القسم السابع عشر

صدقه ومروءته صلى الله عليه وسلم


إذا كان الصدق خلقاً تدعو إليه الفطرة وتحبّذه – ولو لم يكن هناك شرع يدعو إليه ويرغب فيه- فإن كل ذي فطرة سليمة يحافظ عليه ويلتزم به على كل أحواله.
وقد اشتهر بعض أشراف العرب بذلك قبل الإسلام لأغراض دنيوية، واعتبارات اجتماعية، فإذا عُلم من أحدهم كذباً سقط من اعتبارهم، وانتزعت الثقة منه، وباء بخسارة تجارته وانتقاص منزلته.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد تحقق فيه خلق الصدق والمروءة بأبهى صورها منذ بزوغ نجمه، ونعومة أظفاره، واطراد شبابه، محبة له وقناعة بقيمته وحسن عاقبته، فما كان يعرف في قومه إلا بالصادق والأمين ولماً يوح إليه بعد.(1)
وحينما اختاره ربه تبارك وتعالى لتبليغ رسالته، وبيان شريعته، كان رسوخ الصدق في شمائله عظيماً والداعي إليه كبيراً، حيث كان من دلائل نبوته، وأمارات اصطفائه . ويؤكد ذلك قول الله تعالى:
(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(2) وقوله تعالى:
(قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم)(3).
فكانت رسالته هي الصدق كله والحق عينه، ويستحيل أن ينحرف لسانه أو يتطرق إلى منطقه وسلوكه حرف زور أو ميل وجور، ولذا فإن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن آفة الكذب عمداً أو سهواً واجبٌ بالدليل الشرعي، والعقلي، والبرهان السابغ والإجماع.
إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة، رسالة دائمة على ممر الزمان ويستحيل عقلاً وواقعاً تواتر العمل بها واستمرائها من غير مقومات راسخة ودعائم متينة من الصدق الذي لا تحريف فيه ولا كذب في نقل الخبر وبيان الأثر.
فالثبات والاستمرارية يتطلبان ضرورة وجود العصمة في نقل الأخبار حتى تتلقاه الأمة، ويستقر تعلقه في الذمّة.(4)
ولقد كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم وقسماته النيرة شاهداً آخر على مبلغ مكانته من الصدق، في الجد والهزل، والقول والفعل، وأنه الصادق المصدق، كما ثبت من الحبر عبدالله بن سلام (رضي الله عنه) الذي ما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى استيقن صدقه وعرف أن وجهه ليس بكذّاب، وأعلن إسلامه وتبرأ من كيد اليهود وتكذيبها وعنادها.
وأجاد عبد الله بن رواحة حين قال:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بديهته تنبيك بالخبر(5)
وكانت شهادة زوجه خديجة (رضي الله عنها) في أوائل نبوته وبدء نزول الوحي عليه بالصدق المعهود والمروءة التامة من دلائل اصطفاء الله له، وبشائر إرادة الخير له، وحفظه من كل سوء، قالت: "أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبداً، فو الله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث...".(6)
فهذه شهادة من خبر أخلاقه، وسبر أحواله، وعرف سيرته ولا ينبئك مثل خبير.
قال الكاتب المستشرق الانجليزي (Heg Wells):
"إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكّوا في صدقه لما آمنوا به."(7)

الهوامش:

(1) ينظر: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/412).
(2) سورة النجم، الآية: 3-4.
(3) سورة النساء، الآية: 170.
(4) ينظر: شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم ص480.
(5) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة (1/412).
(6) متفق عليه.
(7) الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب (ص132).
القسم الثامن عشر

