الموت ... الحقيقة المنسيَّة



من خطب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعد، فيا عباد الله:

رجل يقيم في منزل فاره، قد أُثِّثَ بأفخم الأثاث الرائع، تحيط بداره حديقة غنّاء، فيها كل ما لذَّ وطاب، فيها ما يمتِّع العين، ويمتِّع الفم والأنف، تلقى صاحب هذا الدار في يوم عن طريق البريد الرسمي كتاباً، فَضَّه وإذا هو قرار صادر من محكمة لا استئناف فيها بأنه قد حُكِمَ عليه بالإعدام، ونظر فوجد أن الحكم مصدقٌ من قبل أعلى سلطة في البلدة، كيف يكون حال هذا الإنسان بعد ذلك مع هذه الدار التي يسكنها والمتعة التي يتقلّب فيها؟ إنه ينظر إلى جمال الدار وألقها؛ ولكنه لا يرى فيها إلا القبح والسواد، وربما مدّ يده عند الضرورة، ليتناول الضروري من الطعام ولكن اللقمة لا يستسيغها إلا مع غُصص، وينظر إلى الحديقة التي تحيط بالدار فلا يرى فيها إلا ما يوحشه، ولا يرى فيها إلا مظاهر البشاعة.

من هو هذا الذي يسكن في هذه الدار وتَلَقَّى عن طريق البريد الرسمي هذا القرار، إنه كل واحد منّا أيها الإخوة، كل واحد منّا يصدُق عليه هذا الذي أقوله لكم، نحن نعيش من الدنيا التي نتقلب فيها في دار كهذه الدار، ونتمتع بالمتع ذاتها، ولقد تلقى كل منّا قرار الحكم الذي لا يقبل استئنافاً، من قبل أعظم سلطة في الكون، من قبل قيوم السماوات والأرض، من قبل مالك الملك جل جلاله، ألم يقل: {أَيْنَما تَكُونُوا يَدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 4/78]، ألم يقل: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 3/185]، ألم يقل لنا ولنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 39/30]، هل تستطيعون أن تتلمسوا فرقاً بين ذاك الذي يعيش في تلك الدار الفارهة، ذاك الذي حدثتكم عن خبره، وحال كل واحد منّا؟ هل من فرق؟ لا يوجد أي فرق، كلنا ذاك الذي حكم عليه بالإعدام، ولكننا جميعاً لا نعلم متى سنساق إلى حيث ينفذ في حقنا الإعدام، كلنا - كما قلت أكثر من مرة - نقف في طابور أمام بوابة الموت ولكن واحداً منّا لا يعلم، أهو يقف في مؤخرة الطابور؟ أم في أوله، أم في منتصفه؟ نعم.

غير أن هذا الذي حكم عليه بالإعدام ربما لم يكن يعلم من الموت ما نعلم، وربما لم يكن يعلم شيئاً عن أخبار ما بعد الموت، أما نحن المؤمنون بالله سبحانه وتعالى، فنعلم أن الموت رحلة إلى الله سبحانه وتعالى، ونقرأ في هذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 3/158]، ونقرأ قول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [آل عمران: 3/185]، ونقرأ قوله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 39/30-31]، ما المعنى الذي ندركه من هذه الحقيقة التي تصدق على كل فردٍ فردٍ منّا في هذه الحياة الدنيا؟ ما المعنى التربوي الكامن في هذا الحكم الذي تلقيناه حكماً مبرماً لا يقبل استئنافاً من لدن قيوم السماوات والأرض؟

هذا الحكم الذي تلقيناه أيها الإخوة هو الذي يقرب البعيد، وهو الذي يلين القاسي والحديد، وهو الذي يجعل من الصعب سهلاً، وهو الذي يجعل من العسير يسيراً، هذا الحكم الذي تلقيناه هو الذي يقرب البعيد، يجعلنا وكأننا نقف في عَرَصات القيامة، إنّ كثيراً من الناس قد يرونه بعيداً، ولكن قرار الله الصادر في حقّنا بالإعدام - إن جاز التعبير - يجعل ذلك البعيد البعيد قريباً، ويجعل القريب الذي نتقلب فيه اليوم بعيداً، ألا ترون ذلك؟ عندما أعلم أنني راحل من هذه الحياة الدنيا ولا أعلم متى سيحين رحيلي سأعيش في اللحظة التي أقف فيها بين يدي الله، سأعيش في الحالة التي أجد فيها جهنم تزفر زفراتها عن يساري والجنة عن يميني، في عالم لا عهد لي به، والدنيا التي أعيش في غمارها تبتعد عن ناظري تبتعد عن فكري ثم تبتعد، ثم تبتعد، كل ذلك بفضل الموت الذي يقرب البعيد، ويبعد القريب.

