوبة، حيث يحتاج إلى عَقْدٍ جديد وَمَهر جديد، وبالتالي يحتاج إلى موافقة الزوجة، فإن لم يكن لها رغبة في العودة فلا يملك أحد أن يجبرها. ولا يخفى أن سماح الشرع بعودة الحياة الزوجية في مثل هذه الحال، يُعَدُّ عاملاً إيجابياً في التقليل من وقوع الطلاق أو الاستمرار فيه.
    فإذا تراجع الزوجان قبل انقضاء العدَّة، أو عُقِدَ بينهما عَقْدُ الزواج من جديد بعد انقضاء العدَّة، وعادا إلى الحياة الزوجية من جديد، فإن أوامر الشرع وأحكامه وآدابه الَّتي أمر أن تحكم العلاقة بين الزوجين، ينبغي الالتزام بها من قبلهما ثانية، فإذا تجدَّد الخلاف بينهما مرة أخرى بعد حين، فإن المنهج الَّذي طُبِّق في الخلاف السابق، ينبغي تطبيقه، فإذا فشلت مراحل العلاج كلُّها وآل الأمر إلى الطلاق؛ طُبِّق المنهج الَّذي أوصى به الشرع كما طُبِّق أوَّل مرَّة وهكذا. فإذا آل الأمر بهما إلى الحياة الزوجية من جديد، سواء كانت بالرجعة، إن حصلت من الزوج قبل انقضاء العدَّة، أم تمت بموجب عقد جديد ومهر جديد، فإن أوامر الشرع وآدابه يجب أن تراعى للمرة الثالثة في هذه الحياة الزوجية الجديدة.
    فإذا نشأ الخلاف للمرة الثالثة، كان للشرع رأي آخر وحكم مختلف، حيث يُوقِفُ الرجل ليقول له: اعلم أن إيقاع الطلقة الثالثة سوف يفصل بينك وبين زوجتك نهائيّاً؛ فإذا حصل الفراق، وقُدِّر لها زواج آخر، حيث رضي بها زوجها الجديد ورضيت به، فقد خسرتها ولن تعود إليك مرة أخرى، فإن طلَّقها الثاني وبتَّ طلاقها، أو مات عنها وانقضت عدتها في الحالتين، أبيح لها ولزوجها الأوَّل العودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد ومهر جديد، قال تعالى: {فإن طلَّقَها فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه..} (2 البقرة آية 230).
    إن هذا الحكم ولاشكَّ سوف يهزُّ الرجل هزّاً عنيفاً، فلا يوقع الطلقة الثالثة وفي نفسه أيُّ ميل نحو زوجته أو رغبة فيها أو حاجة إليها، فإذا كان فيه شيء من ذلك فلا يوقع الطلقة الأخيرة، لأنه يعلم أن وراءها ما وراءها، إذ أن اشتراط زواجها الثاني قبل أن تَحِلَّ له مرة أخرى ليس بالأمر اليسير، فلا تتقبله النفوس الكريمة ولا أصحاب المروءة من الرجال، وبذلك يضمن الشرع الحنيف عدم وقوع هذه الطلقة المفرِّقة نهائياً؛مادام هناك أي بصيص أمل في الاستمرار بينهما.
    ولا يخفى أن للشرع حكمةً بالغة في عدم السماح لهما بالزواج مرة رابعة، حيث أن أمراً جُرِّب ثلاث مرات وكانت نتيجته فاشلة في كلِّ مرَّة، فلا فائدة تُرجى من تجربة جديدة في ظل الظروف نفسها والمفاهيم ذاتها، وإن زواج هذه المرأة من زوج غيره، يكشف لها عن محاسن الزوج الأوَّل أو مساوئه، فإذا قُدِّر لها أن تنتهي علاقتها بالزوج الثاني ورغبت في زوجها الأوَّل ورغب بها، عادا بمفاهيم مختلفة وأفكار مغايرة، ويوشك أن يؤدم بينهما، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {فإن طلَّقَها (أي الزوج الأوَّل الطلاق الثالث) فلا تَحِلُّ له من بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه فإن طلَّقَها (أي الزوج الثاني طائعاً مختاراً دون تواطؤ من أحد وقد سبق ذلك حياةٌ ومعاشرة زوجية حقيقية كاملة) فلا جُنَاحَ عليهما (أي المرأة وزوجها الأوَّل) أن يتراجعا إن ظنَّا أن يُقيما حدودَ الله وتلكَ حدودُ الله يُبَيِّنُها لقومٍ يعلمون} (2 البقرة آية 230).
    أمَّا ما يفعله بعض الناس من الاتفاق مع رجل لا رغبة له في الزواج من امرأة بمثل حال هذه المرأة، ويَتمُّ الزواج محدَّداً بزمن معين كيوم أو يومين أو غير ذلك، ثـمَّ يطلِّقها، وبذلك يحصل الشكل الَّذي نصَّ عليه الشرع دون المضمون؛ فإن مثل هذا العمل حرام على الطرفين قطعاً، لأنه يُفَوِّت على الشرع هدفه من هذا التشريع، ألا وهو ردع الأزواج المستهترين عن إيقاع الطلقة الثالثة، والإبقاء على الحياة الزوجية، ودعوةٌ للزوجين إلى تجاوز الخلافات بينهما لصالح الأسرة والأولاد، وحثٌّ للمرأة الَّتي لا غنى لها عن زوجها ولا عن بيتها وأولادها، على أن تتجاوز عن بعض مطالبها لصالح الوفاق.
    إن عملية التواطؤ هذه ليست مشروعة ولا يُقِرُّها شرع ولا كرامة ولا عقل رشيد، ولا تميل إليها المرأة العفيفة الطاهرة الكريمة، فلا تقع إلا من أناس جاهلين تخلَّوا عن القيم السامية الَّتي يتحلَّى بها المسلم والمسلمة، ولهذا نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استنكر هذا الصنيع أشد الاستنكار، ولَعَنَ من يفعلُه ومن يُفْعَلُ من أجله، وشبَّه ذلك بمن يستعير تيس جاره لينزو على ماشيته، وساء مَثَلُ القوم الَّذين يشوِّهون شرع الله بهذه الحيل المخزية. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أخبركم بالتيس المستعار. قالوا بلى يارسول الله، قال: هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له» (رواه ابن ماجه). والمحلِّل هو الَّذي يتزوَّج أمثال هؤلاء النسوة بغية تحليلهن لأزواجهن، ولا غاية له سوى ذلك.
    وبَعْدَ أن ارتسمت في أذهاننا صورة الطلاق في الإسلام، نستطيع أن نقول: إن دين الإسلام هو دين كلِّ زمان وكلِّ مكان، فقد أوجد حلولاً واقعية مثالية للمشاكل الَّتي تظهر في ساحة الحياة الزوجية، وحثَّ على الحلم وضبط النفس، ولكنَّه في النهاية يترك صمَّام الأمان مفتوحاً تجنُّباً لحدوث الانفجار وتكَوُّن واقعٍ يجرح المجتمع جروحاً لا تندمل، ويشكِّل ضغوطاً تفوق احتمال الإنسان سواء كان الزوج أو الزوجة.
    إن أسباب حدوث الخلافات الزوجية عديدة ولا تكاد تحصى، ولو حاولنا التعمُّق في دراستها لوجدنا من الأهمِّية بمكان الوقوف عند بعضها وتحليلها، ومن هذه الأسباب:
    1 ـ عدم الدِّقة في اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر منذ البداية، فبعضهم يكتفيبمشورة الأهل، وبعضهم يكتفي بحسن المظهر والشكل الجميل، ناسياً أو متناسياً أن الَّذي سيعيش معه هو الخلق الجميل والطبع الحسن إضافة إلى الشكل، وقد أباح الشارع الحكيم للخاطبَيْن أن يجلسا معاً ويتحدَّثا مع بعضهما، ممَّا يعطيهما فرصة تَعرُّفِ الميولِ والرغبات وما تنطوي عليه نفس كلٍّ منهما من طباع، فعن أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة وإن كانت لا تعلم» (رواه الإمام أحمد في مسنده). وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما، «أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه خطب امرأة ليتزوجها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أَنَظَرت إليها؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم : انظر إليها؛ فذلك أحرى أن يؤدم بينكما»، أي أكثر عوناً على أن تقع المودَّة بينكما، وكما سمح الشرع للرجل فقد سمح للمرأة الَّتي تجلس في مجلس واحد مع من يخطبها، يتبادلان الكلام ويثيران الأسئلة الَّتي تكشف إجابتها عن مكنونات النفس والتفكير.
    2 ـ محاولة الأهل التدخُّل في الحياة الشخصية للزوجين، والعمل على فرض السيطرة والغلبة منذ البداية.
    3 ـ الفوارق الثقافية بين الزوجين، وخاصَّة جهلهما أو جهل أحدهما بأحكام الشريعة المطهرة، والابتعاد عن مجالس العلم والتربية الأخلاقية.
    4 ـ عدم إخضاع كلا الزوجين لدورات تربوية تشرح أهداف الزواج، وكيفية بناء عشِّ الحياة الزوجية المُثلى، ومراعاة كلٍّ منهما حقوق الطرف الآخر، وإدخال السرور إلى قلبه وإراحته نفسياً وحسِّياً؛ وكيفية خلق الجو المناسب لإرواء غرائزهما لدرجة الإشباع لكلٍّ منهما.
    5 ـ عدم تأهيل الأبوين بالعلم والخبرة، ليتمكنا من تربية أولادهما التربية الصالحة.
    6 ـ وجود طبائع سيئة متأصِّلة عند أيٍّ منهما، كالبخل والتعصُّب الشديد والغَيْرة الشديدة والتشبُّث بالرأي، ممَّا لا يدع مجالاً للتقارب والتوادد وحسن الانسجام.
    7 ـ كثرة الأولاد، وعدم محاولة ضبط الإنجاب، ممَّا يشيع في الأسرة نوعاً من اختلاط الأمور وضياع المسؤولية، والضغط الاقتصادي والتوتر العصبي، خاصَّة وأن كثيراً من الزوجات يعتقدن أن كثرة الإنجاب تمنع الرجل من التفكير بالطلاق أو تعدد الزوجات، وهنَّ في الوقت نفسه يُهملن أزواجهن بحجَّة العناية بالأولاد ورعايتهم.
    8 ـ إهمال كلٍّ من الزوجين أو أحدهما لمقتضيات النظافة والزينة، وحسن المظهر، وحسن التجمل لصاحبه، وعدم ارتداء الملابس المناسبة لكلِّ زمان ومقال.
    9 ـ عدم خبرة الزوجة في أصول تدبير المنزل، وعدم إتقانها لطهو الطعام ضمن الأطر الصحية، مع التوفير وعدم التبذير.
    إن أحد هذه الأسباب أو غيرها قد يكون كافياً لإشاعة جو من البغضاء بين الزوجين، وهنا يتدخل الشارع الحكيم ليضع حداً لهذا النزاع المستمر، ولا يترك الأهواء والرغبات المنحرفة تهدم صرح الأسرة وتزيل السعادة الزوجية، وقد وجدنا كيف أمر بتدخُّل أهل الخبرة والحكمة، من أقارب الطرفين، لدراسة أسباب النزاع، ومحاولة تقريب وجهات النظر وإسداء النصح والمشورة الطيِّبة، أملاً في زوال عواصف الكراهية والحقد والأنانية، وجلاء النفس وتطهيرها لمتابعة رحلة الحياة الزوجية بالحبِّ والتفاهم والوئام.
    وفي حال العجز عن الوصول إلى هذه النتيجة فلا مصلحة لأحد في بقاء هذه الأسرة، الَّتي عطَّل سوء التفاهم بين قطبيها مقاصد الزواج وأهدافه، فغدا جوُّها جحيماً لا يطاق، وأصبح الاستغناء عن اجتماع عناصر هذه اللبنة خير من بقائه.
    إن ممَّا لا يخفى على كلِّ ذي بصيرة وإنصاف، أن اللجوء إلى الطلاق وفقاً لقواعد الإسلام ومنهجه، هو خير علاج، لأن بقاء الزوجين على ما بينهما من الكراهية والبغضاء والنفور، ربَّما أدَّى بهما أو بأحدهما إلى الانحراف والسير في طريق الرذيلة والصِّلات المحرَّمة، بل ربَّما أدى بأحدهما إلى ارتكاب جريمة القتل أو جريمة الانتحار، ممَّا يترتب عليه أفدح الأخطار بالنسبة للزوجين اللَّذَيْنِ قد يتعرَّض المنحرف منهما للإصابة بالأمراض الجنسية الفتَّاكة، وبالنسبة للأولاد، حيث تفسد تربيتهم بسبب الإهمال والقدوة السيئة الَّتي يرونها في الشجار الدائم والخصام المحتدم بين الوالدين.