عدله وإنصافه صلى الله عليه وسلم

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ...".(1)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ". (2)
العدل مطلب إيماني مقدس، وخلق رباني نفيس، كيف لا وقد أنزله المولى سبحانه على رسله قرينا للكتاب الذي يهدي الناس لتوحيده وعبادته، قال تعالى:
( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ).(3)
إنه أساس الدين، به قامت السماوات والأرض، وبعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وصلحت الحياة، وشرفت الآخرة، ونصبت الموازين، وثبتت القرب من الرب تعالى يوم الدين.
والإسلام دين العدالة، وأمته الأمة الوسطية، التي اختار الله لها نبيها محمد صلى الله عليه وسلم المصطفى على الناس برسالات الله، خير من تعبّد الله تعالى بالعدل والإحسان في القول والحكم والمعاملة، مع النفس والناس، القريب والغريب، مع ما تهيأ له من أسباب القوة والنفوذ والسلطة.
وإن موقفا واحدا من بطولات عدله صلى الله عليه وسلم لينطلق بمعانٍ غزيرة من الإنصاف يعجز عنها البيان ويكّل منها الوصف.
ذلكم موقفه صلى الله عليه وسلم مع امرأة انتهكت حدا من حدود الله سبحانه؛ تروي لنا عائشة رضي الله عليها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه أسامة فقال رسول الله:
"أتشفع في حد من حدود الله! ثم قام فخطب ثم قال:
إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". (4)
لعمر الله ما أعظم هذا القسم بالله، وما أعظم ما أقسم به، لقد عاهد ربه سبحانه أن يحكم بين الناس بالعدل ولو كان الظالم بضعة منه، وحاشا ابنته رضي الله عنها أن تتلطخ بهذا الذنب، ولكنه منطق الحق ومقالة الصدق التي تجري أحكامها وتظهر آثارها على القريب والبعيد والشريف والوضيع والمسلم والكافر.
لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم قوّاما بالعدل بل يتعداه إلى الفضل والإحسان ويرغب أصحابه وأمته بفضله، كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يوم القيامة، فجعل في مقدمة المثابين بالظلال الوارفة، والأفياء الباردة في يوم تدنو فيه الشمس الحارقة من رؤوس الخلائق، الإمام العادل وبدأ به قبل غيره لما في إقامة العدل بين الناس من صلاح أمور الدين والدنيا، واستقامة شؤون الحياة وانتظام أمر الدولة.
وفي الحديث الآخر كان المقسطون الملتزمون به في كل ما أمر به هم أحباب الله تعالى :
( إن الله يحب المقسطين) (5)،
الذين يقربهم من جلاله يوم العرض الأكبر ويشرفهم بدنوه منهم، ويجلسهم على منابر من نور.
منابر ليست مقاعد ولا كراسي، بل منابر عالية يجلسون عليها رفعة لهم وعزة وكرامة، لاستعلائهم على شهواتهم وترفعهم عن أهوائهم.
من نور يضئ بهم زيادة في تشريفهم ونعيمهم ليراهم الخلق أجمعون.
وختام ذلك الفضل العظيم الدنو من الرب جل جلاله، وأكرم به من نعيم وشرف كبير،
" على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين " ما أعظمك ربنا وما أكرمك، وما أوسع فضلك وما أبلغ ثوابك.
وما أحرانا أن نتحلى بهذا الخلق العظيم مع أنفسنا وأهلينا وما ولّينا.


الهوامش:

(1) صحيح البخاري ج6/ص2496.
(2) صحيح مسلم ج3/ص1458.
(3) سورة الحديد: الآية 25.
(4) صحيح البخاري ج3/ص1282.
(5) سورة المائدة: الآية 42.

