ومما ذكره عبد الملك بن بدرون، شارح قصيدة عبد المجيد بن عبدون، عما وقع لجبلة بن الأيهم حين لطم الفزاري على وجهه لما داس على ردائه، وقال له عمر رضي الله عنه: دعه يقتص منك، أو ما هذا معناه، فقال لعمر: وهل استوي أنا وهو في ذلك؟ فقال له: نعم، الإسلام ساوى بينكما. فقال: أجلني إلى غد. فلما أصبح مضى إلى قيصر ملك الروم، وارتد ثم ندم وقال أبياتاً، وهي هذه:
تنصرت الأشراف من أجل لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة فبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى الأمرالذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر






ولما تنصر جبلة بن الأيهم ولحق بهرقل، صاحب القسطنطينية، أقطعه هرقل الأموال والضياع، وبقي ما شاء الله.

ثم أن عمر رضي الله عنه بعث إلى قيصر رسولاً يدعوه إلى الإسلام أو إلى الجزية. فلما أراد الانصراف قال هرقل للرسول: ألقيت ابن عمك هذا الذي عندنا؟ يعني جبلة الذي أتانا راغباً في ديننا.

قال : لا !

قال : فالقه ثم ائتني أعطك جواب كتابك .

قال الرسول : فذهبت إلى دار جبلة فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثرة الجمع مثلً ما على باب هرقل فلم أزل أتلطف بالإذن حتى أذن لي فدخلت عليه، فرأيته أصهب اللحية ذا سبال، وكان عهدي به أسود اللحية والرأس، فأنكرته، فإذا هو قد دعا بسحالة الذهب، فذرها على لحيته حتى أصهبت، وهو قاعد على سرير من قوارير على قوائمه أربعة أسود من ذهب. فلما عرفني رفعني معه على السرير، فجعل يسألني عن المسلمين، فذكرت له خيراً وقلت له: قد أضعفوا أضعافاً على ما تعرف. فقال: وكيف عمر بن الخطاب؟ قلت: بخير. قال: فرأيت الغم في وجهه لما ذكرت له منه سلامة عمر. ثم انحدرت عن السرير فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نقّ قلبك ولا تبال على ما قعدت.

فلما سمعته يقول ما قاله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيه فقلت له: ويحك يا جبلة، ألا تسلم، وقد عرفت الإسلام وفضله؟ فقال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم، قد فعل رجل من فزارة أكثر مما فعلت، ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين بالسيف ثم رجع إلى الإسلام وقبل منه وخلفته بالمدينة مسلماً. وإنما ذكرت له أن الذي فعل هذه الفعلة من فزارة، وأنه ضرب وجوه المسلمين بالسيف وارتد ورجع إلى الإسلام لأن الرجل الذي كان تنصر جبلة من أجله لما لطمه وأراد عمر أن يقتص منه كان فزارياً أيضاً. فقلت له: أمرك أخف من أمره إن رجعت إلى الإسلام، فإنك لم تضرب وجوه المسلمين بالسيف كما فعل. فقال: ذرني من هذا إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام.

فضمنت له التزويج ولم أضمن له تولية الأمر.

قال: ثم أومأ إلى خادم كان على رأسه واقفاً فذهب مسرعاً، فإذا خدم قد جاؤوا يحملون الصناديق فيها طعام. فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحائف الفضة، وقال لي: كل؛ فقبضت يدي، وقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة.

قال: نعم! نهى صلى الله عليه وسلم ولكن نقِّ قلبك وكل فيما أحببت.

قال: فأكل في الذهب، وأكلت أنا في الخلنج، ثم دعا بطسوت الذهب وأباريق الفضة، فغسل يديه في الذهب، وغسلت في الصفر. ثم أومأ إلى خادم بين يديه فمر مسرعاً.

فسمعت حساً، فإذا خدم معهم كراسي مرصعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن شماله، ثم جاءت الجواري وعليهم تيجان الذهب، فقعدن عن يمنيه وعن يساره على تلك الكراسي، ثم جاءت جارية أيضاً كأنها الشمس حسناً على رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها جامة فيها مسك فتيت، وفي يدها الأخرى جامة فيها ماء ورد، فأومأت تلك الجارية وصفرت بالطائر الذي على تاجها فوقع في جامة المسك، فاضطرب فيها، ثم صفرت به ثانياً فوقع في جامة ماء الورد فاضطرب فيها، ثم أومأت إليه فطار، ثم نزل على صليب في تاج على جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما في ريشه عليه. فضحك جبلة من شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه. فقال لهن: أضحكننا، فاندفعن يغنين ..

قال: فضحك جبلة حتى بدت أنيابه، ثم قال: أتدري من يقول هذا ؟ قلت: لا، قال: حسان بن ثابت شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشار إلى الجواري اللواتي عن يساره، وقال: أبكيننا، فاندفعنا يغنين قال : فبكى جبلة حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: أتدري من يقول هذا؟ قلت: لا، قال: حسان. ثم أنشد الأبيات التي أولها: تنصرت الأشراف إلى آخرها. ثم سألني عن حسان: أحي هو؟ قلت: نعم فأمر له بكسوة ولي أيضاً كذلك. ثم أمر لحسان بمال ونوق موقرة براً، ثم قال لي: إن وجدته حياً فادفع إليه الهدية واقرئه مني السلام؛ وإن وجدته ميتاً فادفعها إلى أهله وانحر النوق على قبره.

قال : فلما أخبرت عمر، رضي الله عنه، بخبره وما اشترطه علي وما ضمنت له.

قال: فهلا ضمنت له الأمر؟ فإذا أفاء الله بحكمه وقضى علينا بحكمته ما كان إلا ما أراد.

ثم جهزني عمر ثانياً إلى هرقل وأمرني أن أضمن له، أي لجبلة، ما اشترط. فلما دخلت القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته فعلمت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب.