أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

السيرة النبوية لابن هشام 1 كتاب الكتروني رائع » آخر مشاركة: عادل محمد | == == | بالفيديو:الأب زكريا بطرس يزعم أن رسول الإسلام كان يتمتع بالنساء مع الصحابة وبالأدلة! » آخر مشاركة: نيو | == == | بالفيديو: إثبات وجود سيدنا محمد تاريخيا من مصادر غير المسلمين القديمه » آخر مشاركة: نيو | == == | بالصور والروابط الأجنبيه: أقوى إعتراف مسيحى موثق بوجود إسم سيدنا محمد فى العهد القديم » آخر مشاركة: نيو | == == | الى كل مسلم و مسيحى: نصيحة بولس الشاذة التى أدت الى سقوطه و سقوط الكتاب المقدس معه!! » آخر مشاركة: نيو | == == | تدمير المسيحية فى65 ثانية فقط : بسؤال قاتل لأنيس شروش يهرب منه(فيديو)!!!! » آخر مشاركة: نيو | == == | فيديو: معجزة بلاغيه قرآنيه مستحيل تكرارها فى اى لغه من اللغات: تكرار حرف الميم 8 مرات متتاليه بدون تنافر!!! » آخر مشاركة: نيو | == == | ضربة لمعبود الكنيسة تعادل في نتائجها الآثار المرعبة لهجوم نووي » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | سؤال حيّر الأنبا رفائيل وجعله يهدم المسيحية » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == | تلاوة عذبة من سورة القلم : الشيخ القارئ عبدالله الجهني » آخر مشاركة: *اسلامي عزي* | == == |

مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1

النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    14
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    28-04-2013
    على الساعة
    12:10 AM

    افتراضي أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1

    العلاقة بين العقل والنقل
    المحاضرة الأولي
    (ماهية العقل ومدارك اليقين)
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
    من أهم الأمور التي تقرر العقيدة السليمة في نفوس المسلمين، وتسهم في إزالة الخلاف بين المتناظرين، وتقرب القلوب إلى التمسك بالقرآن والسنة على فهم سلف الأمة، حقيقة العلاقة بين العقل والنقل، فالعلاقة بين العقل والنقل تعتبر عاملا حاسما في تحديد هوية المسلم واعتقاده، لاسيما في باب الغيبيات وما يتعلق بالأسماء والصفات، ولأهمية ذلك نتعرف على موقف السلف الصالح من هذه العلاقة وما هو المنهج الصحيح الذي يسلكه الموحد في هذا الموضوع ؟
    ما المقصود بالعقل؟
    العقل في أصح الآراء : غريزة وضعها الله في قلوب الممتحنين من عباده تابعة للروح موضوعة في الجانب الغيببي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها، ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من أفعال الإنسان في ظاهر البدن، فيقال هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها.
    قال تعالى: (أَفَلَمْ يسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا)، فالآية تدل على أن العقل موجود في القلب.
    قال الثعالبي في الجواهر الحسان: (هذه الآية تقتضى أن العقل في القلب وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ).
    وقال القرطبى في الجامع لأحكام القرآن: (أضاف العقل إلى القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن، وقد قيل: إن العقل محله الدماغ وروي ذلك عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحة) .
    والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها من حواس الإنسان ثم يحللها ويصنف الحدث المرافق لها، ثم يخزنها في ذاكرة الإنسان الذي بدوره يقوم باستدعائها حسبما يشاء .
    ما هي الغاية الرئيسية من وجود العقل؟ معرفة الإنسان بما ينفعه ويضره، وكيف يحصِّل الخير الأعلى ويدفع عن نفسه الشر الأدنى ويحقق لنفسه الأفضل دائما ؟
    ما هي حدود المعرفة بالعقل ؟
    العقل هو أساس الجهاز الإدراكى البشرى فهو في القلب يشبه المعالج في الكمبيوتر، والحواس تشبه وسائل إدخال المعلومات أو إخراجها والمخ فيه ذاكرة الإنسان أو ما يشبه القرص الصلب.
    والله عز وجل قد خلق الإنسان بجهاز إداركى محدود، تحقيقا لعلة معينة، تمثلت في الابتلاء كما قال تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2).
    العتبات المطلقة للحواس الخمس :
    وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة، لتقدير القيم التقريبية للحدود المعينة في المؤثرات الخارجية التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكى في جسم الإنسان، والتي يطلقون عليها في علم النفس العتبات المطلقة للحواس الخمس فوجدوا الحقائق التالية:
    1- أن البصر يدرك به العقل صورة شمعة مضاءة ترى على بعد 30 ميلا في ليل مظلم صاف 290 مليميكرون.
    2- أن السمع يدرك به العقل صوت دقة ساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما.
    3- والتذوق يدرك به العقل ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء.
    4- الشم يدرك به العقل نقطة عطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة.
    5- وحاسة اللمس يدرك جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا .
    فإذا كان الجهاز الإدراكى في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يرى ما وراء ذلك، كالذي يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يرى الملائكة أو الجن أو عالم الغيب، أو يرى ذات الله وصفاته من باب أولى، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعنى عدم وجودها فالجن مثلا جهازه الإدراكى يختلف عن الإنسان من حيث القوة.
    قال تعالى في وصفه: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (الأعراف:27)، وموسى عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا، فإن الشيء لا يرى لسببين:

    1 - خفاء المرئي وهو ممتنع في حق الله .
    2- ضعف الجهاز الإدراكى للرائي .
    وهذا هو شأن موسى عليه السلام، ولذلك تجلى الله للجبل الذي يتحمل أقصى درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا، قال تعالى:
    (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي، فَلَمَّا تَجَلى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ) (الأعراف:143) .
    فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يرى بعض الرسل الملائكة أو الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه، كما ورد في حديث عائشة الذي رواه البخاري (قَالَتْ عَائِشَةُ خَسَفَتْ الشَّمْسُ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ أُخْرَى ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى قَضَاهَا وَسَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَيْءٍ وُعِدْتُهُ حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنْ الْجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ) .
    أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما، إذ أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك في الحديث المتفق عليه، حيث قال:
    (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن).
    فالإنسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة.
    فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم كما ورد في صحيح البخاري عن جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : (كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ فَقَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)،
    علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا وقدرتها تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة وقدرتها على الرؤية .
    من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح، وكذلك الحال في بقية الصفات فنؤمن بها ونثبتها لله دون طلب للكيفية.
    أما العقل فأقصى حدوده أن يتعرف على الله ووجوده من خلال الأسباب، فهناك عدة أمور يدرك بها العقل حقائق الأشياء ،
    مدارك اليقين العقلي :
    أولها :البديهيات أو الأوليات .
    وذلك كالحكم على أن البعرة تدل يقينا على البعير وأن الأثر يدل يقينا على المسير، ومن هنا كان المسلم على يقين بوجود الله من خلال إثبات وجود الخالق بدلالة المخلوقات، وقد ثبت ذلك بحكم الأوليات أو البديهيات، إن من أكبر المحرمات جريمة الزنى، والحكم فيها لا بد أن يقوم على مفردات يقينية ولا يبنى على أمور ظنية، وقد بين القرآن وسائل إدراك اليقين عند الحكم على المرتكبين لها، فمن ذلك البديهيات وارتباط العلل بالمعلولات، كما قالت مريم للملك عندما قال لها:
    (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لكِ غُلامًا زَكِيًّا قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ – بزواج - وَلمْ أَكُنْ بَغِيًّا - بزنا – لأن البديهيات تجعل العاقل يحكم حكما يقينيا بأن الولد لا يأتي إلا من طريق مشروع أو طريق ممنوع ولذلك أكد لها الملك أن ذلك واضح صحيح، وأن حالتها استثناء وأن الله يخلق ما يشاء - قَال كَذَلكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنَجْعَلهُ آيَةً للنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا – من أجل ذلك أثبت لها الخالق براءتها، بخرق العادات وظهور المعجزات، وأوحى إليها أنها إذا رأت من أنكر عليها، أن تلزم الصمت وتمتنع عن الكلام، وكل ما عليها أن تشير إلى الغلام وتقول:
    (إِنِّي نَذَرْتُ للرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلنْ أُكَلمَ اليَوْمَ إِنسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِليْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلي يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).
    سبحان الله أطفل صغير ينطق بهذه الكلمات ؟ ويعرف كل هذه المعلومات، ويفهم لوازم العبارات (إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَل آدَمَ خَلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَيَكُونُ)، (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الحَقِّ الذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
    فالله عز وجل قادر على أن يعلم الناس ما يشاء، فيدركون بأبصارهم ما هو تحت الأرض وفوق السماء، كما قال سبحانه وتعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ) البقرة،
    ولكنه من حكمته جعل جهاز الإدراك في الإنسان محدودا، وجعل باب الإطلاع على الغيب بالعقل وحده مسدودا، لكي تكون الحياة نوعا من أنواع الابتلاءات، ويكون أهل العلم بين الناس درجات، فآيات القرآن أثبتت للإنسان جهازا للإدراك شاملا متكاملا أساسه في القلب، أول مهامه إدراك الأشياء ومعرفة الأسماء، وتمييز خصائصها والتعرف على أوصافها، يقول الله تعالى: (أَفَلمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ) وقال أيضاً: (وَلقَدْ ذَرَأْنَا لجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الجِنِّ وَالإِنسِ لهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلئِكَ كَالأَنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ أُوْلئِكَ هُمْ الغَافِلُونَ)، فالبديهيات من أبرز الأمور العقلية في الدلالة على وجود الخالق .
    ثانيا :من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء المحسوسات.
    وقد جعلها الله وسيلة من وسائل الإثبات، في الحكم على الزانيات المومسات فقال: (وَالذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلئِكَ هُمْ الفَاسِقُونَ إِلا الذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَأَصْلحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
    جاء في الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود أنه قَال: (كنَّا ليْلةَ الجُمُعَةِ فِي المَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَال: لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ، وَاللهِ لأَسْأَلنَّ عَنْهُ رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ، فَلمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ أَتَى رَسُول اللهِ صَلى اللهم عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَلهُ، فَقَال يا رسول الله: لوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلمَ جَلدْتُمُوهُ أَوْ قَتَل قَتَلتُمُوهُ أَوْ سَكَتَ سَكَتَ عَلى غَيْظٍ، فنزل قول الله تعالى:
    (وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلمْ يَكُنْ لهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الصَّادِقِينَ وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنَةَ اللهِ عَليْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا العَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لمِنْ الكَاذِبِينَ وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ) .
    وقد أمر الله عبادة باستخدام المحسوسات التي هى من مكونات الجهاز الإدراكى في النظر إلى الإبداع الكونى، والتأمل في خلق السماوات والتفكر في سائر المخلوقات:
    (إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولي الأَلبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
    وقال تعالى: (أَفَلمْ يَنْظُرُوا إِلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لكُل عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيدِ وَالنَّخْل بَاسِقَاتٍ لهَا طَلعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا للعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلدَةً مَيْتًا كَذَلكَ الخُرُوجُ) ق/6: 11.
    وقال أيضاً: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِل كَيْفَ خُلقَتْ وَإِلى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلى الجِبَال كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) الغاشية/171:21 .
    والحق سبحانه وتعالى يدعوا عباده إلى النظر في آياتة الكونية، والمخلوقات المرئية، بما في ذلك النفس البشرية، فهى في حقيقتها صفحات كونية وأدلة عقلية في كتاب الله الكونى، ودور الإنسان الذي أمر الله به في القرآن هو التفكر والاعتبار والنظر في الآثار، فالأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير، فدور العقل هنا البحث في المخلوقات وما فيها من حكم وآيات، فإن المفعولات دالة على الأفعال، والأفعال دالة على الصفات، فالمفعول يدل على الفاعل، والمخلوق يدل على الخالق، وذلك يدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ومشيئته .
    ثم ما في المخلوقات من أنواع التغييرات، وما فيها من تنوع في الأشكال والجمال والحسن والكمال، يدل على وجود إرادة للحق في إدارة الملك، كما أن ما فيها من المصالح والغايات والحكم البينات الواضحات، يدل على حكمته وإتقان صنعته، وغير ذلك مما دعانا الله تعالى إلى النظر فيه فقال سبحانه تعالى: (إِنَّ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليْل وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَل اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُل دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة/164 .
    ثالثا : من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء أيضا المتواترات وخبر العدل الضابط الصادق كعلمنا بوجود مكة والمدينة، فإن العلم بوجودهما علم يقيني، وكذلك بعثة النبي العلم بها علم يقينى، لما ورد فيها من تواتر الأخبار وحملة الآثار، وقد اتفق علماء الحديث على أن الأحاديث المتواترة تدل على اليقين وهى التي رواها جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب عن جمع آخر يستحيل اتفاقهم على الكذب إلى نهاية الإسناد إلى رسول الله صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .
    رابعا :من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء التجريبيات.
    وقد يعبر عنها باطراد العادات، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة وأن الشمس مشرقة، وأن الماء ينزل من السماء فيحي الأرض بعد موتها، فهي سنن وعادات وتجربة وممارسات، ولذلك حذرنا الله من العصيان، بما حدث لأعدائه في سالف الزمان، كان مصيرهم الخسف والمسخ والصيحة والنبران فقال تعالى:
    (قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ) آل عمران وقال تعالى: (قُل للذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لهُمْ مَا قَدْ سَلفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلينَ) وقال سبحانه : (فَهَل يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأَوَّلينَ فَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا وَلنْ تَجِدَ لسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلا)، وفي الحديث الصحيح : (لا يُلدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ) .
    وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا وَإِنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلى النَّارِ وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا)، فغاية ما للعقل النظر في الأسباب والتعرف على دلالتها، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز ذلك كما قال تعالى:
    (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) .
    لكن لو أردنا أن نتعرف على عالم الغيب وما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو الملائكة أو الجن أو نتعرف ذات الله أسمائه وصفاته، فهل يصلح العقل لذلك، كما حاولت الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتردية وغيرهم من أتباع الجهمية، سوف يقع في الضلال وسوف يقول على الله بالمحال، فلا بد من طريق آخر هو طريق النقل.
    خامسا :من الأمور التي يدرك بها العقل حقائق الأشياء الاعتراف.
    صحيح مسلم عن ُرَيْدَةَ قَالَ : (جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ قَالَ فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ فِيمَ أُطَهِّرُكَ فَقَالَ مِنْ الزِّنَى فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِهِ جُنُونٌ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ أَشَرِبَ خَمْرًا فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزَنَيْتَ فَقَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ قَالَ فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ قَالَ ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنْ الْأَزْدِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي فَقَالَ وَيْحَكِ ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَقَالَتْ أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ وَمَا ذَاكِ قَالَتْ إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ الزِّنَى فَقَالَ آنْتِ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ لَهَا حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ قَالَ فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ قَالَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَ إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ فَرَجَمَهَا) .
    ما المقصود بالنقل ؟ يقصد بالنقل عند علماء العقائد الوحي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله S ويسمى أيضا بالشرع أو السمع أو الخبر، كقول أبى عمر بن عبد البر: (حديث النزول حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي S)، وكقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع)، وكقوله أيضا عن صفة الكلام ونسبة القول إلى الله تعالى: (فالقول قد ورد في السمع مضافا الى الله .. وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح) .
    فالنقل أو الوحي أو الشرع أو السمع أو الخبر كلها عند علماء العقائد معان مترادفة تدل على كتاب الله وسنة رسوله S، فالنقل هو ما جاءنا من الله يعرفنا فيه عن نفسه وما في عالم الغيب، والعاقل لا بد أن يقر به ويقدمه وسلم له، فلا يوجد من هو أعلم بالله من الله ولا أعلم من رسول الله بالله، فما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وجب علينا الإيمان به كما أخبر، وما أمرنا الله به كان صلاحنا في أتباعه .
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    14
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    28-04-2013
    على الساعة
    12:10 AM

    افتراضي أصول العقيدة لمحمود الرضواني 2

    العلاقة بين العقل والنقل
    المحاضرة الثانية
    (هل يمكن أن يتعارض العقل مع النقل؟)
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
    1- العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح والسبب في عدم التعارض.
    من المحال أن يتعارض العقل الصريح الواضح مع النقل الصحيح الثابت بل العقل الصريح يشهد للنقل الصحيح ويؤيده، والسبب في ذلك سبب منطقى وهو وحدة المصدر فالذي خلق العقل هو الله، والذي أرسل إليه النقل هو الله وهو سبحانه أعلم بصناعته لعقل الإنسان وأعلم بما يصلحه في كل زمان ومكان، فإذا وضع نظاما ببالغ علمه وحكمته لصلاح صنعته وألزم الإنسان بمنهجه وشرعته، كان من المحال أن يضل الإنسان أو يشقى أو يعيش معيشة ضنكا إذا اتبع هداية الله تعالى كما قال سبحانه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى)، ومعلوم عند سائر العقلاء أن أولى من يضع نظام التشغيل للمصنوعات صانعها.
    قال شيخ الإسلام: (كل ما يدل عليه الكتاب والسنة فإنه موافق لصريح المعقول، والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح ولكن كثيرا من الناس يغلطون إما في هذا وإما في هذا، فمن عرف قول الرسول ومراده به كان عارفا بالأدلة الشرعية، وليس في المعقول ما يخالف المنقول).
    وقال أيضا: (من قال بموجب نصوص القرآن والسنة أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح) .
    وقال أيضا: (العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح كما أن المنقول عن الأنبياء عليهم السلام لا يخالف بعضه بعضا ولكن كثير من الناس يظن تناقض ذلك وهؤلاء من الذين اختلفوا فى الكتاب وان الذين اختلفوا فى الكتاب لفى شقاق بعيد) مجموع الفتاوى 7/665.