القسم التاسع عشر
شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم

عن علي رضي الله عنه قال" كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحد منا أدنى إلى القوم منه ".(1)
عن أنس بن مالك قال ذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " كان أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلقوا قِبَل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه من سرج في عنقه السيف وهو يقول: " يا أيها الناس لن تراعوا " يردُّهم، ثم قال للفرس: " وجدناه بحرا " أو " إنه لبحر ".
قال حماد: وحدثني ثابت أو غيره قال: كان فرسا لأبي طلحة يُبطَّأ فما سبق بعد ذلك اليوم ".(2)
لقد امتاز الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بعزيمة قوية، وشجاعة نادرة، لكمال إيمانهم وقوة يقينهم بالله، وصدقهم مع الله تبارك وتعالى، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قمة هذه الأوصاف، من الشجاعة الأدبية والقتالية، فكان ثابت الجنان عند مخاطبة أهل الكفر والطغيان لا يخاف في الله لومة لائم، وظل مقداما شجاعا في مقارعة الأعداء والصبر على اللأواء.
حيث حضر المعارك الحاسمة، والغزوات الطاحنة، التي تبلغ ( 27 ) غزوة بدءاً بغزوة ( بواط ) وانتهاءً ( بتبوك ) فثبت كالطود العظيم، شامخا مقداما في أشد أوقات الأزمة والمحنة، وكان الأبطال المبرزون يحتمون ويتترسون به من ضرب السيوف ورمي السهام، وهو أقرب المقاتلين إلى العدو يواجههم ويقاتلهم ثابت القدم، رابط الجأش، مطمئن القلب (3).
وظلت شجاعته صلى الله عليه وسلم في الصورة المثلى التي لا يدانيه في مثلها أحد من الشجعان، مما يجعل نواصي الأبطال في تاريخ البشرية تتواضع لشجاعته وإقدامه إكبارا له وتبجيلا.
وهذا التميز الفريد سوّغ له أن يكون مأمورا بقتال المشركين إذا واجهوه ولو كان وحده، لكمال شجاعته(4), كما في قوله تعال( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرّض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) [ النساء : 84 ].
كان محمد صلى الله عليه وسلم شجاعا لكن في رحمة، وجريئا صنديدا لكن في الحق، بطلا في تواضع وحكمة.
على عكس ما قد يحصل لكل شجاع مغوار مغتر ببطولته، طاغ في قوته ونفوذه وجبروته.
فحين يلوح نذير خوف يذعر الناس ويفزع القلوب نرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول من ينطلق قِبَل الداعي، يسبق الفرسان الشجعان بأقرب فرس يركبه ليسرع به إلى مراده، ولفرط شجاعته وسرعة نجدته لم ينتبه لسرج فرسه ولم يكترث بعريّه منه.
ويمضي صلى الله عليه وسلم مستطلعا الأمر، مستجليا الحقيقة، على دابة غدت كالبحر في سرعة هيجانه وتقلب أمواجه، فإذا الصوت المفزع ضرب من المعتاد من الحيوان أو الجماد.
فانقلب الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الناس يطمئنهم ويبشرهم بالأمان بقوله " يا أيها الناس لن تراعوا ".
يقف وحده في الميدان ومواجهة الأخطار، ويردهم عن الخروج في طلب أثر الصوت لئلا يشق عليهم النفير إليه.
فيا لله .... أي قوة تفتق منها هذا الرفق، وأي بأس جر معه ذلك الحرص على الناس قبل النفس.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الـــكــرام الـمـكـــارم
وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بــك الأبــــطــال كلــمى هـــزيمـــة * ووجـــهــــك وضــــاح وثـــغــــرك بــــاســم (5)

الهوامش:

--------------------------------------------------------------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين ج 2/ص 155 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) هذا الحديث صححه الألباني صحيح سنن ابن ماجه ج2/ص384 برقم 2254.
(3) ينظر شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم (ص 123).
(4) ينظر تفسير ابن كثير (1/530) وتفسير القرطبي (5/90) وأخلاق النبي في الكتاب والسنة (3/1343).
(5) أبيات من قصيدة أبي الطيب المتنبي

