القسم الخامس

ما جاء في صورة خلقته - صلى الله عليه وسلم -

عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، ولا بالأبيض الأمهق (الشديد البياض الخالي عن الحمرة كالجصّ)؛ بل كان بياضه نيّرا مشربا بحمرة)، ولا بالآدم (شديد السمرة)، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط (شعره متوسط بين التجعد والاسترسال)، بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشرا، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء"(1).

وعن علي- رضي الله عنه- قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين والقدمين (يميلان إلى غلظ وقصر)، ضخم الرأس، ضخم الكراديس (عظيم رؤوس العظام وجسيمها)، طويل المسربة (ما دق من شعر الصدر)، إذا مشى تكفأ تكفؤا (يمشي إلى الأمام)، كأنما انحط من صبب (ينزل من منحدر الأرض لقوة مشيه)، لم أر قبله ولا بعده مثله "(2).

وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم، أشكل العينين، منهوش العقب، قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم ؟ قال: واسع الفم، قلت: ما أشكل العين ؟ قال: طويل شق العين. قال: قلت: ما منهوش العقب ؟ قال: قليل اللحم."(3)

عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإلى القمر، وعليه حلة حمراء، فإذا هو عندي أحسن من القمر"(4)

النفوس المحبّة تتوق إلى ملاقاة محبوبها؛ لتنعم العين برؤيته، ويأنس الفؤاد بقربه ومودته، ويبلغ الشوق غايته، والحب ذروته، عندما يكون المراد هو قرة عيون المؤمنين، خاتم النبيين والمرسلين، محمد - صلى الله عليه وسلم-، فما تنفك الخواطر الحرّى تتلمس طرفاً من أخبار نعوته، وبيان صفاته؛ لتطمئن برؤية خياله، كلما أعياها الظفر بوصاله، واكتوت حزنا على بعده وفراقه.

طيف تجلّى نوره ساطعاً * حتّى رأته مقلة الهائم(5)

و هذه الروايات الثابتة عن أصحابه- رضي الله عنهم- تحكي أوصافاً شاملة لجمال صورته، وروعة خلقته، ممن عرفه عن كثب، وخالطه عن قرب، تنبيك دقّة بيانها، واستيعاب تفاصيلها عن غزارة الحبّ العظيم الراسخ في الفؤاد، كأغلى ما يحبه أحدنا من زهرة الحياة الدنيا وزينتها، يتلذذ بمرآه صباح مساء، ولفرط حرصه عليه، وشوقه له، يحفظ أدقّ تفاصيله، وصفات شكله!.

وبعد... فهذا الخلق الفائق في الحسن والتناسق، المبدع في التصوير، المخرج في أحسن تقويم، كالقمر المنير في أديم السماء يتلألأ إشراقا وبهاءً، أراده الخلّاق الحكيم – سبحانه- ليكتمل به إعداد الشخصية النبوية المكلّفة بأعباء الرسالة العالمية، فيكون حسن مظهره سبباً لائتلاف القلوب عليه، وميلها إليه؛ فإن النفوس فطرت على حب الجميل تنساق له طواعية، وما جمال ظاهره بأحسن من كمال باطنه، وطهارة سيرته، وطيب حياته كلها - صلى الله عليه وسلم-.

أكرمْ بخَلْق نبيّ زانه خُلـُـقٌ، بالحسن مشتملٍ، بالبشر متَّسـمِ، كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ

والبحر في كرمٍ، والدهر في هِمَمِ، كأنه وهو فردٌ من جلالتــه في عسكرٍ حين تلقاه وفي حشـمِ

كأنما اللؤلؤ المكنون في صدفٍ، من معْدِنَي منطقٍ منه مُبْتَســم، لا طيبَ يعدلُ تُرباً ضم أعظُمَـــهُ

طوبى لمنتشقٍ منه وملتثــم(6)


الهوامش:

(1) - جامع الترمذي (3623) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني :صحيح .

(2) - ،جامع الترمذي ( 3637) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني :صحيح .

(3) - جامع الترمذي (3647)و قال أبو عيسى :هذا حديث حسن صحيح ، وقال الألباني : صحيح .

(4) - جامع الترمذي (2811) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب .

(5) - تزيين الأسواق بمصارع العشاق (2/418) .

(6) - بردة البوصيري

القسم السادس


ضحكه، ومزاحه - صلى الله عليه وسلم-

عن جرير -رضي الله عنه- قال :" ما حجبني النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي ..."(1) الحديث .
وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه ".(2)

عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا قال :"إني لا أقول إلا حقا ".(3)

البسمة آية من آيات الله تعالى، ونعمة ربانية عظيمة، إنها سحر حلال تنبثق من القلب، وترتسم على الشفاه فتنثر عبير المودة، وتنشر نسائم المحبة، وتستلّ عقد الضغينة والبغضاءً لتحل ّالألفة والإخاء، وكما قال ابن عيينة -رحمه الله -: البشاشة مصيدة القلوب. وأوصى ابن عمر- رضي الله عنه- ابنه فقال:

بنيّ إن البر شيء هيّن ** وجه طليق وكلام ليّن

لقد أرسى الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم- خلق البسمة والبشاشة، وعلّم الإنسانية هذه اللغة العالمية اللطيفة بقوله، وفعله، وسيرته العطرة.
فكان - صلى الله عليه وسلم- بسّام الثغر، طلق المحيا، يحبه بديهة من رآه، ويفديه من عرفه بنفسه وأهله، وأغلى ما يملك!
لقد كانت تبسمه لأهله وأصحابه بذرا طيبا آتى أكله ضعفين، خيراً في الدنيا، وأجراً في الآخرة .
أما الخيرية العاجلة ؛ فانشراح القلب، وراحة الضمير، ومنافع صحية أخرى أثبتها الأطباء على البدن، ويتبعها مصالح اجتماعية وشرعية من تأليف القلوب وربطها بحبل المودة المتين، وترغيبها لحب الدين ، فالبسمة بريد عاجل إلى الناس كافة، لا تكلفنا مؤنا مالية، أو متاعب جسدية؛ بل تبعث في ومضة سريعة يبقى أثرها الحميد عظيما في النفوس!
والخيرية الآجلة ؛ الثواب المثبت في جزاء الصدقة، وبذل المعروف ، فالتبسم في وجه المسلم صدقة فاضلة، يسطيعها الفقير والغني على حدّ سواء.
وربما ساغ للبعض البخل بالابتسامة، وإيثار العبوس والجفاء، للظهور بما يظنه سمت أهل العبادة والزهد، أو يحسب بشاشته سبباً لقسوة القلب وغفلته، وذهاب المروءة ! فأين هو من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم- وسنته، ويسر دينه ورحمته ؟!.
ألا ترى كيف ضحك الحبيب - صلى الله عليه وسلم- ابتهاجاً برحمة ربه - تبارك وتعالى- حتى بدت أنيابه ، وكان يداعب الصغار ويسليهم ، ويؤانس أصحابه الرجال ويمازحهم ، حتى يقول القائل منهم متعجباً لسماحته -صلى الله عليه وسلم- : (إنك تداعبنا ؟!) فلا يمنعهم مزاحه، ولا يعتبره منافيا لمقام النبوة، وشرف الرسالة، ومهام الدعوة إلى الله تعالى .
و يكتفي لأصحابه بضابط الدعابة الحسنة بقوله:" إني لا أقول إلا حقاً " أي صدقاً وعدلاً.
فالمداعبة مطلوبة محبوبة، لكن في مواطن مخصوصة، فليس في كل آن يصلح المزاح، ولا في كل وقت يحسن الجد.


أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى ** وإني إذا جدّ الرجال لذو جدّ


قال الراغب - رحمه الله -: المزاح والمداعبة إذا كان على الاقتصاد محمود، والإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرّئ السفهاء، وتركه يقبض المؤانس، ويوحش المخالط.
فالمنهي عنه ما فيه كذب، أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشغل عن ذكر الله تعالى(4).
وبعد، فهل يترقى المربون، والمعلمون، والدعاة، والموجهون، والآباء، والأمهات والمسؤولون، والرعاة إلى أن تعلو شفاههم البسمة فيقتدي بهم من كان تحت أيديهم وتحت رعايتهم؟!.

الهوامش:

(1)- صحيح البخاري (5739).
(2) - صحيح مسلم (190).
(3) - سنن الترمذي (1990) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
(4) - فتح الباري 10 /526 ، تحفة الأحوذي 6/108، فيض القدير 3/14.


القسم السابع

صفة أكله و طعامه - صلى الله عليه وسلم

عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاوياً، وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)(1).
عن مسروق قال دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فدعت لي بطعام وقالت: ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قال قلت: لم؟ قالت:
(أذكر الحال التي فارق عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الدنيا والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم)(2).
عندما نلقي الضوء على مائدة خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم- خير هذه الأمة وأزكاهم عند ربه تبارك وتعالى فلن تطول القائمة بأصناف الطعام الفاخرة، وألوان الشراب الشهية، لا ولا الآنية الثمينة والسفر العامرة!.
لم تكن هذه اللذائذ حاضرة في ذهنه المشغول بالدعوة إلى الله تعالى، وتعليم شرعه، وبيان فرائض دينه، ولم تسيطر تلك الشهوة على قلبه المتعلق بالله تبارك وتعالى، وابتغاء مرضاته ، ولم تشغل من وقته إلا حيزًا يسيرًا بقدر ما يشبع رمقه، ويدفع جوعه، وربما بات ليالي طاوياً لا يجد ما يطعمه!
نعم لقد آثر أن يشبع يوماً ويجوع يوماً ليتقلب بين نعمتي الشكر والصبر، ذاق طعم الجوع، و لو شاء لسأل الله سبحانه كنوز الأرض ورغدها وطيب عيشها، ولكن ما له وللدنيا!! فكم أنفق مما أفاء الله عليه من خيل، وركاب، وأموال على أصحابه، ومضى لبيته خليّاً، راجيا نعيم الآخرة، داعياً ربه:
(اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)(3).
إن طلب القوت من الرزق و الإعراض عن المباهج ليس ازدراء لنعمة الله تعالى، أو تعاظما على فضله، كلّا وحاشا.
و لا يعني أبداً حبس النفس و مضّارتها بصدّها عن تحصيل حاجاتها الضرورية ، فقد أحل الله لنا الطّيبات من الرزق ، كما أنزل سبحانه في كتابه على رسوله - صلى الله عليه وسلم-:
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقْكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيـِّباً و اتَّقُوْا اللهَ الَّذِيْ أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُوْنَ )(4)، وقال تعالى: (كُلُوْا وَاْشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا )(5) ،
وقد طعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- اللحم و الثريد ، وأعجبه الدّباء والعسل، والشراب الحلو، ونحوها من المأكولات المعروفة في عصره ، لكنه لم يداوم على الأصناف الشهية المفضّلة عند عامة الناس ، بل أحب الزهد فيها، وطلب القوت من الرزق؛ تأصيلاً لمنهج التقوى والقناعة بما قسم الله تعالى، والارتباط القوي بالدار الآخرة، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وأن النعيم الآجل لا يدرك بالنعيم العاجل .
إن اقتصاده في العيش، و تعرّضه للجوع أياماً ، لم يحبطه و يحرمه الشعور بالسعادة، و لم يقعده عن النجاح في تحقيق أهدافه ، فقد نال أشرف المعالي بتبليغ الرسالة، وتعليم القرآن، وهداية الأمة إلى دين الله تعالى،وبناء مجتمع صالح،والكثير الكثير من المنجزات الخالدة الفريدة،بل هو السابق إلى كل خير،والمؤسس لكل صلاح ديني !
ألا فلنتدبر هديه - صلى الله عليه وسلم- في تربية النفس على الكفاف في كل ما يتّصل بأمر الدنيا، و صيانتها عن الترفّه والإسراف ، والتعفف عن مذلّة السؤال، والحاجة إلى الناس، والرضى بما قدّر الله تعالى من الأرزاق والنعم .
و في هذا المعنى قال الشاعر:

