انسلال وانخزال

************************************************** ********************************

بدأ الشيخ يتهادى فى خطواته وتتثاقل كلماته .. ثم توقف فجأة عن الكلام والمسير .. وهو ينظر إلى ما

حوله من رمال وما يراه من جبال ومن أرض وعِرة وصحراء جرداء . واسعة شاسعة . قفرة ومخيفة

موحشة .. فأشار للرجل بيده وقال له : أنظر إلى هذه البرارى الممتدة وتلك البيداء الرحبة المتسعة .

وتأمل طبيعتها ووعورةِ مسالكها .. !!

تأمل لهيب شمسها ولظى حرها وشدةِ وقسوةِ بردها ولياليها الممطرة ورياحها العاتية .. !!

أنظر إلى دجى وظلمة ليلها الحالك إذا ما مد رواقه فيها وأرخى سدوله عليها .. !!

تأمل كل شئون وأمور الحياة بين أكنافها وعلى ظهرها .. !!

فى مثل هذه الضروب من العيش يا أخى : نشأ وعاش نبينا ورسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه

وسلم .. وبنى وشيد لنا المجد والشموخ والحضارة .. !! ..

وفى مثل هذه الظروف من القسوة يا أخى : انطلقت الصحابة وخلفاء المسلمين رضى الله عنهم أجمعين

وأرسوا لنا صرح الإسلام العظيم .. وتركوا لنا القوة والعزة والسلطان ..

***********
لقد أقيمت بِهم دعوة الحق وأُثبتت الملة وارتدّت مناظم الكفر منكوسة ومعالمهم معكوسة وبذل

عظيم الفرس والروم الجزية والدنّية وصارت المسالمة والمتاركة لهما أغلى الأمنية فانبسطت هيبة

الإسلام على الأصقاع القصّية وأطلت على قمم الماردين رايته العلية ..

فى عهودهم انتشر الإسلام فى كل مكان وذلت له الرقاب ودانت له البلاد وهَوَت القياصر والأكاسر وجلا

و خضع لهم كل ضالٍ وكافر ودخل الناس فى دين الله أفواجاً ..

ساحوا فى مشارق الأرض ومغاربِها وتحكموا فى أنحاء ممالكها يدفعون الضلال والإنحلال ..

كانوا أمناء على ما وَرِثوه فى الدعوة والرسالة خلفاء على بثها وإصلاح شأن العالم بِها ..

أخضعوا البلاد والعباد لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكانت القلوب تتفتح لدعوتِهم قبل أن

تتفتح الحصون والبلاد أمام قوتِهم لأنهم كانوا مؤمنين أقوياء بما يدْعُون إليه .. عاملين به ..

رَكنوا للموت ومنهل المنايا وبذلوا الأموال والأرواح وما وَهنوا ولا استكانوا إلا إذا رأوْا رياح النصر

وقد هبّت من مهابّها ورُدّت شعائر الحق والدين إلى نِصابِها ..

عَلت راية الإسلام فى عهودهم مرفرفة خفاقة دون انسلال أو خذلان ودون

مواربة أو خنوع ودون ضعف أو خضوع .. فكانت الدولة الإسلامية دولة أبّية مَهيبة ذاتَ عِزّةٍ وقوةٍ مَنيعة ..

قاموا بنشر مختلف العلوم فى الآفاق وحثوا على القيم والأخلاق فى المعاملات والسلوكيات ..

قاموا بتأليف وإرساء شتى النظريات العلمية ووضعوا الأسس للعلوم المادية والتجريبية بِهدف إسعاد البشرية والإرتقاء بالإنسانية ..

تركوا إبداعا فى فنون العمارة وفى كل أنواع الحضارة ..

أما نحن .. :

وقد أورثنا الله تلك القوة وهذا السلطان وخصّنا الله بالعزة وضرب على أعدائنا المسكنة والذلة ..

وأفاض الله علينا من رحمته وأنعم علينا من فضله ونعمته .. وحبانا سبحانه وتعالى بالحضارةِ

والعمرانِ وسخر لنا الرِكاب والركبان .. ووهبنا كل الخيرات وأغدق علينا الموارد والثروات : إلا أننا :

قد خنّا الأمانة .. وتقاعسنا عن نشر الرسالة .. :

فرطنا فى الإحتفاظ بما ورثناه والحفاظ عليه وتواكلنا وتخاذلنا .. وقد قال الله لنا :

{وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ }

تقطعنا وافترقنا ورفعنا شعار الوطنية وقلنا أن لكل دولة دستور وقومية .. وقد قال الله لنا :

{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ }

لم نعد العدة ولا العتاد لملاقاة وإرهاب الأعداء ولزجر وردع الغواة والطغاة.. وقد قال الله لنا :

{وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ }

تَهاونا وهنّا وولّينا علينا اليهود والنصارى .. وقد قال الله لنا :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }

نحن يا أخى : لم نقم بحفظ الدين ولم نرد شبهات ........