    إن عدم الطلاق في مثل هذه الحالات يعرِّض المجتمع أيضاً لأشد الأخطار حيث تكون لبنات بنائه لبنات هشَّة، قائمة على التنازع والتنافر لا على الألفة والمحبَّة والتعاون، وفي الوقت نفسه لا أمل له بروافد كريمة من مثل هذه الأسر، بل إن سوء التربية لهذه الروافد من البنين والبنات، هو المتوقع، وفي هذا ما فيه من الخسارة العظمى والطامَّة الكبرى للأمة. إن نظرة واحدة إلى المجتمعات الَّتي منعت الطلاق تكفي للبرهنة على واقعية هذا الكلام، فقد تفكَّكت فيها رابطة الأسرة ولا شيء يجمع بين أفرادها، وإنَّ مَنْعَ الطلاق يساهم بدور فعَّال في هذه النتيجة، وكم من حادثة انتحار في تلك المجتمعات وقعت وتقع والسبب المباشر أو الأهمُّ فيها هو عدم الإذن بالطلاق. إنَّ كلَّ ما تقدم يدعو جميع الأمم والشعوب إلى الاعتصام بحبل الله المتين، والعودة إلى حكم الفطرة، وهو ما تقضي به شريعة الإسلام، وقد أقرَّ بذلك كبار علماء الاجتماع في العالم وعلى مرِّ العصور والأزمان.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    سادساً: تَعَدُّد الزوجات:
    من الأمور الَّتي ترتبط بنظام الأسرة في الإسلام موضوع تعدُّد الزوجات. وقد أباح الإسلام التعدُّد حيث جاء ذلك في قوله تعالى: {وإن خِفتُم ألاَّ تُقسِطوا في اليتامى فانكِحوا ما طابَ لكم من النِّساءِ مثنى وثُلاثَ ورُباعَ فإن خِفتُم ألاَّ تَعدِلوا فواحدة..} (4 النساء آية 3).
    إن ممَّا لاشكَّ فيه ولا ريب أن الوضع الفطري الطبيعي بالنسبة للرجل أن تكون له زوجة واحدة، يختارها لتكون شريكة حياته، يتبادلان عواطف المحبَّة والوئام، ويتعاونان على إنشاء أسرة متماسكة قوية البنيان؛ لإنجاب النسل الصالح الَّذي يرفد المجتمع بأفراد صالحين، يرثون عن سلفهم مسؤوليات المجتمع، ويمسكون بأيديهم زمام الأمور، الَّتي كانت إلى عهد قريب في أيدي سلف كريم، فيكونون خير خلف لخير سلف.
    ولهذا كان الأولى أن يقتصر الرجل على زوجة واحدة، وهذا هو الغالب في المجتمعات الإسلامية حيث يقتصر معظم الرجال على زوجة واحدة، وفي الوقت نفسه، ليس له أيُّ صلة بغيرها من النساء؛ لأن الله تعالى حرَّم عليه الزنا؛ فهو عفيف طاهر واقف عند حدود الله. إلا أن الحياة لا تسير حسب الأحلام والمُثُل، فكثيراً ما يخالف واقعها تلك المثل والأحلام الجميلة، حيث نجد في الحياة الزوجية أموراً استثنائية وحوادث طارئة، ممَّا يجعل الرجل مضطراً إلى الزواج بأكثر من واحدة، ولو أن الشرع منعه من الزواج في مثل هذه الحالات فكأنما يدفعه إلى الرذيلة دفعاً، وشَرْعُ الله لا يأمر بالفحشاء ولا يحمل على فعل المنكر.
    إن نظرة سريعة نلقيها على المجتمعات الَّتي منعت التعدُّد المنضبط الطاهر المشروع، ترينا أن الناس قد مالوا إلى التعدُّد الفوضوي النجس الحرام، فلا تكاد تجد رجلاً يخلو من عدد كبير من الخليلات اللاتي يجتمع بهن على ما حرَّم الله، وإذا كان هذا في صفِّ الرجال فالصورة نفسها تتكرَّر في صفِّ النساء، ويؤكِّد هذا إحصائيات تُجرى بين وقت وآخر لعدد الأولاد اللاشرعيين، فالمؤشِّر البياني لذلك في تصاعد مستمر، مع ما ينتج عن ذلك من انتشار الأمراض الجنسية الفتَّاكة، وآخرها اكتشافاً وباء نقص المناعة المكتسبة، الَّذي تعارفوا على تسميته بالإيدز أو السِيدا والَّذي يهدِّد المجتمع البشري بأفدح الأخطار.
    إن الإسلام عندما سمح بتعدُّد الزوجات لاحظ مجموعتين من الحاجات الَّتي قد تدعو إلى التعدُّد، ومع ذلك قيَّده بعدد معين، مع إثبات كامل الحقوق الزوجية لجميع الزوجات، في حين أن الخليلة في المجتمعات غير الإسلامية ليس لها أيُّ حقٍّ من حقوق الزوجة. أمَّا المجموعة الأولى من الحالات الَّتي تدعو إلى تعدُّد الزوجات فهي حاجات شخصية فردية ومنها:
    1 ـ أن تكون الزوجة عقيماً لا تلد، وبما أن حُبَّ الأولاد غريزة في النفس البشرية، لذا فإن مثل هذه الحالة تضع الرجل أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: فإمَّا أن يطلِّق هذه الزوجة العقيم ليتزوج غيرها أو أن يسمح له الشرع بزواج آخر، ولاشكَّ أن السماح له بالزواج مع الإبقاء على الزوجة الأولى، أجدَرُ بأخلاق الرجال ذوي المروءات من التطليق، ولو أننا دقَّقنا في الأمر لوجدنا أن التعدُّد في مثل هذه الحالة هو في مصلحة الزوجة الأولى، فمن الأفضل لها أن تبقى زوجة كريمة لها كامل حقوق الزوجة، من أن تفقد زوجها ثمَّ لا أمل لها في الزواج مرة أخرى بعد أن يُعلَم أن طلاقها كان بسبب عقمها.
    وقد حدث في مرات متعدِّدة أنَّ الزوجة العقيم تبحث لزوجها عن زوجة أخرى تنجب له أطفالاً، حفاظاً على صلة المودَّة الَّتي تربطها بهذا الزوج. ومن جهة أخرى فإن الحل ليس حلاً لمشكلة الرجل مع إغفال مشكلة المرأة، بل إن المرأة الَّتي يثبت عقم زوجها، فإن الشرع الحنيف أعطاها حقَّ طلب التفريق بينها وبين زوجها العقيم إن هي آثرت ذلك.
    2 ـ أن تصاب الزوجة بمرض مزمن أو مرض معدٍ أو منفِّر، بحيث لا يستطيع الزوج أن يعاشرها المعاشرة الزوجية، والزوج هنا أيضاً أمام أحد خيارين: فإمَّا أن يطلِّقها وليس في ذلك شيء من المروءة ولا الوفاء، مع ما فيه من المهانة والضياع لهذه المرأة. وإمَّا أن يُسمح له بالزواج، مع الإبقاء على الزوجة الأولى، ولها كامل حقوق الزوجة والَّتي منها الرعاية الصحية، ولا يَشُكُّ أحد في أن بقاءها زوجة أكرم وأنبل وأضمن لسعادتها وسعادة زوجها.
    3 ـ أن يشتدَّ كره الزوج لها بحيث لم ينفع معه علاج التحكيم ولا الطلاق الأوَّل ولا الثاني، وهنا يجد الزوج نفسه أيضاً أمام أحد حلَّين فإمَّا أن يطلقها ويتزوج غيرها، وإمَّا أن يبقيها عنده ولها كامل حقوقها المشروعة بوصفها زوجةً ويتزوج معها امرأة أخرى. ولاشكَّ أن بقاءها زوجة أفضل لها ولأولادها في معظم الحالات، وأكثر غرماً على الزوج، وهذا دليل على وفائه وكريم خلقه، حيث لم يوقع الطلقة الثالثة المفرِّقة بينهما أبديّاً.
    4 ـ بَقيت حالة أخيرة وهي أن يكون لدى الزوج الرغبة الجنسية الشديدة ما لا يكتفي معها بزوجة واحدة، إمَّا لكبر سنها وإمَّا لكثرة الأيام الَّتي لا تصلح فيها للمعاشرة الزوجية، وهي أيام الحيض والنفاس، وفي هذه الحالة يقضي العقل والحكمة، أن لا نمنعه من الزواج الثاني، وفي ذلك ما فيه من تعريضه لخطر الوقوع في ما حرَّم الله والاعتداء على كرامة هذه الزوجة. لذا أباح له الشرع زوجة ثانية، ضمانة لسلامته وسلامة الزوجة الأولى وسلامة المجتمع وسلامة المرأة الثانية من ضياع حقوقها وحقوق أطفالها لو عاشرها المعاشرة المحرَّمة.
    ويبقى العدل هو الشرط الجوهري للتعدُّد، فلا يجوز للرجل أن يفرِّق بين نسائه في النفقة، أو المعاملة، أو حتَّى في بشاشة الوجه وحلاوة اللسان، فإذا فُقدت القدرة على العدل انعدم حقُّ الرجل في التعدُّد. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة والمثل الأعلى في تحرِّي العدل بين زوجاته، فكان يقسم بينهن ما يملكه من متاع، ثمَّ يتوجَّه إلى ربِّه داعياً: «اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» (رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن السيِّدة عائشة رضي الله عنها) ولكنَّ الله تعالى، الَّذي فطر النفس البشرية ويعلم سرَّها ونجواها، علم أن تحقيق العدل المطلق يكاد يكون مستحيلاً، فالعدل المادي يمكن أن يتحقَّق، ولكنَّ العدل العاطفي والنفسي لا يمكن تحقيقه، فالإنسان يملك ما بين يديه ولكنَّه لا يملك ما يجيش به قلبه، لذلك أوصى الله الرجال ألا يميلوا إلى واحدة كلَّ الميل، وينصرفوا عن الأخرى، فتصبح كالمعلَّقةالَّتي ليست بذات زوج يرعى حقَّها، وليست مطلَّقة تملك حريتها، ممَّا يوقعها في الضيق ويفسد عليها حياتها، ويجعلها مثار قلق وإزعاج للزوج، بدل أن تكون سكناً له وراحة وسعادة، فقال سبحانه وتعالى: {ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بينَ النِّساءِ ولو حَرَصْتُمْ فلا تميلوا كلَّ المَيْلِ فتَذَرُوها كالمُعلَّقَةِ وإن تُصْلِحوا وتتَّقوا فإنَّ الله كان غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 129). وقد حذَّر الرسول الكريم من الميل إلى زوجة دون أخرىفقال: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقَّيه ساقط» (رواه أحمد وأصحاب السنن).
    وهكذا فإن العقل الرشيد والحكمة البالغة المعهودة في شرع الله وأحكامه كلِّها، تقضي بالسماح له بالزواج الشرعي من الثانية مع الإبقاء على الأولى ولها كامل حقوقها بوصفها زوجةً صالحة كريمة.
    وأمَّا المجموعة الثانية من الحالات الَّتي تدعو إلى تعدُّد الزوجات، فهي حاجات اجتماعية تجعل من التعدُّد مصلحة اجتماعية ووطنية، وذلك عند قلَّة الرجال وكثرة النساء، سواء في الأحوال العادية كما هو الحال في بلاد شمال أوربا، أم في حالات الحروب والأوبئة، كما وقع في بلاد أوربا فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث بلغت نسبة الرجال إلى النساء واحد إلى أربع في بعض البلدان، وواحد إلى ستٍّ في بعض البلدان الأخرى. ففي مثل هذه الحالات يكون التعدُّد واجباً اجتماعياً ووطنياً وأخلاقياً وإنسانياً في آن واحد، حيث تُصان به النساء عن التبذُّل، فيأوين إلى بيت الزوجية، حيث يجدن الحماية والنفقة، وتصان الأخلاق من الانحلال والفساد. ولقد رأت أوربا النتائج السيئة لمنع التعدُّد فأخذت تفكر بإباحة التعدُّد المشروع، لكنَّهم مع بالغ الأسف لم يفعلوا بَعْدُ، وبقي الباب مفتوحاً للتعدد غير المشروع.
    وعلى الرغم من كلِّ ما تقدَّم فإن الإسلام ليس وحده الَّذي أباح التعدُّد، فقد أباحته اليهودية في التوراة، وليس في المسيحية نص صريح يمنع التعدُّد؛ حيث كان قائماً في الأمم المسيحية حتَّى بداية عصر النهضة، ولم تنكره الكنيسة في كلِّ تلك العصور، وقد أباحت الكنيسة في أيَّامنا هذه للإفريقيين المسيحيين تعدُّد الزوجات كما هو معلوم.