القسم العشرون

صبره وتضحيته صلى الله عليه وسلم

عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشدّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال" "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )"(1).
وعن عائشة ( رضي الله عنها) زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: " لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال؛ فسلم علي، ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً (2).
* * * *
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل دعوةً وبلاغاً وجهاداً، و من ثم كان أكثرهم ابتلاءً وإيذاءً و أعداءً، بل كان الابتلاء حليفه منذ ولادته يتيما فاقداً أباه ثم أمه متنقلاً من حضن إلى حضن، تكلؤه عناية الله، وتحوطه مبرته، حتى أشرقت شمس الدعوة إلى الله تعالى، وحينها اشتد الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولاقى من قومه وعشيرته وقرابته ما يشيب منه النواصي، ويزلزل الجبال الرواسي!
لقد نصبوا له العداء، فرموه بكل ما قدروا أن يرموه به من السحر والكهانة والشعر والجنون، وغير ذلك مما درجوا على التفوّه به زوراً وبهتاناً، وهو البراء من ذلك كله، فلازم الصبر الجميل الذي تواتر حضّ الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته به في مواضيع كثيرة من كتابه الحكيم كما في قوله:
(واصبر وما صبرك إلا بالله) (3) وقوله تعالى:
(فاعبده واصطبر لعبادته) (4) ،وقوله تعالى:
(واصبر نفسك من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (5).
وما فتئ القرآن الكريم يذبُّ عنه افتراءاتهم، ويدحضُ أباطيلهم، فتبوء أقوالهم بالخيبة والخسران.
وحتماً.. لشريفُ القدر، العظيم الهمة، الكريم المعدن، لا يقدر على تحمل ذلك؛ فقول الزور والبهتان ينزل على مسامعه وقلبه كالصواعق، فتهد كيانه، وتشغل فؤاده، حيث يعلم براءة نفسه، وعزة أصله، وصدق منطقه، ثم هو بما يمتلكه من إحساس مرهف ورقة مشاعر يضيق صدره بما يقلون، وتتألم نفسه عند سماع تلك الأقوال الباطلة الأفاكة، لاسيما من قومه وقرابته الذين يعرفون أمانته وصدقه كما يعرفون أنفسهم وأبنائهم.

وظلم ذوي القربي أشدُّ مضاضة ** على النفس من وقع الحسام المهند(6)

ويعظم البلاء به صلى الله عليه وسلم لعظم جهلهم وتمادي طغيانهم وقسوة قلوبهم، حتى بالغوا في إيذاء الحبيب صلى الله عليه وسلم جسديا ومعنويا – بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم – فأُخِذ بتلابيب ثوبه حتى سقط على ركبتيه، ولوي عنقه بالثوب حتى خنق خنقاً شديداً، ووضع سلا الجزور على ظهره الشريف، وهو ساجد لربه تعالى! (7).
ورمي بالحجر حتى أدميت قدماه، ودبر قتله في مكيدة عظيمة، وشق وجهه، وخرج طريداً من الطائف مهموم القلب حائراً ... يدعو مولاه سبحانه ويشكو إليه ضعف قوته وقلة حيلته، وهوانه على الناس، مناشداً رب المستضعفين مستعيذاً بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات أن ينزل به غضبه، أو يحل به سخطه!
فيرسل له ربه له ملك الجبال ويراوده أن يطبقها على مكذبيه إن شاء فيجيبه: بل أرجو أ يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" !
فعجباً ثم عجباً لصبره الجميل وتحلمه الذي عز عن المثيل!
صبر.. يستحيل العذاب معه إلى لذة مناجاة، وقرب من مولاه!
صبر .. يرتقب من زواياه الضيقة وآلامه المبرحة أفقاً رحباً وأملاً ممتدا لأمة توحد الله وتعظم حرماته وتحقق شريعته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــ
(1) صحيح البخاري ج4/ص1814 برقم(7).
(2) متفق عليه، صحيح البخاري ج/3ص1180 برقم (3059) وصحيح مسلم ج3/ص1420.
(3) سورة النحل، الآية: (127).
(4) سورة مريم، الآية: (65).
(5) سورة الكهف، الآية: (28).
(6) من قصيدة طرفة بن العبد الكعبي.
(7) ينظر إلى كاتب هذه المقالة إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة ( 1/440 ) فيه مبحث رائع لصفة الصبر


الخاتمة
بعد رحلة سريعة ماتعة في رياض الشمائل النبوية الزاخرة بألوان الجمال, الساحرة بأفانين الأدب الحسان, نقف لنستجلي آثار تلك الشمائل على شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وأمته ونقطف بعض ثمارها.

1- الاستدلال بها على صدق نبوته, واصطفائه للرسالة, والإيمان به, فلم يكن في عصره ومن بعده من داناه في كماله خلقاً وخلقاً, فهو كما وصفه الذي اختاره بقوله تعالى:
{ وإنك لعلى خلق عظيم } ـ ( 1 ).
وحقيق لمن بلغ من الفضائل غايتها, واستكمل لغايات الأمور آلتها, أن يكون لزعامة العالم مؤهلاً, وللقيام بمصالح الناس موكلاً, ولا غاية بعد النبوة فاختص بها صلى الله عليه وسلم (2).
وقد حظي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفضائل وكرامات فاقت غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مصداقاً لقوله تعالى:
{ ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً } (3).

