الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .

أما بعد :
فهذه أسئلة وردتني من أحد إخواننا من خلال الشبكة ( الإنترنت ) ، وقد أُورِدتْ عليه شُبُهات في التوسّل ، وطلب مِني الإجابة عنها .
حيث يقول الأخ الفاضل نبيل :

http://www.saaid.net/Doat/assuhaim/b/9.htm

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتـه
شيخنا الكريـم عبد الرحمن حفظكم الله تعالى ..
هذه بعض الشبهات يطرحها أعداء الدين من يستغيثون بالقبور أو يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم..
فنرجو أن نرى إجابة شافيـة لدحر الباطل .. وقد أرسلت لكم في البريد غير عن هذا، وفقكم الله تعالـى..
يقول هذا الرجـل/
و هذي الأدلة من أمهات كتب أهل السنة و الجماعة ، والقوانين تمشي على الجميع ما دام الموضوع ليس من تأليفي الشخصي ، و ما يحق لأحد أن يمسح ردودي إذا كانت منقولة من القرآن الكريم و سنة الرسول ص ، أقصد الصحاح و كتب السنن .
--------

* أحاديث تثبت أن التوسل برسول الله ص يجوز حتى و هو في قبره ، و أن التوسل و طلب الغوث منه حيا و ميتا ليس شرك ، لكن يتعمدون أن ما يذكرونها ....

[ أوْرَدَ شُبهات كثيرة أُورِدَتْ عليه ، فَجَعَلْتُ كل شُبهة في فقرة مُستَقِلّة ، ثم أجبتُ عنها بما يسّر الله تعالى في خمس وعشرين فقرة ، ونَقَلتُ القول كما هو من غير زيادة ولا نُقصان ] ..

الجواب :

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وبارك الله فيك وحفظك .

هذه شُبُهات أوْهَى من بيت العنكبوت !
وهي لا تَخرج عن أربعة أمور :
الأول : إما استدلال بدليل لا يُسلَّم لِصاحبه باستدلاله فيه ، إذ ليس فيه ما يخدم مقصده
الثاني : أن يكون الدليل ضعيفاً لا تقوم به حجّة .
الثالث : أن يكون فِعل عالم ، وأفعال العلماء يُستَدلّ لها ولا يُستدلّ بها ، كما بينه ابن القيم رحمه الله . فليس فِعل أحد من الناس حُجّة على الْخَلْق إلا فعل محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم أفعال الصحابة على خِلاف بين أهل العلم ، والصحيح حُجّية قول الصحابي ما لم يُخالِف أو يُخالَف .
الرابع : تحريف في النصوص لهوى في النفس ! وثَنْي أعناق النصوص والزيادة فيها ، أو النقص منها لتخدم أغراض قائليها !

وقبل التفصيل أُشير إلى ما جاء في المقال ، حيث زَعَم القائل أن :
[ بعض الناس لا يظهرون حبا للنبي ، إنما يظهرون بغضا له والعياذ بالله . كالذين يزعمون أن النبي محمد ميتة ، أو أنه لا ينفع، أو أن التبرك به وبآثاره شرك ، أو أن زيارة قبره شرك أو أن التوسل به شرك والعياذ بالله ، أو الذين يحرمون مدحه عليه السلام والاحتفال بمولده وغير ذلك، كله يظهر بغضا للنبي ولا يظهر حبا له صلى الله عليه وسلم ولا اتباعا له]

فالدعاوى أسهل وأيسر ما يكون !
والدعوى لا بُـدّ لها من بَيِّنَة !
فالذين يَدّعون محبته صلى الله عليه وسلم هم أكثر الناس بُعدا عن هديه وعن سُنّته صلى الله عليه وسلم ..
ففي هذا المقال أورِدت أحاديث ضعيفة ، وبعضهم يُورِد أحاديث مكذوبة ! بِدعوى محبته صلى الله عليه وسلم ! وسوف يتبيّن هذا من خلال مناقشة هذه الشُّبُهات ..
فأين هي دعوى المحبة ؟!
ولدى أصحاب دعوى المحبة من المخالفات لِهَدْيه ولِسُنّته صلى الله عليه وسلم ما يَضيق الوقت عن تِعدادها ، من رقص وطَرَب وشرب للخمور واختلاط ، وغير ذلك مما لا يَخفى على عاقل يَعرف حقائق عن احتفالات بعض مشايخ الطُّرُق الصوفية !
ثم إنهم مِن أكثر الناس صدودا عن السنة ، فهم يَهجرون العمل بالسُّنة طيلة العام ثم يُحيونها ليلة في العام !
فهم كالأوربي الذي هَجَر أمه عاماً كاملاً ثم زَعَم أنه يبرّها بزيارة لها في عيد الأم !
فأين القوم والمحبة الصادقة ؟
وسبق أن كتبت مقالاً بعنوان :
هـل نحتفـل بالمولـد النبوي ... ؟؟؟
وهو هنا :
http://saaid.net/Doat/assuhaim/100.htm

وذكرتُ فيه طرفا من أحوال الصحابة في صِدق المحبة له صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم يُنقَل عنهم ما يَفعله أهل الأهواء والبدع .

ثم إن دعاوى المحبة والتي يُحاول أولئك إثباتها عَبْر الاحتفال بمولده فيها إزراء بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، مع ما فيها من مخالفة هَدْيِه وأمْرِه صلى الله عليه وسلم .
فالاحتفال بالمولد النبوي لم يَكن في القرون الفاضلة ! وحسبُك بِعمل لم يَكن في القرون الفاضلة ، ولم يَكن عليه خيار الناس – أن يُرَدّ على صاحبه !

وأما قوله : (كالذين يزعمون أن النبي محمد ميتة) فهذا ظُلم عظيم ، وكذب مُبين ! فلم يَقُل بهذا مسلم قطّ ، أي لا أحد يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم مَيْتَة .
أما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات فهذا حق ، ومن أنكره فقد كُفُر بالقرآن ، فإن الله يقول في مُحكم كِتابه مُخاطشبا نبيّه صلى الله عليه وسلم : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، وقال : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) .
وقالت عائشة رضي الله عنها : أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يُكَلّم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسَجّى بْبُرْد حَبرة ، فكشف عن وجهه ، ثم أكَبّ عليه فَقَبّلَه ، ثم بكى ، فقال : بأبي أنت يا نبي الله ! لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتَة التي كُتِبَتْ عليك فَقَد مُتَّها . رواه البخاري .
وقالت أيضا عن خطبة أبي بكر رضي الله عنه : فَحَمِدَ الله أبو بكر وأثنى عليه ، وقال : ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قَدْ مَات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) ، وقال (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) ، فَنَشَجَ الناس يَبْكُون . رواه البخاري .
فهل كان أبو بكر رضي الله عنه مُبغِضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أخبر أنه ميّت ؟!
والأحاديث في هذا كثيرة .

وإليك الجواب بالتفصيل عما استُدلّ به :

1 – قول القائل :
[وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه: " وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمّان عن مالك الدار قال أصاب الناس قحط (أي مجاعة) في زمن عمر (أي في خلافته) فجاء رجل (من الصحابة) إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسقِ لأمتك فإنهم قد هلكوا، (معناه اطلب من الله المطر لأمتك) ]

الجواب :
أولاً : هذا النصّ أُدْخِل فيه ما ليس منه ، لِيَخْدِم الغَرَض الذي سِيق لأجله !
ثانياً : النصّ كما هو في فتح الباري :
[ وروى بن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الداري - وكان خازن عمر - قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله اسْتَسْقِ لامتك فإنهم قد هلكوا . فأُتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر .. الحديث . وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة ] .
فقوله في النصّ السابق [فجاء رجل (من الصحابة)] يُوهَم أنه من رواية ابن أبي شيبة التي صحَّح إسنادها الحافظ ابن حجر رحمه الله ، وليس كذلك ، بل هي من رواية سيف بن عمر ، وروايته لا يُعوّل عليها عند أهل العلم !
فلا يثبت أن الذي جاء هو رجل من الصحابة ، فلِم أُقْحِم في النصّ أن الرجل من الصحابة ؟!
ولماذا حُذِفتْ بقية كلام الحافظ ؟
ربما لأنها تُسقط الاستدلال !
كما أنه زيد في النص ما ليس منه ، وهو قوله : [إيتِ عمر فاقرئه مني السلام وأخبره أنهم يُسقون]
وهذا القدر ليس في فتح الباري .. وإن كان في رواية ابن أبي شيبة .
وهذا تُبيّنه وتُوضِّحه رواية بن أبي خيثمة – وفيها - : ائت عمر فقل له : إنكم مُسْتَسْقُون فعليك الكَّفّين . قال : فبكى عمر وقال : يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه . ذَكَرها ابن حجر في كتاب " الإصابة " .
فقوله : " إنكم مُسْتَسْقُون " يُوضِّح المقصود ، وهو ما دَلَّتْ عليه رواية البخاري ، وأوصاه بالدعاء ورفع الأكَفّ .

