أمراض على طريق الدعوة‘ (1) التصدر وطلب الرئاسة

تمهيد

الدعاة إلى دين الله -عز وجل- هم أكثر الناس اتصالاً بشرائح المجتمع، وأكثر الناس تفاعلاً وتواصلاً معهم، وأكثر الناس تأثيرًا فيهم وتأثرًا بهم، لذلك فإن طريق الدعوة طريق شاق وطويل ومليء بالآفات والمعوقات التي تعترض طريق الداعية وتعيق سيره إلى الله، ومن أهم هذه الأمراض التي تعترض طريق الدعاة الأمراض القلبية التي تصيب النفوس والأرواح والقلوب والعزائم والإرادات، وهي أشد فتكًا وأعظم خطرًا من الأمراض البدنية، فأمراض البدن تظهر أعراضها ويشعر المريض بآلامها، أما أمراض القلوب فتنمو وتستفحل يومًا بعد يوم وصاحبها لا يشعر بها ولا يعاني من آلامها، أمراض الأبدان لها أطباء وحكماء وخبراء في كل باب، أما أمراض القلوب فأطباؤها قليلون وخبراؤها نادرون، لذلك كان الوقوف على أسباب الأمراض القلبية ومعرفة دواعيها ومظاهرها وتداعياتها وآثارها على الدعوة والداعية والمجتمع بأسره من أولويات العمل الدعوي، ومن ثمّ كانت هذه السلسلة التي تتناول أشهر الآفات النفسية والأمراض القلبية التي تعتري بعض الدعاة أثناء سيرهم على طريق الدعوة.

وأول مرض نبدأ به هذه السلسلة هو "التصدر وطلب الرئاسة".

ولا غرابة في حرص أهل الدنيا على الإمارة والولايات؛ فذلك أمر تعوّده الناس منهم، حتى أفضى الأمر إلى نزاعات وخلافات ومفاسد وفتن كثيرة، وأدى كثير منها إلى سقوط بعض الدول، كسقوط الأندلس وغيرها. لكن المؤلم أن يتسلل هذا الداء إلى داخل التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، شعرت أم لم تشعر، حتى يصـيـر همّ الواحد منهم أن يسود على بضعة أفراد، دون التفكير بتوابع ذلك وخطورته.

وربما يتعجب البعض من البدء بهذا المرض تحديدًا دون غيره، ويرى أمراضًا أخرى أكثر أهمية وأشد خطرًا، ولكن الواقع يشهد أن طلب الرئاسة والبحث عن التصدر أكثر الأمراض شيوعًا بين الدعاة، بل إن طلب الرئاسة هو آخر ما يخرج من قلوب الصالحين كما قال أهل العلم، والتطلع للصدارة وطلب الرئاسة ليس مذمومًا في ذاته إذا كان الأمر متعلقًا بأمور الآخرة؛ إذ إنه البحث عن الأفضل وطلب المعالي، وفيه معاني التقدم والسبق والتنافس في مرضات الله -عز وجل- والريادة في الصالحات، وإنما المذموم منه ما اقترن بالتنافس على مناصب الدنيا والتكالب عليها طمعًا في الوجاهة، وهو ما ورد به النهي والذم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في كتاب الأحكام ومسلم في كتاب الإمارة من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه". وأيضًا حديث أبي ذر الشهير الذي قال له فيه رسول الله: "يا أبا ذر: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". أخرجه مسلم في الإمارة.

ولا تعارض في هذا النهي مع طلب يوسف -عليه السلام- المنصب في قوله -عز وجل-: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55]، لأن السؤال هنا ليس لحظ النفس إنما لله -عز وجل-، وسدًّا لفراغ في المنصب شغله يوسف -عليه السلام-، كما أنه سيقوم بالحق ويدافع عنه ويوصل الحقوق إلى أهلها، كما أن الإنسان لو وجد في نفسه استعدادًا وكفاءة وأحقية صادقة واستكمل أسباب الولاية عندها لا يكون ثمة موانع أو مكروهات لتوليه وطلبه، أما لو سعى للرئاسة وهو ليس لها بأهل، ولم يتحصل على أي سبب من أسبابها، وقعد عن واجباتها فعندها يكون سعيه وطلبه للرئاسة مذمومًا بذاته. والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه؛ لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة، وهو فارس الميدان إذا تعيّن عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً) [الفرقـان: 74]، أي: أئمة هـدى يُقتدى بأفعالهم، وهذا لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون العباد ممتثلين لأمره.

