أحمد الله تبارك وتعالى وأصلى وأسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهدية واتبع طريقته وسار على نهجه إلى يوم الدين وبعد فإن الأسوة النبوية الحسنة , وسيرة النبي محمد الجامعة هما أساس نجاح المسلم فلا يكمل دينه ولا يتم إسلامه إلا بهما .وإن السنة المحمدية تكفي جميع البشر وطوائفهم وفرقهم إذا اتخذوا منها الأسوة والقدوة ففيها النور الذي يستضاء به في ظلمات الحياة الاجتماعية , وكم ظلمه حالكة في الحياة ؟(قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) إن كل طائفة من طوائف البشر تجد في رسول الله السيرة الجامعة , والأسوة الكاملة والمثل الأعلى الذي تقتدى به , وإن مثلها مثل الباقة الجامعة لكل أصناف الزهور والورود بجميع ألوانها , ففيها الأحمر القاني , والأبيض الناصع , والأخضر الناضر , والأصفر الفاقع .وإن الإنسان ليطرأ عليه في حياته رغبات الجسد ورغبات الروح , والجسد إما أن يكون نبته حلال أو حراما , والروح إما أن تسمو أو تنحط , وكل هذه الرغائب تتصارع وتتعارك , ولكن لابد من ضابط يضبطها , ويكبح جماحها ويوقفها عند حدودها ولا يكون ذلك إلا بالإمام الأسوة والقدوة الذي يبلغ الكمال في كل تصرفاته , ولا نجد نحن البشرية طلبتنا , وما ننشده من حياة كاملة جامعة إلا في زعيم الأنبياء والبشرية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه .إن حياة محمد أحفال في قلوبنا وميثاق أخذه الله على الأنبياء من قبله أن ينصروا دعوته ويؤمنوا برسالته ويقروا نبوته , ويشهدوا تعاليمه {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } إن حياة محمد أسوة كاملة لحياة البشرية في كل أدوارها وأطوارها فإن كنت غنيا ثريا فاقتد برسول الله محمد عندما كان تاجرا يسير بسلعه بين الحجاز والشام وحين ملك خزائن البحرين , وإن كنت فقيرا معدما فلتكن لك أسوة به وهو محصور في شعب أبى طالب وحينما قدم إلى المدينة مهاجرا إليها من وطنه وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئا , وهو قدوه للملوك بسنته وأعماله حين ملك أمر العرب وغلب على آفاقهم ودان لطاعته عظماؤهم وذو أحلامهم , وهو أسوة حسنه للرعية حين كان بمكة محكوما في نظام المشركين وهو يسفه أحلامهم وينبذ آلهتهم , وهو قدوة صالحة للغالبين الفاتحين فلهم من حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر وحنين ومكة , وإن ضاقت بك الدنيا وقت المعركة وتخلى عنك رفاقك وغلبت على أمرك لا قدر الله فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفاقه المتخمين بالجراح , وإن كنت معلما فانظر إليه وهو يعلم أصحابه في صفة المسجد وإن كنت تلميذا وطالب فتصور مقعده بين الروح الأمين جاثيا مسترشدا وإن كنت واعظا ومرشدا وموجها فاسمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي ثم من قبل ذلك في شعاب مكة لائذا بالصبر على الحق ولا يتزحزح عنه قيد شعرة ولو أدى إلى استشهاده في سبيل الله قائلا(جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : أرأيت أحمد ؟ يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا فانهه عن أذانا فقال : يا عقيل ! ائتني بمحمد فذهبت فأتيته به فقال : يا ابن أخي ! إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانته عن ذلك : فلحظ رسول الله ببصره ( وفي رواية : فحلق رسول الله ببصره ) إلى السماء فقال : فقال ما ترون هذه الشمس قالوا نعم قال ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشغلوا منها شغلة: فقال أبو طالب : ما كذب ابن أخي فارجعوا) وإن هزمت عدوك وخضعت شوكته وقهرت عناده فظهر الحق على يدك وزهق الباطل واستتب لك الأمر فانظر إلى الرسول يوم دخل مكة وفتحها وعفا عن أعدائه وإن أردت أن تصلح أمورك , وتقوم على ضياعك فانظر إليه وقد ملك ضياع بنى النضير وخيبر كيف دبر أمورها , وأصلح شئونها , وفوضها إلى من أحسن القيام عليها , وإن كنت يتيما فانظر إلى فلذة كبد آمنه وزوجها عبد الله وقد توفيا وابنهما صغير , وإن كنت صغير السن فانظر إلى الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السعدية , وإن كنت شابا فتيا ناشئا فتصور زعيم الشباب محمد حينما كان راعيا لغنم أهل مكة , وإن كنت قاضيا فنظر إلى الحكم الذي أصدره قبل بزوغ شمس النبوة عليه حينما اجتمع رؤساء مكة بعد بناء الكعبة ليضعوا الحجر الأسود في مكانه وكادت الدماء تراق والأرواح تزهق والسيوف تستل من أغمادها لولا حكمه الفاصله التي قهرت كل خطيب , ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى وهو في فناء المسجد بالمدينة يقضي بين الناس بالعدل يستوي عنده منهم الفقير والغني والشريف والوضيع , والحاكم والمحكوم والقوي والضعيف ويعلن في وضوح أنه لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع يدها .
وصفه القاضي العدل الرشيد.. وأصلب من رأوا في الحق عدوا
وأمضى في أحبته الحدودا ....... وأقسم لن يرى عنها محيدا
وأن لو تسرق الزهراء عودا ....... لحز يمينها من غير ريب
ليخلد عدله بين القضاء
وإن كنت زوجا وأبا فتخير من سيرة محمد العطرة الحياة النزيهة لزوج خديجة وعائشة وما كان عليه والد فاطمة الزهراء وجد الحسن والحسين .إن السيرة الجامعة لشتى الأمور هي ملاك الأخلاق , وجماع التعاليم لشعوب الأرض وللناس كافة في أطوار الحياة كلها , وأحوال الناس على اختلافها وتنوعها إذا كانت طيبة الأساس نقية الأصول , فالسيرة المحمدية نور للمستنير , وهديها نبراس للمستهدي وإرشادها ملجأ لكل مسترشد .وإذا تحدث الناس عن الزهد والتواضع فنجد أروع الأمثلة في محمد ولم يكن زهده عن حرمان وفقر بل كان زهده في الدنيا في الوقت الذي أقبلت عليه الدنيا بحذافيرها وذلك أمر العرب ولم يخص بيته بشيء من حطام الدنيا , إنه كان رسولا حصيفا ونبيا معصوما في الساعة التي نتصوره فيه فاتحا للبلاد ظافرا بالأمم , إنه ليضطجع على حصير له من خوص , ويتكىء على وسادة حشوها من ليف , ويكون أهل بيته في شدة وفاقه عقب استقباله الأموال العظيمة آتية إليه من أنحاء الجزيرة العربية فتكون في فناء مسجده أكواما يوزعها على الناس , وتأتيه بنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه من حمل القربة والطحن بالرحى والمشقة من القيام بخدمة بيتها حتى تشققت يدها وأثرت القربة في جسمها , والرسول يومئذ يقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم من عبيد الحرب وإمائها فلا تنال بنته من ذلك إلا دعاء لها بكلمات يعلمها كيف تدعو بها ربها وجاءه ذات يوم صاحبه عمر فأجال بصره في الحجرة فلم يجد إلا حصيرا من الخوص قد أضطجع الرسول عليها وأثرت في جنبه وعلى مقربه منه شن معلق على وتد هذا كل ما كان يملكه رسول الله يوم دان له نصف العرب , فعن أنس بن مالك قال: دخلت على النبي وهو على سرير مرمول بشريط تحت رأسه وسادةٌ من أدم حشوها ليف، ما بين جلده وبين السرير ثوب، فدخل عليه عمرٌ فبكى، فقال له النبي : "ما يبكيك يا عمر؟ "قال: أما والله ما أبكي يا رسول الله ألا أكون أعلم أنك أكرم على الله من كسرى وقيصر، فهما يعيثان فيما يعيثان فيه من الدنيا، وأنت يا رسول الله بالمكان الذي أرى! فقال النبي : " أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟". قلت: بلى يا رسول الله، قال: "فإنه كذلك".) .إنه لا يستحق إنسان يكون قدوة للعالم في جميع مناهج الحياة إلا إذا اجتمعت فيه الخلال الشريفة كلها والخصال الإنسانية الكاملة بأجمعها مما يحتاج إليه الناس في معايشهم فتكون لهم في سيرته أمثلة كثيرة, وإذا ما رجعنا إلى حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نجد نوح عليه السلام اشتد به الغيظ الشديد على الكفر وأهله والشرك ومن يدين به , وفى حياة إبراهيم جهادا في تحطيم الأصنام وإبطال عباده الأوثان , وفى حياة موسى قتالا للمشركين بالله , وفى المسيح عليه السلام العفو والصفح واللين للناس وخفض الجناح فتملىء نفسك إعجابا بعفوه وعفته وأما سليمان عليه السلام فجلالة سلطانه وأبهة ملكه يملكان عليك الإعجاب والدهشة , وتمثل حياة أيوب عليه السلام فعانى الصبر على المكارة , وشكر الله على الرغائب, ويملؤك يونس عليه السلام إعجابا بإنابته إلى الله وندمه على ما فرط منه , ويوسف عليه السلام يهدينا إلى كيفية قيامه بدعوة الحق وهو أسير عابد وكيف يصون نفسه ويستمسك بعفافه حين تراوده امرأة ذات جمال وجلال ومال وعظمة , وفى حياة داود عليه السلام درس عظة وصحيفة عبرة إذ يبكي من خشية الله ويحمده ويدعوه متضرعا إليه , وفى سيرة يعقوب عليه السلام أسوة للمرء فيما يرجوه من رحمه الله والثقة به والتوكل عليه عندما تظلم الدنيا في عينيه.أما محمد عليه الصلاة والسلام فإن سيرته العطرة تجمع ذلك كله وتشتمل على جميع هذه الخصال فسيرته بحر لجي تنصب فيه جميع الأنهار وتتصل به كل البحار من سير الأنبياء والرسل وهديهم وسننهم .
وَكلُّ آيٍ أتَــى الرُّسْلُ الكِرامُ بها فإنما اتَّصَلَتْ مِنْ نُورِهِ بهِمِ
فإنَّه شّمْسُ فَضْلٍ هُمْ كَواكِبُها يُظْهِرْنَ أَنْوَارَها للناسِ في الظُّلَمِ
إن الرسول الأمي محمدا لم يحمل في شبابه سلاحا ولم يملك من قبل بلادا قد أقام للأمة العربية التي لم تكن لها في كفة السياسة العالمية وزن ولا قدر جعلها دولة ذات عظمة وجلال واكتشف في نفوس رجالها كنزا من القوة لا ينفد , وأقام من هذه الأمة التي لم تكن تعرف الله ولا تعلم توحيد ربوبيته , عبادا يحيون الليل بذكر الله ويبلغون رسالته في النهار .