مقامة أدبية استوحيتها من قصة حقيقيّة

حين رتّب إبليس جدول أعماله للفجور.. جعل المهمّة الأولى لبعث الشّرور.. كشف العورات وهتك الستور..

ونذكرُ صنيعه مع آدم وحوّاء عليهما السّلام كيف دلّاهما بغرور.. حتى تهتّك عنهما لباس النور..

واليوم تظهر إنجازات إبليس في شوارعنا جليّة.. ألا ترون مداخل بعض المحال التجارية.. مزيّنةً بصور أناس في ملابس داخلية؟!

دعوني أحدّثكم عن صديقتي آلاء.. التي ارتدت الحجاب بعد تردّدٍ وعناء..
صديقتي آلاء جمال يأخذ بالألباب.. وأخلاقٌ رفيعةٌ لا تُعاب.. وثقافةٌ كأنّها كتاب.. ولا ينقصها إلّا الحجاب.. مع أنّ جمالها يُدهش القمر.. وفتنتها تهزّ الحجر.. وفوق هذا أنيقةٌ متبرّجة.. ومتدلّلةٌ ومتعطّرةٌ وغنِجة..

أينما حلّت تلفازٌ مُلفِت.. وكلّ من رآها زنبركات عيونه تُفلِت..
لكن من حرصها على الصّحبة الطيّبة.. حاولت التقرّب من فتاةٍ متحجّبة.. غير أنّ تلك المتحجّبة تكبّرت عليها.. وأنفت من مصاحبة فتاةٍ تبدي رجليها.. وعاملتها كأنّها كافرة.. ممّا جعل آلاء نافرة..

فتجنّبت صحبة المتحجّبات وصادقت فتاةً سافرة.. فتاةً ترتدي الضيّق واللمّيع.. وتحبّ إغواء الجميع.. يتثاقل الهواء بحمل جزيئات عطرها.. وتستيقظ من الفجر لتسريح شعرها.. فتاةً يتعوّذُ الناس من شرّها.. كأنّها سهمٌ خارجٌ من جعبة إبليس.. وأسلوبها في اللباس خارجٌ عن كل المقاييس.. وبجانب هذا لا تكترث لعيبٍ أو حرام.. وتفعلُ ما يحلو لها دون أدنى التزام..

قالت مرّةً لآلاء: مع أنّك سافرة.. أكمامك طويلةٌ وثيابك ساترة.. لا أنت كسبت الدنيا ولا أنت كسبت الآخرة.. لا أنت تكشّفتِ واجتذبتِ الشّباب.. ولا أنت تحجّبتِ ونلتِ الثواب!
وكان قصدُها من تلك الكلمات الودودة.. حثّ آلاء على ارتداء (البرمودا).. وكلَّ مُشرشحٍ يسمّى موضة.. بيد أنّ آلاء اهتزّت لهذه الكلمات.. فهي تعيش صراعاً في قلبها منذ سنوات.. بين حبّ الله وحبّ الشهوات..

صحيح أنّها تُصلّي خمسها وتصوم شهرها.. لكنّ شيئاً ما يحيك بصدرها..
كيف أدّعي حبّ الله وأعصي أمره.. أم كيف يمنُّ عليّ وأترك شكره؟
وأين سأكون إذا ما انفصل الأبرار عن الفجّار.. ودخل أهل الجنّة الجنّة.. وأهل النّار النّار؟
إنّ المحبّ لمن يحبُّ مُطيع.. والله يأمُرُني وأنا لا استطيع؟!

وصارت آلاء تُكثِر الذّهاب إلى مسجد البلدة.. وهناك قابلت فتياتٍ صالحات وصار فيما بينهنّ أُلفةٌ ومودّة.. وكانت كلّما قرأت سورة النور أو الأحزاب.. شعرت برغبةٍ قويّةٍ في الحجاب..

وفي يومٍ من الأيّام جلست مع صديقتها الفاتنة.. ذات الحمرة السوداء والمسكارة الدّاكنة..
قالت لها: أما آنَ لنا أن نتحجّب.. وإلى ربّنا الرحيم نتقرّب؟
فانتفضت الفاتنة وقالت: لا؛ فالحجاب تخلّفٌ ورجعيّة.. ورمز لتسلُّط الرجل ونزعته القمعيّة..
فردّت آلاء: أوَيأمرنا الله بما هو تخلّفٌ ورجعيّة.. أهذا هو ظنّك بالله يا تقيّة؟!
بل بالحجاب كرّمنا الله ورفعنا عن الحضيض.. وحمانا من كل عينٍ خائنةٍ وقلبٍ مريض..
إنّ الاحتشام من شيم البتول والعذراء.. أمّا التعرّي فمن شيم الفجور والفحشاء.. والتعرّي يذهب بنور الجسد.. ويتركه كاللحم المُجمّد.. وأمّا تسلّط الرجل ونزعته القمعيّة فهو تسويق بضائعه من خلال فتاةٍ ضحيّة.. لولا الفقر والجوع ما رضيت بتلك الدنيّة.. ما أقبح أن تُعامل الفتاةُ كجسدٍ بلا شخصيّة.. حتى كأنها جاريةٌ من زمن الجاهليّة..