ويرحم الله الحارث بن مالك الأنصاري إذ قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((كيف أصبحت يا حارثة؟)) قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: ((ويحك يا حارثة، إن لكل شيء حقيقة فانظر ما حقيقة إيمانك))، قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري وأسهرت، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة في الجنة ينعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يتعاوَوْن أو يتضاغون فيها، قال له عليه الصلاة والسلام: ((أبصرت فالزم))، وفي رواية ((عبدٌ نَوَر الله قلبه)).

انظروا كيف أن الموت قرب البعيد وأبعد القريب.

عندما نعلم أن قيّوم السماوات والأرض قد حكم على الأحياء جميعاً بالإعدام إن جاز التعبير، حكم عليهم بالموت، فإن هذه الحقيقة الجاثمة في أعماق عقولنا ثم في أعماق نفوسنا تُيسر العسير، وتجعل الصعب سهلاً، كم من الأمور العسيرة التي تمر بنا في حياتنا، في معاملاتنا مع الناس، في علاقاتنا التجارية، الزراعية الصناعية، في علاقاتنا الشخصية، كم من أمور تمر بنا وهي أمور تترك طابعها على نفوسنا، تجعلنا نغتاظ، تجعلنا نتألم، تجعلنا نرى في ذلك مصيبة وأي مصيبة، ولكن الموت الجاثم نصب أعيننا يجعل العسير يسيراً، يجعل الصعب سهلاً، ذلك لأنك تعلم أنك راحل، وأنه قد حكم عليك بالإعدام، وأنه ربما دعيت في أي لحظة إلى الساحة التي سينفذ فيها إعدامك، أليس هذا هو الواقع الذي ينبغي أن ندركه أيها الإخوة؟

عندما أعلم أنني قد حكم عليّ بالإعدام من قبل قيوم السماوات والأرض، يتحول شُحّي إلى جود وكرم، ويتحول الشيء العظيم الجليل الجليل إلى شيء تافه حقير حقير، بفضل وثيقة الإعدام التي تلقيتها من لدن قيوم السماوات والأرض، نعم، كنت شحيحاً، ضنيناً بالمال لأنني أتصور أني مخلِّد، وأني أعيش حياة المخلدين ومن ثمّ فإنني أتلقى المال من هنا وهناك ولا أشبع، أسارع إلى جمعه وأبتعد عن سبل إعطائه وتوزيعه، هو الشح ولكن عندما وضعت الموت نصب عيني، وعلمت أنني راحل، ولا أدري متى، تحول شحي إلى كرم، لماذا؟ لماذا أجعل المال عبئاً فوق ظهري؟ آكل منه ما أحتاج، أستعمل منه ما أقيم به حياتي وأما ما وراء ذلك مما أنا في غنىً عنه، فلا شك أن الموت يدعوني إلى أن أتكرم به، أعطيه، أنفقه، هذا شأن الإنسان الذي حكم عليه بالإعدام، يتحول الشح إلى كرم وعطاء، الشيء العظيم الجليل يذوب ثم يذوب فيستحيل إلى أمر حقير حقير تافه. كنت أنظر إلى الدنيا فأراها ملء عيني لا بل ملء قلبي حباً وجمالاً ورواءً بهاءً، أجل كان فؤادي متعلقاً بهذه الدنيا وهل هنالك شيء يطربني أكثر من الدنيا التي أتقلب في نعيمها ومتعها، فلما قرأت ورأيت وثيقة الإعدام التي خاطبني الله سبحانه وتعالى بها وعلمت أنني راحل عن هذه الدنيا التي أعشقها، أنظر إليها نظرة ذلك الإنسان الذي يقيم في تلك الدار الفارهة وسط تلك الحديقة الغناء، ينظر إليها مستوحشاً منها، ينظر إليها وكأنها كتلٌ من السواد تتراكم أمام ناظريّ، هكذا ينظر أحدنا بفضل الموت، إلى الدنيا بعد أن كان يتعشقها، ماذا عسى أن تفيدني هذه الدنيا؟

نعم، واسمعوا إلى كلام حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مالي وللدنيا وإنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم تركها ومضى))، أنا شأني في الدنيا كشأن إنسانٍ مسافر أدركه النصب فنزل عن دابته ونام نوم الظهيرة تحت ظل شجرة حتى إذا استراح واستجم قام، ترك الشجرة وتابع سفره، تلك هي قصة الرحلة إلى الله سبحانه وتعالى، في فجاج هذه الحياة الدنيا. أجل الموت أيها الإخوة الذي قضى علينا الله عز وجل به، يقرب البعيد ويبعد القريب ويلين الحديد ويسهل الصعب وييسر العسير ويجعل العظيم حقيراً، ويحيلك من إنسان شحيح إلى إنسان جواد كريم، ويجعلك تعيش مع الغاية التي أنت مقبل إليها، يجعلك تعيش تماماً كالحارث بن مالك، والحارث بن مالك هو الفرد المتكرر من حياة أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم جمعياً.

دنياك التي تعيش فيها تماماً كالمناظر التي يراها الراحل في عربة أو في مركبة يراها عن يمينه ويساره وهي تمر به أو هو يمر بها، تلك هي علاقة أحدنا بهذه الدنيا، لن يقيم لها وزناً، علاقاتك الشخصية مع الناس، إن مدحوك أو قدحوك لن يؤثر شيء من ذلك في كيانك لأنك عما قريب تقف في ساحة الإعدام، تتلقى اللحظة التي يقبل فيها ملك الموت عليك ليستَلّ منك روحك، لن تبالي بالمال الكثير إن جاءك ولا بالمال الكثير إن غاض عنك وذهب، لن تبالي بشيء من مظاهر هذه الدنيا كلها.

قيل لي مرة: لماذا قدّم الله عز وجل الموت على الحياة خلافاً للترتيب الطبيعي الزمني الواقعي في قوله عز وجل: {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 67/1-2]، قلت له لكي تجعل من الموت ميزاناً للتعامل مع حياتك، والميزان أولاً قَدَّم بيان الله عز وجل الحكيم الموت على الحياة لكي تعلم قبل أن تتعامل مع حياتك أنك ميت، ولكي تعلم أنك محكوم عليك بالإعدام، ومن ثمّ انظر كيف تتعامل مع الحياة على ضوء هذه الحقيقة تتعامل مع الحياة، فيا أيها الإخوة ما أحوجني وأحوجكم جميعاً إلى أن نجد العلاج الذي يقرّب البعيد، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَراهُ قَرِيباً} [المعارج: 70/6-7] نحن بحاجة إلى أن نرى البعيد قريباً كما أحب الله عز وجل لنا، كم نحن بحاجة إلى العلاج الذي ييسر لنا العسير، كم نحن بحاجة إلى العلاج الذي يهون علينا الأمر العظيم الذي يخيل إلينا أنه عظيم، ما العلاج، العلاج أن نتذكر الحكم الصادر في حق كل منّا {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 39/30]. متى؟ لا نعلم، لا الشباب مقياس، ولا الشيخوخة مقياس، ولا الطفولة مقياس، هذا أمر مخبوء في علم الغيب، ربما يأتي الأسبوع القادم ولن تجدوا شخصي على هذا المنبر، لا أعلم ولا أنتم تعلمون، فإذا تبين لنا هذا المعنى أيها الإخوة إذا أدركنا هذا المعنى، وجدنا فيه العلاج الناجع لكل هذا الذي أقوله لكم، تهون الدنيا علينا تهون أحداث الدنيا كلها علينا، لن نضع علائق الناس بنا في ميزان من الهم والغم بشكل من الأشكال، لا مدح الناس إن كالوا لي المدائح جزافاً يطربني وينعشني، ولا قدحهم يجرحني، أنا ميت أنا راحل، أنا واقف غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى، تمسكوا بهذا العلاج، ضعوه نصب أعينكم.

ورحم الله ذلك الشاب الذي لا أنسى خبره ذاك الذي كان ملازماً بل ملتصقاً بدروس كانت لقاءاتنا فيها في مسجد السنجقدار، كان ملتصقاً بهذه الدروس وكان عاملاً يسعى إلى عمله صباحاً ويعود مساءً على درّاجة، وذات يوم جاءني الخبر بوفاته، كيف توفاه الله، كان يركب دراجته عائداً من عمله إلى داره أو بالعكس، فخرّ ميتاً، جاءه ملك الموت على غير ميعاد، لم يبعث له نذيراً من مرض، لم يبعث له نذيراً من حادثة، لم يبعث له نذيراً من احتشاء، رأساً جاءه ملك الموت وهو في ريعان الشباب واستل روحه، نظروا إلى ما يحمله من أمور في مجال التحقيق وإذا في جيبه ورقة مطوية قد بَعُدَ عليها العهد كما دل الدلائل والقرائن على ذلك، فتحت هذه الورقة ونشر طيها وإذا هي وصية، يخاطب بها هذا الشاب أبويه، وصية، وصية ليت أن كل شاب يقرؤها ويحفظها، يوصي أبويه، بأن يسيرا على النهج الذي سار عليه يقول لأبويه: شعرت بلذة ما شعر بها أحد ممن اعتصر الدنيا متعاً ونعيماً وشراباً، لا نعيم إلا نعيم القرب من الله.

ها أنا عشت حياتي وتقلبت في دنياي وجعلتها مطية للسير إلى ربي وخالقي فهل لكم أن تسلكوا مسلكي. هل لكم أن تسيروا مسيري؟ حتى نلتقي غداً في رحاب الله سعداء.

أيها الإخوة هذه هي الحقيقة، تعالوا نَعِشْ في ظلها، تعالوا نَعُبَّ من شراب هذه الحقيقة، غداً يكرمنا الله بسعادة العقبى بعد أن أكرمنا بسعادة العاجلة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.