    2- الهداية في قيادة النقل للعقل :
    1. قول الله تعالى:(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَليْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (آل عمران:101).
    2. قول الله تعالى:(وَإِذَا قِيل لهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَل اللهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَيْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170).
    3. قول الله تعالى:(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِليْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:3).
    4. قول الله تعالى:(وَقَال الذِينَ كَفَرُوا لِلذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلنَا وَلنَحْمِل خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لكَاذِبُونَ وَليَحْمِلُنَّ أَثْقَالهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَليُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت:13).
    5. قول الله تعالى:(وَإِذَا قِيل لهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَل اللهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذَابِ السَّعِيرِ) (لقمان:21).
    6. قول الله تعالى:(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَال يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس:21).
    7. قول الله تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّ الذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِل وَأَنَّ الذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالهُمْ) (محمد:3).
    8. قول الله تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالهُمْ) (محمد:28).
    9. قول الله تعالى:(يَا أَهْل الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُل السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16).
    10. قول الله تعالى:(وَالذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ.أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لمْ يَجْعَلِ اللهُ لهُ نُوراً فَمَا لهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40) .
    11. قول الله تعالى:(وَإِذَا قِيل لهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَل اللهُ قَالُوا بَل نَتَّبِعُ مَا أَلفَيْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا أَوَلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة:170).
    12. قول الله تعالى:(أُولئِكَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَليْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيل وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلى عَليْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا.فَخَلفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلقَوْنَ غَيًّا إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِل صَالِحًا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (مريم:60).
    13. قول الله تعالى:(الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً فَاغْفِرْ لِلذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (غافر:8).
    14. قول الله تعالى:(الذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَل أَعْمَالهُمْ وَالذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّل عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلحَ بَالهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا البَاطِل وَأَنَّ الذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالهُمْ) (محمد:3).
    15. قول الله تعالى:(وَلنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلتَهُمْ قُل إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الذِي جَاءَكَ مِنَ العِلمِ مَا لكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120).
    16. قول الله تعالى:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَل مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلفَ فِيهِ إِلا الذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213).
    17. قول الله تعالى:(اللهُ نَزَّل أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23).
    18. قول الله تعالى:(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَل اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُل مَنْ أَنْزَل الكِتَابَ الذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لمْ تَعْلمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلعَبُونَ) (الأنعام:91).
    19. قول الله تعالى:(وَمَنْ أَظْلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلى الهُدَى فَلنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:57).
    3- السبب الأول للتعارض عدم ثبوت النقل وأمثلة على ذلك
    · مثل أن نرى أحاديث مشتملة على مجازفات لا يقول مثلها رسول الله e وهي كثيرة جدا
    1. كقوله في الحديث المكذوب:(من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرا له سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له) .
    2. (ومن فعل كذا وكذا أعطي في الجنة سبعين ألف مدينة في كل مدينة سبعين ألف قصر في كل قصر سبعين ألف حورية). قال ابن القيم: (أمثال هذه المجازفات الباردة لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين:إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقا قصد التنقيص برسول الله e بإضافة مثل هذه الكلمات إليه) .
    3. كحديث:(الباذنجان لما أكل له) .
    4. (والباذنجان شفاء من كل داء) قبح الله واضعهما فإن هذا لو قاله بعض جهلة الأطباء لسخر الناس منه، ولو أكل الباذنجان للحمى والبرد وكثير من الأمراض لم يزدها إلا شدة ولو أكله فقير ليستغني لم يفده غنى، أو جاهل ليتعلم لم يفده العلم .
    5. وكذلك حديث: (إذا عطس الرجل عند الحديث فهو دليل صدقة) ولو عطس مئة ألف رجل عند حديث يروى عن النبي e لم يحكم بصحته بالعطاس، ولو عطسوا عند شهادة رجل لم يحكم بصدقه .
    6. حديث:(عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويكثر الدمعة قدس فيه سبعون نبيا) وقد سئل عبدالله بن المبارك عن هذا الحديث وقيل له إنه يروى عنك فقال: وعني؟! ما أرفع شيئا في العدس، إنه شهوة اليهود ولو قدس فيه نبي واحد لكان شفاء من الأدواء فكيف بسبعين نبيا وقد سماه الله أدنى البقرة 61 وذم من اختاره على المن والسلوى وجعله قرين الثوم والبصل .
    7. وكذلك حديث (اشربوا على الطعام تشبعوا فإن الشرب على الطعام يفسده ويمنع من استقراره في المعدة ومن كمال نضجه) .
    8. كحديث (لو كان الأرز رجلا لكان حليما، ما أكله جائع إلا أشبعه) فهذا يصان عنه كلام العقلاء فضلا عن كلام سيد الأنبياء .
    9. حديث:(لو يعلم الناس ما في الحلبة لاشتروها بوزنها ذهبا).
    10. وحديث: (بئس البقلة الجرجير من أكل منها ليلا بات ونفسه تنازعه، كلوها نهارا وكفوا عنها ليلا).
    11. حديث:(فضل الكراث على سائر البقول كفضل البر على الحبوب) .
    12. حديث:(إن للقلب فرحة عند أكل اللحم) .
    13. حديث (ربيع أمتي العنب والبطيخ) .
    14. وحديث (من أكل فولة بقشرها أخرج الله منه من الداء مثلها).
    15. وحديث (لا تسبوا الديك فإنه صديق، ولو يعلم بنو آدم ما في صوته لاشتروا ريشه ولحمه بالذهب) .
    16. وحديث (من اتخذ ديكا أبيض لم يقربه الشيطان ولا سحر) .
    17. وحديث:(إن لله ديكا عنقه مطوية تحت العرش ورجلاه في التخوم) .
    18. وحديث :(إذا غضب الله تعالى أنزل الوحي بالفارسية وإذا رضي أنزله بالعربية) .
    19. حديث: (من ولد له مولود فسماه محمدا تبركا كان هو والولد في الجنة)
    20. حديث (ما من مسلم دنا من زوجته وهو ينوي إن حبلت منه يسميه محمدا إلا رزقه الله ولدا ذكرا) .
    21. ومن ذلك حديث:(إن الناس يوم القيامة يدعون بأمهاتهم لا بآبائهم) والأحاديث الصحيحة بخلافه قال البخاري في صحيحه باب يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم ثم ذكر حديث ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان بن فلان وفي الباب أحاديث أخرى غير ذلك
    22. وحديث (من عشق فكتم وعف فمات فهو شهيد) .
    23. فالسبب الأول: أن النقل لم يثبت فينسب مدعى التعارض إلى دين الله ما ليس منه كالذين يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة وينقلونها للناس دون تمحيص، فماذا يصنع العاقل إذا سمع خطيبا، يذكر في مرة حديثا مرفوعا إلى رسول الله S: (إِنَّ أَوَّل مَا خَلقَ الله القَلمَ، فَقَال لهُ: اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى الأَبَدِ)، ثم يسمعه مرة أخرى يروى حديثا آخر: (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك)، ثم ثالثا فيه: (أول ما خلق الله نورى)؟ .
    لا شك أن العاقل يقف حائرا بين هذه الروايات أي الأشياء خلق أولا ؟ وسيبعث ذلك في نفسه شكا، كما أنه من الخطأ التوفيق بين هذه الروايات قبل البحث عن ثبوتها، وكان يجب على من نقل هذه الروايات أن يتثبت من صحتها أولا، وبالبحث وجد أن الحديث الأول ثابت صحيح (إِنَّ أَوَّل مَا خَلقَ الله القَلمَ، فَقَال لهُ: اكْتُبْ فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى الأَبَدِ) (وهو حديث صحيح رواه الترمذي وصححه الألباني) .
    أما الثاني (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك) فموضوع باتفاق، كما ذكر العجلونى في كشف الخفا ومزيل الإلباس، وكما ذُكر في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، وأما الثالث (أول ما خلق الله نورى) فهو حديث موضوع أيضا رواه عبدا لرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: (قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء، قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك – خلقه - من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك، ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق، قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله..) وعلى هذا المنوال تأتينا اختراعات الصوفية والأباطيل العاطفية، وما شابه ذلك من الأمور البدعية .
    فأمثال هذه الأحاديث التي يتناقها غير الراسخين في العلم من الدعاة، هي التي تحدث الفوضى وتدعو إلى تعارض العقل مع النقل، فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، وينبغي على أهل العلم أن يتقوا الله في نقلهم للأحاديث الضعيفة والموضوعة بحجة ترغيب الناس في الإيمان والطاعة، فإن من أبرز السلبيات التي تظهر من ذلك فتح باب البدعة على مصراعيه، وتشويه الوحي بمصدريه القرآن والسنة .
    4- السبب الثاني عدم فهم العقل للنقل وأمثلة على ذلك.
    1- الجمع بين نصوص المعية والاستواء وكونه في السماء:(هُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يَعْلمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4).قال أبو الحسن الأشعري صفحة 105:(إن قال قائل:ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له:نقول:إن الله عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به .. فالسماوات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السماوات قال:(أأمنتم من في السماء) لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء، والعرش أعلى السماوات وليس إذا قال:(أأمنتم من في السماء) من يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى الله تعالى ذكر السماوات فقال تعالى:(وجعل القمر فيهن نورا) ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا، ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات، فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض) .
    2- حديث أَبِي هُرَيْرَةَ tأَنَّ رَسُول اللهِ S قَال:(إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَليَغْمِسْهُ كُلهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً) البخاري فى الطب (5782) من معجزات النبى S الطبية التي يجب أن يسجلها له تاريخ الطب بأحرف ذهبية ، ذكره لعامل المرض وعامل الشفاء محمولين على جناحى الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنا ، وذكره لتطهير الماء إذا وقع الذباب فيه وتلوث بالجراثيم الموجودة في أحد جناحيه ، فما علينا إلا أن نغمس الذبابة في الماء لإدخال عامل الشفاء الذي يوجد في الجناح الآخر الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم الموجودة بالماء ، أثبتت التجارب العلمية الحديثة الأسرار الغامضة التي في هذا الحديث ، فهناك خاصية في أحد جناحي الذباب هي أنه يحول البكتريا إلى ناحية منه ، وعلى هذا فإذا سقط الذباب فى شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام ، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واحد منها هو مبيد البكتريا ، يحمله الذباب في جوفه قريبا من أحد جناحيه ، فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه ، ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به وكاف في إبطال عملها .
    3- قال ابن رشد أدلة السمع متعارضة:(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا مَنْ يُطِعِ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَليْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّل عَلى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا) (النساء:78). كيف ندفع هذا التعارض ؟ .
    4- ادعاؤهم التعارض في الهداية:(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلمُ بِالمُهْتَدِينَ) (القصص:56)(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِليْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلكِنْ جَعَلنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتَهْدِي إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)كيف ندفع هذا التعارض ؟.
    5- ادعاؤهم التعارض في ضرب الأمثال لله:(فَلا تَضْرِبُوا لِلهِ الأَمْثَال إِنَّ اللهَ يَعْلمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلمُونَ) (النحل:74) (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَل لكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى:11)(لِلذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلهِ المَثَلُ الأَعْلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (النحل:60) (وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الروم:27)كيف ندفع هذا التعارض ؟.

    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    14
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    28-04-2013
    على الساعة
    12:10 AM

    افتراضي أصول العقيدة لمحمود الرضواني 3

    العلاقة بين العقل والنقل
    المحاضرة الثالثة
    العقل والنقل بين السلف والخلف


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
    · المقصود بمصطلح السلف والخلف .
    · أيهما يقدم على الآخر العقل أم النقل ؟ أو هل يمكن أن يكون النقل مطية للعقل ؟
    موقف الخلف: فخر الدين الرازي: "إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يُجمع بينهما، وهو محال، لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع، وهو محال، لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل. ثم النقل إما أن يُتأول وإما أن يفوض وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما". وذلك عندهم أمر بلا جدال، ومنهج متبع بلا فصال، وليس لتغييره عندهم مجال .
    يقولون: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية، أو السمع والعقل، أو النقل والعقل، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية، أو نحو ذلك من عبارات المتكلمين والأشعرية، فإما أن نقدم السمع وهو محال، لأن العقل أصل في ثبوت النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا وطعنا في العقل، الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض، ويقول أبو حامد الغزالي: (قال أبو حامد الغزالي: من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ومن رجع إلى العقل استقام أمره وصلح دينه) .
    وهذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه من الأشعرية قانونا شاملا، يقيسون عليه كتاب الله وسنة رسوله قياسا كاملا .
    · الرد على قولهم: العقل أصل في ثبوت النقل أن نقول: العقل أصل في العلم بالنقل وليس أصلا في ثبوته.
    والجواب أنه إذا تعارض العقل والنقل، لجهل العقل بما ورد في النقل، أو غاب عنه الفهم الصحيح للأدلة القرآنية والنبوية، وجب علي المسلم العاقل قبل التعطيل أو التأويل بغير دليل أن يتقى الله، ولا يقدم عقله وهواه، على كتاب الله وسنة رسوله S، فمهمة العقل تجاه النقل لمن صدق في إسلامه، تصديق المنقول إذا كان خبرا، وتنفيذه إذا كان أمرا .
    ومن ثم فإن الله إذا عرفنا بنفسه في النقل الصحيح أو عرفنا بشيء مما في عالم الغيب أو عالم الشهادة وجب على كل إنسان مسلم عاقل أن يصدق بالمنقول عن الرسول S تصديقا جازما يبلغ حد اليقين الذي ينافي الشك، ولا يرد الأدلة ويعطلها زاعما أنه من أصحاب المدرسة العقلية التي تحكِّم العقل في كل شيء حتى في باب الأسماء والصفات فيوجب على الله بعقله أشياء، ويجوز له من الصفات ما يشاء ويجعل ما نزل من السماء، في الخبر عن الصفات، دربا من الخيال أو المستحيلات، قال ابن قيم الجوزية في شفاء العليل:
    (العقل الصريح موافق للنقل الصحيح والشرعة مطابقة للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال: إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه: ويشهد حقا أنه هو كاذب) .
    لماذا تقدمون العقل على النقل ؟
    قالوا: لأن العقل أصل في ثبوت النقل، فلولا العقل ما ثبتت صحة النقل، ولا صدق العقلاء رسل الله في بلاغهم، ومن ثم وجب عندنا أن يقدم العقل على النقل عند التعارض، وهذا كلام باطل فارغ، لأن النقل لا يتوقف ثبوته على حكم العقل بصدق النقل، فالنقل أو القرآن والسنة أو الوحي ثابت في اللوح المحفوظ قبل وجود العقلاء، سواء صدق به العقلاء أو كذبوه، ولذلك يقول تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لقَسَمٌ لوْ تَعْلمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا المُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العَالمِينَ أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
    وأقسم الله به بالكتاب على أنه في أم الكتاب فقال: (حم وَالكِتَابِ المُبِينِ إِنَّا جَعَلنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لعَلكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لدَيْنَا لعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ وَكَمْ أَرْسَلنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَأَهْلكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ) الزخرف .
    فالنقل أو ما جاء في القرآن لا يتوقف ثبوته على حكم العقل بصدق الرسل، فإن تكذيبهم يضرهم ولا يضر الرسل، ويؤثر في مصيرهم، ولا يؤثر في صدق الرسل وبلاغهم عن ربهم، روى البخاري من حديث 5752 ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا أنه قَال:
    (خَرَجَ عَليْنَا النَّبِيُّ e يَوْمًا فَقَال عُرِضَتْ عَليَّ الأُمَمُ فَجَعَل يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلانِ وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ ليْسَ مَعَهُ أَحَدٌ – العقلاء لم يصدقوه فهل العيب في الرسول أو العيب فيمن كذبوه - وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيل هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ ثُمَّ قِيل لِي انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيل لِي انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ فَقِيل هَؤُلاءِ أُمَّتُكَ وَمَعَ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ أَلفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
    موقف السلف: صحيح البخاري ومسلم 4/1736(2217) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال (جاء رَجُلٌ إلى النبي e فقال إِنَّ أَخِي اسْتَطْلقَ بَطْنُهُ فقال رسول اللهِ e اسْقِهِ عَسَلا فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَهُ فقال إني سَقَيْتُهُ عَسَلا فلم يَزِدْهُ إلا اسْتِطْلاقًا فقال له ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جاء الرَّابِعَةَ فقال اسْقِهِ عَسَلا فقال لقد سَقَيْتُهُ فلم يَزِدْهُ إلا اسْتِطْلاقًا فقال رسول اللهِ e صَدَقَ الله وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ) .
    العقل لا يقدم على النقل، والعقل ليس أصلا في ثبوت النقل، وإنما العقل أصل في التعرف على النقل والعلم به، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِليْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلمُونَ) (النحل:43)، فلو آمن صاحب العقل بالنقل، وصدق رسل الله في بلاغهم عن ربهم، فهو المنتفع المستفيد، وإلا فلا يلومن إلا نفسه .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على فخر الدين الرازي الذي قال العقل أصل في ثبوت النقل ولذلك وجب تقديم العقل على النقل عند التعارض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (عدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها، فما أخبر به الصادق المصدوق S فإنه ثابت سواء علمنا صدقه أو لم نعلمه، ومن أرسله الله تعالى إلى الناس فهو رسوله سواء علم الناس أنه رسول أو لم يعلموا، وما أخبر به فهو حق وإن لم يصدقه الناس، وما أمر به عن الله، فالله أمر به وإن لم يطعه الناس، فثبوت الرسالة وثبوت صدق الرسول وثبوت ما أخبر به ليس موقوفا على وجودنا أو عقولنا) .
    كما أن شأن العقل مع النقل أو الوحي كشأن العامي المستفتى مع الشيخ العالم المفتي، فإذا عرف العامي المستفتى عالما يفتى الناس في أمور دينهم وعقيدتهم، فسأل الناس عن منزله فدله عليه أحد العامة، ثم اختلف المفتي مع العامي الذي دل المستفتى في حكم من ا؟لأحكام، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي ورد كلام الذي دله على المفتي، فلوا أن من دله على المفتى قال له: الصواب معي خذ برأي ولا تأخذ برأي المفتى، لأنني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي طعنت في الأصل الذي عرفك أنه بأنه مفت، فيقول له المستفتي أنت لما شهدت بأنه مفت ودلتني عليه، شهدت بوجوب اتباعه دون اتباعك، وتقليده دون تقليدك، وموافقتي لك في الطريق إلى منزله، لا تستلزم موافقتي لك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، فيجب عليك تقليد المفتى فيما لا مخالفة فيه لشرع الله، فالمفتي يجوز عليه الخطأ في فتواه ولو علمنا خطأه، فالمعصوم في خبره عن الله هو رسول الله e .
    فالسلف الصالح لم يجوزوا أبد أن يكون النقل مطية للعقل بحيث يوجه الإنسان آيات القرآن في غير موضعها، ويحول أدلة السنة في غير مسارها الذي جاءت من أجله، كما فعل أصحاب المدرسة العقلية عندما وضعوا أنسقة فكرية في أذهانهم، كفروض يعملون على إثباتها، وغايتهم من البحث في القرآن والسنة، أن يجدوا بين الآيات والأحاديث، ما يؤيد رأيهم، ويقوى عقلهم، فيما ذهب إليه ولو بتعسف، وإن وجدوا في الأدلة ما يخالف مذهبهم قاموا بتأويل الآيات والأحاديث، تأويلا لا تحتمله النصوص، ولا يقوم على دليل واضح، أو قاموا برد الأحاديث الثابتة بالسند الصحيح بزعم أنها ظنية من رواية الآحاد، التي لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد .



