السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين

إن مما يعتز به المسلم الصادق في شؤون حياته كلها تأسيه بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من كونه مخاطبا بالحقيقة القرآنية الجامعة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}الأحزاب21
غير أن البعض القليل من المسلمين يحصرون جوانب التأسي في قضايا معينة، يرونها أولى وأعظم بالاتباع، مقابل نوع من البرود والتراخي حينما يتعلق الأمر بسنن أخرى.
وإن من الجوانب الفريدة والعجيبة التي قصَّـر المسلمون في اتباع نبيهم فيها ما يرتبط بمعاملات الناس بعضهم بعض..فأنت تجد الرجل عابدا مصليا قائما صائما متسننا بالسنن الظاهرة كلها..لكنه عبوس وجهه دوما، قاسية ملامحه دوما، لا يعرف إلى طلاقة الوجه سبيلا، ولا إلى البسمة طريقا..فيسيء إلى الدين من حيث أراد أن يحسن.
ولو فهم هذا المسلم حقيقة التأسي وشموليته لوجد أن من مقتضيات تدينه والتزامه واتباعه لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يحافظ على ابتسامة دائمة تزين وجهه دوما.
1- البسمة والضحك فطرة خِلقية:
لقد امتن الله تعالى على عباده بحسن خِلقتهم وجمال هيأتهم فقال تعالى جوابا لقسمه في صدر سورة التين:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }الآية4.. و بين سبحانه و تعالى قضية التوازن والاعتدال في هذا الخلق المعجز فقال:{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى }النجم43..نقل القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية:(إِنَّ اللَّه تَعَالَى خَصَّ الْإِنْسَان بِالضَّحِكِ وَالْبُكَاء مِنْ بَيْن سَائِر الْحَيَوَان , وَلَيْسَ فِي سَائِر الْحَيَوَان مَنْ يَضْحَك وَيَبْكِي غَيْر الْإِنْسَان)..
فالإنسان إذن حين يبتسم فهو منسجم مع طبيعته وخلقته التي فطره الله تعالى عليها.
2- الضحك في القرآن الكريم:
لقد ذكر القرآن الكريم أنواعا للضحك، منها ضحك نبي الله سليمان عليه السلام حين سمع كلام النملة لأخواتها:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا}النمل19، ومنها ضحك التعجب الذي صدر من سارة زوجة إبراهيم عليه السلام حين بشرته الملائكة بالولد، قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}هود71..ومنها أيضا ضحك الفائزين غدا يوم القيامة في جنة الخلد:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}عبس38-39.وكذلك ضحكهم من الكفار المعذبين:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}المطففين34..مقابل ضحك الاستهزاء والسخرية الذي كان يواجه به المجرمون المؤمنين المستضعفين في الدنيا:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ }المطففين29..بل واجه هؤلاء الكفارآيات الله تعالى نفسها بمثل هذا الاستهزاء:{فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ }الزخرف47
فإذن ليس الضحك مذموما كله بإطلاق كما قد يتوهم بعض الناس، وإنما هو أنواع منها المحمود البريء ومنها المذموم القبيح.
3- لماذا لا نبتسم؟
* أتت على أمتنا الإسلامية مصائب وكوارث داخلية وخارجية، انتشرت بسبها آفات اجتماعية، وأخلاق مذمومة، ومظالم بين الناس كثيرة..فتراكمت الأحقاد، وامتلأت القلوب بالضغائن..وساد الجفاء والبرود في تعاملات الناس..وسبق ذلك كله قصور فهمنا لقضايا القوة والجدية والحزم والعمل التي يحث عليها ديننا..مما جعل استنان عدد كبير من الملتزمين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم انتقائيا يفتقر إلى الشمولية.
بل لقد تجاوز الأمر عامة الناس، لنجد عددا من الدعاة يكادون يُحرمون الابتسام، فلا تراهم إلا مقطبين عابسين..إما لإشاعة جو الجدية في مجالسهم وبين مخاطبيهم، وإما لأنهم يرون حزمهم الزائد وسيلة لاكتساب الهيبة في صفوف الجمهور..أو بدعوى أن مصائب المسلمين اليوم لا تترك لأحد منا مجالا للابتسام..حتى صارت كثير من خطب العيد- وهو فرصة عظيمة للفرح والابتسام- بمثابة مراثي وبكائيات تنشر الألم والحزن في قلوب الناس.
والحقُّ أن المسلم الصادق مهتم دائما بقضايا إخوانه أينما كانوا، متألم للأرزاء التي تصيبهم، بكَّـاء لبكائهم، يتغيظ قلبه حرقة، وينزف دما..ولكن هذا لا يعني أن تختفي البسمة من وجهه إلى الأبد، فهو لا محالة يصادف في حياته العامة والخاصة كثيرا من المواقف التي يلزمه فيها الابتسام والضحك المشروع....فلا تعارض بين الحالين، ولا تناقض بين الموقفين.