إن محمدا فيه خلال جامعة , وخصال كاملة , والدنيا ليست إلا مظهر من مظاهر الحياة متنوعة الألوان ولا يمكن لهداية البشر إلا بمحمد الذي اجتمعت فيه خلال الإرشاد كلها وخصال الإصلاح للنوع البشري بأجمعه ولذلك قال الله { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فوجه الرسول الدعوة إلى كل من يدعي محبة الله أن يتبعه ويطيع أمره وينفذ حكمه وتعاليمه , لقد نادى الملوك في ممالكهم والرعاع في شوارعهم , والمعلمين في مدارسهم , والتلاميذ في فصولهم , والعمال في مصانعهم والفلاحين في مزارعهم , والفقراء في أكواخهم والأغنياء في قصورهم كما دعا المظلومين والمقهورين والمخذولين , بل أهاب بالعالم كله أن يتبع سبيله وأثره لأن سيرته الشريفة هي المثل الأعلى وفيها الأسوة الكاملة للبشرية جمعاء ولكل من يحب الخير ويبتغى الصلاح لنفسه وللناس . اللهم إنك تعلم وما مرادي به وهداية المتعلمين ونصيحة المسلمين وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين وأوصلني إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين وقد أحببت رسولك وأصحابه وأهل الحق الذين قالوا بقول رسولك وفقنا الله للقول الصدق وان لا تزل أقدامنا عن الصراط السوي والمنهج الواضح القوي والمسلك القويم النبوي ويسر لنا الاهتداء بهدي نبيه محمد والاقتفاء بمن اتبع سنته واختار شريعته واقتدى بسيرته والله المسئول أن يزيده مما أولاه أن يصلح لكل منا آخره وأولاه فضلا من رب العالمين وكرمنا منه سبحانه اللهم آمين.
- سورة المائدة 15 - 16
-يَكْبَحُ] كَبَحْتُ الدَّابَّة إذَا جَذبْتَ رأسَها إليك وأنت راكِب ومَنَعْتَها من الجِمَاح وسُرعة السَّير( النهاية في غريب الأثر (4/ 242، بترقيم الشاملة آليا)
- إذا عزَّ راكبَه على عِنانه ، فهو جامح وجَموح . أو يكونُ من قولهم : جمح الصبيُّ بالكَعْبِ ، إذا رمى به في اللعب . وقد سمَّوا جَمَّاحاً ، وجُمَيحاً(الاشتقاق (ص: 117)
- سورة آل عمران81
- (حسن) السلسلة الصحيحة - مختصرة (1/ 194) 92 - أخرجه الحاكم في المستدرك (ج3:ص574)، وأخرجه البزار في البحر الزخار حديث رقم 2170، وأخرجه أبو يعلى في مسنده حديث رقم 6804، وأورده البوصيري في إتحاف الخيرة حديث رقم 8504، وأخرجه الهيثمي في المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي جزء حديث رقم 1248، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير حديث رقم 511.
-( الضيعة ) الأرض المغلة والعمل النافع المربح كالتجارة والصناعة وغيرهما من الحرف( المعجم الوسيط (1/ 547)
- ( حصف ) الشيء حصافة كان محكما لا خلل فيه ويقال حصف فلان استحكم عقله وجاد رأيه فهو حصيف(المعجم الوسيط (1/ 179)
- سرير مرمول ومرمل بفتح الراء يريد بكل هذا المنسوج من السعف(مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 291)
-(صحيح) أخرجه أحمد في مسنده حديث رقم 12009، وأخرجه أبو بكر البزار في البحر الزخار بمسند البزار 10-13 حديث رقم 6684، وأخرجه ابن وضاح المرواني في البدع لابن وضاح حديث رقم 187، وأخرجه الواحدي في الوسيط (ج4:ص509)، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (ج1:ص228)،(ج8:ص340)، وأخرجه وكيع بن الجراح في الزهد حديث رقم 113، وأخرجه أحمد بن حنبل في الزهد لأحمد بن حنبل حديث رقم 2360، وأخرجه هناد في الزهد حديث رقم 742، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد حديث رقم 1163، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الجوع لابن أبي الدنيا حديث رقم 21.
- ( اللج ) معظم الماء حيث لا يدرك قعره ولج البحر عرضه ولج الليل شدة ظلمته وسواده(المعجم الوسيط (2/ 816)
- سورة آل عمران31
- سورة


الشيخ /الحسيني مصطفى الريس