    وفي ختام البحث في نظام الأسرة في الإسلام، لابدَّ من الإشارة إلى أن الزوج يستطيع أن يتخلَّص من زوجة لا يريدها بالطلاق، فماذا عن المرأة الَّتي لا تريد زوجها، فهل تستطيع أن تطلِّقه؟! الواقع أن الطلاق تترتب عليه أعباء مالية ونفقات يتحمَّلها الزوج، لذلك كان في يد الزوج وحده، لكنَّ الشرع الحنيف لم يدع هذه الناحية سبباً لظلم الرجل للمرأة؛ وهي واقفة مكتوفة الأيدي لا تملك أن تتحرك، بل فتح لها الإسلام أبواباً واسعة للتخلُّص من الرجل، إذا كرهته فلم تستطع المقام معه، وذلك بالتشريعات التالية:
    1 ـ أعطى الإسلام المرأة الحقَّ في أن تشترط على الزوج ألا يتزوج عليها، فلو شرطت عليه في عقد الزواج ألا يتزوج عليها صحَّ الشرط، وكان لها حقُّ فسخ الزواج إذا لم يفِ لها بالشرط.
    2 ـ شرع التفريق للعلل، فإذا أصيب الرجل بعلَّة تمنع المعاشرة الزوجية أو بمرض مزمن أو بعاهة منفِّرة أو مرض سارٍ خطير، وطلبت الزوجة التفريق بينها وبين زوجها، فرَّق القاضي بينهما بعد أن يتحقَّق من ذلك.
    3 ـ التفريق للغيبة الطويلة أو الحكم على الزوج بالحبس: فإذا غاب الزوج عن زوجته غيبة طويلة بغير عذر، أو حُكِمَ عليه بالسجن لمدة تزيد على ثلاث سنوات، يمكن لهذه الزوجة أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها، بعد مرور عام على غيبته أو سجنه.
    4 ـ التفريق لعدم الإنفاق: فإذا ثبت عجز الزوج عن الإنفاق على زوجته، فرَّق القاضي بينهما لهذا السبب.
    5 ـ التفريق للشقاق: فإذا أصبحت الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق، ورفض الزوج طلاق زوجته، فإن القاضي يفرِّق بينهما؛ إذا تبيَّن له أن الزوج أَلحقَ الضرر بها أو آذاها.
    6 ـ التفريق بسبب كراهية الزوجة للزوج: فإذا ما أحسَّت الزوجة نفوراً شديداً من زوجها بحيث لم تعد تُطيقُ العيش معه بأيِّ شكل، يحقُّ لها أن تطلب التفريق بعد أن ترضيه ماديّاً إذا أصرَّ على ذلك وهذا ما يسمىبالمخالعة.
    كلُّ هذا انتصاراً للحقِّ ورفعة لشأنه، فليس في الإسلام تحيُّز لكائن على حساب كائن آخر، فالرجل والمرأة في نظر الشرع سواء، ولا يفضِّل هذه الجهة أو تلك، إنَّما هو العدل المطلق في ظلال شرع الله الحنيف الخالد.
    سابعاً: المعاشرة الزوجية:
    قال الله تعالى: {ويَسألونَكَ عن المَحيضِ قُل هوَ أذىً فاعتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ ولا تَقربوهُنَّ حتَّى يَطهُرنَ فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهُنَّ مِن حَيثُ أمَرَكُمُ الله إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرينَ * نِسَاؤكُم حَرثٌ لكُم فَأْتوا حَرثَكُم أنَّى شِئتُم وقَدِّمُوا لأنفُسِكُم واتَّقُوا الله واعلَمُوا أنَّكُم ملاقُوهُ وبَشِّرِ المُؤمِنِينَ} (2 البقرة آية 222-223).
    ومضات:
    ـ يسبب الجماع في مدة الحيض ضرراً وأذىً للرجل والمرأة على السواء؛ لذلك كان لابدَّ من الامتناع عنه حتَّى تطهر المرأة وتغتسل. عندها يحلُّ للزوج أن يأتيها من حيث أمره الله؛ وهو محل النسل والولد، ويمكن له أن يأتيها كيف يشاء، قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، خلافاً لما كان يُعتقد قبل الإسلام.
    ـ المقصود بالتحريم في هذه الآيات هو تحريـم الجماع فقط أثناء مدة الحيض، بينما يحلُّ للزوجين ما سوى ذلك من مجالسة ومؤاكلة ومداعبة.
    ـ إن الله يحبُّ التائبين من الذنوب، المتنزِّهين عن الفواحش المحبِّين للطهارة.
    ـ المرأة محل الزرع وموضع النَّسل، تحضن الجنين في رحمها وترعى أخلاقه وآدابه في طفولته، لذلك يجب على المؤمن أن يحسن اختيار الزوجة الَّتي ستكون راعية لبيته وأُمّاً لأولاده.
    ـ المؤمن يخاف الله ويبادر إلى تقديم الأعمال الصالحة الَّتي تكون له ذخراً في الدنيا والآخرة، ويحذر المعصية والعبث ليقينه بأنه صائرٌ إلى حساب الله لا محالة، ثمَّ إنَّ له البشرى بالفوز العظيم، واستحقاق جنَّات الخلود، لما بذله في سبيل تأسيس أركان السعادة الإنسانية.
    في رحاب الآيات:
    من أهمِّ أهداف الزواج حفظ النوع البشري بالتوالد، كما يُحفظ النبات بالزرع؛ فالمرأة بمثابة الأرض المعدَّة لإلقاء البذور، والزوج هو الزارع بالطريقة الَّتي يختارها في وضع الحَبِّ. وقد جاء التعبير في الآية الكريمة عن النساء بالحرث بياناً لدورها الهام في بناء الأسرة. وفي ذلك توجيه للخاطبين كي يحسنوا الاختيار، لأن الزواج في الإسلام ليس محلاً لإشباع الدافع الجنسي، أو لإرواء غليل الشهوة الغريزية فحسب؛ بل هو خطَّة محكمة لإعمار الأرض وإحيائها بالنسل الصالح.
    ولقد أحلَّ الله تعالى إتيان الزوجة في معظم الأوقات، باستثناء مدة النَّفاس والحيض الَّتي تمرُّ بها الزوجة؛ إذ أن الحيض حالة تشبه المرض، يتم أثناءها طرح البويضة والعش الجنيني المخرَّب خارج رحم المرأة، وغالباً ما تترافق هذه العملية بآلام جسدية واضطرابات نفسية، ممَّا يجعل المرأة غير مستعدَّة نفسياً ولا صحياً للمباشرة الجنسية، الَّتي يُقصد بها استمتاع كلٍّ من الزوجين بالآخر.
    وقد رفع الإسلام بهذا النهي من شأن المعاشرة الزوجية، ونزَّهها عن أن تكون مجرَّد قضاء شهوة غريزية آنيَّة، لتكون بالمقابل وظيفة إنسانية ذات أهداف سامية في طبيعة الحياة البشرية واستمرارها، يقوم عليها بناء الأسرة وإحلال المودَّة والحبِّ بين أفرادها.
    وينحصر النهي في هذه الآية عن المباشرة أثناء الحيض فقط، دون المعاشرة والمؤاكلة والمجالسة، فقد وضَّح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح. وفي لفظٍ (الجماع)» (رواه الجماعة إلا البخاري).
    وقد أجمع الأطبَّاء على وجوب الابتعاد عن مباشرة المرأة في مدة الحيض، كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزَّل من لدن حكيم عليم، لما في ذلك من أضرار وأذى على الطرفين، ومن هذه الأضرار:
    1 ـ آلام أعضاء التناسل لدى الأنثى، وإحداث الالتهابات في الرحم والمبيض، ممَّا قد يؤدِّي إلى تلف المبيض وإحداث العقم.
    2 ـ إن دخول سائل الحيض في عضو التناسل عند الرجل قد يحدث له التهاباً صديديّاً، لما فيه من جراثيم وأذى.
    ولا يحلُّ للرجل أن يباشر زوجته حتَّى تطهر، وقد ذهب الجمهور إلى أن الطُّهر الَّذي يحل به الجماع هو تطهُّرها بالماء، وأنها لا تحلُّ حتَّى ينقطع الحيض وتغتسل بالماء. فإذا تطهَّرت جاز للزوج أن يباشرها في المكان الَّذي أحلَّه الله له، وهو مكان النسل والولد أي القُبُل لا الدُبُر، لأن الإتيان في الدُّبُر خروج عن موضع الحرث الَّذي خلقه الله.
    وما تحريم ذلك إلا لعلَّة الضرر والأذى، وفي هذا التحريم تكريم للمرأة وصيانة لحقِّها، فللمرأةحقٌّ على الزوج في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوِّت حقَّها، ولا يقضي وطرها أو يحقِّق مقصودها. وكذلك فالدبر لم يتهيَّأ لمثل هذا العمل، ولم يُخلق له، وإنما الَّذي هُيِّئ لذلك هو الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه. ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : «إن الله لايستحي من الحقِّ فلا تأتوا النساء في أدبارهنَّ» (رواه النسائي عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه )
    وبقوله تعالى: {أنَّى شئتم} أُعطيَ الزوج الحرِّية في إتيان زوجته كيفما يشاء، قائمة أو قاعدة أو مضطجعة على أن يكون ذلك في مكان الحرث (الفرج). وفي ذلك يقولصلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطابرضي الله عنه : « أقبل وأدبر واتقِ الدبر والحيضة» (رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ).
    وقبل أن يشرع الزوجان باللقاء الجنسي يستحبُّ منهما أن يقوما بالمقدِّمات كي يصلا بعملهما إلى غايته؛ فيبدآن بالتسمية بالله والدعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضرَّه الشيطان أبداً» (رواه البخاري).
    أمَّا الخطوة الثانية فهي المداعبة، وهي فن يضايق المرأة إهماله، ويثير اشمئزازها إغفاله، بل إنه قد يؤذيها إيذاء بدنياً ونفسياً، ويحوِّل هذا العمل إلى عمل آلي بغيض بالنسبة للطرفين. وللألفاظ والنظرات أهمِّيتها العظمى في التمهيد، ومهما بدت هذه الأمور تافهة وصغيرة في نظر بعض الناس، فإنها هامَّةٌ جداً في هذه الحالة. قال أحد علماء النفس الاختصاصيين بقضايا الجنس تحت عنوان المغازلة والمداعبة: [واعلم أنه لا يكفي أن يستهوي الرجل زوجته حتَّى تذعن له مرة واحدة فقط حين يتزوجها، بل يجب أن يلاطفها ويستعطفها ويستهويها عند كلِّ وصال]. فالمداعبة تمهيد هامٌّ يتوقف عليه تحقيق المتعة، واستمرار سعادة الحياة الزوجية، ويجب أن يكون الجماع منسجماً في العمل والاستجابة له، ومن ضرورات هذه المشاركة المساواة في الحقوق وفي الاستمتاع بالاتحاد الجنسي.
    وأفضل الأساليب ما تولَّته يد الشريعة الغرَّاء، وجاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فهو البلسم الشافي والطب الواقي، وذلك وجوب ترك الزوج زوجته تأنس به ويأنس بها، وتسكن إليه ويسكن إليهافتحصل المودَّة، وتلتقي القلوب، قال الله تعالى: {ومن آياتِهِ أن خَلَقَ لكُم من أنفُسِكُمْ أزواجاً لتَسْكُنوا إليها وجَعَلَ بينَكُمْ مَوَدَّةً ورحمةً إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يَتَفكَّرون} (30 الروم آية 21).
    ومن الأسباب الهامَّة لجعل الزواج خصباً ومثمراً للذريَّة الصالحة، المداومة على الاستغفار وتقديم الصدقات، قال تعالى: {فقلتُ استغفروا ربَّكُمْ إنَّه كان غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عليكم مِدْرارا * ويُمْدِدْكُمْ بأموالٍ وبنينَ ويجعلْ لكم جنَّاتٍ ويجعلْ لكم أنهارا} (71 نوح آية 10ـ12).
    ومن ثمَّ فإن الشارع الحكيم يعوِّد المسلم على ألا تغيب عن باله الغايات السامية من الأحكام أثناء تفصيلها، فينقله من الحديث عن الدم والغُسل إلى الحديث عن التوبة والطهارة والنقاء حيث يكمن خيره وسعادته، وذلك كلُّه من دواعي محبَّة الله تعالى له: {إن الله يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهرين}.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    الحجاب في الإسلام




    سورة النور(24)
    قال الله تعالى: {قُلْ للمؤمنينَ يغُضُّوا من أبصارِهِمْ ويحْفَظُوا فروجَهُمْ ذلك أزكى لهم إنَّ الله خبيرٌ بما يصنعون(30) وقل للمؤمناتِ يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فروجَهُنَّ ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظَهَرَ منها ولْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعولَتِهِنَّ أو آبائِهِنَّ أو آباءِ بعولَتِهِنَّ أو أبنائِهِنَّ أو أبناءِ بعولَتِهنَّ أو إخوانِهِنَّ أو بني إخوانِهِنَّ أو بني أخواتِهِنَّ أو نسائِهِنَّ أو ما مَلَكتْ أيمانهُنَّ أو التَّابعينَ غيرِ أولي الإِرْبَةِ من الرِّجال أو الطِّفلِ الَّذين لم يَظهروا على عوراتِ النِّساءِ ولا يَضْرِبْنَ بأرجُلِهِنَّ ليُعْلَمَ ما يُخْفِيْنَ من زينتِهِنَّ وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّها المؤمنون لعلَّكم تفلحون(31)}


    ومضات:
    ـ غضُّ البصر هو الخطوة الأولى والأهمُّ على طريق حماية المجتمع من الفساد الأخلاقي، وهو الحصن الَّذي يحمي نفس المؤمن من المؤثِّرات الجنسية المحرَّمة.
    ـ لم يحبس الإسلام المرأة في زنزانة ولم يقيِّد حريَّتها بالسلاسل، بل نظَّم لها أُطُرَ حياتها ولباسها وزينتها، بالشكل الَّذي يحفظ لها كرامتها الإنسانية، ويصون حرمتها الأخلاقية، أثناء ممارستها لحياتها الاجتماعية والعملية؛ بما يكفل لها النجاح والأمان والكرامة معاً.
    ـ لا يكفي للمرأة أن تلتزم باللباس الشرعي الَّذي هو مظهر الحشمة، لتخوض غمار الحياة في ميادين العمل المناسب، بل عليها أن تلبس ثوب التَّقوى والحياء أيضاً، كي تنجح في التعامل مع الرجل، بعيداً عن المؤثِّرات الجنسية والعاطفية، الَّتي لا ينبغي لأحد أن يستمتع بها سوى الزوج.
    في رحاب الآيات:
    لو طَبَّق الناس قاعدة غضِّ البصر، لانخفضت نسبة التهتُّك والإباحية الجنسية بنسبة عالية في المجتمع البشري كلِّه، لأن معظم الإثارات الجنسية تبدأ بالنظر، ويليه السمع، ويتبعه اللمس، بالإضافة إلى الرائحة كعامل للإثارة. وقد حمى الإسلام مجتمع المسلمين من تلك المؤثِّرات ليبقى بعيداً عن الملوِّثات النفسية والفكرية، كي تتَّجه طاقات أبنائه نحو العمل البنَّاء المنتج، فصانها من الهدر والضياع في معابر اللذة وشهوات الجسد.
    ولا يمكن لإرادة غضِّ البصر عن المحرَّمات، أن تسيطر على أعصاب العين، ما لم تكن مرتبطة بروحانية صافية، وإيمان عميق الجذور. إن توفُّر هذه الإرادة هو الحصن الأوَّل والأقوى، الَّذي يقدِّم الحماية للمرء من خطر التمادي والانزلاق في طريق الخطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «النظرة سهم من سهام إبليس فمن تركها من خوف الله، أثابه إيماناً يجد حلاوته في قلبه» (رواه الطبراني والحاكم)، وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنَّة: إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يُخلف، غضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» (رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِعليٍّ ـ كرَّم الله وجهه ـ : «ياعليُّ لا تُتْبِع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود) ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على الطرقات مخافة ألا يتحقَّق شرط غضِّ البصر، فقد جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إيَّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا يارسول الله! لابدَّ لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقَّه، قالوا: وما حقُّ الطريق يارسول الله؟ قال: غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
    إن صون النفس عن الوقوع في الحرام هو النتيجة الإيجابية لغضِّ البصر، والإحساس بالرقابة الإلهية، والاستعلاء على الرغبة المحرَّمة في مراحلها الأولى، ومن ثَمَّ يجمع الله تعالى بينهما في آية واحدة بوصفهما سبباً ونتيجة، أو باعتبارهما خطوتين متتاليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. إن ما ذكر من غضِّ البصر وحفظ الفرج أطهر لمشاعر المؤمنين، وأضمن لعدم تلوثِّها، وأحفظ للجماعة وأكثر صوناً لحرماتها وأعراضها. والله هو الَّذي يأمر الناس بهذه الوقاية، وهو العليم بواقعهم النفسي وتكوينهم الفطري، وهو الخبير بنزغات نفوسهم وحركات جوارحهم، فعليهم اتقاؤه في السر والعلن، وأن يكونوا على حذر منه في كلِّ ما يأتون وما يذرون.
    ويأتي اللباس المحتشم الوقور عاملاً أساسيّاً وداعماً لغضِّ البصر، ليجعل من المرأة سيدة موفورة الكرامة، مصانة العرض، لا أداة إثارة مبتذلة، أو سلعة رخيصة تنهشها الأعين المريضة، وتتمنَّاها الأنفس الخبيثة. وقد حثَّ الإسلام المرأة أيضاً على غضِّ البصر تزكيةً لها، وتطهيراً للمجتمع من أدران الفاحشة، والتردِّي في بؤرة الفساد والتحلُّل الخلقي، وتجنيباً للنفوس من أسباب الإغراء. فهو يأمر المؤمنات بغضِّ أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحلُّ، وحفظ فروجهن عن الزنا، وامتناعهن عن كشف العورات، وكلِّ ما من شأنه أن يفضي إلى الفاحشة أو يمهِّد لها.
    وحرصاً من الإسلام على صيانة المرأة من السقوط في الهاوية، فقد أمرها ألا تبدي زينتها إلا لزوجها أو المحارم من الأقارب. فالزينة حلال للمرأة وتلبية لفطرتها، فكلُّ أنثى مولعة بأن تكون جميلة، وأن تبدو بصورة أفضل، والزينة تختلف من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ولكن أساسها في الفطرة واحد، وهو الرغبة في تحصيل الجمال. والإسلام لا يقاوم هذه الرغبة الفطرية، ولكنَّه ينظِّمها ويضبطها، ويُسَيِّرُها في الاتجاه الصحيح حيث جعلها من حقِّ رجل واحد هو شريك الحياة، الَّذي يطَّلع من زوجته على ما لا يطَّلع عليه أحد سواه، جاء في الحديث الشريف: «الرافلة في الزِّينة في غير أهلها كمثل ظُلمة يوم القيامة لا نور لها» (رواه الترمذي وأحمد وأبو داود). أمَّا ما ظهر من الوجه والكفَّيْن فيجوز كشفه لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه» (رواه أبو داود وقال مرسل حسن). ويقول الله تعالى للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} والجيب هو فتحة الصدر في الثوب، والخمار هو غطاء الرأس والنحر والصدر، والمقصود: أن يُلقين خمرهن على جيوبهن ليستُرن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتَّى لا يُرى منها شيء. والمؤمنات اللواتي تلقَّين هذا النهي، وقلوبهن مشرقة بنور الله، لم يتلكَّأن في الطاعة على الرغم من رغبتهن الفطرية في الظهور بالزينة والجمال. وقد كانت المرأة في الجاهلية تمرُّ بين الرجال كاشفة صدرها لا يواريه شيء، وربَّما أظهرت عنقها، وذوائب شعرها، وقرطي أذنيها، فلما أمر الله النساء بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، كنَّ سبَّاقات متلهِّفات لتنفيذ أمر الله كما قالت عائشة رضي الله عنها: (يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَّل، لما أنزل الله: {وليضربن} شققن مروطهنَّ فاختمرن بها).
    وبهذا فقد رفع الإسلام ذوق المجتمع، ورقَّى إحساسه بالجمال، فلم يعد الطابع الغريزي للجمال هو المستحب، بل الطابع الإنساني المهذَّب. فجمال الكشف عن مفاتن الجسـد ـ مهما يكن من التناسـق والاكتمال ـجمال حيواني، يهفو إليه الإنسان بحسِّ الغريزة الحيوانية، وأمَّا جمال الحشمة فهو الجمال الراقي، الَّذي يرقى معه الذوق الجمالي ويجعله لائقاً بالإنسان، ويحيطه بالطهارة في الحسِّ والخيال. فالإسلام يجعل من هذه الحشمة واجبة وإلزامية كوسيلة وقائية للفرد والمجتمع، ولا يكون التخلِّي عنها مباحاً إلا تجاه الفئة الَّتي ورد ذكرها في الآية الكريمة والَّتي تشمل: الآباء والأبناء، وآباء الأزواج وأبناءهم، والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، والنساء المختصات بهن للخدمة والصحبة، وما ملكت أيمانهن من الإماء أو التابعين الَّذين لا يكترثون بالنساء؛ وهم البُله والحمقى المغفَّلون الَّذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً، وإنما يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم. وكذلك الأطفال الَّذين لم يبلغوا سنَّ الشهوة والاستمتاع بالنساء، ولا يثير جسم المرأة فيهم الشعور بالميل الجنسي، فإذا ميَّزوا وثار فيهم هذا الشعور، ولو كانوا دون البلوغ فهم خارج هذا الاستثناء. ولم تذكر الآية الأعمام والأخوال وهم من المحارم، كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية، أمَّا عدم ذكرهم فلأنَّهم بمنزلة الآباء، فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال، أمَّا المحارم من الرضاع فقد بيَّنتها السُّنة المطهرَّة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النَّسب» (رواه الشيخان).
    ولما كانت الوقاية هي الهدف من هذا الإجراء، فقد مضت الآية تَنهى المؤمنات عن الإتيان بالحركات الَّتي تعلن عن الزينة المستورة، ولو لم يكشفن فعلاً عن الزينة، وإن هذا ليدلُّ على معرفة عميقة بخفايا النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها، لأن الخيال يكون أحياناً أقوى في إثارة الشهوات من العيان، قال ابن عباس رضي الله عنه : (كانت المرأة تمرُّ بالناس وتضرب برجلها ليُسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان)، ويندرج تحت هذا النهي تحريك زينتها لتُظهِرَ ما خفي منها. ومن مستلزمات التَّقوى والحشمة ألا تخرج من بيتها متطيِّبة متعطِّرة، لأن للطيب أثراً كبيراً وعاملاً هاماً في إثارة الغريزة لدى الرجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شمَّ منها ريح الطِّيب فقال: ياأمة الجـبَّار! أجئت من المسجد؟ قالت: نعم، قال لها تطيَّبتِ؟ قالت: نعم، قال: إني سمعت حِبِّي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة طُيِّبتْ لهذا المسجد حتَّى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة» (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
    ثم يفتح الله تعالى باب التوبة لعباده كما عوَّدهم دائماً، ليرجعوا إلى طاعته فيما أمرهم به، من غضِّ البصر وحفظ الفرج، ليفوزوا بالسعادة الدائمة. ولكنْ للتوبة شروطاً هي: الإقلاع عن الذَّنْب، والندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة إليه، وردُّ الحقوق إلى أهلها؛ لا كما يظنُّ الناس الآن أنها كلمة تُلاك باللسان، دون أن يكون لها أثر في القلب، ولا عزم على عدم العودة، حتَّى إن كثيراً ممَّن يزعمون أنهم تابوا يتحدَّثون عما فعلوه من الآثام على سبيل الافتخار، وهذا دليل على أن توبتهم كاذبة، وأنَّهم غافلون عن حقيقة ذنوبهم، فلا تنفعهم توبتهم شيئاً إلا من رحم الله وصدق منهم.
    سورة الأحزاب(33)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ قُلْ لأزواجِكَ وبناتِكَ ونساءِ المؤمنينَ يُدْنِينَ عليهنَّ من جلابيبهِنَّ ذلك أدنَى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وكان الله غفوراً رحيماً(59)}
    ومضات:
    ـ إن وجود الرقيق وانتشاره في عهد تكوين المجتمع الإسلامي، كان يعني ازدحام الأسواق والطرقات بالجواري، ولمَّا كان الفرق الظاهري بين السيِّدة الحرَّة وبين الجارية شبه معدوم، فقد تعيَّن على الحرَّة أن تخلع على نفسها جلباباً تتميَّز به عن الجارية؛ كيلا يسيء أحد إليها أو يعاملها معاملة الجواري.
    في رحاب الآيات:
    الملابس والزينة مظهران من مظاهر المدنيَّة والحضارة، والتجرُّد منهما إنما هو رِدَّة إلى الحياة البدائية. وإذا كان اتخاذ الملابس من لوازم الإنسان الراقي، فإنه بالنسبة للمرأة أشدُّ إلزاماً لأنه ينبئ عن مدى تمسكها بدينها وشرفها وعفافها وحيائها، ومن ثَمَّ كانت الحشمة أولى بها وأحق. فأعزُّ ما تملكه المرأة هو الشرف والحياء والعفاف، وإن المحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانيتها في أسمى صورها، وليس من صالحها ولا من صالح المجتمع أن تتخلَّى عنها.
    إن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدُّها على الإطلاق. ولاشك أن التبذُّل مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها، وأن وضع الضوابط والحدود والقيود أمامها يخفِّف من حدَّتها، ويلطِّف من شدَّتها، ويهذِّبها تهذيباً جديراً بالإنسان وكرامته. من أجل ذلك تناول القرآن الكريم ملابس المرأة بشيء من الاهتمام، وما توجيه الخطاب إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته، والنساء المؤمنات، إلا دليلٌ على أن جميعهن مطالبات بتنفيذ هذا الأمر دون استثناء، مهما بلغن من العفَّة، ولو كنَّ في مستوى طهارة بنات النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه. وإذا أردنا أن نفهم آيات الأحكام في القرآن الكريم، فعلينا أن ندرس أسباب نزولها، والأجواء المحيطة بنشأة هذه الأسباب. والحقيقة أن من الأسباب الظاهرية لهذا الأمر هو تمييز المرأة الحرَّة من المرأة الأَمَة، حتَّى لا يحاول أصحاب النفوس الخبيثة التحرش بها. فقد كانت المدينة المنورة مركزاً لأوَّل تجمُّع إسلامي ظهر للوجود، كما كانت مركزاً تجارياً هاماً يقصده الأعراب من كلِّ صوب، منهم الصالح ومنهم الطالح، وكان أصحاب النوايا السيئة يترصَّدون بالجواري والقينات لأنه لم يكن لهن قيمة اجتماعية تحميهن من التحرش بهن والتطاول عليهن، فما كانت الأَمة بنظر ساداتها سوى سلعة تباع وتُشترى، لذلك تعيَّن على السيدة الحرَّة أن تظهر بلباس معيَّن يميِّزها عن الجارية ويصون كرامتها. ولكن هذا لا يعني أن نَقْبَلَ ونحن في حضارة القرن العشرين، بتبرُّج المرأة واستهتارها بمبادئ الأخلاق والكرامة والشرف بحجَّة انتهاء عهد الرقيق، فللجلباب غاية أرقى وأسمى من مجرَّد تمييز الحرَّة عن الجارية، وهذه الغاية هي تزويد المرأة بالوسائل الَّتي تكفل لها المشاركة في العمل البنَّاء، الَّذي يوافق فطرتها ومهمَّتها الأساسية في كلِّ ما يخدم المجتمع، بعيداً عن التأثيرات العاطفية والغريزية، الَّتي يمكن أن تتولَّد عن التقاء المرأة بالرجل، في جوٍ من التبرُّج وعدم الحشمة.
