التمتع بما أحله الله لا ينافي التقوى
تحريم الطيبات خروج على تعاليم الإسلام


الجمعة ,01/04/2011

يعلمنا القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى هو صاحب التحليل والتحريم فلا يجوز لشخص مهما بلغ علمه وانتشر عدله بين الناس أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، بل عليه أن يلتزم بما شرعه الخالق عز وجل وما أوحى به إلى رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه .

كما يعلمنا القرآن أن تشريعات الحلال والحرام ترتبط كلها بمصلحة الإنسان، فما فيه خير ومصلحة للإنسان أباحه الخالق عز وجل وما يحتوي على ضرر مادي أو معنوي حرمه . . وواجب كل إنسان منا أن يقول “سمعا وطاعة” وينفذ ما جاء في كتاب الله وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من أحكام تتعلق بالحلال والحرام .

من بين الآيات الكريمة التي وردت في بيان الحلال والحرام وضرورة الالتزام بما شرعه الله عز وجل ما جاء في سورة المائدة حيث يقول الحق سبحانه: “يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” .

لا رهبنة في الإسلام

وذكر المفسرون في سبب نزول هاتين الآيتين روايات متعددة منها ما قاله ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أكلت انتشرت اشتقت للنساء فأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين .

وروي أيضا أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء فأنزل الله هذه الآية: “يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم” .

وروي كذلك أن جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدث فيهم وأغلظ المقالة ثم قال: “إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا” ثم أنزل الله فيهم هذه الآية . وفي رواية عن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني” .

كل هذه الروايات كما يقول د .صبري عبدالرؤوف أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر تؤكد أن الإسلام ليس دين رهبنة وأنه جاء لينظم حياة الناس جميعا، وأن قضية الحلال والحرام فيه محسومة وهي من حق الخالق عز وجل وما أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن المسلم في كل زمان ومكان عليه أن يلتزم بشرع الله وألا ينخدع باجتهادات عقلية في قضايا وأحكام شرعية ثابتة . فالمشرع هو الله، والمسلم مأمور بإعمال عقله فيما لم يرد فيه نص صريح بالحل أو الحرمة .

التزام حدود الشريعة

نعود إلى تفسير الآيتين الكريمتين لنرى أن الله عز وجل قد وجه سبحانه النداء للمؤمنين بوصف الإيمان (يا أيها الذين آمنوا) لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يمتثلوا أوامر الله ونواهيه .

والمراد بقوله سبحانه (لا تحرموا): لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم من طيبات بأن تأخذوا على أنفسكم عهدا بعدم تناولها أو الانتفاع بها، فالنهي عن التحريم هنا ليس منصبا على الترك المجرد، فقد يترك الإنسان بعض الطيبات لأسباب تتعلق بالمرض أو غيره، وإنما هو منصب على اعتقاد أن هذه الطيبات يجب تركها ويأخذ الشخص على نفسه عهدا بذلك .

والمراد بالطيبات: الأشياء المستلذة المستطابة المحللة التي تقوي بدن الإنسان وتعينه على أعباء الحياة ومتطلباتها من طعام شهي وشراب سائغ وملبس جميل .

والمعنى العام للآية الكريمة: “يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم”، فإنه سبحانه ما أحلها لكم إلا لما فيها من منافع وفوائد تعينكم على شؤون دينكم وديناكم .

وقوله (ولا تعتدوا) تأكيد للنهي السابق . . والتعدي معناه: تجاوز الحدود التي شرعها الله تعالى عن طريق الإسراف أو عن طريق التقتير أو طريق الاعتداء على حق الغير أو عن أي طريق يخالف ما شرعه الله تعالى .

أي لا تحرموا أيها المؤمنون على أنفسكم ما أحله الله لكم من طيبات ولا تتجاوزوا حدوده بالإسراف، أو بالتقتير أو بتناول ما حرمه عليكم فإنه سبحانه لا يحب الذين يتجاوزون حدود شريعته وسنن فطرته وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم .

التمتع بالطيبات

وبعد أن نهى سبحانه عن تحريم الطيبات أمر بتناولها والتمتع بهما فقال: “وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” .

والأمر في قوله (وكلوا) للإباحة . . وقيل: للندب . . ويرى بعض العلماء والفقهاء أنه للوجوب لأن من الواجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله تعالى، تركا مطلقا لأن هذا الترك يكون من باب تحريم ما أحله الله .

أي: وكلوا أيها المؤمنون من الرزق الحلال الطيب الذي رزقكم الله إياه وتفضل عليكم به .

“واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه وتلتزموا في مأكلكم ومشربكم وملبسكم وسائر شؤونكم حدود شريعته وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم . والمراد بالأكل هنا التمتع بألوان الطيبات التي أحلها الله، فيدخل فيها الشرب مما كان حلالا، وكذلك يدخل فيها كل ما أباحه سبحانه من متعة طيبة تميل إليها النفوس وتشتهيها .

وقد زكى سبحانه طلب التمتع بعطائه وخيره بأمور منها: أنه جعله مما رزقهم إياه، وأنه وصفه بكونه حلالا وليس محرما، وبكونه طيبا وليس خبيثا . . والمأكول أو المشروب أو غيرهما متى كان كذلك اتجهت نفس المؤمن إليه بطمأنينة واجتهدت في الشكر لواهب النعم على ما أنعم وأعطى .

رد على الغلاة

وقوله سبحانه: “واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن، والآية ترشدنا إلى أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم طيب اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى .

قال القرطبي في تفسيره: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى كل أهل البطالة من المتصوفين إذ كل فريق منهم قد عدل من طريقه، وحاد عن تحقيقه .

وقال الطبري في تفسيره: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء على نفسه مما أحل الله لعباده المؤمنين من طيبات المطاعم والملابس والمناكح .

والخلاصة أن هاتين الآيتين تنهيان المؤمنين عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم، وتأمرانهم بالتمتع بها من دون إسراف أو تقتير مع خشيتهم لله تعالى وشكره على ما وهبهم من نعم، وذلك لأن ترك هذه الطيبات يؤدي إلى ضعف العقول والأجسام . . والإسلام يريد من أتباعه أن يكونوا أقوياء في عقولهم وفي أجسامهم وفي سائر شؤونهم، لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما جاء في الحديث الشريف .

ولأن دين الإسلام ليس دين رهبانية وفي الحديث الشريف (إن الله لا يبعثني بالرهبانية) وإنما دين الإسلام دين عبادة وعمل، فهو لا يقطع العابد عن الحياة، ولكنه يأمره أن يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها، فالتفاضل بين المؤمنين يكون باستقامة النفس وسلامة العبادة وكثرة إيصال النفع للناس ولا يكون بالانقطاع عن الدنيا وتحريم طيباتها التي أحلها الله تعالى .