    · هل السلف أصحاب جمود عقلي؟ ومتى يقدم العقل على النقل؟
    وهنا سؤال أخير ربما يطرحه بعض الأشعرية أو المفتون بالعقل من أصحاب المذاهب العلمانية، فربما يقول أحدهم هل معنى ذلك إن العقيدة السلفية، تحارب العقل وتجعله أسيرا للنقل ؟
    أين التفتح والانفتاح، أليس للعقل شيء مباح ؟ الغرب تقدموا بالعقل ووصلوا إلى القمر، وهيمنوا علينا ونحن في ذيل البشر ؟ فأيهما يحكم على الأشياء بالحسن والقبح ؟ فنقول لهؤلاء إن العقول تختلف في نظرتها إلى الأشياء حسنا وقبحا، فما يراه العاقل خيرا يراه غيره شرا، ولذلك تتعارض المذاقات وتشتعل الخلافات، فهل الحسن والقبح في الأشياء، مرده إلى النقل فقط دون اعتبار للعقل ؟
    والجواب هنا يتعلق بفهمنا للأحكام الشرعية التكليفية، فالواجب والمستحب والمحرم والمكروه هذه الأربعة السيادة فيها للنقل للقرآن والسنة، النقل هو الذي يحكم هنا بحسن الأشياء وقبحها، والعقل تابع فيها للنقل يؤيده ويعضده ولن يجد عاقل في فطرته ما يخالف الأحكام التكليفية أو يعارض الشريعة الإسلامية، أما إذا قُدم العقل على النقل في الواجب والمستحب، والمحرم والمكروه من الأحكام، فسوف تظهر البدعة في الإسلام، وسوف تتغير ملامح الشريعة، وتصبح ألعوبة في يد المبتدع .
    وأما دور العقل في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح فهذا مقصور على المباح من الأحكام فقط، فالقيادة والسيادة هنا للعقل والنقل يؤيده ويعضده ويعاونه ويساعده، فقد ثبت عند الإمام مسلم من حديث رافع بن خديج قال: (قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ S المَدِينَةَ وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْل يَقُولُونَ: يُلقِّحُونَ النَّخْل، فَقَال: مَا تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَال: لعَلكُمْ لوْ لمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ قَال: فَذَكَرُوا ذَلكَ لهُ، فَقَال: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ).
    وعند مسلم أيضا من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ S مَرَّ بِقَوْمٍ يُلقِّحُونَ فَقَال: لوْ لمْ تَفْعَلُوا لصَلُحَ، قَال: فَخَرَجَ شِيصًا – أي بلحا لا يؤكل - فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَال: مَا لنَخْلكُمْ ؟ قَالُوا: قُلتَ كَذَا وَكَذَا، قَال: أَنْتُمْ أَعْلمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) . فالرسول S ترك الحكم بالحسن والقبح إلى عقولهم، واجتهادهم وخبرتهم في الحياة، فآرائهم مقبولة في المباحات من أمور الدنيا، دون بقية الأحكام الشرعية، أو التكليفات الدينية، فنقول لهؤلاء العقلاء، اصعدوا إلى القمر لتكتشفوا أسرار الكون وعظمة الله، وأرسلوا المركبات الفضائيه والتلسكوبات القوية لتراقبوا أعداء الله، وخذوا بأسباب القوة وسائر العلوم التي تنصروا بها دين الله، لكنهم يجاهرون الله بالعصيان، تشبها بالغرب في الكفر والفسوق والعصيان، فأنت أيها المتحرر الذي ترى في الغرب أسوة، هل تأسيت بهم في العلم المادي، أم تشبهت بفسقهم وسميت ذلك تقدما حضاري ؟ تفعل أفعال الكافرين الذين يستحقرون ديننا ويبغضون المؤمنين، فتسير خلفهم شبرا بشر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلته خلفهم، ولبست لباسهم، وتعريت مثلهم وشربت خمرهم، وألفت سكرهم، وطعمت بيسراك طعامهم، وشاهدت في التلفاز رقصهم، ثم قلدتهم وقلد أولادك مجونهم، ونشرت بجهلك فكرهم، وقلدت بغبائك أفعالهم، وخرجت عن وصفك، وواليتهم على بنى جنسك، ثم سميت ذلك حضارة، وعقلا وتحررا واستنارة، ثم تأتى وتقول أنا مسلم متحرر أشهد ألا إله إلا الله، ولن أغير حياتي وسأبقى على هذا إلى يوم وفاتي، أتكذب على نفسك، أين الصدق في عهدك لربك ؟ لا إله إلا الله ليست مجردَ كلمة خرجت من اللسان، لا شروط لها ولا أركان، فالله عز وجل أنعم علي الإنسان بنعمة العقل، وجعل العقل محل التمييز وأساس الإدراك، وجعل له حدودا وقيودا لا يتجاوزها، فإن تجاوزها أصبح نقمة لا نعمة، فعلماء السلف الصالح جوزوا إعمال الفكر والعقل فيما يؤدى إلى إظهار الدين ونصرة المسلمين، والعمل بمقتضى القر
    آن والرد على المخالفين، الذين يقدمون آراءهم على كتاب رب العالمين وسنة سيد الأنبياء والمرسلين .
    · قاعدة في أصول العقيدة متعلقة بالعلاقة بين العقل والنقل:
    1. تقديم العقل على النقل في باب الخبر يؤدي إلى بدع الاعتقادات ومن أمثلة ذلك .
    أولا: بدعة المعتزلة في إثبات الأسماء ونفي الصفات .
    الأصول الخمسة، ابتدع أهل الاعتزال معني جديدا للتوحيد غير ما عرف بين الصحابة والتابعين وعلماء السلف فقالوا التوحيد إثبات الأسماء ونفي الصفات، فجعلوا القرآن عضين يقبلون منه ما يوافق آراءهم الفاسدة ويعطلون ما يخالفها .
    ومعني قولهم بإثبات الأسماء ونفي الصفات أنهم أثبتوا وجود ذات الله فقط بلا أي صفة لها، وجعلوا أسماء الله الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف بلا مسمي، فقالوا: هو العليم لكن لا يتصف بصفة العلم .ولتبسيط فكرتهم نقول: فلان اسمه سعيد، لكن لو بحثت عن صفة السعادة فيه، فربما يكون سعيدا أو شقيا، فإن كانت الأولى قلنا: سعيد اسم على مسمي، وذاته متصفة بصفة السعادة، وإن كانت الثانية قلنا: سعيد اسم فارغ من المسمي وذات بلا صفة لأنه شقي .
    فأسماء الله عند السلف أسماء على مسمي، فهو الغني الذي يتصف بالغني لا الفقر، وهو القوي الذي يتصف بصفة القوة لا الضعف، وهو السميع يتصف بصفة السمع تعالى الله عن ضدها، وهكذا في سائر الأسماء والصفات، ولهذا كانت أسماؤه حسني وعظمي، ولا تكون حسني وعظمي بغير ذلك، قال تعالى: } وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا {، فدعاء الله بها أن يقول الفقير: يا غني أغنني بفضلك عمن سواك، ولولا يقين الداعي الفقير أن الله غني ولا نظير له في غناه ما دعاه، وأن يقول الضعيف: يا قوي قوني، فلولا يقينه أنه سبحانه لا شبيه له في قوته ما دعاه .
    وهكذا يعلم أصحاب الفطرة السليمة أن الله يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء بسسب العظمة في أوصافه كما قال: } أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ الله قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ { [الأعراف:180].
    فعلم العقلاء أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه، وهو عاجز لا صفة له مطلقا، فمن يجيب أهل الاعتزال إذا كان معبودهم بلا صفة عندهم وأسماؤه فارغة بلا مسمي .
    وهذا المذهب الخبيث يترتب عليه أن قوله تعالى: } وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا { [النمل:62]، لا قيمة له عندهم، وكذلك تعداد الأسماء الحسني في قوله صلي الله عليه وسلم: ( إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ )، لأن تعداد الأسماء الحسني أو الدعاء بها مبني على إثبات .
    وأي نقص في حق الله أعظم من أن يكون الله عز وجل لا صفة له عند المعتزلة - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا- إن الواحد منا لا يقبل هذا على نفسه، فلو قال لك قائل: أنت لا صفة لك عندي، ربما خاصمته دهرا، لأن الفطرة مجبولة على إثبات الأوصاف الحميدة، فمن العجب أن يثبتوا لأنفسهم أجود الأوصاف، وينفون عن الله الذي ليس كمثله شيء سائر أوصاف الكمال، ومن ثم لا بد من الإيمان بصفات الله جميعها، كالإيمان بوجود ذاته، فالقول في الذات كالقول في الصفات سواء بسواء .
    ثانيا: بدعة الأشعرية في إثبات بعض الصفات ورد البعض:
    ابتدعوا تقسيما عجيبا في صفات الله على أهوائهم، فقالوا: الوجود صفة نفسية، والقدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والوحدانية صفات سلبية، والقدرة والإرادة والعلم والحياة والكلام والسمع والبصر صفات معاني أو معنوية، وبقية الصفات الواردة في القرآن والسنة خبرية تدل على التشبيه وظاهرها غير مراد لأنه باطل قبيح لا يثبته العقل، حتى قال قائلهم كما سبق:
    وكل نص أوهم التشبيه : أوِّله أو فوِّض ورم تنزيها .
    ولو سألناهم: لم أثبتم قدرته سبحانه وإرادته وعلمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره مع أنها وردت في الكتاب والسنة ونفيتم صفة المحبة والرضي والغضب والاستواء والعلو والمجئ وسائر الصفات الخبرية مع أنها أيضا وردت في الكتاب والسنة ؟ قالوا: لأن الصفات التي أثبتناها لا تدل على التشبيه، أما الصفات التي نفيناها تدل على التشبيه، فيقال لهم: العقلاء لا يقرون هذا، فالقول في الصفات كالقول في بعض، فإما أن تقولوا بالتمثيل الباطل في الذات وجميع الصفات كما فعل الممثل وقال: إرادة الله مثل إرادة المخلوق، ومحبته ورضاه وغضبه واستواءه وعلوه وسائر الصفات الخبرية مثل أوصاف المخلوق، ومعلوم أن هذا كذب على الله وقياس باطل محرم .
    وإما أن تقولوا كما قال أهل التوحيد: إرادة الله تليق به، وإرادة المخلوق تليق به والله ليس كمثله شيء في إرادته ومحبته ورضاه وغضبه واستواءه وعلوه وسائر الصفات الثابتة في الكتاب والسنة كما هو اعتقاد أهل الحق .
    أما أن يأتي صاحب المذهب الأشعري بحجج عقلية سقيمة ينفي بها ما يشاء ويثبت من صفات الله فالعقل لن يسأم من مقارعة الحجة بالحجة، فإن قال: نفيت الغضب لأنه غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يجوز على الخالق سبحانه وتعالى، قيل له: والإرادة التي أثبتها ميل القلب إلي جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا لا يجوز على الخالق سبحانه وتعالى، فإن قال: هذه إرادة المخلوق، أما إرادة الخالق فليست كذلك، قيل له: وهذا الغضب الذي وصفته غضب المخلوق، أما غضب الخالق فليس كذلك، وهذا لازم في كل صفة أثبتها أو نفاها .
    · تقديم العقل على النقل في باب الأمر يؤدي إلى بدع العبادات.
    وقال شيخ الإسلام أَبو عثمان إِسماعيل الصابوني رحمه الله : (وعَلاماتُ أَهلِ البدَعِ عَلى أَهلها بادية ظاهرة ، وأَظهرُ آياتهم وعَلاماتهم شدَةُ مُعاداتهم لحمَلة أَخبار النبِيِّ- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واحتقارهم لهُم ، وتَسميتهم حَشويَّة ، وجَهلة ، وظاهرية ، مُشبهة ؛ اعتقادا منهُم في أَخبار رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أَنَّها بمعزل عن العلم ، وأَن العلم ما يُلقيهِ الشيطانُ إِليهِم من نتائجِ عُقولهم الفاسدة ، ووساوس صُدورهم المُظلِمَة) .
    وقد بينَ الإِمام الشافعي حكم أَهل البدع والأَهواء ، في قوله : (حُكْمي في أَصْحابِ الكَلامِ أَنْ يُضرَبوا بالجريد ، ويُحْمَلوا عَلَى الإِبلِ ، ويُطاف بهم في العشائرِ والقَبائلِ ؛ ويقال هذا جَزاءُ مَنْ تَرَك الكتابَ والسنة ، وأَخَذَ في الكَلام ).
    قال الإمام أَحمد بن سنان القطان رحمه الله تعالى : ( لَيْسَ في الدنيا مُبْتَدع ؛ إِلا وهو يُبْغضُ أَهلَ الحَديث ، فإِذا ابْتَدَعَ الرجُلُ نُزِعَتْ حَلاوَةُ الحَديثِ من قَلْبِه) التذكرة للإمام النووي .
    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (يَأتِي أنَاس يُجادلونكُم بشُبُهات القرآن ؛ خُذوهُم بالسنَنِ ؛ فإِن أَصْحابَ السّنَنِ أَعْلمُ بكتِاب اللهِ) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة .
    وقال الفضيل بن عياض: (صاحبُ بدعَة لا تَأمَنْه عَلى دينِكَ ، ولاَ تُشَاورهُ في أَمْرِكَ ، ولاَ تجلس إِليه ، ومَنْ جَلَسَ إِلى صاحِبِ بدعة أَوْرثَهُ اللهُ العَمَى) يعني في قلبه .
    وقال عبد الله بن المبارك: (اللَّهُمَ لاَ تَجْعَلْ لِصَاحِبِ بِدْعَة عِنْدي يَدا ؛ فَيُحبه ) .
    وقال سفيان الثوري رحمه الله : (مَنْ أصغى سَمْعَهُ إِلَى صَاحب بِدْعَة وهُو يَعْلَمُ أَنهُ صاحِبُ بِدْعَةٍ ؛ نُزِعَتْ مِنْهُ العِصْمَةُ ، ووُكِل إلَى نَفْسِه ) .
    وقال الأَوزاعي رحمه الله تعالى : (لاَ تُمكنوا صاحِبَ بِدْعَةٍ منْ جَدَلٍ ؛ فَيورثَ قُلوبَكُم منْ فِتْنَتِهِ ارْتيابا) .
    وعن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى : أَنهُ رأَى قوما يتكلمون في شيء من الكلام فصاح ، وقال : (إِما أَنْ تُجاورونا بِخَيْر ، وَإمَا أَنْ تَقُوموا عنا) .

    وقال إِمام أَهل السُّنَة أَحمد بن حنبل رحمه الله تعالى : (إِن أَهلَ البدَعِ والأَهْواءِ ؛ لاَ يَنْبَغي أَنْ يُسْتَعانَ بِهِم في شَيء مِنْ أمورِ المُسْلميَنَ ؛ فإن في ذَلِكَ أَعْظَم الضرر علَى الدين) .

    وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدى رحمه الله تعالى : (إِنه لَيْسَ في أَصْحاب الأَهْواءِ شَر مِنْ أَصْحابِ جَهم ؛ يُريدون عَلى أَنْ يَقُولوا : لَيسَ في السَماءِ شَيء : أَرى وَاللهِ أَلا يُنَاكَحُوا ، وَلاَ يُوَارثُوا).
    وقال أَبو قلابة البصري رحمه الله تعالى : (لاَ تُجالسوا أَهلَ الأَهْواء ؛ فَإِنكم إن لَمْ تَدْخلوا فيما دَخَلوا فيه لبسوا عَلَيْكُم مَا تَعْرِفون).
    وقال أَبو محمد الحسين بن مسعود ابن الفرَّاء البغوي : (قَدْ مَضىَ الصحابةُ والتابعونَ وأَتْباعُهم وعُلماءُ السُّنَةِ عَلَى معُاداةِ أَهلِ البِدَعِ ومُهاجَرَتهِم..كلّ عبادة لم يَتَعبدْ بها أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وآله وسلم- فلاَ تَتَعبَّدوا بها ؛ فإِن الأَوَّلَ لَمْ يَدع للآخِر مَقالا ؛ فاتَّقوا اللهَ يا مَعْشَر القرَّاء ، خُذوا طَريقَ مَنْ كان قَبلكُم)
    وعن ابن الماجشون ، قال : سمعت مالكا يقول : (مَن ابْتَدَعَ في الإِسلام بدعة يَراها حَسَنة؛ فَقَدْ زَعَمَ أَن مُحمّدا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خانَ الرّسالةَ ؛ لأَن اللهَ يقولُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فما لَم يَكُنْ يَوْمَئذ دينا فَلا يكُونُ اليَوْمَ دينا) .
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    14
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    28-04-2013
    على الساعة
    12:10 AM

    افتراضي أصول العقيدة لمحمود الرضواني 4

    المحاضرة الرابعة
    طريقة الصحابة في فهم العقيدة
    منهج الصحابة والتابعين في فهم القرآن والسنة .
    حقيقة الإسلام في القرون الفاضلة قبل قيام الفرق والمذاهب كانت ممثلة في تصديق الصحابة لخبر الله وتنفيذ أمره، فتصديق الخبر هو معنى الإيمان، وتنفيذ الأمر هو معنى الإسلام، وهذا المنهج يعتبر منهجا إيمانيا فطريا مبنيا على الفهم الدقيق لحقيقة الإسلام والإيمان، فهم كانوا يصدقون خبر الله ورسوله e تصديقا جازما ينفي الوهم والشك والظن، وينفذون الأمر تنفيذا كاملا يقوم على الطاعة والإخلاص والحب بحيث تنسجم فطرتهم النقية مع توجيه النصوص القرآنية والنبوية .
    ذلك المبدأ ـ أعني مبدأ تصديق الخبر وتنفيذ الأمر بعيدا عن الفلسفات العقلية والآراء الكلامية التي أحدثتها مختلف الفرق الإسلامية ـ هو غاية من جاء بعدهم وسلك دربهم في مختلف العصور، مهما تنوعت كلماته أو بدت اعتقاداته في توحيد الله U والعمل بأحكامه، فالمسلم الصادق في عصر خير القرون عندما يشهد ألا إله إلا الله فإنه يكون قد عقد في نفسه عقدا أن الله U هو المعبود الحق الذي يصدق في خبره دون تكذيب، والذي يطاع في أمره دون عصيان، وتلك حقيقة الإيمان التي نزل بها القرآن وفهمها أصحاب اللسان .
    وقد بين ابن القيم رحمه الله أن أساس التوحيد والهداية التي منَّ الله U بها على عباده يقوم على تصديق خبر الله من غير اعتراض شبهة، وامتثال أمره من غير اعتراض شهوة، ثم يقول: (وعلى هذين الأصلين مدار الإيمان، وهما تصديق الخبر وطاعة الأمر) ([1]) .
    ولما كان الصحابة y هم أهل الفصاحة واللسان، وقد خاطبهم الله U بنوعي الكلام في القرآن فإن منهجهم في مسائل التوحيد والإيمان هو تصديق الخبر وتنفيذ الأمر، فلو أخبرهم الله عن شيء صدقوه تصديقا جازما يبلغ حد اليقين ن، وهذا ما عرف لاحقا عند المتمسكين بمنهج السلف الصالح بتوحيد العلم والخبر، أو توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، أو غير ذلك من مسميات واصطلاحات .
    والصحابة y لو أمرهم الله بشيء نفذوه تنفيذا كاملا بالقلب واللسان والجوارح وهو ما عرف لاحقا بتوحيد العبادة، أو توحيد الإلوهية، أو توحيد القصد والطلب لأن غاية التوحيد العظمى وطريقة السلف المثلى التي جاهدوا المخالفين لإلزامهم بها أن يثبتوا ما أثبته الله U لنفسه بتصديق خبره، وأن يطيعوا الله فيما أمر به على لسان نبيه e، وقد أجمع الصحابة y إجماعا سكوتيا دون مخالف أن يصدقوا خبر ربهم وبلاغ نبيهم، وأن ينفذوا أمر معبودهم عن خضوع وتسليم ومحبة وتعظيم، ولم يكن بينهم من دان بغير ذلك، ومن شك في ذلك فما قدرهم حق قدرهم، وما أدرك حقيقة إيمانهم وإسلامهم رضي الله عنهم أجمعين.
    · الإيمان عند الصحابة في أبسط صوره هو تصديق الخبر وتنفيذ الطلب
    الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب ويتطلب التصديق:
    الوهم . الشك . الظن . علم اليقين . عين اليقين . حق اليقين .
    قال تعالى:} وَقَوْلهِمْ إِنَّا قَتَلنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُول اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لهُمْ وَإِنَّ الذِينَ اخْتَلفُوا فِيهِ لفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً{ (النساء:157) .
    وقال:} وَإِذَا قِيل إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ{ (الجاثية:32).
    وقال:} وَلوْ تَرَى إِذِ المُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَل صَالحاً إِنَّا مُوقِنُونَ{ (السجدة:12).
    وقال تعالى:}وَاسْتَبَقَا البَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلفَيَا سَيِّدَهَا لدَى البَابِ قَالتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَليمٌ قَال هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَال إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخَاطِئِينَ{ (يوسف:26).
    وقال تعالى:}فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ قَال سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ{ (النمل:27) .
    · موقف الصحابة من خبر الله ورسوله e:
    روى الإمام البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قَال: (لمَّا نَزَلتْ:}وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ{, صَعِدَ النَّبِيُّ e عَلى الصَّفَا ف، َجَعَل يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ لبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَل الرَّجُلُ إِذَا لمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَل رَسُولا ليَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَال: أَرَأَيْتَكُمْ لوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَليْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَليْكَ إِلا صِدْقًا، قَال فَإِنِّي نَذِيرٌ لكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَال أَبُو لهَبٍ: تَبًّا لكَ سَائِرَ اليَوْمِ أَلهَذَا جَمَعْتَنَا ؟ فَنَزَلتْ: }تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ { 15/357 .
    وروى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلةَ الأُسَيِّدِيِّ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُول اللهِ e أنه قَال: (لقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَال: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلةُ ؟ قَال: قُلتُ نَافَقَ حَنْظَلةُ، قَال: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ ؟ قَال قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُول اللهِ eيُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُول اللهِ eعَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَال أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لنَلقَى مِثْل هَذَا، فَانْطَلقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلنَا عَلى رَسُول اللهِ eقُلتُ: نافَقَ حَنْظَلةُ يَا رَسُول اللهِ، فَقَال رَسُولُ اللهِ e: وَمَا ذَاكَ ؟ قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَال رَسُولُ اللهِ e: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لوْ تَدُومُونَ عَلى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لصَافَحَتْكُمْ المَلائِكَةُ عَلى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلكِنْ يَا حَنْظَلةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلاثَ مَرَّاتٍ) 13/303 .
    وروى البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ e فَقَال: (أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ ؟ فَقَال: اسْقِهِ عَسَلا، ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَال: اسْقِهِ عَسَلا، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالثَةَ فَقَال: اسْقِهِ عَسَلا، ثُمَّ أَتَاهُ فَقَال: قَدْ فَعَلتُ، فَقَال: صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ اسْقِهِ عَسَلا، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ) . وفي رواية عند ابن ماجة جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبِيِّ e فَقَال: (إِنَّ أَخِي اسْتَطْلقَ بَطْنُهُ فَقَال: اسْقِهِ عَسَلا، فَسَقَاهُ، فَقَال: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلمْ يَزِدْهُ إِلا اسْتِطْلاقًا، فَقَال: صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) . والرسول eيعني قوله تعالى: } يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { (النحل:69)
    بل كان رسول الله يذكر في فضل تصديق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما يؤمنان بكل ما أخبر به النبي ثقة منه فيهما كما ورد في الصحيحين من حديث َأبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال:(صَلى رَسُولُ اللهِ e صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَل عَلى النَّاسِ فَقَال: بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقَالتْ: إِنَّا لمْ نُخْلقْ لهَذَا إِنَّمَا خُلقْنَا للحَرْثِ، فَقَال النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ بَقَرَةٌ تَكَلمُ ؟ فَقَال: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ ؟ وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ، فَطَلبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَال لهُ الذِّئْبُ: هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ لهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لهَا غَيْرِي، فَقَال النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ ذِئْبٌ يَتَكَلمُ ؟ قَال: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ) .
    وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ e قَال: (إِنَّ المَيِّتَ يَصِيرُ إِلى القَبْرِ، فَيُجْلسُ الرَّجُلُ الصَّالحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلا مَشْعُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ لهُ: فِيمَ كُنْتَ ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الإِسْلامِ فَيُقَالُ لهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ e، جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لهُ: هَل رَأَيْتَ اللهَ ؟ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللهَ، فَيُفْرَجُ لهُ فُرْجَةٌ قِبَل النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِليْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لهُ: انْظُرْ إِلى مَا وَقَاكَ اللهُ، ثُمَّ يُفْرَجُ لهُ قِبَل الجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ، وَيُقَالُ لهُ عَلى اليَقِينِ كُنْتَ، وَعَليْهِ مُتَّ، وَعَليْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَيُجْلسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا، فَيُقَالُ لهُ: فِيمَ كُنْتَ ؟ فَيَقُولُ لا أَدْرِي، فَيُقَالُ لهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلا فَقُلتُهُ، فَيُفْرَجُ لهُ قِبَل الجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا، فَيُقَالُ لهُ: انْظُرْ إِلى مَا صَرَفَ اللهُ عَنْكَ ثُمَّ يُفْرَجُ لهُ فُرْجَةٌ قِبَل النَّارِ، فَيَنْظُرُ إِليْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيُقَالُ لهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ عَلى الشَّكِّ كُنْتَ وَعَليْهِ مُتَّ وَعَليْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى) 12/339 .


    موقفهم الصحابة في باب الأمر والطلب:

    الطلب هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب ويتطلب التنفيذ
    قال تعالى:}فَليَحْذَرِ الذِينَ يُخَالفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَليمٌ{(النور:63).
    روى مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قَال: (بَايَعْنَا رَسُول اللهِ e عَلى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ وَالمَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَعَلى أَثَرَةٍ عَليْنَا، وَعَلى أَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلهُ، وَعَلى أَنْ نَقُول بِالحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللهِ لوْمَةَ لائِمٍ) 9/373 .
    وعنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي e قال: (عَلى المَرْءِ المُسْلمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) .
    روى البخاري 20/87 من حديث أبي هُرَيْرَةَ t أنه كَانَ يَقُولُ: (أَاللهِ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلى الأَرْضِ مِنْ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ عَلى بَطْنِي مِنْ الجُوعِ، وَلقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلى طَرِيقِهِمْ الذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلتُهُ إِلا ليُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلمْ يَفْعَل، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ، فَسَأَلتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلتُهُ إِلا ليُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلمْ يَفْعَل، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو القَاسِمِ e ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَال: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيْكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: الحَقْ، وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَدَخَل فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لي، فَدَخَل فَوَجَدَ لبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَال: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللبَنُ ؟ قَالُوا: أَهْدَاهُ لكَ فُلانٌ أَوْ فُلانَةُ، قَال: أَبَا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيْكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: الحَقْ إِلى أَهْل الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لي .
    قَال: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلامِ، لا يَأْوُونَ إِلى أَهْلٍ وَلا مَالٍ، وَلا عَلى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِليْهِمْ وَلمْ يَتَنَاوَل مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَل إِليْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلكَ فَقُلتُ: وَمَا هَذَا اللبَنُ فِي أَهْل الصُّفَّةِ، كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي، فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللبَنِ، وَلمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولهِ e بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالسَهُمْ مِنْ البَيْتِ، قَال: يَا أَبَا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيْكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: خُذْ فَأَعْطِهِمْ، قَال: فَأَخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلتُ أُعْطِيهِ الرَّجُل فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَليَّ القَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُل فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَليَّ القَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَليَّ القَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلى النَّبِيِّ e وَقَدْ رَوِيَ القَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ القَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِليَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَال: أَبَا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيْكَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ، قُلتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُول اللهِ، قَال: اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَال: اشْرَبْ فَشَرِبْتُ، فَمَا زَال يَقُولُ اشْرَبْ حَتَّى قُلتُ: لا وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَجِدُ لهُ مَسْلكًا، قَال:فَأَرِنِي فَأَعْطَيْتُهُ القَدَحَ فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلةَ) .
    روى الإمام مالك في موطأه من حديث ابْنِ أَبِي مُليْكَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ مَرَّ بِامْرَأَةٍ مَجْذُومَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ بِالبَيْتِ فَقَال لهَا: يَا أَمَةَ اللهِ لا تُؤْذِي النَّاسَ لوْ جَلسْتِ فِي بَيْتِكِ، فَجَلسَتْ فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ بَعْدَ ذَلكَ فَقَال لهَا: إِنَّ الذِي كَانَ قَدْ نَهَاكِ قَدْ مَاتَ فَاخْرُجِي، فَقَالتْ:مَا كُنْتُ لأُطِيعَهُ حَيًّا وَأَعْصِيَهُ مَيِّتًا 3/302 .
    ما معنى الإيمان في حديث سفيان؟
    وقد كان إرشاد النبي e لأصحابه يهدف إلى التسليم للوحي والإيمان به دون نزاع وأن صلاحهم يكمن في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله e، روى مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي t أنه قال: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِى فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ؟ ـ وَفِى حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ غَيْرَكَ قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ) ([2]) .
    وأصل الاستقامة الاعتدال على الطريق الذي رسمه النبي e لأصحابه في خط مستقيم، ولا يكون الاعتدال إلا بشمولية الإيمان بكل ما ورد عن الله ورسوله من أخبار والتسليم لكل ما جاء عنهما من تشريعات وأوامر ؛ فإن التقصير في جانب سيؤدي إلى المبالغة أو الانحراف في جانب آخر.
    روى أحمد وصححه الألباني من حديث ابن مسعود t أنه قال: (خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ e خَطًّا ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: } وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ { [الأنعام:153]) ([3]) .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الكلام فى باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفى والإثبات، والكلام فى الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض نفيا وإثباتا، والانسان يجد فى نفسه الفرق بين النفى والإثبات والتصديق والتكذيب وبين الحب والبغض والحض والمنع حتى ان الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ومعروف عند أصناف المتكلمين فى العلم كما ذكر ذلك الفقهاء فى كتاب الأيمان وكما ذكره المقسمون للكلام من اهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان خبر وانشاء والخبر دائر بين النفى والاثبات والأنشاء أمر أو نهى أو اباحة، وإذا كان كذلك فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب اثباته له من صفات الكمال وينفى عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ولا بد له فى أحكامه) .
    وقد ظل أمر السلف الصالح في القرون الفاضلة على نهج الوسطية والاعتدال والشمولية، يسيرون بفضل الله على درب نبيهم، يلتزمون بالسنة لا يقصرون فيها ولا يهونون منها، ويحذرون من البدعة وينبهون على خطورتها .
    وظلت أمور العقيدة على هذا الحال صافية نقية والأمة الإسلامية تؤدي حقيقة العبودية التي أرادها الله U من استخلاف البشرية، حتى ظهر أثر الحاقدين في التشويش على عقيدة المؤمنين، وبرز فكر الجاهلين الذين يقدمون آراءهم وأهواءهم على كل نص قرآني أو حديث نبوي، فكان من أبرزهم في التاريخ الإسلامي عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أسهم في تفرق الأمة الإسلامية، وكان سببا مباشرا في ظهور الشيعة والخوارج كأبرز فرقتين ضالتين بين الطوائف الإسلامية .

    سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك

    (1) مفتاح دار السعادة 1/40 .

    (1) مسلم في الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام 1/65 (38) .

    (1) مسند الإمام أحمد 1/435 (4142)، وانظر تصحيح الألباني في شرح العقيدة الطحاوية 587 .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    14
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    28-04-2013
    على الساعة
    12:10 AM

    افتراضي أصول العقيدة لمحمود الرضواني 5

    المحاضرة الخامسة
    تاريخ المذهب العقلي
    · بدعة الجهمية وظهور المدرسة العقلية؟
    أساس البلاء وسبب الشقاء وحامل لواء مقدمي الآراء على كتاب الله وسنة رسوله e رجل يدعى الجهم بن صفوان الخرساني الذي توفى في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري ([1]) .
    وكان الجهم متحذلقا كثير الكلام والجدال، ولم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم بل كلامه وجداله أساسه الرأي والهوى، ويذكر العلماء أن الجهم استمد فكره من طريقين:
    أحدهما طريق يهودي، والآخر طريق وثني، فقد تربّى الجهم بن صفوان على يد أستاذه الجعد بن درهم، وهو رجل من المنكرين لأوصاف الله بحجة نفي التشبيه، أخذ جل أفكاره وآراءه عن أبان بن سمعان الذي كان تلميذا لطالوت بن أخت لبيد بن الأعصم الساحر اليهودي الذي سحر النبي e في مشط ومشاطة .
    قال ابن تيمية: (أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فان أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام أعنى أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة، وأن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم ابن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي، وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم) ([2]) .
    وقد تجلى حقد اليهود بعد هزيمتهم والقضاء عليهم في إقدامهم على إيذاء النبي e بسحرهم وطرقهم المعهودة في الغدر والوقيعة بين أبناء الأمة، روى الإمام البخاري من حديث عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنها قَالتْ: (سَحَرَ رَسُول اللهِ e رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لهُ لبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حتى كَانَ رَسُولُ اللهِ e يُخَيَّلُ إِليْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلهُ ـ تقصد الجماع حيث يظن النبي e أنه على جنابة ـ حتى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ ليْلةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَال: يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْليَّ، فَقَال أَحَدُهُمَا لصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُل؟ فَقَال: مَطْبُوبٌ، قَال: مَنْ طَبَّهُ ؟ قَال: لبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَال: فِي أَيِّ شَيْءٍ ؟ قَال: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلعِ نَخْلةٍ ذَكَرٍ، قَال: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَال: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ e فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَال: يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، قُلتُ: يَا رَسُول اللهِ أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَال: قَدْ عَافَانِي اللهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ على النَّاسِ فِيهِ شَرًّا، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ) ([3]) .
    وفي رواية أخرى عند البخاري: (فَقُلتُ: اسْتَخْرَجْتَهُ ؟ فَقَال: لا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلكَ على النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ) ([4]) .
    ذلك السحر إنما صدر عن حقد يهودي امتد ليفرق كلمة الأمة بظهور عبد الله بن سبأ اليهودي ثم امتد ليصل إلى الجعد بن درهم وتلميذه الجهم بن صفوان، فعقائد الجهم ونظرياته إنما هي تشكيك في العقيدة واعتراض على الوحي استقاها من أسس يهودية بعيدة كل البعد عن منهج الصحابة في العقيدة الإسلامية .