    إن التزام المرأة باللباس الشرعي يعني عدم ظهورها بثياب خليعة تُظهرُ مفاتن جسدها، فتكون مصدر إغراء لأصحاب النفوس المريضة فتغدو أداة تعطيل للعمل، لا أداة مشاركة فيه ودفع به إلى الأمام، وهذا لا يعني كبتها أو الضغط على حرِّيتها، أو إلزامها بلباس منفِّر أو منافٍ للذوق السليم، بل تكريمها وتشريفها لتبقى شريكاً منتجاً معطاءً، وأُمّاً للأجيال ومربية لها التربية المثلى، ولكنَّ بعض الأفراد من كلا الجنسين، غالى في التشدد، ونادى بعزل المرأة عن ساحة المجتمع؛ ووأدها في منازل المغالاة والقهر، وفي هذا قمع لإنسانية المرأة، وهدر لكرامتها، وتعطيل لقواها الخيِّرة المنتجة. كما أن هذا الغلو يُظهر المجتمع الإسلامي وكأنه مجتمع رجاله ذئاب؛ لا همَّ لهم سوى الجنس، ولا بديل لحماية المرأة منهم إلا بهذا العزل المادي والمعنوي.
    سورة الأحزاب(33)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّبيُّ قُلْ لأزواجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدُّنيا وزينَتَهَا فَتَعالَيْنَ أُمتِّعْكنَّ وأُسَرِّحكُنَّ سراحاً جميلاً(28) وإن كنتُنَّ تُرِدْنَ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فإنَّ الله أعدَّ للمحسناتِ منكُنَّ أجراً عظيماً(29)يانساءَ النَّبيِّ من يَأتِ منكُنَّ بفاحشةٍ مبيِّنَةٍ يُضاعَفْ لها العذابُ ضعفينِ وكان ذلك على الله يسيراً(30) ومن يَقْنُتْ منكنَّ لله ورسولِهِ وتعملْ صالحاً نُؤْتِها أجرَهَا مرَّتينِ وأعْتَدْنا لها رِزْقاً كريماً(31) يانساءَ النَّبيِّ لستُنَّ كأحدٍ من النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ فيطمَعَ الَّذي في قلبهِ مرضٌ وقُلْنَ قولاً معروفاً(32) وقَرْنَ في بيوتِكُنَّ ولا تَبرَّجْنَ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأولى وأقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ وأطِعْنَ الله ورسولَهُ إنَّما يُريدُ الله لِيُذهبَ عنكم الرِّجْسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكُمْ تطهيراً(33) واذكُرْنَ ما يُتلى في بيوتِكُنَّ من آياتِ الله والحكمةِ إنَّ الله كان لطيفاً خبيراً(34)}
    ومضات:
    ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم يمثِّل رأس السلطة في الدولة الإسلامية الفتية، وعلى الرغم من هذه المكانة، فقد كانت حياته المادية بسيطة متواضعة، يغلب عليها الزهد والتقشف. وقد أرادت زوجاته أن يستثمرن وضعهن بوصفهنَّ زوجاتٍ لقائد تلك الدولة، ويتمتَّعن بالعيش الرغيد، ولكن إرادة الله تعالى اقتضت أن تجعل منهن قدوة لنساء المسلمين، فأُمِرْنَ بالتخلِّي عن هذه الأفكار، والعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلمبالطريقة الَّتي ارتضاها لنفسه، وإلا فإنهن سيُطلَّقن ليعشن الحياة الرغيدة الَّتي يحلمن بها بعيداً عنه، إلا أنهنَّ اخترن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحياة التقشف الَّتي يعيشها؛ على نعيم الدنيا، فبوركن مننساء صالحات وأمهات للمؤمنين قانتات.
    ـ نظراً لكون نساء النبي قدوة لنساء الصحابة ولسائر المسلمات من بعدهن، فقد أُمرن بالاستقامة، لأن أيَّ خطأ يرتكبنه قد يؤخذ على أنه مثال يحتذى، بالإضافة إلى ما يسبِّبن من الإساءة إلى شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، لذلك جاء تهديدهن بالعذاب المضاعف، إن هنَّ فعلن شيئاً من ذلك، وبالمقابل فإنهن سيكافَأنَ على طاعتهن لله عزَّ وجل وللنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيامهن بواجب الزوجية،بالثواب المضاعف من الله تعالى، فلهن أجر على أعمالهن الصالحة وأجر آخر باعتبارهن مثالاً يحتذى، فهن بذلك عاملات داعيات.
    ـ إنَّ تصرُّفهنَّ وسلوكهنَّ وهنَّ القدوة يجب أن يكون متصفاً بالحشمة والأدب والتَّقوى، وأن يتَّسم حديثهن بالجدِّية والوقار لئلا يسبِّب فتنة لأحد، إضافة إلى لزوم تمسكهن بحبال الصلاة والصِّلة بالله تعالى، وأدائهن للصدقات والزَّكاة، وطاعتهن للرسول صلى الله عليه وسلم ، لكي يُصبحن في غاية الصفاء والطهارة والنقاء، وحسن الاقتداء به.
    ـ كان من جملة الأوامر الَّتي وُجِّهت لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهلن من عطايا العلم والحكمة، الَّتي تتنزَّل في بيوتهن، وتجري على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وتظهر في أعماله، وأن يراعين حرمة ذلك، ويستزدن من ذكر الله وتسبيحه، وهو العليم بما يفعلن.
    في رحاب الآيات:
    في هدي القرآن الكريم مدرسة اجتماعية لكلِّ امرأة تريد أن تبني عشاً نموذجياً للزوجية، فمهمَّة المرأة الأساسية مهمَّة تربوية، لما لها من أثر كبير على تنشئة الجيل، الَّذي سيحمل مسؤولية الأمانة وشرف الكلمة. والآيات الَّتي نحن بصددها دروس مثالية، ترسم لكلِّ واحدة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم منهاج حياتها الأمثل، في الدنيا والآخرة، وتضعها في موقع المسؤولية باعتبارها زوجة لسيِّد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم.
    لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأهل بيته عيشة الكفاف، لا عجزاً عن تأمين المستوى المعيشي الرفيع، فقد عاش حتَّى فُتحت له مكَّة وقويت الفئة المسلمة، وكثرت غنائمها، وعمَّ فيؤها، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد، ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته عليه السلام نار!! وما كان هذا إلا استعلاءً على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله تعالى. ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقيت تراودهن مشاعر النساء ورغباتهن، وعلى الرغم من فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوَّة الكريمة، فإن بعضاً من الرغبة الطبيعية في متع الحياة ظلت حيَّة في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعد ما أفاض الله على رسوله، وعلى المؤمنين من خيره، كلَّمن النبي صلى الله عليه وسلم لينلن من رَغَد العيش والرفاهية، فلم يستقبل هذه المطالب بالترحيب، إنما استقبلها بالاستنكار وعدم الرضا.
    وقد أوحى الله تعالى إلى رسوله بالجواب الَّذي ورد في الآيات الكريمة ويحمل فصل الخطاب: يا أيُّها الرسول قل لأزواجك: اخترن لأنفسكن أحد أمرين: فإن رغبتُنَّ في سعة الدنيا ونعيمها وبهرجها الزائل، فتعالَين حتَّى أدفع لَكُنَّ متعة الطلاق، وأطلِّقكن طلاقاً من غير ضرر، وإن كنتن ترغبن في رضوان الله ورسوله، والفوز بالنعيم الوافر في الدار الآخرة، فقد هيَّأ الله تعالى للمحسنات منكُنَّ ثواباً كبيراً وهو الجنَّة، الَّتي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ به الأعين. وفي قوله تعالى: {وإن كنتُنَّ تُرِدْنَ الله..} إشارة إلى أن في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم اختياراً لسبيل الله القويم ولجنَّة النعيم، وآية التخيير هذه تحدِّد الطريق، فإمَّا الدنيا وزينتها، وإمَّا الله ورسوله والدار الآخرة، فالقلب واحد ولا يتَّسع لرغبتين متناقضتين، وهذا التخيير يحسم في القلب المسلم كلَّ أَرجَحَةٍ وتذبذب بين قيم الدنيا وقيم الآخرة، بين الإخلاد إلى الأرض، والتوجُّه إلى السماء، ويخلِّص القلب من كلِّ وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرُّد لله، والخلوص له وحده دون سواه. وبعد التخيير يأتي التحذير من مغبَّة اتباع الهوى، فمن تُحْرِجُ منهن الرسول صلى الله عليه وسلم وتطالبه بما يشقُّ عليه، يضاعف لها العذاب يوم القيامة ضعفين، لأن قبح المعصية منهن أشدُّ من غيرهن، وكان ذلك سهلاً يسيراً على الله الَّذي لا يحابي أحداً لأجل أحد، فلا يغني عنهن كونهن نساء رسوله شيئاً. ومن تقنت منهن لله ورسوله، وتعمل صالحاً، يؤتها الله تعالى أجرها مرتين، والقنوت هو الطاعة والخضوع، والعمل الصالح هو الترجمة العملية لهما، وكما أن العذاب يضاعف للمذنبة ضعفين، فإن الثواب للطائعة يكون ضعـفين، ويهيِّئ الله لها في الجنَّة رزقاً حسناً مُرْضياً لا ينقطع. ثم أظهر الله تعالى مكانتهن بين النساء من حيث الفضل والشرف؛ لكونهن زوجات خاتم الرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، فليست الواحدة منهن كالواحدة من آحاد النساء.
    ويجدر بنا القول، إنه عندما جاء الإسلام إلى شبه الجزيرة العربية، كان المجتمع العربي كغيره من المجتمعات في ذلك الحين، ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتعة وإشباع الغريزة، وهذا ما يذهب بقيمتها الإنسانية، فلما جاء الإسلام أخذ بتصحيح نظرة المجتمع إليها، والتأكيد على الجانب الإنساني في علاقات الجنسين، فليست العلاقة بينهما مجرَّد وسيلة لإشباع شهوة الجسد، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيَّين من نفس واحدة، جعل الله بينهما موَّدة ورحمة، ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان. وبهذا فقد شرَّف الله تعالى المرأة بشكل عام، ثم خصَّ نساء النبي بالشرف على النساء كافَّة، وهذا ما بيَّنه النصُّ القرآني موضِّحاً بأن لهن مكانة لا يشاركهن فيها أحد، ولا ينلنها إلا بالتَّقوى. وبعد أن بيَّن لهن منزلتهن، شرع في بيان الوسائل الَّتي تُذهِبُ الرِّجْس عن أهل البيت وتطهرهن تطهيراً، فجاءت متضمِّنة النهي عن مخاطبة الغرباء من الرجال، بلهجة عذبة رقيقة ليِّنة، تكون سبباً في إثارة شهوات الرجال، وتحريك غرائزهم، فتُطمِع بهن مرضى القلوب وتهيِّج مشاعرهم. كما أُمرن بالاستقرار في بيوتهن؛ وليس معنى هذا الأمر وجوب ملازمتهنَّ البيوت فلا يبرحْنها إطلاقاً، بل هو إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر، فحيوية البيت معدومة ما لم تُوجدها فيه سيِّدة كريمة، وأريجه ساكن لا يفوح ما لم تنشره زوجة صالحة فاضلة، ودفؤه غائب وحنانه مدفونٌ ما لم تبعثه أمٌّ رؤوم.
    إن الإسلام الَّذي رفع شأن المرأة إلى هذه المرتبة السامية يطلب منها أن ترتفع هي بنفسها أيضاً عن سفاسف الأمور، فلا تجعل من نفسها دمية معروضة في واجهة تنهشها العيون الجائعة، وتلك هي الجاهليةالَّتي سادت قبل الإسلام، وهي الآن سائدة في كلِّ مجتمع هابط إلى حضيض مَهين. إن القرآن الكريم يوجِّه نساء النبي ونساء المؤمنين جميعاً إلى التعالي فوق تلك الزينة المزيَّفة، الَّتي تجعل للجسد المكانة الأولى، وتلغي الروح بقيَمِها ومُثُلها الرفيعة، ويربط قلوبهن بالله، ويوجِّه بصائرهن إليه عزَّ وجل الَّذي يُسْتَمَدُّ منه النور. فالإسلام وحدة تجمع الشعائر والآداب والأخلاق والتشريعات والنظم كلَّها في نطاق العقيدة،ولكلٍّ منها دور تؤدِّيه لتطبيق مقتضيات هذه العقيدة، وتتناسق كلُّها في اتجاه واحد، ومن هذا التجمُّع والتناسق يقوم الكيان العام لهذا الدِّين، ومن ثَمَّ كان الأمر بإقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة وطاعة الله ورسوله، هو خاتمة التوجيهات الإيمانية والأخلاقية والسلوكية لأهل البيت الكرام، لأنه لا يقوم شيء من تلك التوجيهات بغير العبادة والطاعة، وكلُّ ذلك لحكمة إلهية بالغة وهدف إصلاحي كبير.
    وهكذا يبيِّن النصُّ القرآني أن هذه الأوامر والتوجيهات ما هي إلا وسيلة لإذهاب الـرِّجس وتطهير أهل البيت، وكلمة الرجس مستعارة للتعبير عن الذنوب والمعاصي، لأن العاصي يتدنَّس بها ويتلوَّث كما يتلوَّث بَدَنه بالنجاسات الحسيَّة. وأمَّا الطهارة فتكون بكثرة الطاعات الَّتي تمحو الخطايا وتُنقِّي النفس، فيبقى العبد معها نقياً كالثوب الطاهر. روى الإمام أحمد والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرُّ بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة ياأهل البيت، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّرَكُم تطهيراً».
    والخلاصة إن أهداف الإسلام تتحقَّق في التطهير والتطهُّر وذلك بالاستزادة من ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن بتدبُّر وتفكُّر، والاستفادة من منابع الحكمة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وتحويل كلِّ ذلك إلى عمل مثمر بنَّاء.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    أخلاق اجتماعية دعا إليها الإسلام


