وقد بلغ في أدَبِه مع ربِّه ذروةَ سَنامِه، وحقَّقَ غايةَ كمالِه، بحُسْنِ صُحبَتِه مع ربِّه عزَّ وجلَّ؛ بإيقاع جميع حركاته الظاهرة والباطنة على مقتضى تعظيمه وإجلاله والحياء منه سبحانه؛ فصان معاملته ربَّه أن يشوبَها بنقيصةٍ، وصانَ قلبَه أن يلتفتَ إلى غيره، وإرادتَه أن تتعلق بغيرِ مرادِه.

☼ ولم يجاوز ببصره ولا ببصيرته شيئًا لم يأذن له ربُّه به؛ قال تعالى في وصف حاله؛ عند ارتقائه الدرجات العلى، في رحلة المعراج: " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى". [النجم: 17].

وزيغ البصر: التفاته جانبًا، وطغيانه: مدُّه أمامه إلى حيث ينتهي.

وفي هذه الآية أسرار عجيبة، وهي من غوامضِ الآداب اللائقة بأكمل البشر.

فنفى ربُّه عز وجل عنه ما يَعرِضُ للرائي الذي لا أدبَ له، بين يدي الملوك والعظماء؛ من التفاته يمينًا وشمالاً، ومجاوزة بصره لما بين يَديه، وأخبرَ عنه بكمالِ الأدَبِ في ذلك المقامِ؛ إذ لم يلتفت جانبًا، ولم يَمدَّ بصرَه إلى غير ما أُري مِنَ الآياتِ، وما هناك من العجائبِ؛ بل قامَ مقامَ العبدِ الذي أوجبَ أدبُه إطراقَه وإقبالَه على ما رأى، دُونَ التفاتِه إلى غيرِه، ودون تطلُّعِه إلى ما لم يرَه، مع ما في ذلك من ثباتِ الجأشِ وسُكونِ القلبِ وطُمَأنِينَتِه (مدارج السالكين، لابن القيم).

وهذا غاية الكمالِ والأدبِ مع الله، الذي لا يَلحقُه فيه سواه؛ فإنَّ عادةَ النُّفوسِ إذا أُقيمتْ في مقامٍ عالٍ رفيعٍ؛ أن تتطلعَ إلى ما هو أعلى منه وفوقه (مدارج السالكين، لابن القيم).

☼ وبلغ من أدبه مع ربه عزَّ وجلَّ؛ وشدة حيائه منه وإجلاله له؛ أنه ربما ترك سؤال ربِّه الشيء مع حاجته إليه، وحرصه عليه؛ ومن ذلك ما كان منه في ليلة المعراج، في قصة مراجعته ربَّه عزَّ وجلَّ؛ ليسأله التخفيف على أمته، من الصلاة المفروضة؛ فلما أكثر الترددَ على الله يسأله التخفيف، قال لموسى عليه السلام- عندما ألحَّ عليه ليراجع ربَّه-: «اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي» (جزء من حديث الإسراء الطويل؛ أخرجه البخاري ومسلم).

وما حمله على الاستحياء إلا بالغ أدبه وحيائه من ربِّه عزَّ وجلَّ، وإجلاله له.

☼ ومن تمام وكمال أدبه مع ربه عز وجل؛ قيامُه بمقتضى العبودية، أكمل قيام وأتمه؛ فكان أعبدَ الناس لربه عزَّ وجلَّ، وأكثرَهم خشيةً منه، وأشدَّهم ذكرًا له؛ لا يدع وقتًا يمر دون ذكر الله عزَّ وجلَّ وحمده وشكره والاستغفار والإنابة، وهو الذي قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

☼ ودفعه هذا الأدب وذلك الحياء؛ لأن يقوم الليل حتى تفطَّرت قدماه، ويسجد فيدعو، وُيسَبِّح ويدعو، ويثني على الله تبارك وتعالى، ويخشع لله عزَّ وجلَّ؛ حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل؛ من البكاء.

فلما قالت له عائشة رضي الله عنها: يَا رَسُولَ الله، أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فقال: «يَا عَائِشَةُ، أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» (البخاري ومسلم) و(تَفَطَّرَ): تتشقق.



إنَّ كمال الأدب يجعل يَستحِي أن ينامَ عن شكرِ مولاه عزَّ وجلَّ، مع عظيم فضله وإحسانه!!

وهذا كلُّه من كريم أخلاقه ؛ فإن من تمام كريم الأخلاق؛ أن يتأدب العبد مع ربِّه المُنعِم الوهَّاب.

وصدق الله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" [القلم: 4].

* * *