    أما الطريق الثاني الذي استمد منه الجهم بن صفوان فكره فهو طريق وثني ظهر إثر احتكاكه بالمشركين، فالجهم لقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية نسبة إلى قرية بالهند تسمى سُومَنَات، وهي فرقة تعبد الأصنام وتقول بتناسخ الأرواح وتنكر الوحي والدين، جرت بينهم وبين الجهم مناظرة عقلية، لما عرفوا الجهم قالوا له: نكلمك ونناظرك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم: نعم قالوا له: فهل رأيت إلهك ؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه ؟ قال: لا قالوا: فهل شممت له رائحة ؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حسا ؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله ؟ فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ([5]) .
    وقد استدرك الجهم بن صفوان حجة كحجة النصارى الذين يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو الله، وأن الله يحل فيه، فإذا أراد الله أمرا دخل في عيسى فتكلم على لسانه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة وقال لمن ناظره من السمنية: ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال السمني: نعم، فقال له: هل رأيت روحك ؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامها؟ قال: لا، قال: فوجدت لها حسا ؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، وهو في كل مكان، فالمخلوقات بمثابة الجسد والله U في داخلها بمثابة الروح ([6]) .
    شككوه في دينه حتى ترك الصلاة أربعين يوما، وقال: لا أصلي لمن لا أعرفه ثم اشتق هذا الكلام فأنكر عليه الوالي فقال: إذا ثبت عندي من أعبده صليت له فضرب عنقه ([7]) .
    قال أبو معاذ البلخي: (كان جهم على معبر ترمذ ـ بلد من نواحي إيران ـ وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان، لم يكن له علم ولا مجالسه لأهل العلم، وكان قد تناقل كلام المتكلمين وكلمه السمنية، فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده؟ فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا، ثم خرج عليهم بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء، ولا يخلو منه شيء) ([8]) .
    الرد على شبهة السمنية:
    وكان يكفي الجهم بن صفوان في الرد على السمنية أن يقول: إن الله يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا لأنه اختبرنا فيها وابتلانا بها، فلو رأيناه أو رأينا ملائكته أو رأينا جنته وعذابه دون حجاب لما كان لقيام السماوات والأرض بهذه الكيفية أو بهذا الوضع الذي فطرنا عليه أي معنى يذكر ولذلك قال U: } الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُو العزيز الغَفُورُ { [الملك:2]، وقال أيضا: } ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ { [إبراهيم:19]، فكيف يتحقق معنى الابتلاء أو الإيمان بالله ونحن نراه ؟
    وإذا كان الله لا يرى في الدنيا ابتلاءا فإنه يرى في الآخرة جزاء وإكراما لأهل طاعته كما قال: } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ { [القيامة:22/23]، وقد تواترت الأحاديث النبوية الصحيحة في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة .
    ومن ثم فإن العلة في عدم إدراك الكيفية ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله U، ولكن العلة قصور الجهاز الإدراكي البشري في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب، فقد خلق الله الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق علة معينة تمثلت في حقيقة الابتلاء كما قال U: } إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً { [الإنسان:2] .
    وما يعنينا الآن أنه بهذا الفكر العقلي الخبيث الذي زعم به الجهم بن صفوان أن الله حل في مخلوقاته وهو بذاته في كل مكان نظر في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فما ظن أنه يوافق رأيه من النصوص احتج بها وما ظن أنه يخالف مذهبه منها أنكرها وعطلها عن مدلولها وإن كانت تلك النصوص من السنة فالويل لها فقد اتهمها بأنها أمور ظنية وآحاد معنعنة لا تدل على اعتقاد فوجد قوله تعالى: } وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ { [الحديد:4] فأخذه حجة لرأيه في الحلول والاتحاد، وكذلك قوله: } لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ اْلأبْصَارَ { [الأنعام:13]، فبنى عليه نفي صفات الله وتعطيلها ووجد قوله U: } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { [طه:5]، وقوله تعالى: } تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليْهِ { [المعارج:4] يخالف ما ذهب إليه من القول بالحلول، ماذا صنع الجهم بتلك النصوص؟
    قال أبو نعيم البلخي وكان قد أدرك جهما: (كان للجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره فإذا هو قد هجره وخاصمه فقلت له: لقد كان يكرمك، فقال: إنه جاء منه ما لا يتحمل بينما هو يقرأ سورة طه والمصحف في حجره إذ أتى على هذه الآية: }} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { [طه:5]، قال: لو وجدت السبيل إلى أن أحكها من المصحف لفعلت فاحتملت هذه، ثم إنه بينما يقرأ آية أخرى إذ قال: ما أظرف محمدا حين قالها ثم بينما هو يقرأ القصص والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسى U فدفع المصحف بيديه ورجليه، وقال: أي شيء هذا ؟ ذكره هنا فلم يتم ذكره وذكره هنا فلم يتم ذكره) ([9]) .
    وقد أخذ الجهم بن صفوان كما ذكرنا عن أستاذه الجعد بن درهم الذي قال بنفي أوصاف الله U وعطل الآيات عن مدلولها وقال بخلق القرآن، قال أبو القاسم اللالكائي: (ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم ثم جهم بن صفوان) ([10]) .
    والجهم بن صفوان إليه تنسب طائفة الجهمية الذين قالوا لا قدرة للعبد أصلا بل هو بمنزلة الجمادات، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقى موجود سوى الله تعالى، وقال أبو الحسن الأشعري: (قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة ودارت السفينة وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والسفينة والشمس الله سبحانه وتعالى، وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ([11]) .
    وكان جهم يقف على الجذامى ويشاهد ما هم فيهم من البلايا ويقول: (أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ([12])، يعني أنه ليس هناك رحمة في الحقيقة ولا حكمة، وأن الأمر راجع إلى الجبر وإلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة .
    وقد قتل الجعد بن درهم حدا وذلك لكفره الصريح بآيات الله وتكذيبها، قتله خالد بن عبد الله القسري أمير بلاده في يوم عيد الأضحى بعد أن استفتى علماء زمانه حيث خطب الناس وقال: ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم ؛ فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسي تكليما ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد أن استفتى علماء زمانه من السلف الصالح ([13]) .
    ويذكر الذهبي: (أن الجعد بن درهم هو أول من ابتدع بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى وأن ذلك لا يجوز على الله، قال المدائني: كان زنديقا، وقال له وهب: إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله أن له يدا وأن له عينا ما قلنا ذلك ثم لم يلبث الجعد أن قتل وصلب) ([14]) .
    أما الجهم بن صفوان انتقل إلى ترمذ أحد البلدان في إيران، وبدأ الدعوة لمذهبه فانتشرت فيها عقائد الإنكار والتعطيل لكلام الله، ثم وجد لدعوته أتباعا ومريدين من العامة والدهماء والجاهلين في مدن أخرى من مدن إيران، ثم انتشرت أفكاره في بغداد وبقية البلدان، فالجهمية فرقة ظهرت في أواخر الحكم الأموي ومؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي السمرقندي وقد مات مقتولا، قتله سالم بن الأحوز في آخر أيام الدولة الأموية ([15]) .
    وقد تفرعت من فرقة الجهمية فرق عديدة انقسمت إلى أكثر من عشر فرق كل فرقة اتخذت لنفسها مسلكا فكريا خاصا وعقيدة مستقلة، لكن أبرز عقائد الجهمية هي القول بنفي صفات الله U، وأن الإنسان لا يقدر على شيء، وهو مجبور مسير مقهور في فعله لا يوصف بالاستطاعة والقدرة، وأن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو معرفة الله حتى لو كفر الإنسان باللسان، وقالوا أيضا بأن القرآن مخلوق ([16]) .
    والقصد مما سبق أن الجهم بن صفوان زعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله e فهو مشبه، وأن التوحيد يكمن في نفي هذه الصفات متمسكا بزعمه بقول الله تعالى: } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء { [الشورى:11] سواء كان النفي نفيا واضحا، أو كان بتأويل القرآن على غير معناه ولي أعناق النصوص بغير ما تحتمل، فزعم الجهم أن الله في كل مكان كما الروح في الجسد .
    وهذا كلام باطل من جميع الوجوه لأن الله سبحانه وتعالى لا يحل في مخلوقاته فقد ثبت أنه بذاته في السماء فوق العرش، وعرشه فوق الماء، والماء فوق السماء السابعة وهو سبحانه في سمائه يدبر أمر مخلوقاته ويعلم ما هم عليه .
    قال أبو عمر الطلمنكي: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: } وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ { [الحديد:4] ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله تعالى فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء، وقال أهل السنة في قوله: } الرَّحْمَنُ على العَرْشِ اسْتَوَى { [طه:5]: إن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز) ([17]) .
    وقال أبو زرعة الرازي: (إن الله U على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسول الله eبلا كيف أحاط بكل شيء علما، وإنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء) ([18]) .
    وقال أبو نعيم الأصبهاني: (طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ثم قال: فما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي e في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه .. وقال أيضا: وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه) ([19]) .
    وقال أبو الحسن الأشعري عند قوله: } أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ {: (السماوات فوقها العرش، ولما كان العرش فوق السماوات، قال أأمنتم من في السماء لأنه على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: } أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ { يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات) ([20]) .
    وقال يحى بن معاذ الرازي: (إن الله على العرش بائن من خلقه، قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء أو هالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان) ([21]) .
    وقد أضل الجهم بن صفوان خلقا كثيرا وتبعه على قوله رجل يقال له واصل بن عطاء، ورجل آخر يقال له عمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب المعتزلة، فما هي قصة المعتزلة ؟ وكيف نشأت وما أصولهم في العقيدة ؟ وكيف دعوا الناس إلى القول بخلق القرآن ؟ وكيف امتحنوا أئمة أهل السنة وقتلوا كثيرا من أهل الإيمان؟
    · كيف ظهرت المعتزلة وقوة انتشار المدرسة العقلية ؟
    علمنا مما سبق أن الجهم بن صفوان قدم عقله ورأيه على الأدلة القرآنية والنبوية عندما أجاب السمنية بجهله إجابة خاطئة كاذبة، وزعم أن الله بذاته في كل مكان وأنه لا صفة له حتى لا يشبه الإنسان، ثم نظر هذا المفتون إلى القرآن فما تصور أنه يوافق مذهبه جعله دليلا وبرهان، وما خالفه صرح برده ونفيه من القرآن .
    وقد تبنى فكر الجهمية واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب الاعتزال، فالمُعْتَزِلة أتباع واصل بن عطاء الغزال (ت:131هـ) الذي كان تلميذا للحسن البصري، وكان متكلما مفوها بليغا على الرغم من كونه كان عاجزا عن النطق ببعض الحروف، فكان ينطق الراء غينا، فينطق: شراب بارد شغاب باغد، ومن عجيب ما كان من واصل، أنه كان يخلص كلامه وينقيه من حرف الراء، لقدرته العجيبة على انتقاء الكلام حتى قال أحد الشعراء من أتباعه يمدحه:
    عليم بإبدال الحروف وقامع: لكل خطيب يقلب الحق باطله ([22]) .
    وقال آخر:
    ويجعل البر قمحا في تصرفه: وخالف الراء حتى احتال للشعر
    ولم يُطِقْ مطرا والقَولُ يَعْجُلُه: فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر ([23]) .
    كان واصل بن عطاء ضمن الطلاب في حلقة الشيخ الحسن البصري وهو من علماء السلف الصالح، فجاء إلى الحلقة رجل من عامة المسلمين يسأل عن الحكم الشرعي في مرتكب الكبيرة ؟
    ومعلوم أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن مرتكب الكبيرة مسلم فاسق لا يخرج عن الملة، والخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة كافر بالله العظيم مخلد في النار، وقبل أن يجيب الشيخ البصري قام واصل بن عطاء دون أدب ولا حياء، وقال: إن الفاسق من هذه الأمة لا هو مؤمن ولا هو كافر، هو في منزلة بين المنزلتين ([24]) .
    أجاب واصل بعقله دون احترام لشيخه ودون علم أو نظر في كتاب الله وسنة رسوله e، عند ذلك رده الحسن البصري وبين حكم مرتكب الكبيرة، وبدلا من أن يرجع إلى شيخه ويعتذر عن سوء أدبه أخذته العزة بالإثم واعتزل الحسن البصري وجلس إلى سارية من سواري المسجد في البصرة، وانضم إليه بعد ذلك رجل آخر يقال له عمرو بن عبيد، واجتمع إلى واصل بن عطاء أراذل الناس من أتباع الجهم بن صفوان، فكان الحسن البصري يقول: اعتزلنا واصل، اعتزلنا واصل، وكان بقية طلاب العلم من تلاميذ الحسن البصري يطلقون عليهم المعتزلة، فارتسم عليهم هذا الاصطلاح عند عامة المسلمين([25]) .
    وكان هؤلاء المعتزلة يدعون الزهد والصلاح والنصح والإصلاح، وكان لهم صلة بالحكام في الدولة العباسية، تلك الصحبة أو الصداقة بين رؤوس المعتزلة وخلفاء بني العباس أثارت حفيظتهم في الأخذ بمشورتهم والعمل بنصيحتهم، وقد أدت هذه الثقة إلى بدعة كبرى وطامة عظمى مرت بالأمة الإسلامية وعصفت بها في القرن الثالث الهجري ولا زالت تعاني من آثارها حتى الآن .
    شرح الأصول الخمسة عند المعتزلة .
    وقد أسس المعتزلة مذهبهم على خمسة أصول رنانة وشعارات فتانة، اغتر بها كثير من المسلمين في الماضي وكثير من العلمانيين في الحاضر:
    الأصل الأول: التوحيد فقد زعموا فيه أنهم أهلُ التوحيد وخاصتُه، والمنزهون لربهم عن التشبيه، وخلاصة رأيهم في التوحيد أن الله تعالى لا صفة له لأنه منزه عن الشبيه والمثيل كما قال: } ليس كمثله شيء { [الشورى:11]، وهذا توحيد يناقض الفطرة ولا ينطلي إلا على أذهان السفهاء، بل هو توحيد يسخر منه جميع العقلاء فهل يصح أن تقول مثلا ولله المثل الأعلى: الأمير لا نظير له أبد، فيقال لك في ماذا؟ أو ما الذي انفرد به ؟ فتقول: ولا شيء، أو لا صفة له أصلا .
    ولا نظن عاقلا يقبل ذلك على نفسه فضلا عن ربه، فالعقلاء يمدون غيرهم بإثبات الصفات التي تليق بهم، والموحدون لله حقا يحمدون ربهم بإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا، أما توحيد المعتزلة فتوحيد معكوس يزعمون فيه أنهم يمدحون ربهم وهم في حقيقة أمرهم يذمونه ويصفونه بصفات النقص التي لا يرضاه عاقل لنفسه، وقد أداهم توحيدهم هذا إلى القول بنفي صفة الكلام عن الله سبحانه وتعالى والقول بخلق القرآن وزعموا أنه مخلوق كسائر المخلوقات ([26]) .
    الأصل الثاني: العدل ومعناه على رأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، فعطلوا قوله تعالى: } وَاللهُ خَلقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ { [الصافات:96]، وستروا تحت شعار العدل نفي التقدير وعلم المقادير، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به إذ لو خلقه ثم عذبهم عليه كان ذلك جورا وظلما والله تعالى عدل لا يظلم ولا يجور .
    وقد يفتن العامة بأصلهم هذا كما فعل العلمانيون والماديون الذين لا يؤمنون بالتقدير وجريان المقادير، أو كما هو منتشر بين العامة من العبارات التي يرددها الفاسقون كقول بعضهم: قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه، وهذه الكلمة كفيلة وحدها بإخراج قائلها من ملة الإسلام إن كان يدرك معناها ويفهم لوازمها، أو كقول بعضهم بجهلهم: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، وكأن أفعال الله أسيرة أو مرهونة بأفعال عباده، وقد قال الله في كتابه: } وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً { [الإنسان:30]، وقال: } وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { [التكوير:29]، وقال تعالى: } وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ { [الأنعام:111]، وقال: } وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً { [الكهف:23/24] .
    لا فرق بين كلام هؤلاء وكلام المعتزلة فهذا الأصل الفاسد الذي رفعوا فيه شعار العدل، يلزمهم فيه أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون ولازمه وصفه سبحانه بالعجز في مقابل وصفهم بمطلق المشيئة والحرية ونفي كونها مشيئة محدودة ومقيدة بالاختيار بين طريقين، طريق الخير أو الشر، أو طريق الإيمان أو الكفر، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، قال تعالى: } إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً { [الإنسان:3]، وقال: } هُوَ الذِي خَلقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { [التغابن:2]([27]) .
    الأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين ويقصدون به أن مرتكب الكبيرة في الدنيا في منزلة بين الإيمان والكفر، خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر فليس بمؤمن ولا كافر وقد قرر ذلك الأصل واصل بن عطاء رأس المعتزلة لما رد على السائل في حلقة الشيخ الحسن البصري .
    أما حكم مرتكب الكبير في الآخرة فهم يتفقون في ذلك مع الخوارج حيث يقولون بأنه مخلد في النار، ولا يخرج منها أبدا، ولا تجوز فيه شفاعة النبي e، والفرق بين المذهبين أن الخوارج يقولون بأن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر خارج من الملة والمعتزلة يقولون هو في منزلة بين المنزلتين، أو بين الإيمان والكفر ([28]) .
    الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد ويقصدون به حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة ويعني عندهم أن الله U يجب عليه أن يعاقب مرتكب الكبيرة من المسلمين ويخلده في النار أبد الآبدين، ولا يجوز أن يخرجه من النار بشفاعة أحد من المؤمنين حتى لو كان الشافع سيد الأنبياء والمرسلين، فهم يشبهون الخوارج في قولهم: إذا توعد الله بعض عبيده وعيدا فلا يجوز ألا يعذبهم ويخلف وعيده، وكأنه سبحانه مقيد لا يعفو عمن يشاء ولا يغفر لمن يشاء، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ([29]) .
    الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا الشعار الرنان الذي يفتن به كل إنسان يقصدون به الدعوة إلى أصولهم الخمسة، فالمعروف عندهم هو من اعتنق أصولهم ودان بها، والمنكر عندهم هو اتباع مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وقد أدى بهم هذا الأصل أن يجوزوا مسلك الخوارج في الخروج على حكام المسلمين وخلفائهم بالسيف ([30]) .
    · كيف ظهرت البدعة الكبرى ؟
    لما تأصلت فكرة الجهم عند المعتزلة في استقلال العقل بإثبات الصفات أو نفيها وتشبعوا بالرغبة في تعطيل النصوص وردها محتجين بأن إثباتها يدل على التشبيه وأنواع المحال، وأن ظاهر النصوص باطل واعتقاده ضلال، رتبوا على هذا الأصل نفي أوصاف الكمال، فنفوا رؤية رب العزة والجلال وردوا الأخبار وأنكروا الآثار التي ثبتت في رؤية الله يوم القيامة، وقالوا أيضا بنفي صفة الكلام عن الله، وجعلوه عاجزا عن التكلم بالقرآن بحجة أنه لو كان متكلما في زعمهم لكان له فم ولسان، وأن إثبات صفة الكلام تشبيه لله بالإنسان .
    وقد استفحل أمرهم وكثر عددهم وانتشر في البلاد خبرهم، ومن المؤسف أن خلفاء الدولة العباسية قربوهم وجعلوهم في أعلى المناصب القيادية متعللين بأنهم كانوا يجادلون المخالفين مجادلة عقلية، وكانوا يغلبون الزنادقة والشيعة والجبرية في كثير من المناظرات الكلامية وأن شيوخ الحديث تعجز عن ذلك .
    وفي بداية القرن الثالث الهجري تصادق المأمون بن هارون ـ وهو من أبرز خلفاء الدولة العباسية ـ تصادق مع بعض دعاة المعتزلة، وذلك قبل أن يكون خليفة المسلمين، فقرب إليه رجلا يقال له بشر بن غياث المرييسي ذا أصل يهودي، وكان هذا الرجل قد نظر في صفات الله بالفكر الجهمي، فغلب عليه وقال به وانسلخ من دواعي التقوى والإيمان وأعلن القول بخلق القرآن ودعا إليه حتى كان عينَ الجهمية في عصره، وكان عالمَهم المقتدى بأمره، فمقته أهل العلم وناظروه، وحكم عليه بعضهم بالفسق وكفروه .
    تقوم فكرة الجهمية في القول بخلق القرآن على منهجهم في نفي الصفات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله e ومنها صفة الكلام، فهم زعموا أن الله لو كان متكلما لكان له فم ولسان، ومن ثم لا بد من نفي صفة الكلام عنه طلبا للتوحيد .
    وقد وصل الأمر ببعضهم إلى محاولته تحريف القرآن حتى لا يؤمن بتلك الصفة فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة: أريدك أن تقرأ هذه الآية: } وَكَلمَ اللهُ مُوسَى تَكْليمَا { [النساء:164] بنصب لفظ الجلالة، وذلك ليكون موسى u هو المتكلم، أما الرب عنده فلا يتكلم ؛ لأن الكلام لا يكون إلا بفم ولسان حسب زعمه فقال أبو عمرو: هب أني وافقتك في ذلك، فماذا تفعل بقوله تعالى: } وَلمَّا جَاءَ مُوسَى لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّه { [الأعراف:143] فبهت المعتزلي ؟ ([31]) .
    ومعلوم عند السلف أن الله يتكلم بكيفية تليق بجلاله، يعلمها هو ونجهلها نحن لأننا ما رأيناه وما رأينا له نظيرا ؛ فهو سبحانه كما قال: } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { [الشورى:11]، ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم كما هو اعتقاد المعتزلة، بل أخبرنا الله تبارك وتعالى أن بعض المخلوقات تتكلم بدون فم أو لسان، فقال تعالى: } اليَوْمَ نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون { [يس:65]، فنحن نؤمن أنها تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم، قد أنطقها الله كما أنطق كل شيء، ولذلك قال تعالى: } وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذي أَنْطَقَ كُل شيء { [فصلت:21]، فالأيدي والأرجل والجلود تتكلم بلا فم يخرج منه الصوت المعتمد على مقاطع الحروف، ولكن قياس الخالق على المخلوق قياس تمثيلي أو شمولي قياس فاسد لا يجوز في باب العقائد الغيبية .
    كما أن صفة الكلام من لوازم الكمال وضدها من أوصاف النقص والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته، ولهذا ذم بني إسرائيل لاتخاذهم عجلا إلها من دون الله، وأول عيبة ذكرها الله له كونه لا يتكلم فقال تعالى: } وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً { [الأعراف:148]، فكان عجز العجل عن الكلام من صفات النقص التي يستدل بها على عدم ألوهيته، ومن ثم إذا كان الكلام وصف كمال لدى المخلوق فالخالق أولى بوصف الكلام والكمال منه، وقد أثبتت نصوص القرآن والسنة صفة الكلام لله U، فالآيات والأحاديث التي لا حصر لها تدل على أن الله يتكلم متى شاء وإذا شاء وكيف شاء، وأنه سبحانه يتكلم بحرف وصوت يسمع، سمعه جبريل من الله U، وسمعه موسى u، وسمعه محمد e، فلا عبرة بقول المعتزلة في زعمهم إن القرآن مخلوق خلقه الله ولم يتكلم به فإنهم يعارضون القرآن وما جاء في صريح النصوص كقوله تعالى: } تِلكَ الرُّسُلُ فَضَّلنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ { [البقرة:253]، وآيات القرآن أكثر من أن تحصى .
    سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك

    (1) انظر ترجمته في أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات لمرعي بن يوسف الكرمي المقدسي ص230، إثبات صفة العلو لابن قدامة ص131، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد لمحمد القاسمي ص289، التحفة المدنية في العقيدة السلفية لحمد آل معمر ص166 الرد على القائلين بوحدة الوجود لعلي الحنفي ص30، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 3/105، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص293، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين لأبي الحسن الأشعري ص542، البداية والنهاية لابن كثير 9/350 .

    (2) مجموع الفتاوى 5/20 .

    (3) البخاري في كتاب الطب، باب السحر5/2174 (5430) .

    (4) البخاري في بدأ الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 3/1192 (3095) .

    (5) انظر الرد على الزنادقة والجهمية 1/19، بيان تلبيس الجهمية 1/318، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/218، درء التعارض 2/409 .

    (6) السابق 1/19 .

    (7) الوافي في الوفيات 1/1557 .

    (8) إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لا بن جماعة ص34 .

    (9) انظر العلو للعلي الغفار ص154 .

    (10) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة 2/312 .

    (11) انظر إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل لابن جماعة ص34 .

    (12) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم 2/177 .

    (13) انظر أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات ص78 .

    (14) تاريخ الإسلام 1/861 .

    (15) تاريخ دمشق لابن عساكر 64/225، الملل والنحل للشهرستاني 1/20، والوافي بالوفيات 1/460 .

    (16) التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، طاهر بن محمد الإسفراييني ص107.

    (17) انظر العلو للعلي الغفار ص246 .

    (18) إثبات صفة العلو لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ص 125 .

    (19) أقاويل الثقات للكرمي ص89 .

    (20) الإبانة عن أصول الديانة ص105 .

    (21) العلو للعلي الغفار ص190 .

    (22) وفيات الأعيان وأنباء الزمان لأبي العباس شمس الدين بن خلكان 6/7 .

    (23) السابق 6/8 .

    (24) النجوم الزاهرة 1/314 بتصرف .

    (25) التحرير والتنوير 1/159 بتصرف .

    (26) انظر المزيد عن هذا الأصل في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص37 .

    (27) انظر شرح العقيدة الطحاوية ص520 بتصرف .

    (28) انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص37 بتصرف .

    (29) السابق ص38 بتصرف .

    (30) مجموع الفتاوى13/126بتصرف .

    (31) السابق168 .








  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    14
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    28-04-2013
    على الساعة
    12:10 AM

    افتراضي أصول العقيدة لمحمود الرضواني 6

    المحاضرة السادسة
    علم التوحيد وأنواعه وتصنيفاته
    · المقصود بعلم التوحيد لغة واصطلاحا.
    التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد أي أفرد الشيء يفرده، فالمتوحد هو المنفرد بوصفه المباين لغيره، والمقصود بتوحيد الصحابة لربهم أنهم أفردوا الله عن غيره بما أثبته لنفسه من أنواع الكمال في العبودية والربوبية والأسماء والصفات، فهو وحده رب العالمين المستحق للعبادة، كما قال: } إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {(الفاتحة: 5)، وهو المتوحد في أسمائه وصفاته كما قال تعالى: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {(الشورى: 11)، فهم يؤمنون بأنه سبحانه وتعالى منفرد بالخلق والتدبير وإليه يرجع الأمر والتقدير، وشهدوا ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه .
    أما علم التوحيد اصطلاحا: (هو علم يعرف به طريقة الصحابة والتابعين في توحيد الله بالعبودية وإثبات العقائد الإيمانية بأدلتها النقلية والعقلية، والرد على المتبدعين في العبادات والمخالفين في الاعتقادات بالأدلة النقلية والعقلية)
    · المصطلحات التي تدل على علم التوحيد .
    يعتبر علم التوحيد اصطلاحا سائدا بين السلف منذ عصر النبوة، فالصحابة y كانوا علي دراية تامة بما يجب معرفته في توحيد الله وكيفية الدعوة إليه ومناقشة المخالفين فيه، وقد أفرد الإمام البخاري رحمه الله (ت:256) بابا في الصحيح في كتاب التوحيد قال فيه: (باب ما جاء في دعاء النبي e أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى)،e ثم عقب بحديث عبد الله بن عباس t لما بعث النبي e معاذ بن جبل t إلى اليمن قال له: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى) ([2]) .
    ولا شك أن معاذ بن جبل t كان خبيرا في هذا العلم بالصورة التي تناسب إتمام الدعوة التي بعث من أجلها، والتي يترتب علي نجاحها دخول الآلاف من أهل الكتاب في دين الله وإلا ما كلفه النبي e بهذه الأمر العظيم .
    وقد تتابع أهل العلم عبر القرون المختلفة على التأليف في هذا الفن تحت مصطلح التوحيد سواء كانوا من السلفيين أو ممن خالفهم من المتكلمين، فالإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت:311) ألف كتابا على نهج السلف الصالح عنون له: (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب U)، وكتب أبو منصور الماتريدي (ت:333) كتابا سماه: (التوحيد) وانتهج فيه طريقة المتكلمين الذين يقدمون العقل في إثبات الحجج والبراهين .
    وقد بقي اصطلاح (علم التوحيد) دائرا بين المتقدمين والمتأخرين منذ عصر النبوة إلى وقتنا هذا، وتجدر الإشارة إلى كتابين ألفا تحت ذلك الاصطلاح في القرنين الماضيين، وهما: (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت:1206) حيث وضعه على نهج السلف الصالح لما انتشر شرك الجاهلية في الجزيرة العربية، وفي المقابل نجد على مذهب الأشعرية رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده (ت:1323)، وقد أطلقت عدة اصطلاحات أخرى على هذا العلم من قبل علماء السلف أو المخالفين لهم يتمثل أبرزها فيما يلي:
    1- علم العقيدة: فالعقيدة هي عقد القلب على تصديق خبر الرب وتنفيذ أمره، والإيمان به إيمانا لا يقبل الشك مع الثبات عليه .
    وكثير من علماء السلف والخلف استخدم هذا الاصطلاح كل على وجهته أو منهجه في التعامل مع النصوص، فمن علماء السلف الإمام أحمد بن حنبل (ت:241) له كتاب بعنوان: (العقيدة) ([3])، وكذلك كتاب: (العقيدة الطحاوية) للإمام أبي جعفر بن سلامة الأزدي الطحاوي (ت:321)، وكتاب: (اعتقاد أئمة الحديث) لأبي بكر الإسماعيلي (ت:371) .
    وقد اشتهر مصطلح العقيدة بين المتمسكين بمنهج السلف حتى اقترن بهم وأصبح التعرف على العقيدة سمتهم بين الناس وميزانهم المقدم في مسألة الولاء والبراء، كما برزت فيما بعد كتب أخرى كثيرة على منهج السلف الصالح اشتهرت شهرة واسعة بين الناس ككتاب: (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث) للإمام البيهقي (ت:458)، وكتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728)، وكتاب: (عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت:1206)، وغير ذلك كثير ممن كتبوا في العقيدة على منهج السلف الصالح .
    كما تردد هذا المصطلح أيضا بين المنتهجين لطريقة الخلف من المتكلمين، فكتب أبو حامد الغزالي (ت:505) كتابه المسمي: (قواعد العقائد)، وكذلك (العقيدة الأصفهانية) التي ألفها الشيخ أبو عبد الله شمس الدين الأصفهاني (ت:688) وهو أحد رؤوس علماء الكلام وقد شرحها شيخ الإسلام ابن تيمية وخالفه فيها في كتابه المعروف (شرح العقيدة الأصفهانية) .
    2- الفقه الأكبر: في بداية القرن الثاني الهجري ظهرت عقيدة الجهمية بظهور أصلها الجعد بن درهم (ت:125) فهو أول من قال بخلق القرآن ونفي أوصاف الله بحجة التنزيه والتوحيد ونفي التشبيه، وقد تبني فكره تلميذه الجهم بن صفوان (ت:128) إلا أن الجعد لم ينل شهرة الجهم .وقد كان مصطلح الفقه عند السلف يعني العلم بالدين وأحكام العبودية التي وردت بها الأدلة القرآنية والنبوية , ثم جاء المتأخرون من الفقهاء وغيرهم وحصروه بمعرفة الأحكام الشرعية التكليفية المكتسبة من أدلتها التفصيلية دون تعرض منهم لتفصيل مسائل العقيدة، فظهر في المقابل مصطلح الفقه الأكبر لبيان أهمية التوحيد قبل القول والعمل والرد على الجهمية وأتباعهم .
    ويعتبر الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثاب (ت:150) أول من أطلق هذا اللفظ في كتابه الفقه الأكبر، قال رحمه الله في الكشف عن ذلك المعنى الاصطلاحي: (الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه U خير من أن يجمع العلم الكثير) ([4]) .
    قال أبو مطيع الحكم البلخي: (قلت:فأخبرني عن أفضل الفقه؟ قال: يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة .. وذكر مسائل في الإيمان ثم ذكر مسائل في القدر) ([5])، ونسب بعضهم الفقه الأكبر لأبي مطيع الحكم البلخي الذي ذكر فيه أراء أبي حنيفة وأقواله في التوحيد، وهو متن صغير شرحه الكثير من الأحناف ([6])، غير أن الشاهد هنا أن اصطلاح الفقه الأكبر بعد أن ظهر في القرن الثاني الهجري اشتهر على ألسنة العلماء وأصبح مرادفا لعلم التوحيد والعقيدة عند السلف الصالح وأتباعهم .
    3- السنة: بمعنى سنة الدلالة والطريقة المسلوكة، وقد أطلق لفظ السنة على علم التوحيد وعرف به في أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث، وذلك حين بلورت المعتزلة آرائها الفكرية في خمسة أصول عقلية كان أولها ادعاء التوحيد، فقد رتبوا عليه القول بخلق القرآن وتعطيل السنة، وردوا ما ثبت عن رسول الله e في باب الصفات وعطلوه بحجة أنها من أخبار الآحاد التي لا تدل على اليقين في أمور الاعتقاد، مما دفع أهل السنة وعلى رأسهم الإمام أحمد (ت:241) أن يطلقوا مصطلح السنة على مسائل التوحيد والعقيدة تمييزا لها عن أصول المعتزلة التي أسفرت عن تعطيل السنة وردها، فألف الإمام أحمد بن حنبل كتابه أصول السنة قال في مقدمته: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله e والإقتداء بهم، وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات في الدين والسنة تفسر القرآن وهي دلائل القرآن، وليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول ولا الأهواء، إنما هو الإتباع وترك الهوى، ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ويؤمن بها لم يكن من أهلها الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها لا يقال لم ولا كيف ؟) ([7]) .
    وكذلك الإمام الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الشيباني (ت:287) كتب في الرد على المعتزلة كتابا سماه: (السنة) حيث جاءت مسائله عن الإيمان بالقدر ورؤية الله تعالى في الآخرة ومسائل أخرى في صفات الله U يقف منها أهل الاعتزال موقف التعطيل .
    وعلى الوتيرة نفسها جاء لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت:310) كتابه (صريح السنة) قال فيه: (فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا، القرآن كلام الله وتنزيله إذ كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله غير مخلوق كيف كتب وحيث تلي وفي أي موضع قرئ .. فمن قال غير ذلك أو ادعي أن قرآنا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه دائنا به فهو بالله كافر حلال الدم بريء من الله والله منه بريء) ([8]) .
    وكذلك كتاب: (السنة) لأبي عبد الله بن نصر المروزي (ت:294)، ومثله أيضا كتاب: (السنة) لأبي بكر الخلال (ت:311)، وكتاب: (شرح السنة) لأبي محمد الحسن بن على بن خلف البربهاري (ت:329)، وكل هؤلاء يؤكدون على أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر، وأن من السنة لزوم الجماعة، ومن رغب غير الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وكان ضالا مضلا، وأن الأساس الذي بنيت عليه الجماعة أصحاب محمد e رحمهم الله أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع وكل بدعة ضلالة، والضلال وأهله في النار ([9]) .
    وهناك كتب كثيرة باسم السنة كاصطلاح يرادف معنى التوحيد والعقيدة، وكلها كما هو ملاحظ ألفت في القرن الثالث الهجري وحتى منتصف القرن الرابع، وهو عصر سيطرة المعتزلة وولادة المذهب الأشعري وظهور أركانه واستقرار بنيانه .
    4- الإيمان: أطلق مصطلح الإيمان على مسائل التوحيد والعقيدة لأنها قضايا تتعلق بتصديق القلب واستعداده للعمل، وهذان ركانان أساسيان في صلاح الإنسان وقد تداول علماء السلف ذلك الاصطلاح منذ وقت مبكر وأطلقوه على مؤلفاتهم , فمن ذلك كتاب: (الإيمان ومعالمه وسنته واستكمال درجات) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت:223) وكتاب الإيمان لمحمد بن يحيي بن أبي عمر العدني (ت:243)، والإيمان لمحمد بن إسحاق بن يحيي بن منده (ت:395)، وكتاب: (الإيمان وأصول) لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت:429)، وكتاب شعب الإيمان لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت:458) .
    ثم كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) وهما (الإيمان الأوسط) (والإيمان الأكبر)، وأيضا كتاب: (تنبيه الوسنان إلى شعب الإيمان) للشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي (ت:936) وغير ذلك كثير ([10]) .
    5- أصول الدين: الأصول جمع أصل وهو في اللغة ما يُفتقر إليه ولا يفتقر هو إلى غيره، وفي الشرع ما يبني عليه غيره ولا يبني هو على غيره، وعلى هذا فأصول الدين قوام أركانه وأساس بنيانه ([11])، ومن العجب أن اصطلاح (أصول الدين) الذي اشتهر ولا يزال مشتهرا حتى سميت باسمه الكليات الجامعية في سائر البلاد الإسلامية هو في حقيقته من صنع المتكلمين الأشعرية .
    فإذا كان مصطلح الأصول قد اشتهر بين السلف مرتبطا بالفقه إلا أن اقترانه بالدين كان أشعري المنشأ والتكوين، فأغلب الذين ابتدعوه واستعملوه كانوا من متكلمي الأشعرية، وكانوا يرغبون أن تكون أصولهم العقلية متميزة عن الأصول الخمسة عند المعتزلة، حيث اعتبروا أنفسهم أهل السنة والجماعة الذين جمعوا حسب زعمهم بين عقيدة السلف أو أصحاب المدرسة النقلية وعقيدة المعتزلة أصحاب المدرسة العقلية فابتدعوا أصولا عقلية أخرى أثبتوا بها سبع صفات فقط إرضاء للسلف، وعطلوا باقي النصوص التي تدل على الصفات الخبرية إرضاء للمعتزلة، رافعين شعار التأويل وبحجة أن هذه النصوص توهم التشبيه والتمثيل وظاهرها باطل مستحيل، ثم أطلقوا على أصولهم في التوحيد الجديد الذي ابتدعوه مصطلح: (أصول الدين) .
    وأول من عرف عنه هذا الاصطلاح هو أبو القاسم عبيد الله بن أحمد البلخي (ت:319) إذ أنه ألف كتابا سماه: (أوائل الأدلة في أصول الدين)، وقام بشرحه أبو بكر بن فورك الأصبهاني (ت:406)، وكلاهما ضليعان في المذهب الأشعري ([12]) .
    وقد ألف أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد النيسابوري (ت:478) كتابا سماه: (الغنية في أصول الدين)، نسجه أيضا على طريقة الأشعرية ومنهجهم، قال في بدايته: (فصل في بيان العبارات المصطلح عليها بين أهل الأصول منها: العالم هو اسم لكل موجود سوى الله تعالى، وينقسم قسمين: جواهر وأعراض، فالجوهر كل ذي حجم متحيز، والحيز تقدير المكان، ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو، وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان، والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجزئته عقلا، ولا تقدير تجزئته وهما، وأما الجسم فهو المؤلف، وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف ... الخ) ([13])، ثم بدأ يطبق تلك الأصول العقلية أو الفلسفية على ذات الله U وصفاته وأفعاله، فينفي بها ما يشاء ويثبت مستخدما منهج التأويل سواء تيسر له الدليل أو لم يتيسر، فالهدف الأعلى هو التعطيل لأن الإثبات في اعتقاده تشبيه وتمثيل .
    وعلى الوتيرة نفسها ألف جمال الدين أحمد بن سعيد (ت:593) كتابا سماه: (أصول الدين) انتهج فيه مذهب المتكلمين من الأشعرية وطريقتهم في الغيبيات، ومما جاء فيه: (فصل صانع العالم لا يقال له: أين هو؟ لأن أين يستخبر به عن المكان ولا مكان ل) ([14])، هكذا حتى لو عارض ذلك سؤال النبي e للجارية أين الله؟ ([15]) .
    وقال حاجي خليفة عن كتاب فخر الدين الرازي: (الأربعين في أصول الدين للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت:606)، ألفه لولده محمد ورتبه على أربعين مسألة من مسائل الكلام) ([16])، ومعلوم أن الرازي من أعمدة المذهب الأشعري .
    وقال ياقوت الحموي في ترجمة الجويني (ت:874): (أبو المعالي عبد الملك بن يوسف الجويني إمام الحرمين، أشهر من علم في رأسه نار، كان قليل الرواية معرضا عن الحديث وصنف التصانيف المشهورة نحو الشامل في أصول الدين على مذهب الأشعري والإرشاد وغير ذلك) ([17]) .
    6- الشريعة: الشريعة للآجري، قال محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: (كتاب الإيمان والتصديق بأن الله عز وجل كلم موسى عليه السلام الحمد لله المحمود على كل حال، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم أما بعد فإنه من ادعى أنه مسلم ثم زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى فقد كفر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل فإن قال قائل: لم ؟ قيل: لأنه رد القرآن وجحده، ورد السنة، وخالف جميع علماء المسلمين، وزاغ عن الحق، وكان ممن قال الله عز وجل: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (1) وأما الحجة عليهم من القرآن: فإن الله جل وعز قال في سورة النساء: وكلم الله موسى تكليما (2) وقال عز وجل في سورة الأعراف: ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك (3) وقال عز وجل: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي (4))
    وقال في نهاية الكتاب: (وبهذا وبجميع ما رسمته في كتابنا هذا وهو كتاب الشريعة ثلاثة وعشرون جزءا ندين الله عز وجل، وننصح إخواننا من أهل السنة والجماعة، من أهل القرآن وأهل الحديث وأهل الفقه وجميع المستورين في ذلك ؛ فمن قبل فحظه من الخير إن شاء الله، ومن رغب عنه أو عن شيء منه فنعوذ بالله منه، وأقول له كما قال نبي من أنبياء الله عز وجل لقومه لما نصحهم فقال ( فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).
    6- علم الكلام: لما ظهرت مذاهب الضلال في باب العقيدة على يد الجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية، وبنوا أصول عقيدتهم على الحجج العقلية والكلام الفاسد في باب الغيبيات ونفي الصفات، ولم يستندوا إلى ما ورد في الأدلة القرآنية والنبوية إلا باعتبارها دليلا ثانويا وليس أساسيا في إثبات العقائد، بل ما وافقهم منها أخذوه وما خالفهم عطلوه، أطلق هؤلاء وغيرهم على مسائل التوحيد والعقيدة علم الكلام لكثرة الجدل بين الطوائف المختلفة في مسائله، أو لأن أعظم مسألة من قضايا هذا العلم حصل فيها النزاع هو كلام الله سبحانه وتعالى .
    وهذه التسمية ليست معتمدة عند السلف الصالح أهل السنة والجماعة بل آراؤهم مجتمعة على ذم الكلام وأهله الذين عارضوا به الكتاب والسنة، وتجدر الإشارة إلى أن السلف لم يمنعوا الاحتجاج بالأدلة العقلية لتأييد الأصول القرآنية والنبوية وشرح مضمونها وبيانها، وإنما منعوا أن تكون الأصل الذي يبنى عليه عقيدة المسلم في الغيبيات أو الأسماء والصفات أو يعارض بها الأدلة النقلية .
    قال ابن الجوزي: (وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد، ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا، فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه حتى قال الشافعي رحمه الله: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام ... وقال: حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام، وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب كلام أبدا علماء الكلام زنادقة) ([18]).
    وقد حذر أتباع السلف الصالح من هذا علم الكلام وألفوا كتبا في ذمه وتقبيحه منها كتاب أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة وعنوانه: (تحريم النظر في كتب الكلام)، وفي المقابل تجد من كتب ليحذر من صعوبته وأنه للخواص كما فعل أبو حامد الغزالي في كتابه: (إلجام العوام عن علم الكلام) .
    وقد ألفت كتب كثيرة من قبل المتكلمين في هذا العلم معتبرين إياه علم التوحيد الأمثل الذي نزل به جبريل على محمد بن عبد الله e، فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر كتاب: (نهاية الإقدام في علم الكلام) لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت:548)، وكذلك كتاب: (الداعي إلى الإسلام في أصول علم الكلام)، لأبي البركات بن محمد الدفع (ت:577) ([19])، وأيضا كتاب: (مطية النقل وعطية العقل في علم الكلام)، لمحمد بن إبراهيم الصوفي (ت:622)، وكتاب: (غاية المرام في علم الكلام) لسيف الدين أبي الحسن الآمدي (631)، وكتاب: (زبدة الكلام في علم الكلام) لصفي الدين الهندي (ت:715)، وكذلك: (علم الكرام في علم الكلام) للشيخ زين الدين المالطي (ت:788)، (والمواقف في علم الكلام) للعلامة عضد الدين الإيجي (ت:1000) ([20]) .
    وقال صديق بن حسن القنوجي: (علم أصول الدين المسمي بعلم الكلام، هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه الموجود من حيث هو موجود) ([21]) .
    تلك أغلب المصطلحات التي وردت علما على علم التوحيد تعبر عن التطور التاريخي للمراحل التي مر بها، وقد كان السلف الصالح على أعلى درجات التوحيد والإيمان وكان اللفظ الشائع بينهم لفظ الإسلام والإيمان، تعبيرا عن خضوعهم لله وحده وعدم الإشراك به، والإيمان بكل ما ورد في الكتاب والسنة مما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله .
    · مفهوم الألوهية بين السلف ومخالفيهم .

