البكاء أختي نتيجة طبيعية لحالة قلب عمر فيه الإيمان ، وسلوك استقام على طاعة الله ، وروح تشربت العمل لهذا الدين ، وعاشت لله سبحانه وتعالى في كل شأنها . هكذا كان السلف الصالح، ومن هذا نتج بكاؤهم .

و البكاء شيء غريزي ، هذه هي الفطرة فالإنسان لا يملك دفع البكاء عن نفسه ، يقول الله تعالى : { وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم / 43 ] قال القرطبي في تفسيرها : " أي : قضى أسباب الضحك والبكاء " ، وقال عطاء بن أبي مسلم : " يعني : أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء ... " .

["]و لقد مدح الله تعالى البكائين من خشيته ، وأشاد بهم في كتابه الكريم : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء 107/108 ] .

قال القرطبي رحمه الله : " هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم . وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة , فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل . وفي مسند الدارمي أبي محمد عن التيمي قال : من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علماً ; لأن الله تعالى نعت العلماء , ثم تلا هذه الآية ... " . وهذا مصداقاً لقول الله عز وجل : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ فاطر:28 ] .
ثم تعال معي في بستان السنة نرتع في رياضها ونقطف أزهار الأحاديث التي تتكلم عن البكاء :

ففي حديث السبعة الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور الذي رواه البخاري وغيره : ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ) .

وروى أحمد والنسائي والحاكم والترمذي عن أبي ريحانة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ( حرمت النار على عين بكت من خشية الله ) .

وفي حديث أبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله ) .

وروى الترمذي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( عَيْنَانِ لا تَمسّهُمَا النّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحرُسُ في سبيلِ الله ) .

قال الطيبي من أئمة الشافعية في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ( عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله ) : كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه لقوله تعالى : { إنما يخشى اللّه من عباده العلماء } حيث وقع حصر الخشية فيهم غير متجاوزة عنهم فحصلت النسبة بين العينين : عين مجاهدة مع النفس والشيطان، وعين مجاهدة مع الكفار، والخوف والخشية متلازمان .

بالمجاهدة والعلم يتحقق المراد .

وقال الإمام المناوي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : ( وعين بكت من خشية الله ) :
" وليس المراد بالبكاء من خشية اللّه بكاء النساء ورقتهن فتبكي ساعة ثم تترك العمل ، وإنما المراد خوف يسكن القلب حتى تدمع منه العين قهراً ، ويمنع صاحبه عن مقارفة الذنوب وتحثه على ملازمة الطاعات فهذا هو البكاء المقصود وهذه هي الخشية المطلوبة لا خشية الحمقاء الذين إذا سمعوا ما يقتضي الخوف لم يزيدوا على أن يبكوا ويقولوا يا رب سلم نعوذ باللّه وهم مع ذلك مصرون على القبائح والشيطان يسخر بهم كما تسخر أنت بمن رأيته وقد قصده سبع ضاري وهو إلى جانب حصن منيع بابه مفتوح إليه فلم يفزع وإنما اقتصر على رب سلم حتى جاء السبع فأكله " أ.هـ من فيض القدير .

كلما ازددت طاعة ، ازددت تقوى ، كلما بعدت عن المعصية ، ازددت قربا ، كلما كنت موافقا للشرع الحكيم ، كلما هاجت النفس بمعاني الإيماني ، وعبرت العيون بطريقتها .

و قال الإمام المباركفوري في تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي في العين الباكية من خشية الله وعصمتها من النار : " وهي مرتبة المجاهدين مع النفس التائبين عن المعصية، سواء كان عالماً أو غير عالم " .

ولا يعني هذا أن المرء لا يعصي ، ومن ذا الذي لا يعصي ، لكن المهم التوبة ، المتكررة المتجددة بها تدمع العيون وتلين القلوب .. { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [ لنجم:32] .


لقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه تعالى عشرة أنواع للبكاء هي :
- بكاء الخوف والخشية .
- بكاء الرحمة والرقة .
- بكاء المحبة والشوق .
- بكاء الفرح والسرور .
- بكاء الجزع من ورود الألم وعدم احتماله.
- بكاء الحزن .. وفرقه عن بكاء الخوف : أن الأول - الحزن - يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب ، وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يُفرح به هو " قرة عين " وأقرّ به عينه ، ولما يُحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله به عينه .
- بكاء الخور والضعف .
- بكاء النفاق وهو : أن تدمع العين والقلب قاس .
- البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة فإنها كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها .
- بكاء الموافقة : فهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون .

أختي مقبلاً على الطاعات ، واختري منها ما يزيد الخشوع في قلبك ، ويحرك المعاني في نفسك ، وسترى الدموع تنطلق بصدق وإخلاص ..

قال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } سورة الحديد .

يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : " عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم ; واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله ; فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها , ونزل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور ; وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر .

عتاب فيه الود , وفيه الحض , وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله , والخشوع لذكره , وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام .. إن هذا القلب البشري سريع التقلب , سريع النسيان . وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور , ويرف كالشعاع ; فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا , وانطمست إشراقته , وأظلم وأعتم ! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع , ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ; ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة .

ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد؛ فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة , وأن يشرق فيه النور , وأن يخشع لذكر الله ؛ فالله يحيي الأرض بعد موتها , فتنبض بالحياة , وتزخر بالنبت والزهر , وتمنح الأكل والثمار . . وكذلك القلوب حين يشاء الله " [ في ظلال القرآن /3489].

أختي الحبيبه : لمريد البكاء خصائص مهم عليه أن يتحلى بها ، ومنها :


* الخوف من الله عز وجل : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } . وقال سبحانه : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ الزمر:23 ].

* الصبر .



* الحرص على الصلاة .


* الإنفاق : قال تعالى : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ الحج 34/35 ] .

* اليقين بلقاء الله : قال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة:45/46 ] .

* تعظيم شعائر الله : قال عز وجل : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عمران:199] .

تعميقي هذه المعاني في نفسك ، واجعل الخوف من الله تعالى أولها ، ثم صبرك الجميل ، وتفنن في المحافظة على الصلاة ونوافلها والمواظبة عليها ، وأنفق في سبيل الله من مالك ووقتك في خدمة هذا الدين ، وتعلق بالله وحدة بيقين ، ولا تستهن بأمر من أمور الشرع الحكيم ،، وقتها سترفل ببكاء رباني ينعم الله به عليك ..