فقالت الفاتنة: ولكن الله غفورٌ رحيم.. وأنت يا آلاء على الصراط المستقيم..فإن كنت تصلّين وتحسنين معاملة الناس.. ففيما الحاجة لغطاء الراس؟! المهمّ هو جوهرنا لا مظهرنا.. والله يحاسب قلوبنا لا صورنا..
والإيمان في القلب لا في البراقع.. وكثيرٌ من المتحجّبات يفعلن الفظائع!
فتعجّبت آلاء وقالت: ما وقر في القلب صدّقته الجوارح.. فهو يضخُّ لها الدم وأثره عليها واضح.. وكيف يكون قلبك لله وجسدك للأنام.. أليس هذا تمزّقٌ وفُصام؟
ثمّ ما ذنب الحجاب إن عُرِفت متحجّبةٌ بعيوبها.. إن أخطأ مُحامٍ فهذا لا يعني سبّ المحاماة وروبها.. ذنبها ليس حجّةً على الحجاب.. بل الحجابُ حجّةٌ عليها وعلى ذنوبها..
وعدا الأنبياء من هذا الذي ليس له ذنوبٌ من البشر.. من كان منكم بغير خطيئةٍ فليرجمها بحجر..

فقالت فاتنة: حسناً.. سأتحجّب بعد أن أتزوّج وأُمضي عمري وأعيش حياتي.. فالحجاب قيدٌ وسيحرمني من كثيرٍ من ملذّاتي..
فضحكت آلاء: متى؟ بعد أن تُصبحي من القواعد من النساء اللواتي يحلّ لهنّ خلع الغطاء.. ثمّ كيف تتزوّجين من رجلٍ لا يغار عليك.. ويهون عليه كشف يديكِ ورجليكِ؟ إنّ من تمام حبّ الزوج لزوجتهِ سترها.. فهو يدرِكُ قدرها ويكترثُ لأمرها.. والحجاب قد يقيّدكِ عن المعاصي والمنكرات.. لكنّه لن يقيّدكِ أبداً عن صناعة الطائرات..

فقالت فاتنة: أحبّ أن أطيع الله وأسمعه.. ولكن أخشى إن ارتديت الحجاب أن أخلعه..
فقالت آلاء: هاأنت قد عجّلتِ خلعهُ وتركتيه.. ولعلّكِ إن ارتديته لم تخلعيه..

وأخيراً وجدت آلاء نفسها تقف أمام مرآتها.. لتعلن بكامل إرادتها.. أنّ حبّ الله في قلبها انتصر على حبّ الدنيا وزينتها.. ثمّ نظرت إلى صديقتها فوجدتها تذرف دمعتها..
قالت الفاتنة: معك حقٌّ يا آلاء.. إنّ أكثر مرّةٍ شعرتُ فيها باستياء حين أشاح والدي بوجهه عن والدتي ليلاحق بنظره فتاةً حسناء.. متبرّجةً مكشوفة الأشياء.. لقد آذتنا تلك الفتاةُ جدّا.. وأنا لا أُريد أن أوذي أحدا..

وهكذا تحجّبت الفتاتان واكتستا بالضياء.. وارتفعتا عن الطين إلى السماء.. وتحوّل الخوف إلى سكينة.. والتردّدُ إلى طمأنينة.. وسُرَّت بهما الملائكة وأنَّ إبليسُ أنينه..

لقد شرّفنا الله بشريعته لنهنأ عيشا.. وممّا عدّدهُ علينا من النّعم: "لِباساً يُواري سَوءاتكم وريشا"..
أبعدَ أن كرّمنا الله وسترنا.. نغمط أنفسنا وندّعي أنّ في التعرّي كرامتنا؟!

ما أجمل ما قالت الشّاعرة:
إنّهُ ليس رداءً فوق رأسي..
إنّه تاجٌ من الطّهر ومن نور الكتاب..
إنّه دنيا من الحقّ ومن وحي الصواب..
إنّه نهج حياةٍ يربطُ الأرض بأركان السموات الرّحاب..