    توحيد الألوهية سمي بذلك عند السلف لأنه المقصود بقول العبد لا إله إلا الله فالإله هو المعبود بحق الذي يدعى وحده لا شريك له، وتوحيد الألوهية عندهم هو توحيد العبادة لله وتجريدها له وحده، وتلك هي الغاية التي دعت إليها الرسل ونزلت من أجلها الكتب، وإنما قلنا إن هذا اعتقاد السلف في معنى الألوهية لأن السلف اعتمدوا في تقرير ما ذهبوا إليه على نص كتاب الله وما صح في سنة رسوله e، قال تعالى: } اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {(التوبة: 31)، وقال U} إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي {(طه: 14)، وقال سبحانه وتعالى: } وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ {(الأنبياء: 25).
    وقال: } وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {(القصص: 88)، وقال U} هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {(غافر: 65)، وقال تعالى: } رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً {(المزمل: 9).
    ومما ورد في سنة رسول الله e في بيان معنى لا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه ما رواه البخاري من حديث ابن عباس t لما بعث النبي e معاذ بن جبل t إلى اليمن قال له: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تعالى) ([22])، وفي رواية أخرى توضح أن توحيد العبادة هو معنى لا إله إلا الله قال رسول الله e لمعاذ t: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ .. الحديث) ([23])، وعند مسلم من حديث أبي مالك عن أبيه t أن رسول الله e قال: (مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى الله) ([24]) .
    وروى البخاري من حديث أبي سفيان t لما سأله هرقل ملك الروم عن النبي e قال: (مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْت:يَقُولُ اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ) ([25]) .
    قال ابن تيمية: (لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل) ([26]) .
    وقد يتنوع معنى لا إله إلا الله أو مفهوم الألوهية عند قائليه ولا يعني به ما سبق عند السلف الصالح، فمنهم من جعل الألوهية بمعنى الربوبية وحصرها في إفراد الله بالخالقية، ومنهم من يعني أنه لا موجود إلا الله على اعتبار أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق حالة ظهوره بأشكال متعددة وكثرة متنوعة، ومنهم من يعني بها العلة الأولي أو العق الفعال، فليس كل من قال لا إله إلا الله يعني بها ما أراده الله في كتابه أو أراده رسوله e في سنته ([27]) .
    فالألوهية عند الخلف المعروفين بأهل النظر والكلام الذين اتبعوا فلاسفة اليونان جعلوها بمعنى الخالق أو القادر على الاختراع ([28])، وجعلوا غاية التوحيد عندهم إثبات أن صانع العالم واحد، وأن الواحد الحقيقي هو الشيء الذي لا ينقسم .
    واحتجوا على وحدانية الإله بما يسمي بدليل التمانع، وهو من الأدلة العقلية في إثبات توحيد الربوبية، وملخصه أنا لو قدرنا إلهين اثنين وفرضنا أمرين متضادين وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الأمرين، وإرادة الثاني للثاني فلا يخلو من أمور ثلاثة، إما أن تنفذ إرادتهما أو لا تنفذ إرادتهما أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر، واستحال أن تنفذ إرادتهما لاستحالة اجتماع الضدين، واستحال أيضا ألا تنفذ إرادتهما لتمانع الإلهين وخلو المحل عن كلا الضدين، فإذا بطل القسمان تعين الثالث وهو أن تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لا تنفذ إرادته فهو المغلوب المقهور المستكره والذي نفذت إرادته فهو الإله القادر على تحصيل ما يشاء وذلك عندهم مضمون قوله تعالى: } لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا {(الأنبياء: 22)([29]) .
    قال ابن أبي العز الحنفي معقبا على الاستدلال بالآية السابقة كحجة على دليل التمانع: (وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان .. الخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب، وأيضا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواء لفسدتا، وأيضا فانه قال لفسدتا، وهذا فساد بعد الوجود ولم يقل لم يوجدا) ([30]) .
    وقد بين أيضا في معرض الرد أن الآية دلت على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة بل لا يكون الإله إلا واحدا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل وبه قامت السماوات والأرض، وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك وأعدل العدل التوحيد ([31]) .
    وقد بين الله U أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وكانوا يعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما قال تعالى في شأنهم: } وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّي يُؤْفَكُون {(العنكبوت:61)، فالقلوب مفطورة على الإقرار بالخالق أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، ولم يذهب إلى غير ذلك طائفة معروفة من بني آدم، بل الأمر كما قالت الرسل لأممهم كما ذكر الله U في شأنهم: } قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض { (إبراهيم/10) .
    وهذا فرعون الذي تظاهر بإنكار الصانع وتجاهله كان مستيقنا بالله في الباطن كما قال له موسي u} لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَل َ هَؤُلاء إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا { (الإسراء: 10)، وقال تعالى: } وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ { (النمل/14) ([32]) .
    وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن هؤلاء المتكلمين المتأخرين الذين خلطوا الفلسفة بالكلام كثر اضطرابهم وازدادت شكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسفة .. وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته، ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه، وهذا التوحيد كان يقر به المشركون، وهم مع هذا يعبدون غيره، وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية، وأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا فيكون الدين كله لله، ولا يخاف إلا الله ولا يدعى إلا الله، ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله، ويعبدون الله، ويتوكلون عليه ([33]) .
    ومن ثم فإن توحيد الربوبية والأسماء والصفات في عرف السلف من قبيل الوسيلة وليس من قبيل الغاية، فمعرفة المعبود والإقرار بأن الله U خالق كل شيء وأنه ليس للعالم صانعان هو حق لا ريب فيه، ولكن ذلك وسيلة إلى توحيد العبادة وتحقيق الغاية من خلق الإنسان، فمعني لا إله إلا الله عند السلف الصالح لا معبود بحق إلا الله، وعند الخلف معناها لا خالق إلا الله .
    أما عند غلاة الصوفية فإنها تعني لا موجود إلا الله، حيث ذهب فريق من الصوفية يتزعمهم محي الدين بن عربي الأندلسي (ت:638) إلى أن الله هو هذا الوجود بعينه وهو ظاهر في أشكال متعددة وكثرة متنوعة وأنه لا موجود إلا هو .
    أما الكثرة المشاهدة في العالم من أنواع المخلوقات فهي على زعمهم وَهْمٌ يحكم أصحاب العقول القاصرة وهي في حقيقتها مظاهر لله فقط، أو مرآة ويري نفسه فيها ويتعين للآخرين من خلالها، أو أثواب يلبسها ويخلعها وقتما يشاء، فهو السماء بما فيها من شمس وقمر ونجوم، وهو السحاب الذي نراه بين السماء والأرض عند الصفاء والغيوم لا فرق بين الأنداد والأضداد، ولا فرق بين الرب والعباد، فالعابد عندهم هو المعبود والذاكر هو المذكور، كما يقول ابن عربي: (ما في الوجود مثل ما في الوجود ضد فإن الوجود حقيقة واحدة والشيء لا يضاد نفس) ([34])، ويقول أيضا:
    فإنا أعبدٌ حقا وإن الله مولانا:
    وإنا عينه فاعلم إذا ما قلت إنسانا
    فلا تحجب بإنسان فقد أعطاك برهانا:
    فكن حقا وكن خلقا تكن بالله رحمانا ([35]) .
    ويزعم هؤلاء أنه كلما فنيت صورة من وجود الله وخلعها عن نفسه لبس صورة أخرى، وكذلك يظل يلبس صورة ويخلع أخرى بلا انقطاع، وهذا حكم منه اقتضاه لظهور هذا الوجود، لكي لا يكون موجود إلا هو .
    ويلزم على هذا المذهب الخبيث تأليه جميع الأشياء وعبادتها فلا مانع عند ذلك أن يكون المعبود إنسانا أو وحيوانا أو ملكا أو شيطانا حجرا، ولذا يري هؤلاء الزنادقة أن الأديان كلها حق، وأن المجوس عابدي النيران والمشركين عابدي الأوثان والنصارى عابدي الصلبان وغيرهم من أهل الشرك ليسوا كفار ضلالا، بل مذاهبهم هي عين التوحيد والإيمان، لأنهم حين عبدوا النار والحجارة والصلبان ما عبدوا إلا الله U تعالى الله عن قولهم، فتلك المعبودات عندهم تجليات ظهرت بها الذات الإلهية .
    والتوحيد في زعمهم أن تعبد جميعا وأن تعظم جميعا، والشرك الضلال عندهم أن تخصص بعض هذه المظاهر بالعبادة دون بعض، فالكفر عندهم ليس هو عبادة غير الله، ولكنه ستر حقيقة المعبود بتخصيص بعض مجاليه بالعبادة دون البعض الآخر . وحكم هؤلاء الزنادقة أيضا بأن إمام الموحدين هو فرعون، لأنه كان يشاهد عين الحقيقة حين قال: أنا ربكم الأعلى، ولم يكن كاذبا في دعواه أنه هو الله، بل كان في أعلى مقامات التوحيد، وقد أغرق في البحر تطهيرا له من الشرك عندما هم بالإسلام في لحظاته الأخيرة وتوهم الغيرية، وزعموا أيضا أن موسي u لم يلم قومه على عبادة العجل ولم ينكرها عليهم ([36])، ومعلوم أن تلك العقيدة كفر صريح بآيات القرآن التي نطقت بموت فرعون على الكفر، وأنه لم ينفعه إيمانه حين أدركه الغرق، وأن الله إنما نجاه ببدنه ليكون عبرة ماثلة للأجيال من بعده .فهؤلاء الغلاة من الصوفية لما شهدوا ألا إله إلا الله وضعوها على معنى الخبيث فيغتر الجاهل بشهادتهم ويظن أنهم يقصدون ما قصده أصحاب محمد بن عبد الله e ومن سار على دربهم.
    وعلى شاكلة الصوفية في تأويلاتهم الباطنية فسر الفلاسفة كابن سينا والفارابي وغيرهما معنى الألوهية في كلمة التوحيد، فالإله عندهم هو بذاته علة تامة أزلية للعالم بما فيه من الحوادث المتجددة، وقد فاضت المخلوقات عن الذات الإلهية أو ما يسمونها بالعلة الأولية أو المبدأ الأول أو واجب الوجود فاضت بالعلل والمعلولات بعدها، وكل علة عندهم أكسبت معلولها قوة الإيجاد والإعداد لما بعدها في تسلسل متصل، وليس العالم عندهم ناتجا عن علم وإرادة وقدرة اتصف بها خالقه، ولكنه صدر عنه صدور المعلول عن علته، فهو سبحانه وتعالى عندهم العلة الأولى التي لا يقوم بها شيء من الصفات والأفعال.
    ولما قرروا أن العالم معلول لعلة قديمة أزلية، قالوا أيضا بقدم العالم وأنه لم يزل مع الله أزلا وأبدا، فالرب على أصلهم والعالم متلازمان كل منهما شرط في الآخر، والرب محتاج إلى العالم كما أن العالم محتاج إلى الرب، تعالى الله عن قولهم، وتلك عقيدة فلسفية باطلة تؤدي إلى هدم التوحيد ونسف حقيقة الألوهية التي اتصف بها الإله الحق، لأن الله تعالى لم يزل ذا قدرة ومشيئة وعلم وحياة، ولم يزل فعالا متكلما إذا شاء وكيف شاء، والله سبحانه كان وليس شيء غيره، وليس معه شيء من خلقه فكيف يقترن الخالق والمخلوق اقتران العلة بمعلولها ؟ .
    فهؤلاء استخدموا الأقيسة التي تحكم عالم الشهادة في الحكم على خالقهم الذي ليس كمثله شيء، ومعلوم أن الله لا يخضع لقياس تمثيلي يستوي فيه الفرع والأصل، أو قياس شمولي يستوي فيه مع بقية أفراده، كما أنهم أيضا سلبوا عن رب العزة والجلال ما ثبت له في القرآن والسنة من أوصاف الكمال، عندما جعلوه علة تامة أزلية لا يحدث فيها ولا منها شيء، وجعلوه ذاتا خاملة لا حراك فيها ولا علم لها ولا مشيئة ولا قدرة ولا حكمة ولا عزة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فالله U عاب المشركين أنهم عبدوا الحجارة والأصنام ونعي عليهم كونها لا تخلق ولا تتكلم . وفضلا عن أن عقيدة السلف في معني الألوهية تدور حول إفراد الله بالعبودية وهي تختلف عن عقيدة الأشعرية والصوفية والفلاسفة إلا أنهم يجعلون المرجع في حدوث المخلوقات هو كمال الصفات التي تقوم بالذات الإلهية كالعلم والإرادة والقدرة والحياة والغني والحكمة وغير ذلك من الصفات عملا بقوله تعالى: } إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ { (يس/82).
    ومن ثم فإن الله U صانع كل شيء بقدرته، وعلة كل شيء صُنْعُه، ولا علة لصنعه، وهو سبحانه وتعالى واحد أحد، وتر صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وليس الإله علة وجود الأشياء وإنما العلة صفاته الفاعلة ([37]).

