البداية و النهاية
أشياء من حيل الحلاج
@ روى الخطيب البغدادي أن الحلاج بعث رجلا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمى ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح فإذا سعوا في مداواته قال لهم يا جماعةالخير إنه لا ينفني شيء مما تفعلون ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله ص في المنام وهو يقول له إن شفاءك لا يكون إلا على يد القطب وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني وصفته كذا وكذا وقال له الحلاج إني سأقدم عليك في ذلك الوقت فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد ويظهر الصلاح والتنسك يقرأ القرآن فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حينا على ذلك ثم أظهر لهم أنه قد زمن فسعوا بمداواته بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء فقال لهم يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج شيئا وأنا قد رأيت رسول الله ص في المنام وهو يقول لي إن عافيتك وشفاءك إنما هو على يدي القطب وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني وكانوا أو لا يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه كان في الوقت الذي ذكر لهم واتفق هو والحلاج عليه أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفيا وعليه ثياب صوف بيض فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتفت إلى أحد فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به ثم جاؤا إلى ذلك الزمن المتعافي فأخبره بخبره فقال صفوه لي فوصفوه له فقال هذا الذي أخبرني عنه رسول الله ص في المنام وأن شفائي علي يديه اذهبوا بي إليه فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال يا أبا عبدالله إني رأيت رسول الله ص في المنام ثم ذكر له رؤياه فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شيء شيء والناس حضور وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيما زائدا على ما أظهر لهم من الباطلل والزور ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم فلما أراد الخروج عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالا كثيرا فقال أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس ويحجون ويتصدقون محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى صدق الشيخ قد رد الله علي بصري ومن الله علي بالعافية لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم ثم حثهم على إعطائه المال ما طابت من أنفسهم ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالا كثيرا ألوفا من الذهب والفضة فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال
وروى عن بعضهم قال كنت أسمع أن الحلاج له أحوال وكرامات فأحببت أن أختبر ذلك فجئته فسلمت عليه فقال لي تشتهي علي الساعة شيئا فقلت أشتهي سمكا طريا فدخل منزله فغاب ساعة ثم خرج علي ومعه سمكة تضطرب ورجلاه عليهما الطين فقال دعوت الله فأمرني أن آتي البطائح لآتيك بهذه السمكة فخصت الأهواز وهذا الطين منها فقلت إن شئت أدخلتني منزلك حتى أنظر ليقوى يقيني بذلك فإن ظهرت على شيء وإلا آمنت بك فقال ادخل فدخلت فأغلق علي الباب وجلس يراني فدرت البيت فلم أجد فيه منفذا إلى غيره فتحيرت في أمره ثم نظرت فإذا أنا بتأزيرة وكان مؤزرا بازار ساج فحركتها فانفلقت فإذا هي باب منفذ فدخلته فأفضى بي إلى بستان هائل فيه من سائر الثمار الجديدة والعتيقة قد أحسن إبقاءها وإذا أشياء كثيرة معدودة للأكل وإذا هناك بركة كبيرة فيها سمك كثير صغار وكبار فدخلتها فأخرجت منها واحدة فنال رجلي من الطين مثل الذي نال رجليه فجئت إلى الباب فقلت افتح قد آمنت بك فلما رآني على مثل حاله أسرع خلفي جريا يريد أن يقتلني فضربته بالسمكة في وجهه وقلت يا عدو الله أتعبتني في هذا اليوم ولما خلصت منه لقيني بعد أيام فضاحكني وقال لا تفش ما رأيت لأحد وإلا بعثت إليك من يقتلك على فراشك قال فعرفت أنه يفعل إن أفشيت عليه فلم أحدث به أحدا حتى صلب وقال الحلاج يوما لرجل آمن بي حتى أبعث لك بعصفورة تأخذ من ذرقها وزن حبة فتضعه على كذا منا من نحاس فيصير ذهبا فقال له الرجل آمن أنت بي حتى أبعث إليك بفيل إذا استلقى على قفاه بلغت قوائمه إلى السماء وإذا أردت أن تخفيه وضعته في إحدى عينيك قال فبهت وسكت ولما ورد بغداد جعل يدعو إلى نفسه ويظهر أشياء من المخاريق والشعوذة وغيرها من الأحوال الشيطانية واكثر ما كان يروج على الرافضة لقلة عقولهم وضعف تمييزهم بين الحق والباطل وقد استدعى يوما برئيس من الرافضة فدعاه إلى الإيمان به فقال له الرافضي إني رجل أحب النساء وإني أصلع الرأس وقد شبت فإن أنت أذهبت عني هذا وهذا آمنت بك وأنك الإمام المعصوم وإن شئت قلت إنك نبي وإن شئت قلت أنك أنت الله قال فبهت الحلاج ولم يحر إليه جوابا قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي كان الحلاج متلونا تارة يلبس المسوح وتارة يلبس الدراعة وتارة يلبس القباء وهو مع كل قوم على مذهبهم وإن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقا أو غيرهم ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة ولكن أدخلوه بيتا لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك فلما بلغ ذلك إلى الحلاج تحول من الأهواز قال