* وقد يعد بعض الناس قلة أو عدم الابتسام من الورع الذي يتحلى به المسلم الصادق، فتراه خائفا على قلبه من القسوة أو من الموت..وينسى هؤلاء أن رسول الله صلى عليه وسلم إنما نهى عن كثرة الضحك، لا عن أصل الضحك بإطلاق.. روى ابن ماجه بإسناد صحيح حديث رسول الله:(لا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب)..ولشد ما بهرني عمر رضي الله عنه حيبنما سئل: هل كان الصحابة يضحكون؟ فأجاب بقوله: نعم والإيمان – والله- أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
* وقد ينضاف إلى ما سبق النشأة القاسية التي ينشأها بعض الناس في أسر تعاني اضطرابات ومشاكل اجتماعية أو مادية، تجعل الابتسامة شبه منعدمة..أو الطبيعة العصبية للبعض الآخر.
غير أن هذه العوامل كلها-وإن كانت مقدمات بعضها معقولة وواقعية- فإن نتيجتها مأساوية وكارثية حينما نرى حالة الوجوم والبرود والجفاء التي تسيطر على تعاملات الناس في الأسر والشوارع والإدارات العامة والخاصة..وأصبح الشجار والسب والكلام البذيء أوبئة تفتك بالروح العامة للمجتمع، وتقتل عناصر التعاون والمودة والمحبة فيه..مما يستوجب حملة تلقيح عامة وعاجلة تعيد لوجوهنا المقطبة إشراق البسمة وبراءتها وصفاءها السحري.
4- اللقاح في السنة النبوية:
إن تأسي هذه الأمة الإسلامية برسولها الكريم في مختلف جوانب حياتها لمن أعظم الحلول التي تواجه بها المصائب المختلفة والأزمات المتتابعة..فسنة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم بمثابة الكنز النفيس والرصيد الغني لأمتنا، تأخذ منه في كل حين ما ينفعها الله تعالى به في دينها ودنياها.
وحينما نبحث في موضوع البسمة في ثنايا هذا الكنز نجد من الجواهر واللآلئ ما لو انتبهت الأمة له لودع كثير من أبنائها أزماتهم وهمومهم إلى غير رجعة..وإليكم التفاصيل:
• الضحك من صفات الله تعالى: ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله، عند ابي رزين قال قال النبي: (ضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره. فقال أبو رزين: أو يضحك الرب عز وجل؟ قال نعم، فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا). ومما ورد أيضا في ضحك الله جل وتعالى الحديث المتفق عليه:(يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما في الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل، فيسلم فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد).
• البسمة من المعروف الذي يجب القيام به: قال صلى الله عليه وسلم :( لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلِق)رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.
• البسمة صدقة وقربة تتقرب بها إلى مولاك وتزيد من رصيد حسناتك دون أن تكلفك أي عناء:قَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ.
• البسمة طريقك إلى قلوب الناس كافة، إن لم تستطع استمالتها بمالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ ) رواه مسلم.
• البسمة صفة ملازمة لرسول الله حينما يلقى أصحابه:فعن جرير بن عبدالله رضى الله عنه قال :( ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا رآني إلا تبسم في وجهي )رواه البخاري..وأخرج الترمذي عن عبدالله بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسما من رسول الله).
• أحب الأعمال إلى الله: كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أفضل الأعمال سرور تدخله على مسلم).
وقد عني العلماء الكرام من أهل الحديث بهذا الجانب من سنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناهم يخصونه بأبواب وفصول في كتبهم..على غرار صنيع البخاري رحمه الله حينما جمع أحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبوب لها في صحيحه تحت عنوان:( باب التبسم والضحك )، وكفعل الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه حين جمع أحاديث بوب لها الإمام النووي فقال في كتاب الفضائل:(باب تبسمه وحسن عشرته)..بل بلغت عناية الشيخ الغماري بهذه المسألة أن جمع الأحاديث التي فيها( ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ) في مؤلف سماه:(شوارق الانوار المنيفة بظهور النواجذ الشريفة )..فهل بعد هذا كله نحتاج مزيد بيان؟
نعم، لقد وجدنا في السنةالعطرة مواقف عجيبة يصحح فيها النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة الكرام نظرتهم للزهد والورع، فعن( حنظلة الأسيدي رضي الله عنه أنه مر بأبي بكر رضي الله عنه وهو يبكي فقال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنَّـا رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا قال أبو بكر: فوالله إنا لكذلك، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ساعة وساعة). رواه مسلم
ألا ما أعظم الهدي النبوي في وسطيته واعتداله!!
ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا يحث الصحابة على ما يجدون به البسمة والسعادة في حياتهم الأسرية الخاصة، كما هو شأن ‏جابر بن عبد الله ‏ ‏رضي الله عنهما الذي يروي: ‏غزوتُ مع رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم، فتلاحق ‏ ‏بي النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وأنا على ‏ ‏ناضح ‏ ‏لنا قد أعيا فلا يكاد يسير فقال لي: ما لبعيرك؟ قلت: عيي، قال: فتخلف رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير، فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير قد أصابته بركتك، قال: أفتبيعنيه؟ قال: فاستحييت، ولم يكن لنا ‏‏ناضح ‏‏غيره. قال: فقلت: نعم...‏قال فقلت يا رسول الله إني عروس فاستأذنته فأذن لي وقال لي: ‏هل تزوجت بكرا أم ثيبا؟ فقلت: تزوجت ثيبا. فقال: هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك! (وفي رواية ‏هلا جارية تلاعبها وتلاعبك أو تضاحكها وتضاحكك)؟ قلت: يا رسول الله توفي والدي أو استشهد ولي أخوات صغار فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن فتزوجت ثيبا لتقوم عليهن وتؤدبهن قال فلما قدم رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏المدينة ‏ ‏غدوت عليه بالبعير فأعطاني ثمنه ورده علي.) رواه البخاري ومسلم.
أرأيت أخي الكريم كيف يوصي رسول الله صاحبه باختيار زوجة يضاحكها وتضاحكه..فما بال بيوت كثير من المسلمين اليوم مقفرة من البسمة والضحك النقي الحميم؟
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى صحابته يضحكون سعداء، فيبتسم ابتسامة الرضى والاطمئنان...فعن سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ( نعم كثيراً ، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية ، فيضحكون، ويبتسم ) رواه مسلم.5
5- مواقف ضحك فيها النبي صلى الله عليه وسلم :
على غرار السنة العطرة، فإن السيرة المباركة لم تخل من مواقف طريفة ابتسم أو ضحك فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وسنورد أمثلة دالة ونماذج معبرة:
• روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله -وفي رواية-: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة).
• وصح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه خرج في سرية من الصحابة؛ فأجنب وكان الجو بارداً، فتيمم، وصلى بهم جنبا، فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبسم ضاحكاً، وقال: {يا عمرو ! أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قال يا رسول الله! إن الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}النساء29 فضحك صلى الله عليه وسلم.
• وعن أبي سلمة قال: قالت عائشة: (زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها فعملت لها حريرة أو قال خزيرة فقلت كلي فأبت فقلت لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد مني فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فإذا عمر يقول: يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا). سنن النسائي.
• وتقص السيدة عائشة رضي الله عنها موقفا آخر فتقول:(شكا الناس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على المنبر فكبر وحمد الله سبحانه وتعالى، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إيان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم.. ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ثم حول الى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين فانشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شئ قدير وأنني عبد الله ورسوله).
• ‏وثبت عن النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏كان يوما يحدث -وعنده رجل من أهل البادية- أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له: ‏ ‏ألست فيما شئت .قال: بلى ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر ‏ ‏فبادر ‏الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏فإنه لا يشبعك شيء. فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم.
• وروى أحمد في المسند بسند صحيح، والبيهقي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام، ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنُه من ليف، ثم قال: (اركب يا معاذ)، فقلت: سر يا رسول الله، فقال: (اركب، فردفته).قال معاذ: فردفته، فصرع الحمار بنا، فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفا،ً ثم فعل ذلك الثانية، ثم الثالثة،وسار بنا الحمار، فأخلف يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصا ثم قال: (يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: (يا معاذ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال:(فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؛ أن يدخلهم الجنة).
• وفي البخاري: أن عمرا رضي الله عنه استأذن في الدخول على النبي وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر تبادرن بالحجاب، فأذن له النبي فدخل، والنبي يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال: (عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب)، فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عليهن فقال: يا عدوّات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله ، قال رسول الله: (إيه ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك).رواه البخاري ومسلم.
• وفي البخاري أيضاً من حديث أنس بن مالك قال:(كنت أمشي مع رسول الله وعليه بردّ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت الى صفحة عاتقه النبي وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء).
هكذا أيها الإخوة الكرام كان رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، يزرع الحب، ويبذر السعادة في قلوب الناس، ترونه مبتسما في بيته ملاعبا أهله، مبتسما في وجوه أصحابه، مداعبا إياهم حتى في أوقات نخال فيها الابتسامة بعيدة المتناول..بل نجده مبتسما في وجوه أناس قد يسيئون إليه..فلا غرو أن رأينا آثار هذه المعاملة الطيبة تثمر حبا عجيبا له في قلوب أصحابه بلغ بهم حد فدائه بأرواحهم وأهليهم وأموالهم...فدونكم أيها الإخوة الأفاضل هذا الهدي النبوي الرقيق ففيه شفاء كثير من أسقام مجتمعاتنا العليلة.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.