    الفصل الأوَّل:


    وحدة الكلمة والاعتصام بحبل الله المتين


    سورة آل عمران(3)
    قال الله تعالى: {ياأيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مسلِمُونَ(102) واعتَصِموا بحَبْلِ الله جميعاً ولا تَفَرَّقُوا واذكُروا نِعمَةَ الله عليكم إذ كُنتُم أعداءً فألَّفَ بين قُلوبِكُم فأصبَحتُم بنعمَتِهِ إخواناً وكُنتُم على شَفا حُفرةٍ منَ النَّارِ فأنقَذَكُم منها كذلك يُبَيِّنُ الله لكم آياتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ(103)}


    ومضات:


    ـ تتضمَّن هذه الآيات الكريمة دعوة للمؤمنين كي يجاهدوا أنفسهم، ويستسلموا بكلِّ جوارحهم للإيمان بالله، ويواصلوا العمل حتَّى آخر رمق من حياتهم بما يقتضيه هذا الإيمان.
    ـ حين تتغلغل محبَّة الله في القلوب، تتفرع عنها محبَّة لسائر مخلوقاته، وبالسير على نهجه القويم، تتوحَّد الخُطا وتتشابك الأيدي في تعاون وأُلفة، تنأى بالمؤمنين عن مهاوي الهلاك والشقاق، وتجعل منهم إخواناً متحابِّين.
    في رحاب الآيات:
    يأمر الله تعالى، من خلال هاتين الآيتين جميع المؤمنين في كلِّ أرجاء المعمورة، أن يتركوا الشهوات والشبهات ويزكُّوا أنفسهم، كي يتمكَّن الإيمان من قلوبهم، وتترسَّخ جذوره في أعماقهم، فيستسلموا استسلاماً كاملاً لشريعة السماء، ويخلصوا في العمل من أجل السَّلام والإخاء الإيماني، دون كلل أو ملل حتَّى الرمق الأخير. ويناديهم الله تعالى بهذا النداء المحبَّب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} ليستثير عواطفهم الكريمة، فيتلقَّوا أوامره ونواهيه بقلوب مؤمنة مطمئنة، ومن هذه الأوامر الدعوة إلى التَّقوى؛ وهي أن يُطاعَ الله فلا يُعصى، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وأن يُشكرَ فلا يُكفر، وكلَّما زادت تقوى القلب استيقظ شوقه إلى مقام أرفع ودرجة أرقى.
    فإذا تمكَّن الإيمان من القلب، وترسَّخت جذوره في صميم النفس، أثمر حالة من حالات الرضا، الَّتي تفجِّر الطاقات الكامنة، وتحرِّك القوى الهاجعة في أعماق الإنسان، فيندفع إلى الخير اندفاع المحبِّ إلى ما يُحِبُّ، ويبتعد عن الشرِّ ابتعاد الكاره عما يكره، وهذه المنزلة لا يصل إليها إلا من اتقى المحارم والشُّبُهات، واقتصد في الشهوات والملذَّات، وجاهد نفسه وتجافى عن الدنيا دار الغرور؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتَّقوا الدنيا..» (رواه مسلم).
    وتؤكِّد الآية على ضرورة تمسُّك المؤمنين بالتَّقوى، وأن يبقوا على تسليمهم المطلق لله تعالى في جميع أوقات حياتهم وسائر ظروفهم، ليموتوا مسلمين حين انقضاء آجالهم. فمن شبَّ على شيء شاب عليه، ومن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
    والله سبحانه إنما دعا الناس إلى الإسلام لأنه يجمع القلب إلى القلب، ويضمُّ الصفَّ إلى الصفِّ، هادياً لإقامة كيان موحَّد، ونبذ عوامل الفرقة والضعف وأسباب الفشل والهزيمة؛ ليكون لهذا الكيان القدرة على تحقيق الغايات السامية، والمقاصد النبيلة، والأهداف المثلى الَّتي جاءت بها رسالته العظمى. فهو يكوِّن روابط و صِلات بين أفراد المجتمع لتُوجِد هذا الكيان وتُدعِّمه، وهذه الروابط تقوم على الأخوَّة المعتصمة بحبل الله، وهي نعمة يمنُّ الله بها على المجتمع، ويهبها لمن يحبُّ من عباده ويحبُّونه، فما من شيء يجمع القلوب مثلُ الأخوَّة في الله، حيث تتلاشى إلى جانبها الأحقاد القديمة، والأطماع الشخصية، والنزعات العنصرية. قال تعالى: {.. وَمَن يَعْتَصِمْ بالله فَقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3 آل عمران آية 101).
    وإذا كانت وحدة الكلمة هي القوَّة الَّتي تحمي دين الله، وتحرس دنيا المسلمين، فإن الفرقة هي الَّتي تقضي على دينهم ودنياهم معاً. ولن يصل المجتمع إلى تماسكه إلا إذا بذل له كلُّ فرد من ذات نفسه، وكان عوناً له في كلِّ أمر، ليصبح أفراده كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الَّذي رواه النعمان بن بشـير رضي الله عنه : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجـسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه)، وما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وشبَّك بين أصابعه» (متفق عليه).
    وخير مثال على هذا؛ الأمَّة العربية الَّتي كانت في بدء أمرها فرقاً متعادية وقبائل ممزَّقة، ثمَّ هبَّت عليها نفحة الإسلام فجمعت شتاتها، ووحَّدت كلمتها، فانطلقت إلى غايتها الكبرى في توحيد العالم تحت راية الهداية والعلم والأخلاق الفاضلة، بعد أن عرفت طريقها، وأحكمت خطَّتها، فجنت أطيب الثمرات من وراء الوحدة والاتحاد؛ وأدركت عملياً ـ بعد أن آمنت عقلياً وقلبياً ـ أن الوحدة قوَّة، وأن التفرُّق ضعف، وأنه ما من شدَّة تعرَّضت لها إلا كان سبَبُها الاختلاف والانقسام، لذلك كان همُّ أعدائها أن يتَّبعوا معها سياسة (فرِّق تَسُدْ)، وأوجدوا بذلك الثغرات الَّتي نفذوا من خلالها إلى مآربهم. وقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه كيف يكونون يداً واحدة، وقلباً واحداً في مادياتهم ومعنوياتهم وحركاتهم وسكناتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمهُ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كُربةً فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة..» (متفق عليه).
    وقد صوَّر النصُّ القرآني حال القوم حين كانوا متفرِّقين مختلفين، في مشهدٍ حيٍّ متحرِّك تضطرب له القلوب، فمثَلُهم في التفرقة كمثل قوم أشرفوا على هوَّةٍ بركانية ملتهبة، وبينما هم على وشك السقوط في النار إذا بيد العناية الإلهية تمتَدُّ إليهم فتتدارك هلاكهم وتنقذهم، وإذا بحبل الله يؤلِّف بينهم، ويجمع شملهم. فما أجملها من نعمة قد تفضَّل الله بها عليهم، فأكرمهم بالنجاة والخلاص بعد الخطر والترقُّب، وقد بَـيَّن الله تعالىفضله في تأليف تلك القلوب، وإنقاذها من براثن الفرقة والضياع بقوله سبحانه: {..هو الَّذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين * وألَّف بين قلوبِهِمْ لو أنفقتَ ما في الأرضِ جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبِهِمْ ولكنَّ الله ألَّفَ بينهم إنَّه عزيزٌ حكيمٌ} (8 الأنفال آية 62ـ63)، وبذلك وضَّح الله طريقه الَّذي ارتضاه للناس كي يسلكوه فيهتدوا به إلى سعادة الدارين.
    سورة الأنعام(6)
    قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين فرَّقوا دينَهُمْ وكانوا شِيَعاً لست منهم في شيءٍ إنَّما أمرُهم إلى الله ثمَّ ينبِّئُهم بما كانوا يفعلون(159)}
    ومضات:
    ـ إن شريعة الإسلام تهدف إلى توحيد الشعوب وإذابة عوامل التفرقة بينها، ونشر لواء الأخُوَّة والمحبَّة بين أفرادها؛ لذا كان من المستغرب حقاً أن تظهر قوى مفرِّقة ومصدِّعة لهذه الوحدة الإيمانية الإنسانية باسم الدِّين، ودافعها الخلافات السياسية والمذهبية.
    ـ إن الفئات المتصلِّبة المصرَّة على التفرقة ليست من شرع الله في شيء، ورسول الله بريء منها إلى يوم القيامة.
    في رحاب الآيات:
    إن تعاليم السماء كلَّها وحدة متَّصلة، يأخذ بعضها بيد بعض في نسق منسجم ومنهج سليم، وكلُّها تدعو إلى وحدانيَّة الله ونشر السلام على الأرض، ولكنَّ عقول الناس متباينة في مدى فهمها واستيعابها لهذه التعاليم. لذلك نرى بعض الفئات تتقارب، إمَّا بسبب طبيعتها المتشابهة أو بسبب مصالحها المشتركة، وتتَّخذ لنفسها منحىً مذهبيّاً خاصّاً يبعدها عن منهج الصالح العام، فتتشعَّب الطرق أمام الناس ويضيعون في متاهات التعصُّب، وهذه الفرق تبني لنفسها قواعد فكرية تخالف بها غيرها من المجموعات، ولا تلبث أن تتحوَّل إلى قوالب فكرية جامدة متحجِّرة، تكفِّر غيرها وتناصبه العداء، مُعْرِضَةً عن الحوار العقلاني النزيه، مستبدَّةً بأفكارها، محدثة ما لم يكن في صلب العقيدة، وضاربة حول ذاتها سوراً يمنعها من التواصل مع الآخرين.
    وهذه الفرق تُعَدُّ أداة هدم في وحدة المجتمع، وعوامل تفرقة وتشرذم، وهي بعيدة عن الدِّين، وإن كانت في الظاهر تدعو إليه، روى بقيَّة بن الوليد بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «إن الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً، إنما هم أصحاب البدع، وأصحاب الأهواء، وأصحاب الضلالة من هذه الأمَّة، ياعائشة. إن لكلِّ صاحب ذَنْب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء ليست لهم توبة، وأنا منهم بريء، وهم مني بُرآء» (أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم).
    وما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم التوبة عنهم إلا لعِظم ذَنْبهم الَّذي أصاب من وحدة الأمَّة مقتلاً، وأوردها موارد الضعف والتهلكة، فأيُّ استغفار ينفع في ذلك، وأيُّ توبة تفيد هؤلاء؟ والله ينذرهم بأنه سيجازيهم على مفارقة دينهم، ويذيق بعضهم بأس بعض، ويسلِّط عليهم أعداءهم ويذيقهم ألوان الذلِّ والهوان. وذلك ما لم يرجعوا عن غيِّهم، وينخرطوا من جديد في صفوف المجتمع الإسلامي الواحد، نابذين خلافاتهم وأحقادهم، متخلِّين عن أهوائهم، عازمين على اتِّباع ما يرضي ربَّهم، قال تعالى: {ولا تكونوا كالَّذين تَفَرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءَهُمُ البيِّناتُ وأولئك لهم عذابٌ عظيم} (3 آل عمران آية 105).
    فالوحدة سُنَّةُ الإسلام وفريضته، والفرقة والتمزُّق بدعة الجاهلية، والمسلمون أمَّة واحدة؛ إلَهُهم واحد، ونبيُّهم واحد، وكتابهم واحد، وقبلتهم واحدة، الأخوَّة شعارهم، والجماعة سِمةٌ في عباداتهم، والجمعة يوم عظيم من أيام أعيادهم؛ يجتمعون فيه على طاعة الله والاعتصام بحبله، وهم يبتغون بعد ذلك ما يشاؤون من عطائه وفضله. والحجُّ أكبرَ تجمُّع إيماني لهم، لحلِّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، ودعم وحدتهم وتوحيد صفوفهم، إضافة لسموِّهم الروحي والأخلاقي.
    سورة الجمعة (62)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إذا نُوديَ للصَّلاةِ من يومِ الجُمُعَةِ فاسعَوا إلى ذكرِ الله وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون(9) فإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانتشروا في الأرضِ وابتَغُوا من فضلِ الله واذكروا الله كثيراً لعلَّكم تُفلحون(10) وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً قلْ ما عند الله خيرٌ من اللَّهوِ ومن التِّجارةِ والله خيرُ الرَّازقين(11)}
    ومضات:
    ـ يدعو الله تعالى المؤمنين حين يُؤذَّن لصلاة الجمعة، إلى ترك جميع أعمال البيع والشراء وغيرها، والمسارعة إلى جلسة يشتركون فيها جميعاً بذِكرِ الله تعالى وينالون الخير العميم، فإذا انتهَوا من هذا العمل التعبُّدي الجماعي المميَّز، حلَّ لهم الانتشار في الأرض لمتابعة تجارتهم، أو تقديم الخدمات الاجتماعية، على أن يكونوا في جميع أحوالهم متَّصلي القلوب بالله لينجحوا في مساعيهم.
    ـ العطاء الإلهي الروحي لا يمكن أن يقارن بأيِّ رزق مادي يناله المرء، وقد كان هذا العطاء يتنزَّل على الصحابة بملازمتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك عاتب الله تعالى الَّذين أشاحوا بوجوههم عن هذا العطاء، وانفضُّوا إلى القافلة التجارية الَّتي مرَّت أثناء صلاة الجمعة، تاركين الرسول صلى الله عليه وسلم قائماً يخطب، غير مدركين لقيمة ما فرَّطوا به من رزق روحي عظيم، أثمن وأغلى من الرزق المادي، والله تعالى هو الرزاق في جميع الأحوال.
    في رحاب الآيات:
    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنَّة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم السَّاعة إلا في يوم الجمعة» (رواه الخمسة إلا البخاري). ويستحبُّ للمسلم أن يتطهَّر ويتنظَّف ويتجمَّل فيه عندما يريد الذهاب للصلاة؛ لأنه اليوم الَّذي هدى الله الأمَّة الإسلامية إليه ليكون لها عيداً. وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اغتسل يوم الجمعة، ولبس من أحسن ثيابه، ومسَّ من طيب إن كان عنده، ثمَّ أتى الجمعة فلم يتخطَّ أعناق الناس، ثمَّ صلَّى ما كتب الله له ثمَّ أنصت إذا خرج إمامه حتَّى يفرغ من صلاته، كانت كفَّارة لما بينها وبين جمعته الَّتي قبلها» (رواه أبو داود)، وأخرج ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن يوم الجمعة مثل يوم عرفة، تُفتح فيه أبواب الرحمة، وفيه ساعة لا يَسألُ الله العبدُ شيئاً إلا أعطاه، قيل: وأي ساعة؟ قالت: إذا أذَّن المؤذِّن لصلاة الغداة).