دع الحرص على الـدنيا ** وفي العيش فلا تطمع

فـإن الرزق مـقـسوم ** وسوء الـظن لا ينفع

فقيـر كـل ذي حرص ** غنيٌّ كـل مـن يقنع

• عن أنس - رضي الله عنه - قال:
(كان النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث )(6).
• و عن أبي جحيفة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لا آكل متكئا)(7).
إن المتأمل لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم- في النمط الغذائي المتمثل في نوعية طعامه وكميته، وكيفية تناوله يجد في شمائله الكريمة القوانين الصحيّة القيّمة التي ينادي بها الأطباء للتغذية السليمة، وحفظ الصحة.
وللوقوف على شيء من تلك الهداية النبوية (الصحية) نستعرض حديثا واحداً رواه المقدام بن معد يكرب يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول :
(ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسبك يا بن آدم لقيمات يقمن صلبك، فإن كان لا بد فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس).(8)
في هذا الحديث يدعونا الحبيب - صلى الله عليه وسلم- إلى الاقتصار على لقيمات تدفع حرارة الجوع ، ولفظ (اللقيمات) يوحي بصغر حجم اللقمة، وقلة عددها، وأن هذا المقدار يكفل للجسم الكفاية من العناصر الغذائية التي يحتاجها ليقيم صلبه.
وفي قلة الأكل وترك النهم منافع كثيرة، منها: أن يكون الرجل أصح جسما، وأجود حفظا، وأزكى فهما، وأقل نوما، وأخف نفسا، وفي كثرة الشبع كظ المعدة، ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه المقل في الأكل، وقال بعض الحكماء : أكبر الدواء تقدير الغذاء.(9) و ذكر هذا الحديث لبعض الفلاسفة فقال :ما سمعت كلاما في قلة الأكل أحكم من هذا.(10)
وفي وقتنا المعاصر الثري بالتقنية والعلوم التخصصية الحديثة نلمس قيمة هذه النصيحة النبوية الدقيقة المعجزة في مجال الصحة!.
ونرى في مجتمعاتنا المسلمة آثار التخلّي عن تطبيقها بتفشّي أمراض البدانة، وما يترتب عليها من إنشاء المراكز الصحّية للعناية بتقليل الوزن، و إعداد البرامج الغذائية للتخفيف والحمية و صرف العقاقير الطبية ، ونحوها مما يستنزف الوقت، والمال، والجهد، والصحة!
إننا بحاجة ماسة إلى تطبيق آداب الطعام النبوية في حياتنا اليومية؛ لنحقق سنة الاتباع لسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم-، وننال بركة الاسترشاد بهديه القويم في صلاح الخلق، وتهذيب النفس إلى جانب حفظ الصحة، وسلامة البدن.
ومن المعاني النبيلة المقترنة بالأكل التواضع عند أخذ اللقمة، وعدم الاتكاء إلا عند المشقة، والتيمن في التناول، ولعق الأصابع، وتكريم النعمة بعدم عيب الطعام ولو عافته نفسه ، واستحضار آداب الطعام حمداً للكريم المنان .

الهوامش:

(1) سنن الترمذي(2360)وسنن ابن ماجه(3347)،وقال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح .
(2) سنن الترمذي (2356) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
(3) صحيح مسلم (1055).
(4) سورة المائدة آية :( 88 ).
(5) سورة الأعراف آية :( 31).
(6) رواه مسلم (2034).
(7) رواه البخاري (5083).
(8) صحيح ابن حبان(5236)،سنن النسائي الكبرى (6769)،سنن ابن ماجه (3349).
(9) تفسير القرطبي( ج7/ص192).
(10) فتح الباري (ج9/ص528).