كيف ترقى رقيك الأنبياء ** يا سماء ما طاولتها سماء ؟!!(4).

2- تجلي معنى القدوة الحسنة, ففي شمائله الكريمة تطبيق عملي لما أمر الله به من الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة, قال تعالى:
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } (5), وتحقيق لمكارم الأخلاق التي دعا إليها الإسلام وحثّ عليها القرآن الكريم, كما قالت عائشة رضي الله عنها في وصفه: "كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه"(6).
وبذلك عرف أن كمالات خلقه لا تتناهى كما أن معاني القرآن لا تتناهى, وأن التعرض لحصر جزئياتها غير مقدور للبشر) (7).
وظل الناس يلمسون طيب شمائله في معاملته لهم, و ولايته عليهم, ومعاشرته ومأكله ومشربه ومدخله ومخرجه وحله وسفره, وسلمه وغزواته وسائر شؤون حياته, ويتأسّى بها من اهتدى.

3- تحليه بهذه الشمائل الفاضلة, بتوازنها وتكاملها وثباتها وانسجامها يجعل شخصيته معجزة خالدة ! يعز نظيرها في الواقع, إذ هو النبي الذي كملت فيه معاني الإيمان, وآداب الإسلام, ومقام نبوته شامل لكل أنواع الحكمة والعبادة والأدب, جامع لكل خير وعزّ وسؤدد.

4- أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مبنية على أصول قطعية الثبوت والدلالة من العلم الإلهي, فلم تنشأ من تجربة أو فلسفة, أو تعليم وتدريب, فشمائله كانت في أصل خلقته واكتملت بعد نبوته بالجود الإلهي والفيض الرباني الذي لم تزل تشرق أنواره في قلبه إلى أن وصل لأعظم غاية وأتمّ نهاية.
وتلك الشمائل هي وعاء النبوة, وأسُّ الوحي, وجوهر العناية الربانية (8), قال تعالى:
{ وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما } (9), وهي قرينة لعلمه الجم الذي دعا ربه أن يزيده منه:
{ وقل رب زدني علما }(10).

5- محبة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أصحابه وأمته, وتأليف القلوب إليه, وشهادة المنصفين من أعدائه بعظمته وبراءته من أي نقص خلقي.

شهد الأنام بفضله حتى العدا ** والفضل ما شهدت به الأعداء

وقد زخرت السيرة النبوية بمواقف متوافرة من حياة الصحابة رضي الله عنهم تدلل على عمق محبتهم, وصدق مودتهم, حتى استرخصوا النفس والمال والولد والأهل فداء له ولدينه, وبادروا لتقديم ما يجب له من الصلاة عليه, والدفاع عنه وتعظيمه, واتباع سنته.

6- فضيلة التأسي بأخلاقه النبيلة, وسجاياه الكريمة, وأثرها على النفس بهدايتها وزكاتها واطمئنانها, والأسرة بتآلفها ونجاحها واستقامتها, والأمة بصلاحها ونصرها وسعادتها.

وختاماً.. نسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, وأن نكون لسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مقتدين , وبشمائله ممتثلين, وبالحق عاملين, وفي الجنان منعمين, الله آمين.

الهوامش:

(1) سورة القلم الآية: (4).
(2) أعلام النبوة للبوصيري (2 304)
(3) سورة الفتح الآية: (2).
(4) من قصيدة أحمد شوقي.
(5) سورة الأحزاب الآية: (21).
(6) والمعنى: العمل به والوقوف عند حدوده والتأديب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وتدبره وحسن تلاوته عون المعبود (4/ص154), والحديث أخرجه الطبراني في الأوسط (1/30) وأحمد في مسند من طرق عدة عنها (6/91), (6/163), (216).
(7) فيض القدير (5/ص 170).
(8) شمائل المصطفى ص 106
(9) سورة النساء الآية: (113).
(10) سورة طه الآية: (114).

هذا من فضل الله ومنه واحسانه وتوفيقه
بارك الله لي ولكم بالقران العظيم وبرسوله سيد العالمين والاكرمين