    فيوم الجمعة في الشريعة الإسلامية هو يوم التجمُّع يتنادى المسلمون فيه من كلِّ حدب وصوب، ويزحفون إلى مساجد الله زرافات ووحدانا، ليوثِّقوا روابطهم الاجتماعية، ويتفقَّدوا أمور إخوان لهم لم يحضروا للصلاة، وليتباحثوا في أمورهم العامَّة ممَّا فيه مصلحة المجتمع وبناؤه علمياً وتربوياً. وهذا كلُّه في الحقيقة ذكر عملي يتذكَّر فيه المسلمون واجبهم نحو عباد الله، ويمدُّون إليهم يد العون والمساعدة، وهو أجدى من كلِّ بيع أو شراء. لذلك عاتب الله عزَّ وجل بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان منهم، من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة، إلى التجارة الَّتي قدمت المدينة يومئذ، فقال سبحانه: {وإذا رَأَوْا تجارةً أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً..}، فقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن رضي الله عنه قال: «بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدمت عير المدينة، فانفضُّوا إليها وتركوا النبي، فلم يبق معه إلا رهط منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والَّذي نفسي بيده لو تتابعتم حتَّى لا يبقى معي أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً».
    فإذا انقضت الصلاة فإن لهم مطلق الحرية في أن يتفرَّقوا لقضاء مصالحهم الدنيوية، بعد أن أدَّوا ما ينفعهم في آخرتهم، منتظرين الثواب من الله، ذاكرين إيَّاه، في جميع شؤونهم، وهو العليم بالسرِّ والنجوى، ولا تخفى عليه خافية. وفي هذا إرشاد إلى أمرين:
    أوَّلهما: أهميَّة الصلة بالله أثناء القيام بأعمال الدنيا، حتَّى لا يطغى حبُّها على النفوس، فتتهافت على جمع حطامها بأيِّ وسيلة توفرت من حلال أو حرام.
    وثانيهما: إن في هذه الصلة فوزاً في الدنيا والآخرة، أمَّا في الدنيا فلأن من راقب الله فلا يغِشُّ في كيل أو وزن، ولا يغيِّر سلعة بأخرى، ولا يكذب في صفقة، ولا يحلف كذباً، ولا يخلف موعداً، ومتى كان هذا حالهاشتُهِر بين الناس بحسن المعاملة، فأحبُّوه، وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له الله به الرزق. وأمَّا في الآخرة فلأنه يفوز برضوان ربِّه: {..ورضوان من الله أكبر ذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ} (9 التوبة آية 72)، وبجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ونعم أجر العاملين.
    هذا هو التوازن الَّذي يتَّسم به المنهج الإسلامي، فهو يقيم معادلة متكافئة الطرفين بين الإيفاء بمقتضيات الحياة في الأرض بالعمل الدؤوب، وبين تغذية الروح بانقطاع القلب عمّا سوى الله وتجرُّده للذِّكر، وهي ضرورية لحياة القلب لا يصلح بدونها للاتصال والتلقِّي والنهوض بتكاليف الأمانة الكبرى. فذِكر الله أثناء كسب الحلال من الرزق، والشعور المتصل بجلاله هو الَّذي يحيل العمل إلى عبادة، وبذا يتحقَّق للمؤمن الذِّكر الخالص والانقطاع الكامل، والتجرُّد المحض.
    وما أغلاها من ساعات نصرفها في جو التعبُّد الجماعي الباعث للعزائم، المقوِّي للهمم، ننصرف بعدها إلى شؤوننا طوال الأسبوع، ونحن مشحونون بالقوَّة الروحية الَّتي تعيننا على القيام بشؤون ديننا ودنيانا. وبهذا يستمرُّ ذِكرنا لله، وتوجُّهنا لحضرته، وإنابتنا إليه في كلِّ الأوقات. ومن هنا كان اجتماع يوم الجمعة فرضاً لمصلحة الفرد والجماعة، لأن فيه ترابط وتكامل اجتماعي، وبالتالي قوَّة للمجتمع بأسره.
    وهكذا فإن اجتماع المؤمنين على التعبُّد والتفقُّه والاهتمام بشؤون الأمَّة، أفضل من المكاسب الدنيوية، الَّتي يمكن تأجيل مداولتها إلى ما بعد الانتهاء من الأمور العامَّة الَّتي تتعلَّق بمصالح المسلمين. والسعي الحقيقي هو لله ربِّ العالمين، فهو الرزَّاق المعطي، وهو خير مؤدِّب يعرِّفنا قيمة العلم والعمل المشترك، وليعلم الجميع أن مفاتيح العطاء بيده عزَّ وجل وهو خير الرازقين.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    الإيـثــار
    سورة الحشر(59)
    قال الله تعالى: {للفقراءِ المهاجرينَ الَّذين أُخرِجوا من ديارِهم وأموالِهم يبْتَغون فضلاً من الله ورِضْواناً ويَنصُرونَ الله ورسولَهُ أولئك همُ الصَّادقون(8) والَّذين تَبَوَّؤا الدَّارَ والإيمانَ من قبْلِهِم يحبُّونَ من هاجرَ إليهم ولا يجدونَ في صدورِهِم حاجةً ممَّا أُوتُوا ويُؤْثِرون على أنفسِهِم ولو كانَ بهم خَصَاصَةٌ ومن يُوقَ شُحَّ نفسهِ فأولئك همُ المفلحون(9) والَّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفِرْ لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمانِ ولا تجعلْ في قلوبِنا غِلاًّ للَّذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤوفٌ رحيم(10)}
    ومضات:
    ـ يجب أن يكون في صرح المجتمع الإسلامي العالمي ركن لرعاية فئة المهاجرين في سبيل الله، وهم الَّذين يُضطرون إلى مغادرة أوطانهم وترك أموالهم وممتلكاتهم نصرة لدين الله؛ وذلك لتعويضهم وشدِّ عزائمهم.
    ـ ينبغي على المستقرِّين في أوطانهم المتمتِّعين بحرِّية ممارسة العقيدة، أن يرعوا هؤلاء الوافدين إليهم، ويسعوا إلى تأمين الراحة والسعادة لهم والإحسان إليهم، حتَّى يشعروا وكأنهم في بيوتهم وأوطانهم، لينجحوا بذلك ويفلحوا في كسب رضا الله عزَّ وجل.
    ـ على الأجيال المتعاقبة أن تشكر صنيع الروَّاد الأوائل في الدعوة الإسلامية، وتستغفر الله تعالى لهم، لأنهم بذلوا الكثير من التضحيات ـ الَّتي بلغت حدَّ الإيثار ـ لتصل إليهم رسالة الإسلام، وحملوا الأمانة على أكتافهم بعزيمة وصدق.
    ـ المؤمنون إخوة متسامحون متراحمون، يتجاوزون عن أخطاء بعضهم بعضاً ولا يحملون ضغينة أو عداوة فيما بينهم.
    في رحاب الآيات:
    الآيات الكريمة تعود بذاكرتنا إلى صفحة ناصعة من صفحات تاريخ أجدادنا المسلمين الَّذين أُخرجوا من ديارهم، وأُكرهوا على التخلِّي عن كلِّ ما يملكونه فيها، تحت وطأة الأذى والاضطهاد والتنكُّر الَّذي كان يمارسه بحقِّهم قرابتهم وعشيرتهم في مكَّة، لا لذَنْب ارتكبوه إلا أن يقولوا ربُّنا الله، ممَّا اضطرهم إلى الهجرة للمدينة المنوَّرة يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله، بقلوبهم وأعمالهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، أولئك الَّذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدَّقوها بعملهم، فهم صادقون مع الله في اختيار طريقه، ومع الرسول صلى الله عليه وسلم في اتِّباعه، وهم صادقون مع الحقِّ حيث كانوا، فصاروا صورة صادقة عنه تمشي على الأرض.
    ثم تنتقل الآيات الكريمة للحديث عن فئة أخرى من المؤمنين، هم الأنصار، الَّذين كانت المدينة لهم منزلاً ووطنـاً، ودخل الإيمان إلى قلوبهم، فكان لهم المأوى المكين، والحصن الحصين الَّذي تسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه كما يثوب المرء ويطمئن إلى داره. ذلك الإيمان الَّذي أثمر ثمرة غالية هي الحبُّ لله وفي الله؛ فقد أحبُّوا إخوانهم المهاجرين وواسَوْهم بأموالهم وبكلِّ ما يملكون.
    لقد أفرز المجتمع الإسلامي نماذج رائعة من التضحية والبذل، وصلت إلى حدِّ الإيثار على النفس وهو شيء نادر الوجود، يحتاج تحقيقه إلى سموٍّ روحي عظيم. فقد يقول قائل: إن الاشتراكية شيء رائع لأنها تلزم الفرد بأن يقدِّم فائض أمواله للدولة، والَّتي بدورها توزعه بين الفقراء والمحتاجين. وهذا أمر جيد، ولكننا نطرح عليه سؤالاً هامّاً وهو: تُرَى أيُّ نظام في العالم يستطيع أن يُلزم جائعاً، يريد أن يأكل طعاماً لا يملك غيره؛ ثمَّ يجد من هو أحوج منه إلى هذا الطعام، فيُؤثِره على نفسه ويقدِّمه له، ويبيت على الطَّوى؟؟. إن هذا السلوك مارسه الصحابة الكرام فيما بينهم يومياً وبشكل طوعي؛ بينما نحن الآن في القرن العشرين، عصر العلم والحضارة، نجد أن الأنظمة الاجتماعية الهادفة إلى إلغاء الفقر من جذوره، قد فشلت جملةً وتفصيلاً، بسبب عدم أهليَّة المنادين بهذه الأفكار لتطبيقها على أنفسهم قبل غيرهم، وقصور الوسائل الَّتي بين أيديهم عن تطبيقها.
    وما من شكٍّ أن هجرة الصحابة الكرام من مكَّة إلى المدينة، واسـتقبال الأنصار لهم من أجمل الأمثلة وأصدقها على المناصرة والتعاون على مدى التاريخ. فالمؤمنون في مكَّة، وعلى الرغم من كثرة الفقراء بينهم، وتهديد كفرة قريش لهم بأنهم إذا أرادوا الهجرة إلى المدينة، فإنه لن يُسمح لهم بأخذ أي شيء ممَّا يملكون من متاع الدنيا، وبالمفهوم العصري (مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة) فقد أصرُّوا على الهجرة من دار الجهل إلى دار العلم والإيمان، حيث النبي صلى الله عليه وسلم ورضوان الله عزَّ وجل وطاعته. وكان لقاء أهل المدينة لهم عجيباً فريداً، فقد فرحوا بمقدمهم وسعدوا به، ولم يكتفوا بتقديم المساعدات والإعانات لهم فحسب، بل اتخذ كلُّ واحد من الأنصار أخاً له من المهاجرين، وقاسمه ماله، وبهذه الصورة سطع وميض الإيمان الفعلي، ليربط القلوب بمحبَّة متينة متماسكة، ظلَّت نموذجاً يُحتذى إلى يومنا هذا.
    والأمثلة الَّتي ضربها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار كثيرة تفوق الحصر، وقد ورد بعضها فيما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنَّسَائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصابني الجَهْد، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة: أنا يارسول الله! فذهب إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصِّبية، قال: إذا أراد الصِّبية العشاء فنوِّميهم، وتعالى فأطفئي السراج، ونطوي الليلة لضيف رسول الله، ففعلتْ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة، وأنزل فيهما: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}».
    فالمفلح هو من استطاع أن يقي نفسه من الشُّحِّ، ويبذل ممَّا عنده في مرضاة الله، لأن الشُّحَّ هو المعوِّق عن كلِّ خير، والخير كلُّ الخير في بذل المال والجهد مع صدق العاطفة، وقد يتطلَّب الأمر في بعض الأحيان بذل الدم والحياة. إن الشحيح بعيد كلَّ البعد عن الفضائل فلا يملك أن يصنع الخير لأنه يطمع في الأخذ، فلا يجرؤ ولا يقدر على العطاء. ومن وُقي الشُّحَّ فقد تخلَّص من براثن الظلم لنفسه ولغيره؛ أخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلُّوا محارمهم». ويتجلَّى اتقاء الشُّحِّ فيما رواه خالد بن زيد بن حارثة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَرئ من الشُّحِّ من أدَّى الزَّكاة، وقرى الضيف، وأعطى في النائبة» (أخرجه الطبراني في الكبير وهنّاد في الزهد، وإسناده حسن). ولقد أنذر الله تعالى الشحيح بحرمانه من جنَّات عدن، وطرده من نعيمه، وذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال:«خلق الله جنَّة عدن ثم قال لها: انطقي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ومن يُوْقَ شُحَّ نفسه فأولئك همُ المفلحون}» (أخرجه الحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الكبير والأوسط).
    ثم تبرز الآيات أهمَّ ملامح التابعين، كما توضح أهمَّ خصائص الأمَّة الإسلامية عموماً، مبيِّنة صورة الأجيال اللاحقة لجيل الصحابة من المؤمنين، الَّذين تتَّسم نفوسهم بأنها تتوجَّه إلى ربِّها في طلب المغفرة، لا لذاتها فحسب، بل لسلفها الَّذي سبقها بالإيمان وزرع هذا الزرع الإيماني الرائع، فصار مثالاً يحتذى، كما تطلب من الله لنفسها براءة القلب من الغِلِّ أو الحقد على أحد من المؤمنين، مع الشـعور برأفة الله ورحمته، والتوسُّل إليه بهذه الرحمة والرأفة. فالشعور بالحقد تجاه أي مؤمن يناقض الإيمان، لأن الحبَّ من رشحات الإيمان والكراهية من رشحات النفاق، وفي هذا تنبيه من حضرة الله للمؤمنين لكيلا يُنصِّبوا أنفسهم قضاة على من سبقهم، فقد أدَّوْا رسالتهم على أكمل وجه؛ وما نملك حيالهم إلا أن نستغفر لهم، ونشكر صنيعهم ونكون صادقين في شعورنا نحوهم، ونصَفِّي قلوبنا من أي ضغينة تجاههم أو تجاه غيرهم، وأن نسلك السبيل الَّتي سلكوا، فنصل إلى الغاية العظيمة الَّتي بلغوا، وأكْرِمْ بها من غاية.
    وهكذا ـ ومن وراء تلك النصوص ـ تتجلَّى طبيعة هذه الأمَّة المسلمة، وصورتها النقيَّة في هذا الوجود، فتبدو الرابطة الوثيقة الَّتي تربط أوَّل هذه الأمَّة بآخرها، وآخرها بأوَّلها، فيشكر المؤمن في العصر الحاضر كلَّ معروف أسداه إليه أخٌ مؤمن في العصر الماضي، ويقدِّم كلُّ جيل نتاج حضارته ليستفيد منه الجيل الَّذي يليه فيأخذ منه ويضيف عليه، وهكذا إلى أن تنتهي بهم دورة الحياة على وجه الأرض، ويستأنفوا حياتهم الأخرى في عالم الخلود والبقاء، وكلُّ الَّذين اجتمعوا في حياتهم الأولى على محبَّة الله والعمل الصالح، سيجمعهم الله في دار النعيم إخوة على سرر متقابلين. فهذا هو حال المؤمنين من عباد الله، وكلُّ ما يحدث على الساحة الإسلامية ممَّا هو بخلاف ذلك فالإسلام منه براء، ولاشكَّ أنه من أخطاء المسلمين وتقصيرهم الَّذي ينبغي لهم أن يتخلَّصوا منه، ويسارعوا إلى طاعة الله لتعود إليهم الحياة الإيمانية تباشر قلوبهم فتعيد إلى وجودهم الحيوية والنضرة النورانية.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,737
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    01-05-2024
    على الساعة
    07:49 PM