ثم إن هذا ليس فيه مُستمسَك لأهل التوسّل الممنوع [ التوسّل بالأموات ] !
كيف ؟
الجواب :
أولاً : أنه رؤيا منام ، ورؤيا المنام ليس فيها دليل ، ولا يُعوّل عليها ولا يَجوز العمل بمقتضاها ، وإلا لزِم منه تغيير الدِّين ، والاستدراك على شريعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ، كما بيّنه أوضح بيان الإمام الشاطبي في كتابه " الاعتصام " .
ثم إن الرؤى يُستبشر بها ولا يُعوّل عليها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : لـم يَبْقَ من النبوة إلا المبشِّرات . قالوا : وما المبشِّرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة . رواه البخاري .
فهي مُبشرِّة بنصّ قوله صلى الله عليه وسلم ، أي أنه يُستبشر بها ، ولا يُعوّل عليها من ناحية العمل .

ثانياً : لو صحّ الاستدلال بها لم يكن فيها مُستمسَك ، لأن الرجل لم يَكتَفِ بإتيان قبره صلى الله عليه وسلم وسؤاله ، بل أُتِي الرّجل في المنام – أتاه آتٍ – فأرشده أن يأتي إلى عمر رضي الله عنه

ثالثاً : أصحاب هذا الْمَسْلَك والاستدلال يبترون النصوص لِيَتِمّ لهم ما أرادوا .
وإلا فلِم لم يُعرِّجوا على آخر القصة ، وأن الرجل قيل له في المنام : ائت عمر .
وأنه أتى إلى عمر رضي الله عنه ، وفَعَل عمر ما فَعَل ، وهو ما رواه البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحِطُوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، فقال : اللهم إنا كُنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بِعَمِّ نبينا فاسقنا . قال : فَيُسْقَون .
وهذا لا يُنكَر .
بل فيه دليل على من أجاز التوسّل بالأموات ، وفيه إسقاط لِشُبْهَتِه ، ودحض لِباطِله .
إذ لو كان من الْمُستَقِرّ عند الصحابة إتيان قبره صلى الله عليه وسلم والتوسّل به لما لجأ عمر رضي الله عنه ومن معه من الصحابة إلى العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء ، وأفضل من عمّه بلا ريب ، فلو كان الصحابة رضي الله عنهم يَرون جواز التوسّل بالأموات لأتوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه السُّقيا والشفاء !
وهذا لم يَكن منهم رضي الله عنهم .
وتقديم عمر رضي الله عنه للعباس رضي الله عنه ليس من باب التوسّل بالأموات ، بل هو من باب طلب الدعاء من الحيّ الذي يُرجَى صلاحه ، وهذا لا خلاف فيه .
والعباس رضي الله عنه حيّ وهو رجل صالح بالإضافة إلى قُربه من النبي صلى الله عليه وسلم .
ولو كان يجوز التوسّل بالنبي صلى الله عليه وسلم لما تَرَكَ الصحابة رضي الله عنهم سؤاله صلى الله عليه وسلم وهم أقرب الناس إليه – في المدينة – وأحب الناس إليه ، وهو أحب الناس إليهم ، ولما قدّموا العباس رضي الله عنه يَدعو لهم .
ولم يكن التوسّل بشخص العباس فحسب بل بِصلاحه ودعائه ، فقد روى عبد الرزاق في المصنّف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر استسقى بالمصلى ، فقال للعباس : قُم فاسْتَسْقِ ، فقام العباس فقال : اللهم إن عندك سحابا وإن عندك ماء ، فانشر السحاب ، ثم أنزل فيه الماء ، ثم انزله علينا ، فاشْدُد به الأصل ، وأطَلْ به الزرع ، وأدِرّ به الضرع ... الحديث .
وكان من دعاء العباس يومئذ : اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ، ولا يكشف إلا بتوبة ، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا إليك بالتوبة ، فاسقنا الغيث .
فَدَلّ هذا على أن التوسّل إنما كان بِدعاء العباس رضي الله عنه ، ولو كان بشخص العباس فَحَسْب لاكتفى عمر رضي الله عنه بالدعاء بشخص العباس أو بمن هو أولى منه ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفرق بين طلب الدعاء من الحيّ ، وبين طلبه من الميّت .
فالأول مسموح ، والثاني ممنوع .