وهناك العديد من المظاهر والأمارات التي تدل على أن الداعية ممن يبحث عن الزعامة والتصدر مهما كانت العواقب، وتكشف مكنونات صدره وتطلعات نفسه، ومن هذه المظاهر:

أولاً: العجب بالنفس، وكثرة مدحها، والحرص على وصفها بالألقاب المفخمة كالشيخ، والأستاذ، والداعية، وطالب العلم، ونحوها، وإظهار محاسنها من علم وخُلُق وغيره.

ثانيًا: بيان عيوب الآخرين -وخاصة الأقران- والغيرة منهم عند مدحهم، ومحاولة التقليل من شأنهم في المحافل وأمام التلاميذ والأتباع.

ثالثًا: الشكوى المستمرة من عدم نيله لمنصب ما، وكثرة سؤاله عن الأسس والمعايير لتقلّد بعض المناصب، وفي نفس الوقت يحرص على تقلّد الأمور التي فيها تصدّر وبروز؛ كالإمامة والخطابة والتدريس، وهي من فروض الكفاية، لا بد لها ممن يقوم بها، مع مراعاة أحوال القلب، والتجرد من حظوظ النفس؛ كما هو حال السلف.

رابعًا: التكاسل في تنفيذ الأوامر والتكاليف، وعدم المشاركة بجدية عندما يكون مرؤوسًا، والتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها.

خامسًا: كثرة النقد بسبب وبغير سبب، ومحاولة التقليل من أهمية المبادرات والآراء والأفكار الصادرة من غيره والعمل على إخفاقها، مع الإصرار على رأيه، وعدم التنازل عنه، وإن ظهرت له أدلة بطلانه.

سادسًا: الجرأة على الفتوى، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها؛ ليشتهر أمره، ويذيع صيته بين الناس بأنه مفتي النوازل الذي عنده من الإجابات ما لا يوجد عند غيره من أهل العلم، وقد كان السلف يتدافعون الفتوى كثيرًا ويتورعون عنها أشد التورع؛ ومن ذلك ما قاله عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما كان منهم محدّث إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا".

ولو نظرنا إلى رغبة بعض الدعاة في الصدارة والرئاسة لوجدنا أن معظم الأسباب الداعية لهذا المرض هي أسباب نفسية مرتبطة بالغفلة عن تبعات الرئاسة والصدارة وأثرها البالغ على من طلبها وسعى من أجلها أشد السعي، فالرئيس والصدر والقائد عليه من التبعات والمهمات والواجبات أكبر من غيره، فالقائد يتحمل مسؤولية ضخمة، فهو يسهر حيث ينام الآخرون، ويجوع ويشبع الآخرون، ويتعب ويرتاح الآخرون، ثم هو مسؤول عنهم جميعًا، وفي الحديث: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ أم ضيّع"، وسيرة الرسول القائد -صلى الله عليه وسلم-، كبير الدعاة إلى الله، خير دليل على معنى القيادة المسؤولة، فهذا علي -رضي الله عنه- صهره وابن عمه وألصق الناس به يصف الرسول القائد وقت الأزمات فيقول: "كنا إذا احمّر البأس، ولقي القومُ القومَ، اتّقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما يكون منا أحد أدنى من العدو منه". أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير.

ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، وفي عنقه سيفه". أخرجه البخاري في كتاب الأدب.

وكان في الأزمات يربط الناس على بطونهم حجرًا ويربط الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجرين، وعندما يأتي الطعام أو الشراب يكون -بأبي هو أمي صلى الله عليه وسلم- آخر الطاعمين.

وهذه هي مسؤولية القائد وتبعات القيادة والرئاسة التي يغفل عنها بعض الدعاة الذين يلهثون خلفها ولا يبالون بمغبتها وتبعاتها.

وقد تكون هناك بعض العوامل الأخرى التي تدفع بعض الدعاة لطلب الرئاسة والبحث عن التصدر، من عدم الاعتياد على الطاعة وتنفيذ الأوامر، والرغبة في التملص من التكاليف والأعباء الدعوية، ومنها العجب بالنفس والتعاظم في تقدير ملكاتها ومواهبها، والإحساس الزائد عن الحد بالنفس، ومنها الرغبة في تحصيل بعض أعراض الدنيا ومتاعها، ومنها الرغبة في التسلط على الآخرين وإذلالهم بالتكاليف الشاقة والأوامر الصارمة.