    افتراضي

    نبذ السخرية



    سورة الحجرات(49)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا يَسخَرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يَكُنَّ خيراً منهنَّ ولا تَلْمِزوا أنفُسَكُم ولا تنابَزوا بالألقابِ بئْسَ الاسْمُ الفسوقُ بعد الإيمانِ ومن لم يتُبْ فأولئك همُ الظَّالمون(11)}
    ومضات:
    ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ مَن يُسخَر منه ويُنظَر إليه نظرة احتقار واستخفاف؛ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الَّذي يعتقد بنفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص ويعيِّره.
    ـ خصَّ الله تعالى النساء بتكرار النهي عن السخرية من العباد والتعالي عليهم، مع أنهنَّ مشمولات بالنهي الأوَّل، نظراً لتفشِّي هذه العادة السيئة بين اللواتي لم يفقهن عن الله أوامره، ولم يحذرن من غضبه وعذابه، فلم يملكن الحكمة في ملء فراغهن بطاعته؛ بل اتخذن من اللغو والسخرية، والتنافس في المظاهر ميداناً لشغلهن، وقضاء أوقات فراغهن.
    ـ نهى الله تعالى المؤمنين عن تبادل الشتائم، والتهاتر بالألفاظ القبيحة، لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم، ويتجه بهم إلى منزلقات الجاهلية.
    ـ من لم يستجب لله ويبتعد عن احتقار الناس وإيذائهم فقد ظلم نفسه، ومن لبس ثوب الظلم فقد هيَّأ نفسه لانتقام الله الَّذي يستحقُّه حقاً وعدلاً.
    في رحاب الآيات:
    مادَّة السخرية لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والتكبُّر، فهي تعمل على إيذاء من حولها بدافع الشعور بالفوقية المتغلغلة في أعماقها المريضة. لقد استهان إبليس بآدم وسخر منه قائلاً: أنا خير منه، فباء بالخسارة والخذلان، ولو أنه أمعن النظر في صفات آدم لأدرك أنه يمتاز عليه بصفات كثيرة، أوجدها الله تعالى فيه ليكون مخلوقاً متوازن الصفات والاستعدادات، فعنده أرضيَّة للخير واستعداد للسوء، وعقل للتمييز وقلب للتنوير، وبالتالي فإن لديه جميع الملكات الَّتي تصلح كأدوات للصراع بين الخير والشر، يخوضه الإنسان ويميِّز به الخبيث من الطـيِّب، وتتقرَّر درجات الإحسان أو الإساءة. أمَّا إبليس فإنه لم يكن معتدلاً فقد كان طاووس الملائكة في العبادة، وأصبح زعيماً للشر وأهله، حمله تكبُّره وطغيانه على الإلقاء بنفسه في دائرة غضب الله تعالى ولعنته. ولو لم تغلب عليه شقوته المتأصِّلة في نفسه، لأدرك الفضل والكرامة لآدم والمكانة المتميزة الَّتي له عند ربِّه، فلم يستهن به ولم يسخر منه.
    إن سخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول فعَّال يسعى حثيثاً في تهديم العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأُخوَّة الإيمانيَّة شرَّ مُمزَّق، حيث يستعلي المرء بماله، أو حسبه، أو جاهه مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين،دون أن يدرك إمكانية تفوُّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلُّها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.
    والقرآن يهتف بالمؤمنين أن لا يسخر بعضهم من بعض، فلعلَّ الَّذي يسخرون منه هو عند الله تعالى خيرٌ منهم، وأن لا يسخر نساءٌ من نساءٍ فلعلهنَّ خيرٌ منهن في ميزان الله، فقد روى الحاكم وأبو نُعيم في الحُلية عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمرين ـ الثوب الخَلِق البالي ـ تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبرَّه». وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة الَّتي يراها الرجال في أنفسهم، وتراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية الَّتي يُقَيَّمُ بها الناس، فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، لا يعلمها إلا الله، فقد يسخر الغنيُّ من الفقير، والقويُّ من الضعيف، والذكيُّ من الساذج، والولود من العقيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، بناءً على المقاييس الأرضية الَّتي تخطئ وتصيب في إصدار الأحكام، لكنَّ ميزان الله الثابت العادل لا يرفع ولا يخفض، ولا يقدِّم ولا يؤخِّر إلا على أساس الإيمان والعمل الصالح، وكلُّ ما سوى هذين المعيارين باطل مرفوض. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وفي هذا إيماء يصرف المرء عن مدح أحد أو الانتقاص منه بما يرى عليه من ظواهر الأعمال.
    إن القرآن الكريم يُذَكِّر الَّذين آمنوا بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة فيقول: {ولا تلمِزوا أنفسَكُم} فإذا عاب غيره من المؤمنين فكأنما يعيب نفسه، واللمز هو العيب، ومن اللمز التنابز بالألقاب الَّتي يكرهها أصحابها، ويُحِسُّون بأن إطلاقها عليهم ما هو إلا من قبيل السخرية والعيب، ومن حقِّ المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويُزري به، وقد غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء وألقاباً كانت في الجاهلية لأصحابها، لأنه وجد فيها ما يُزري بأصحابها. أمَّا الألقاب الَّتي تُكسِبُ حمداً أو مدحاً فلا تُكره، فقد أُطلقَ على أبي بكر (الصدِّيق) وعلى عمر (الفاروق) وعلى عثمان (ذي النُّورَين) وعلى علي (المرتضى) وعلى خالد (سيف الله). ثمَّ تحذِّر الآية المؤمنين من فقدان صفة الإيمان باستخدام ألفاظ الفسق والفجور، لأن في ذلك ارتداداً إلى الجاهلية، لذا فإن من لم يتب عن نبزه أخاه بما نهى الله عنه من الألقاب، أو لمزه إيَّاه أو السخرية منه، فقد ظلم نفسه وأكسبها عقاب الله بعصيانه إيَّاه.
    والخلاصة: إن الآية الكريمة تشير إلى ضرورة تجنُّب أمور ثلاثة فيها كلُّ الإساءة إلى المجتمع الإيماني؛ وهي السخرية، واللمز، والنَّبْز. فالسخرية هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بازدراء ويسقطه عن درجته،واللمز هو ذِكر ما في الرجل من عيب في حضوره أو في غيبته، والنَّبْز هو أن يضيف إليه وصفاً يوجب بُغضه والحطَّ من منزلته، وبذلك يضع الإسلام قواعد اللياقة الاجتماعية والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني الفاضل الكريم.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

صفحة 1 من 3 1 2 ... الأخيرةالأخيرة

التربية الاجتماعية في الإسلام

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. 12 خطأ يقع فيه المربون . التربية السليمة . اخطاء التربية
    بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 18-06-2012, 07:29 PM
  2. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-07-2010, 07:46 PM
  3. مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 16-07-2010, 07:42 PM
  4. 12 خطأ يقع فيه المربون . التربية السليمة . اخطاء التربية
    بواسطة مريم في المنتدى قسم الأطفال
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-07-2010, 10:10 PM
  5. الآفات الاجتماعية وموقف الإسلام منها
    بواسطة فريد عبد العليم في المنتدى المنتدى الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 15-12-2009, 02:00 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

التربية الاجتماعية في الإسلام

التربية الاجتماعية في الإسلام