أصول الهداية في ثمان عشرة آية

الكاتب د.عبد الحميد بن باديس الصنهاجي
من قوله تعالى:لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً الإسراء/ 22.
إلى قوله تعالى: ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً الإسراء/ 39.
تمهيد:
قد أوتي رسول الله (ص) جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً؛ فالآية من كتاب الله، والأثر من حديث رسول الله، تجد فيه من أصول الهداية، ودقيق العلم، ولطيف الاشارة في لفظ بيِّن وكلام بيِّن، ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومُنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الاسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها.
وهي ـ فوق بلاغتها التي عرف العرب إعجازها بسليقتهم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم ـ قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا، أو بأي لغة نطقوا، بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفِطَر وتسلمها العقول.
وإنك لست واجداً مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدى وبيان.
وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور المتقدم في قوله تعالى: (فأولئك كان سعيهم مشكورا) ووقوعها بلصق قوله تعالى: (وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا). إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور، المستفاد من هذه الآيات.
(ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً).
هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تقبل الأعمال إلا به. وما أرسل الله رسولاً إلا داعياً إليه، ومذكراً بحججه.
وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة (لا إله إلا الله). وهي كلمته الصريحة فيه.
ولا تكاد سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده.
وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
(لا تجعل) الجعل يكون عملياً كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون اعتقادياً كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني.
(مع الله) المعنية هنا أيضاً هي معية اعتقادية.
(إلهاً آخر) الإله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والافتقار وإظهار الانقياد والامتثال ودوام التضرع والسؤال.
(فتقعد) القعود ضد القيام، والعرب تكني بالقيام عن الجد في الأمر والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالساً، فتقول: قام بحاجتي إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة وإنما قضاها بكلمة قالها، أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء أكان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائماً يمشي على رجليه. فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب وفراغ اليد من كل خير.
(مذموماً) مذكوراً بالقبيح موصوفاً به.
(مخذولاً) متروكاً بلا نصير مع حاجتك إليه.
فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكاً في ألوهية، فيعبدوه معه ليعتقدوا أنه الإله وحده يعبدوه وحده.
وبيّن لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكاً وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة، وعملهم يكون مردوداً عليهم، وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم، ومن كل عقل سليم من الخلق، يكونون مخذولين لا ناصر لهم: فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم فما لهم ـ قطعاً ـ من نصير.
والخطاب وإن كان موجهاً للنبي (ص) فإنه عام للمكلفين.
وسر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم، وإن كان هو ـ الرسول (ص) ـ قد عصم من الخالفة فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع: خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف.
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه).
القضاء يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لابد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون، ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني.
(ربك) الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل.
(أن) في (ألاّ) مصدرية، والتقدير: بألا تعبدوا إلا إياه أي بعدم عبادتكم سواه، بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه.
فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلا له فذل القلب وخضوعه، والشعور بالضعف والافتقار والطاعة والانقياد والتضرع والسؤال هذه كلها لا تكون إلا لله.
فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده.
ومَن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده.
ومَن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده.
ومَن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده.
فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمراً عاماً وحكم حكماً جازماً، بأن العبادة لا تكون إلا له.
وجيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيهاً على أن الذي يستحق العبادة هو مَن له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك إلا له. فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه، فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها انفراده بالخلق والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته.
وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي:
فالأولى: نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه، وهو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه وهذا من باب العلم.
والثانية: أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه لأنه هو ربك وحده، وهذا من باب العمل:
فمن وحد الله جل جلاله في ربوبيته وألوهيته علماً وعملاً.. فقد استكمل حظه من مقام هذا الأساس العظيم.
ومَن أخلّ بشيء من ذلك كان ذلك نقصاً في دينه بقدر ما أخل حتى ينتهي الأمر إلى خلص المشركين.
نعوذ بالله من الشرك جليه وخفيه، إنه سميع عليم.
بيان واستدلال:
يكون (الذل) بمعنى ضعف الحال، وهذا قد يكون لأهل التوحيد والإيمان كما في قوله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) آل عمران/ 123.
ويكون بمعنى اللين المشوب بالعطف وهذا من صفات المؤمنين الممدوحة إذا وقعت في محلها كما في قوله: (أذلة على المؤمنين) الفتح/ 29.
ويكون الذل بمعنى خنوع القلب وخضوعه وانكساره للضعف والافتقار، وهذا هو الذي يكون من المؤمن الموحد لربه كما في حديث دعاء القنوت: (ونخنع لك)؛ أي نذل ونخضع لك.
وهذا الخنوع هو أساس العبادة القلبية فلذلك لا يكون إلا لله.
وإن من أسرار كلمة (الله أكبر) التي يأتي بها المؤمن مرات كثيرة في صلواته وغيرها من أحواله، حفظ القلب من الخنوع للخلق باستشعار عظمة الخالق التي يصغر عندها كل مخلوق، فلا يزال المؤمن لهذا قوي القلب، عزيز النفس بالله لا ينتظر قوة بدلاً من ضعه إلا به، ولا سد مفاقرة إلا منه.
ولقلب المؤمن الموحد أمام مَن يحب في الله ويعظم بتعظيم الله خضوع أيضاً، ولكنه خضوع هيبة وتوقير وإجلال الخضوع ذل وخنوع وضعف وافتقار، إذ هذا ـ كما قدمنا ـ لا يكون إلا للغني القوي العزيز القهار.
من مظاهر هذا الخنوع الذي لا يكون إلا لله الطاعة والانقياد، وهي أيضاً لا تكون إلا له.
وقد قال تعالى: (أفرأيت مَن اتخذ إلهه هواه) الفرقان/ 43. أي أطاعه واتبعه. كما قال تعالى: (واتبعوا أهواءهم) محمد/ 16.
فمن اتبع مخلوقاً وأطاعه فيما يأمره وينهاه، دون أن يكون في طاعته مراعياً طاعة الله فقد عبده، واتخذه رباً فيما أطاعه فيه.
وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، لما جاء للنبي (ص) وسمعه يتلو قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) التوبة/ 31. فقال عدي: يا رسول الله، إنهم لم يكونوا يعبدونهم. قال: (أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئاً حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئاً أحلوه؟) قال: قلت: نعم. قال رسول الله (ص): (فتلك عبادتهم إياهم!).
فالمؤمن الموحد لا تكون طاعته إلا لله أو لمن طاعته طاعة لله.
ومن مظاهر ذلك الخنوع: الدعاء والسؤال والتضرع والجؤار إليه. قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله، ثم إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون) النحل/ 53، وقال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) النمل/ 62. وقال تعالى: (إذ تستغيثون ربكم) الأنفال/ 9. وفي القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى.
وقال (ص) من حديث ابن عباس (رض) عند الترمذي: (إذا سألت فاسأل الله)، وفي أحاديث كثيرة.
فلا يدعو المؤمن الموحد غير الله ولا أحداً مع الله، إذ الدعاء عبادة كما في حديث النعمان بن بشير (رض) يرفعه: (الدعاء هو العبادة) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
وكما في حديث أنس (رض) يرفعه: (الدعاء مخ العبادة)، رواه الترمذي. وكل عبادة لا تكون إلا لله فالدعاء لا يكون إلا لله.
وإنما كان للدعاء من العبادة هذي المنزلة لن حقيقة العبادة هي التذلل والخضوع، وهو حاصل في الدعاء غاية الحصول، وظاهر فيه أشد الظهور.
ألهمنا الله رشدنا، وأعاذنا من شرور أنفسنا، إنه سميع قريب مجيب.