وكما أسلفنا في مقدمة الحديث أن هذه الأمراض لا تؤثر على الداعية فحسب، ولكن تؤثر على الدعوة كلها والمجتمع بأسره، ومن آثارها على الداعية نفسه:

أولاً: الحرمان من التوفيق الإلهي: فمن السنن الماضية أن من طلب الإمارة فإن الله -عز وجل- يسلبه التوفيق ويحرمه التأييد، ويكله إلى نفسه وتدبيرها ليرى قدره ويعرف إمكاناته على حقيقتها، ذلك أن التطلع إلى الصدارة يعني الثقة الزائدة في النفس والاعتماد عليها وعلى طاقاته وقدراته، ومن اعتمد على غير الله -عز وجل- وكله الله إلى ما يعتمد عليه، وهذا الأمر ظاهر جليّ في حديث عبد الرحمن بن سمرة الذي رواه البخاري ومسلم، وفيه قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عبد الرحمن: لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".

ثانيًا: قسوة القلب وكثرة الهموم: فإن مسؤولية القيادة تلقي على القلب ظلالاً من الهم والحزن بسبب عظم المسؤولية وجسامة التبعة، ومكابدة أعباء المناصب القيادية تحتاج إلى طاقة نفسية وإيمانية هائلة تبقي مادة حياة القلوب من إخبات وإنابة وتوكل واستعانة وتواضع، والقيادة فتنة وهموم ومسؤولية جسيمة، فالقائد في موضع اقتداء وتقليد، فإذا لم يكن محترزًا في كل أفعاله وحركاته وقراراته كان مسؤولاً عمن اقتدى به ولو على سبيل الخطأ، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة".

ثالثًا: إيغار الصدور وإثارة الضغائن: فمن وصل إلى منصب أو رئاسة، تعرض لملامة الآخرين وسهام الناقدين، واشتعلت عليه نار الحسد والحقد، والحسد بين الأقران شهير وله آثار كثيرة، وكم من عالم وفقيه ومحدث تعرض لحسد الأقران حتى راح ضحية لهذه الأحقاد!! وما جرى للإمام البخاري -رحمه الله- خير دليل على ذلك، فما بالنا لو كان صاحب المنصب ليس له بأهل ويفتقر للكفاءة والمهارة، فعندها تكون الملامة أشد والعداوة أوثق، فيزداد التشاجر والتناحر، وربما وصل الأمر للقتال، والتاريخ حافل بآلاف النماذج التي تطلعت إلى الصدارة وطلب الريادة، ولم تنل مرادها، وانتهى بها الحال مجندلة في التراب بين نفي وتشريد وتقتيل.

رابعًا: المداهنة في دين الله -عز وجل- بالسكوت عما يجب قوله والقيام به من الحق، وربما بقول الباطل من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو قول على الله بلا علم، وذلك باتباع الهوى الذي يدعوه لفعل كل ما يمكن فعله من أجل الحفاظ على منصبه، وقد رأينا من العلماء الرسميين والمفتين الموظفين الكثير من البلايا والرزايا ثمنًا وقربانًا لرضا الحكام والطغاة حتى يبقوهم في مناصبهم ووظائفهم الدينية والدعوية.

أما عن آثار طلب الرئاسة والبحث عن الصدارة على الدعوة نفسها، فيكفي أن نعرف أن هذا الداء كفيل بأن يمنع التمكين للدعوات، ويبطل جهود المخلصين فيها، فالتمكين لا يكون إلا للدعوة الخالصة التي صفت من الأكدار والشوائب التي تعلق بقلوب العاملين فيها ومن أجلها، ولو ازدحم على طريق الدعوة الكثيرون بحثًا عن رئاسة أو زعامة فارغة فمن يبقى للعمل والسعي وخدمة الدعوة، وأنّى للصف أن يستقيم وفيه طالبو الزعامة والباحثين عن الشهرة، وهل يصح أن يكون للدعوة مئات القادة وعشرات الجنود!!

وحتى تعالج هذه الآفة جيدًا وتستأصل شأفتها من قلوب الدعاة فلابد من خطة عمل تبدأ منذ الصغر عن خطورة القيادة وعظم المسؤولية عنها، ودوام التذكير بتبعاتها وعواقبها في الدنيا والآخرة، والنظر في سنته وهديه -صلى الله عليه وسلم- التي تزخر بعشرات الآثار التي تنهى عن سؤال الإمارة والرئاسة والفرار منها، وآثار السلف وسيرتهم العاطرة في التعامل مع المناصب التي كانت تعرض عليهم عرضًا فيفرون منها فرارهم من الأسد، والتربية من الصغر على التواضع وحسن الخلق والإيثار وهضم حقوق النفس وإيثار مصلحة الدعوة الإسلامية على ما سواها، والتربية على قبول التكاليف مهما صغرت كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث أغبر، ومغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع". البخاري في كتاب الجهاد.