    · تصنيف التوحيد إلى نوعين والمصطلحات التي أطلقت على كل نوع .
    إذا علمنا أن توحيد الألوهية عند السلف يعني توحيد العبادة، فيجدر بنا أن نذكر أنواع التوحيد عند السلف الصالح حتى يمكن التعرف على عقيدتهم ومنهجهم وأدلتهم في تصنيف التوحيد، فالتوحيد عند السلف نوعان، وقد يقسم إلى ثلاثة أنواع على اعتبار آخر سوف يأتي تفصيله، أما تصنيفه إلى نوعين والأسماء التي قد يرد بها كل نوع فبيانه كالتالي:
    الأول: هو توحيد الغاية ويسمى أيضا توحيد الألوهية، وربما يطلق عليه أيضا توحيد العبادة، وتوحيد القصد والطلب، وتوحيد الشرع والقدر، وتوحيد الإرادة .
    الثاني: هو توحيد الوسيلة، ويسمى توحيد الربوبية والأسماء والصفات أو يطلق عليه توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد العلم والخبر، وهذا النوع كما تقدم يمثل غاية المطلوب في توحيد الله عند كثير من الخلف أهل النظر والكلام وطائفة كبيرة من الصوفية ([38]) .
    أما النوع الأول فسمي توحيد الغاية وتوحيد العبادة لقوله تعالى: } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ { (الذاريات/56)، فعبادة الله وحده لا شريك له هي الغاية التي خلق الناس من أجلها، وهي أول الدين وآخره وظاهره وباطنه وقد بينت الآية العلة في خلق العباد بلام التعليل في قوله إلا ليعبدون .
    ولما جعل أهل الضلال من الجهمية وأصحاب الاعتزال غايتهم في التوحيد تدور حول إثبات الأسماء ونفي الصفات وكذلك الأشعرية من بعدهم الذين صنفوا التوحيد بقسمة عقلية مبنية على ما يجب للذات من الصفات والأفعال، وجعلوا ذلك غايتهم من التوحيد، كان رد الفعل الطبيعي عند الصادقين من الموحدين أتباع السلف أن يبنوا لجميع المسلمين الفرق بين توحيد الغاية وتوحيد الوسيلة، وأن توحيد الغاية هو توحيد العبادة الذي من أجله نزلت الكتب وبعثت الرسل .
    أما التوحيد عند هؤلاء ففضلا عن كون تصنيفاتهم له تخالف النصوص القرآنية والنبوية إلا أنها وما يدور حولها من موضوعات لم تكن محلا للخلاف بين الرسل وأممهم لأن الله U أودع في نفوس البشر من الإقرار بعظمته في ذاته وصفاته وأفعاله وربوبيته لخلقه ما أقر به المشركون في الجاهلية، فقد كانوا يعلمون أن الله U خالقهم ورازقهم وأنه عظيم في ذاته لا يماثل شيئا من معبوداتهم التي يعظمونها .
    فالنوع الأول هو توحيد الغاية أو توحيد العبادة، ويسمي أيضا توحيد الألوهية أو الإلهية كلاهما صحيح ذلك لأنه معنى قول العبد: لا إله إلا الله، فقد تقدم أن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال والتعظيم وجميع أنواع العبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (توحيد العبادة هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، أن يقصد الله بالعبادة ويريده بذلك دون ما سواه وهذا هو الإسلام، فإن الإسلام يتضمن أصلين: أحدهما: الاستسلام لله، والثاني: أن يكون ذلك له سالما، فلا يشركه أحد في الإسلام له وهذا هو الاستسلام لله دون ما سوا) ([39]) .
    ويسمي توحيد القصد والطلب لأنه يتعلق بنية المسلم ومطلبه في الحياة، فمن حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَي فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إلى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إِلَيْ) ([40]) .
    فالعبادة تتضمن الطلب والقصد والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم فإن القلب يطلب موجودا فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه ([41]) .
    وهذا النوع من التوحيد يسمي أيضا توحيد الإرادة، فالإرادة في الأصل من راد يرود إذا سعي في طلب الشيء، وهي قوة مركبة في قلب الإنسان جعلت اسما لشروع النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أولا يفعل ([42]) .
    والإرادة قريبة من القصد والنية والعزم على الفعل وكلها في من أعمال القلوب ومنطقة الكسب، كقوله تعالى: } مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَي لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا { (الإسراء/18) .
    وقد سمي هذا التوحيد توحيد الإرادة لتوافق الإرادات، فالعبد إذا حققه توافقت إرادته مع الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية، فالمؤمن الذي كمل إيمانه تتوافق فيه الإرادات، والكافر تتخلف فيه إرادة الله الشرعية فقط، وهي إرادة بمعنى الأمر الشرعي الموجه إلى المكلفين كقوله تعالى: } يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ { (البقرة/185)، وكقوله: } مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ { (المائدة/6)، وتلك الإرادة قد تتخلف وقد يعصيها الإنسان أما إرادة الله الكونية القدرية فهي بمعنى الحكم المنتهي والقضاء المبرم والتقدير الواقع بأن يفعل أو لا يفعل، فمتي قيل: أراد الله كذا على المعنى الكوني فمعناه قضاه وقدره وحكم فيه أنه واقع، وهي بمعنى المشيئة وتسمى الإرادة الكونية، كقوله تعالى: } فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد ُ{ (البروج/16)، وكقوله أيضا: } قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا { (المائدة/17) .
    سئل سهل بن عبد الله التستري (ت:293) عن قوله تعالى: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَي وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ { (البقرة/34)، لما أمر إبليس بالسجود أراد منه ذلك أم لا ؟ فقال: أراده ولم يرده ([43])، ويقصد بذلك أنه سبحانه أراده شرعا، وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا وهي إرادة الله الشرعية، ولم يرده منه وقوعا وكونا إذ لا يكون في ملكه إلا ما أراد الله تعالى، وهي الإرادة الكونية فلو أراد كونه لكان، ولو أراده فعلا لوقع لقوله سبحانه وتعالى: } إِنَّمَا أَمْرُه ُإِذَا أَرَاد شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون { (يس/82)،فلما لم يكن عُلِم أنه لم يرده، فقد كان الأمران معا، إرادته بالتكليف والتعبد، وإرادته ألا يسجد، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن ([44]) .
    وكما سمي هذا النوع بتوحيد الإرادة، فإنه يسمي أيضا توحيد الشرع والقدر، لأن عقيدة السلف وسط بين الجبرية والقدرية، فالمسلم يجب أن يسلم لله في تدبيره الشرعي وتدبيره الكوني معا كما سبق، فيعمل بشرعه ويؤمن بقدره لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، ومعنى ذلك أن المسلم إذا وفقه الله إلى الطاعة واجتهد في أحكام العبودية وأدى توحيد الألوهية نسب الفضل في طاعته إلى ربه، وأنها كانت بمعونته وتوفيقه لما سبق في حكمه وقضائه وقدره ولا ينسب الفضل إلى نفسه أو يمن به على ربه، قال تعالى: } يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ { (الحجرات:17) .
    فهذه أغلب الأسماء والمصطلحات التي تطلق على النوع الأول من التوحيد في كتب العقيدة .
    أما النوع الثاني وهو المسمي توحيد الوسيلة، أو توحيد الربوبية والأسماء والصفات أو توحيد المعرفة والإثبات، أو توحيد العلم والخبر، فقد سمي توحيد الوسيلة لأن إثباته أو الإيمان به فقط لا يكفي لدخول الجنة، لأن الله U حدد الغاية من خلق الإنسان بقوله: } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ { (الذاريات/56)، فعبادة الله وحده لا شريك له وامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل هي الطريق إلى الجنة والغاية التي خلق الناس من أجلها كما تقدم، وعند البخاري من حديث أبي هريرة t أن رسول الله e قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَي، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ يأبى ؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَي) ([45])، فالحصول على الجنة سببه الطاعة والعبادة .
    أما من يجعل غايته من التوحيد البحث عن وجود الله والتعرف على أوصافه بقوانين العقل أو الذوق، كما هو الحال عند الجهمية والصوفية وأحفادهم من المعتزلة والأشعرية والماتريدية أو حتى بالرجوع إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فهذا كله عند السلف وسيلة لتحقيق العبادة من خلال معرفة المعبود، فتوحيد العبادة يدل على توحيد الربوبية والأسماء والصفات بالتضمن، قال ابن القيم: (وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع، ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)([46]) .
    ويسمي النوع الثاني من التوحيد أيضا توحيد الربوبية والأسماء والصفات لأنه يدور حول إثبات الوحدانية في ربوبية الله U من خلال الأدلة النقلية والعقلية، وإثبات أنه سبحانه المنفرد بالخلق والتقدير والملك والتدبير، فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال ولا هدي ولا سعادة ولا شقاوة إلا من بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره، ولا مدبر سواه، فهذه حقيقة الربوبية ومعنى كونه رب العالمين ([47]) .
    وكذلك فإن هذا النوع يدور أيضا حول الطريقة المثلى في معرفة المعبود بأسمائه وصفاته وأفعاله وحقيقة المنهج الصحيح الذي لم يتلوث بشيء من أفكار المخالفين وأدناس الشبهات التي تؤدي إلى هدم التوحيد في قلوب المسلمين ؟ وكيف أثبت السلف الصالح لربهم حقائق الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ؟
    وكيف أن مذهبهم مذهب بين مذهبين وهدي بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ؟ وكيف وضعوا ضابطا يحكم منهجهم ويبين عقيدتهم في الأسماء والصفات عندما قالوا بإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله e من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ؟ وعندما قالوا: لا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا استوي على عرشه، ولا نقول: له يدان كأيدي المخلوق ووجه كوجوههم، وسمع وبصر وحياة وقدرة واستواء كأسماعهم وأبصارهم وقدرتهم واستوائهم، بل قالوا: له ذات حقيقية ليست كسائر الذوات وله صفات حقيقية ليست كسائر الصفات، وليست دربا من المجازات أو نوعا من التخيلات، وكذلك قولهم في وجهه تبارك وتعالى ويديه وسمعه وبصره وكلامه واستوائه، ولم يمنعهم ذلك أن يفهموا المراد من تلك الصفات وحقائقها ([48])، هذا مع التعرف على فقه الأسماء الحسنى وفهم دلالتها مطابقة وتضمنا والتزاما، ودعاء الله بها، دعاء مسألة ودعاء عبادة، وتأثير ذلك في سلوك المسلم واعتقاده .
    وهذا النوع يسمي أيضا توحيد العلم والخبر لأن تحصيل العلم به ورد فيما أخبرنا الله به في كتابه وسنة رسوله e، فغاية ما للعقل من جهد محدود في هذا الباب إثبات الخالق ووصفه بأوصاف العظمة، سواء بالنظر إلى الأسباب في الآفاق أو بالنظر إلى النفس وتركيبة الإنسان كما قال سبحانه: } سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ { (فصلت/53) .
    أما لو ترك الإنسان لعقله العنان في وصف المعبود فسوف يضع الأقيسة والقواعد والقيود وسوف يتجاوز الحدود لا محالة في حكمه على ذات الله تعالى أو حكمه على صفاته وأفعاله، كما فعل أصحاب المدارس العقلية المنتهجين لفكر الجهمية، وقد كانت النتيجة الحتمية أن وقعوا بجهلهم في الزيغ والضلال ووصفوا الله بالعجز والمحال.
    وتوحيد العلم والخبر يسمي أيضا توحيد المعرفة والإثبات لأن المسلم مطالب بمعرفته وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله e، فالتوحيد بغير إثبات الصفات هو في حقيقته نقص ومذمة كما هو الحال في الأصل الأول من أصول المعتزلة ([49])، فالمتوحد المنفرد عن غيره لا بد أن ينفرد بصفة يتميز بها ولا يشاركه فيها أحد سواه، أما الذي لا يتميز بشيء عن غيره ولا يوصف بوصف يلفت الأنظار إليه، فهذا لا يكون منفردا ولا متوحدا ولا متميزا، فالله وله المثل الأعلى أثبت لنفسه أوصاف الكمال التي انفرد بها دون غيره، ونفي عن نفسه أوصاف النقص ليثبت توحده في ذاته وصفاته وأفعاله وهذا منهج القرآن، فبعد أن بدأ سبحانه بالتوحيد أولا في قوله U} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { (الشورى: 11)، اتبع ذلك بإثبات الصفات العليا التي تليق به فقال: } وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ { (الشورى: 11)، فالتوحيد يستلزم إثبات الصفات وهذا هو المناسب للفطرة السليمة والعقول المستقيمة، ومن أجل هذا سمي هذا النوع من التوحيد بتوحيد المعرفة والإثبات.
    سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أصول العقيدة لمحمود الرضواني 6
    بواسطة عمر 1991 في المنتدى العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-09-2012, 09:24 AM
  2. أصول العقيدة لمحمود الرضواني 5
    بواسطة عمر 1991 في المنتدى العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-09-2012, 09:17 AM
  3. أصول العقيدة لمحمود الرضواني 4
    بواسطة عمر 1991 في المنتدى العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-09-2012, 08:50 AM
  4. أصول العقيدة لمحمود الرضواني 3
    بواسطة عمر 1991 في المنتدى العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-09-2012, 08:47 AM
  5. أصول العقيدة لمحمود الرضواني 2
    بواسطة عمر 1991 في المنتدى العقيدة والتوحيد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-09-2012, 08:45 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1

أصول العقيدة لمحمود الرضواني 1