الخطيب أنبأ إبراهيم بن مخلد أنبأ إسماعيل بن علي الخطيب في تاريخه قال وظهر أمر رجل يقال له الحلاج الحسين بن منصور وكان في حبس السلطان بسعاية وقعت به وذلك في وزارة علي بن عيسى الأولى وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس من جهات تشبه الشعوذة والسحر وادعاء النبوة فكشفه علي بن عيسى عند قبضه عليه وأنهى خبره إلى السلطان يعني الخليفة المقتدر بالله فلم يقر بما رمى به من ذلك فعاقبه وصلبه حيا أياما متوالية في رحبة الجسر في كل يوم غدوة وينادى عليه بما ذكر عنه ثم ينزل به ثم يحبس فأقام في الحبس سنين كثيرة ينقل من حبس إلى حبس خوفا من إضلاله أهل كل حبس إذا طالت مدته عندهم إلى أن حبس آحر حبسة في دار السلطان فاستغوى جماعة من غلمان السلطان وموه عليهم واستمالهم بضروب من الحيل حتى صاروا يحمونه ويدفعون عنه ويرفهونه بالمآكل المطيبة ثم راسل جماعة من الكتاب وغيرهم ببغداد وغيرها فاستجابوا له وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية وسعى بجماعة من أصحابه إلى السلطان فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصدبق ما ذكر عنه وأقر بعضهم بذلك بلسانه وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه فجرى في ذلك خطوب طوال ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار فأحضر مجلس الشرطة بالجانب الغربي في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلثمائة فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط ثم قطعت بداه ورجلاه ثم ضربت عنقه وأحرقت جثته بالنار ونصب رأسه للناس على سور الجسر الجديد وعلقت يداه وجلاه وقال أبو عبدالرحمن بن الحسن السلمي سمعت إبراهيم بن محمد الواعظ يقول قال أبو القاسم الرازي قال أبو بكر بن ممشاذ حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها ليلا ولا نهارا فأنكروا ذلك من حاله ففتشوا مخلاته فوجدوا فيها كتابا للحلاج عنوانه من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان يدعوه إلى الضلالة والإيمان به فبعث بالكتب إلى بغداد فسئل الحلاج عن ذلك فأقر أنه كتبه فقالوا له كنت تدعي النبوة فصرت تدعي الألوهية والربوبية فقال لا ولكن هذا عين الجمع عندنا هل الكاتب إلا الله وأنا واليد آلة فقيل له معك على ذلك أحد قال نعم ابن عطاء وأبو محمد الحريري وأبو بكر الشبلي فسئل الحريري عن ذلك فقال من يقول بهذا كافر وسئل الشبلي عن ذلك فقال من يقول بهذا يمنع وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال القول ما يقول الحلاج في ذلك فعوقب حتى كان سبب هلاكه ثم روى أبو عبدالرحمن السلمي عن محمد بن عبدالرحمن الرازي أن الوزير حامد بن العباس لما احضر الحلاج سأله عن اعتقاده فأقر به فكتبه فسأل عن ذلك
فقهاء بغداد فأنكروا ذلك وكفروا من اعتقده فكتبه فقال الوزير إن أبا العباس بن عطاء يقول بهذا فقالوا من قال بهذا فهو كافر ثم طلب الوزير ابن عطاء إلى منزله فجاء فجلس في صدر المجلس فسأله عن قول الحلاج فقال من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد فقال الوزير لابن عطاء ويحك تصوب مثل هذا القول وهذا الاعتقاد فقال ابن عطاء ما لك ولهذا عليك بما نصبت له من أخذ أموال الناس وظلمهم وقتلهم فما لك ولكلام هؤلاء السادة من الأولياء فأمر الوزير عند ذلك بضرب شدقيه ونزع خفيه وأن يضرب بهما على رأسه فما زال يفعل به ذلك حتى سال الدم من منخريه وأمر بسجنه فقالوا له إن العامة تستوحش من هذا ولا يعجبها فحمل إلى منزله فقال ابن عطاء اللهم اقتله واقطع يديه ورجليه ثم مات ابن عطاء بعد سبعة أيام ثم بعد مدة قتل الوزير شر قتلة وقطعت يداه ورجلاه وأحرقت داره وكان العوام يرون ذلك بدعوة ابن عطاء على عادتهم في مرائيهم فيمن أوذي ممن لهم معه هوى بل قد قال ذلك جماعة ممن ينسب إلى العلم فيمن يؤذي ابن عربي أو يحط على حسين الحلاج أو غيره هذا بخطيئة فلان وقد اتفق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته وأجمعوا على قتله وصلبه وكان علماء بغداد إذ ذاك هم الدنيا قال أبو بكر محمد بن داود الظاهري حين أحضر الحلاج في المرة الأولى قبل وفاة أبو بكر هذا وسئل عنه فقال إن كان ما أنزل الله على نبيه ص حقا وما جاء به حقا فما يقوله الحلاج باطل وكان شديدا عليه وقال أبو بكر الصولي قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلا يتعاقل وغبيا يتبالغ وخبيثا مدعيا وراغبا يتزهد وفاجرا يتعبد ولما صلب في أول مرة ونودي عليه أربعة أيام سمعه بعضهم وقد جيء به ليصلب وهو راكب على بقرة يقول ما أنا بالحلاج ولكن ألقي علي شبهه وغاب عنكم فلما أدني إلى الخشبة ليصلب عليها سمعته وهو مصلوب يقول يا معين الفنا علي أعني على الفنا وقال بعضهم سمعته وهو مصلوب يقول إلهي اصبحت في دار الرغائب أنظر إلي العجائب إلهي إنك تتودد إلى من يؤذيك فكيف بمن يؤذى فيك