قاطعه الرجل قائلا .. : وما السبيل إلى الخلاص إذن أيها الشيخ .. ؟

فلقد فاضت ألسنة وأقلام الخطباء والأعلام وضجت الكتب والمجلدات وطفحت الصحف

والمؤلفات .... ولا من مجيب .. ولا رقيب ولا حسيب .. !!

علا صوت الشيخ عاصفاً وفى وجه الرجل قاصفاً .. قائلاً :

نحن لسنا قادرين على أن ندافع عن أسس وأصول وقواعد الإسلام فى بلادنا .. ونحن مأمورين من الله

بتطبيق شرائعه علينا وعلى غيرنا .. طواعية منهم أو كرهاً عنهم ..

لقد ارتكنا على الأعداء .. حتى أصبحنا لا مِنعةَ لنا ولا شوكة ..

وسكت الشيخ حتى هدأ من ثورته وانحسر الموج المتلاطم بداخله وتلاشى حدته .. ثم نظر إلى

الرجل الذى صمت عن الحديث أو الكلام فأخذ بيده وقال له : أيها الرجل :

إنى أريد أن أسألك .. ألك زوجةٌ وأولاد .. ؟

فقال له : نعم أيها الشيخ لى زوجة وبنت وولدين ..

فقال : لا خلاص ولا مناص إلا لمن عصم .. لتعلم أيها الرجل :

أن كل راعٍ مسؤول عن رعيته .. وأنت مسؤول عن أهلك وولدك فأنت لهم راعٍ وستحاسب عنهم أمام

الله .. ستحاسب عن قوامتك لهم وولايتك عليهم .. فيا أخى :

لا تتهاون معهم فى فرضٍ من فروض الله ..

إن متعتهم فمتعهم فيا أحل الله وفى كل زينة لم يحرمها الله .. فقههم فى الدين .. كن لهم مربياً فاضلاً

وفى ذات الوقت حاسماً .. أعِنهم على الطاعة وكفّهم عن دواعى الهوى ..

وإياك أن تظلمهم فى معاملتك لهم .. وإذا حدثتهم فلا تكذبُهم وإذا وعدتّهم فلا تخلفهم .. إزرع ونمِّ فيهم

الإقدام والشجاعة حتى لا يخافون فى الحق لومة لائم .. أنشِئهم على رفع راية دين الله والجهاد فى

سبيل الله ضد المارقين الذين أبوا واستكبروا بعد وضوح الحق اليقين وإياك .. إياك : أن يشبوا على

الضعف والإستكانة فعذاب الله عظيم وعقابه شديدٌ أليم .. يقول الله جل علاه :

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}
فالبلاء والشقاء فى الدنيا يا أخى : أهون من العذاب والعقاب فى الآخرة .

ومن السخف والحمق أن يكون المرء لبيباً وعالماً جليلاً ولاعقل ولا قلب له : لا يعلم ما أمر الله

به وما نَهى الله عنه .. أو يؤمن ببعض ما أنزل الله ويترك البعض .. أو يرتكن على بعض ما قال

الله ناسياً كل ما اشتمل عليه المنهج الذى وضعه الله ..

*********

أيها الرجل : إذا شبّ أهلك وولدك صالحين أتقياء فهم : زينة لك من الله فى أرضه ..

وإن زلّت بِهم الجهالة : فهم أعداء لك ولأنفسهم وسيكون جزاؤكم : الخزى والندامة فى يوم القيامة ..

واعلم :

أن النفوس قد جُبِلت على حب العاجل .. فالناس يتعلقون بطلب الدنيا وتحصيلها بأى وسيلةٍ أو سبيل

فيقعوا فى المفاسد والمهالك والغوائل .. وينجرفوا إلى التنافس والنزاع والخصام فيقتحمون ذنوباً

وخطوباً عِظام .. ولكى تنتظم أمور الدين والدنيا لأهلك وولدك فعليك يا أخى :

أن تعظهم وتحثهم بالوعد والوعيد وبالترغيب والتهديد لتشيد لهم مبانى الرشاد وتحجزهم

وتحسمهم عن الغى والفساد ..

وعليك أن تبيّن لهم البدع والأهواء لأنّها ترْسخ فى الصدور فتؤدى إلى عظائم الأمور وتُهوّن أسس

الإيمان وقواعد الإسلام ..

وإذا ما قام ولدك بأداء الأمانة وبلاغ الرسالة التى ورثناها : فعلِّمهم أن يكونوا مؤمنين عاملين بما

يدْعُون إليه .. فالناس ينظرون إلى أرباب الدعوات قبل أن يستمعوا إليهم فإن وجدوهم مخلصين

أشداء كان ذلك من أسباب قبول دعوتِهم وتلبية استجابتهم وإلا سخروا واشْمأزوا من الإنتساب إليهم ..

************************************************** ***********************************
سعيد شويل