القسم الثامن

لباسه وفراشه - صلى الله عليه وسلم-


* عن دحية الكلبيّ - رضي الله عنه- قال : (أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- جبة صوف وخفين فلبسهما حتى تخرقا)(1).
* و عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال : (كان أحب الثياب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يلبسها الحبرة)(2).
* و عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: (إنما كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الذي ينام عليه أدماً حشوه ليف)(3).
* وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال : (تبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: ما يبكيك ؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله ! فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)(4)
عادةً ما يكون لباس المرء عنواناً لطبيعته الكامنة، فإن ما ترسخ جذوره في الباطن لا بدّ أن تبدو ثماره في الظاهر، ولذا كان أجمل لباس وأحسنه هو التقوى النابت من القلب، والممتد على الجوارح ليسبغ على العبد خلائق الستر والحياء والعفاف، كما قال تعالى :
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(5).
هذا اللباس المحمود هو أحب لباس تغشاه الحبيب - صلى الله عليه وسلم-، وأقربه إلى نفسه، اللباس الذي يحمل معالم التقوى وحقيقتها، بما يمتاز به من ستر العورات، والبعد عن الإسراف والخيلاء والشهرة، وعن مشابهة الكفار مما هو من خصائصهم، إلى غيره من النواهي الشرعية.
وكان أحبّ الثياب إليه الحِبَرَة، وهي: برد يماني من قطن محبّر يعني مزيّن، والظاهر أنه أحبها للينها وطراوتها، وحسن انسجام نسجها، وإحكام صنعتها، وموافقتها لجسده الشريف، فإنه - صلى الله عليه وسلم- كان غاية في النعومة واللطف(6).
إلا أنه لم يرفّه نفسه بالمواظبة على الثياب المريحة، والقمص الراقية، بل كان يرتدي ما سنح له مما ملكه أو أهدي له لسماحته، وبساطة عيشه، وكثرة ورعه، فاتزر واتخذ الرداء، واشتمل الكساء، و تحلّى بالبرد، ولبس جبة صوف وخفّين حتى تخرّقا، وربما ارتدى حلّة جميلة أعجب بها أحد أصحابه فلم تلبث على جسده إلا يسيرا، ثم أهداه له! لا يغريه رونقها وحسنها عن الجود بها، كما لم يسوؤه خشونة جبة الصوف أن تلازمه أمداً حتى تمزقت!.
ما أعظم هذه النفس الأبية التي لا ترضى أن تقع تحت تأثير متاع الدنيا مهما كان رائعا وجذّاباً، أو حقيراً معاباً! طامحة إلى ما أعده المولى سبحانه وتعالى لأوليائه من نعيم دائم، وخير تامّ، لا ينقطع ولا يمتنع، ولم يخطر على قلب بشر .
أما فراشه الذي ينام عليه فبساط غليظ من الجلد المحشو من الليف الخشن، بقدر ما يقيه وعورة الأرض وحرارتها، ويمنحه حاجته من النوم، غير مسترسل في الراحة والغفلة عن قيام الليل وذكر الله تبارك وتعالى.
وربما نام على الحصير فأثّر على جلده الشريف وجنبه! فأبكى عمر- رضي الله عنه- رحمة و شفقة على حاله المؤثرة - صلى الله عليه وسلم-، وتمنّى له ما لكسرى وقيصر من الفرش الوثيرة، والأسرة المريحة، والأثاث الفاخر، والدثار الناعم، فجذبه الحبيب - صلى الله عليه وسلم- بلطفه المعهود إلى المآل المنشود، والنعيم الموعود في الآخرة ... و الآخرة خير وأبقى .
الهوامش:
(1) المعجم الكبير (4200 ).
(2) صحيح البخاري (5476).
(3) صحيح مسلم (2082).
(4) صحيح البخاري (4629).
(5) سورة الأعراف آية (26).
(6) المواهب المحمدية بشرح الشمائل الترمذية (1/211).

يتبع ....