2 – الاستدلال بقوله تعالى : (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ليس مَحلّ استدلال بجواز التوسّل أو الاستغاثة بالأموات ، بل فيه الاستغاثة بالحيّ القادر فيما يَقدر عليه .
وهذا محلّ اتّفاق .
ولو كانت الاستغاثة بِنوحٍ عليه الصلاة والسلام في زمان موسى عليه الصلاة والسلام لربما استدلّ به المخالِف !
ولو كان يجوز ذلك في شريعة من قبلنا لم يَكن ليُستَدلّ به في شريعتنا ، إلا أن تأتي شريعتنا بإقراره ، ولذلك لا يجوز الاستدلال بِفعل يوسف عليه الصلاة والسلام مع أبويه بجواز السجود لغير الله ، لأن شريعتنا جاءت بمنعه .

وهذا من الأدلة التي يضعونها في غير مواضعها ! فإن استغاثة الرّجل بموسى عليه الصلاة والسلام فيما كان موسى يقدر عليه في حال حياته عليه الصلاة والسلام .

3 – ومثل الاستدلال السابق ما يُستَدلّ به في الشفاعة يوم القيامة ، فقد جاء في السؤال قول صاحب الشُّبْهَة :
[ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض أحوال يوم القيامة : إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضى بين الخلق. رواه البخاري في كتاب الزكاة ]

وهذا ليس في حال الوفاة بل هو فيما يكون بعد البِعْث ، أي أن هذا يكون يوم القيامة ، والناس أحياء حياة لا موت بعدها .
فلا يستقيم الاستدلال بهذا الدليل ، لأننا نُثبت الشفاعة لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وهي الشافعة العُظمى في الموقف العصيب ، وهذا يكون يوم القيامة .

والشفاعة أنواع ، وسبق ذِكرها هنا :
http://www.almeshkat.net/vb/showthre...threadid=16044

وهل نحن نُنكِر الشفاعة حتى يُستَدلّ علينا بمثل هذا ؟!
هذا والذي قبله يُنكَر بهما على من يُنكِر ذلك .

4 – الاستدلال بحياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم ، حيث يقول صاحب الشُّبْهَة :
[ روى الإمام مسلم في صحيحه كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى عليه السلام قال: حدثنا هدّابُ بنُ خالد وشيبانُ بنُ فَرّوخٍ قالا: حدّثنا حماد بنُ سَلَمةَ عن ثابتٍ البُناني وسُليمان التميمي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتيتُ (وفي رواية هدّابٍ: مررتُ) على موسى ليلةَ أُسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يُصلي في قبره" ]
أقول :
وأصْرح منه قوله صلى الله عليه وسلم : الأنبياء أحياء في قبورهم يُصَلّون .
قال الهيثمي : رواه أبو يعلى والبزار ، ورجال أبي يعلى ثقات . اهـ .
وقال الألباني : صحيح .
وقال الشيخ رحمه الله مُعلِّقا على هذا الحديث : اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي حياة برزخية ، ليست من حياة الدنيا في شيء ، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها ؛ ومحاولة تكيفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا . هذا هو الموقف الذي يجب أن يَتّخذه المؤمن في هذا الصَّدَد : الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيِسَة والآراء ، كما يَفعل أهل البِدع الذين وصَل الأمر ببعضهم إلى ادِّعاء أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره حياة حقيقية ! قال : يأكل ويشرب ويجامع نساءه ! ، وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى . ويشهد للحديث رؤيته صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لموسى قائما في قبره يُصلي . اهـ .

فإذا أثبتنا حياة الأنبياء في قبورهم ، وأنها ليست من جنس حياة الأحياء في هذه الدنيا ، فليس لأحد أن يتوسّل بهم ، ولا أن يَدعوهم .
لأن إخباره صلى الله عليه وسلم عن حياته في قبره أو عن حياة الأنبياء ليس فيه إذن ولا أمر بالتوسّل به صلى الله عليه وسلم ولا بِغيره من الأنبياء .

5 – الاستدلال بأن صلاة من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم معروضة عليه .
حيث جاء في الشُّبْهَة : [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي من بعيد أُعلمته". قال الحافظ في الفتح وسنده جيد .اهـ ]
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن حياة الأنبياء :
وإذا ثبت أنهم أحياء من حيث النّقل فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن والأنبياء أفضل من الشهداء ، ومِن شواهد الحديث ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه ، وقال فيه : وصَلُّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم . سنده صحيح ، وأخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب بسند جيد بلفظ : من صلى على عند قبري سمعته ، ومن صلى عليّ نائيا بُلِّغته . وعند أبي داود والنسائي وصححه بن خزيمة وغيره عن أوس بن أوس رفعه في فضل يوم الجمعة : فأكْثِرُوا عليّ من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة عليّ . قالوا : يا رسول الله وكيف تُعْرَض صلاتنا عليك وقد أَرِمْت ؟ قال : إن الله حَرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء . اهـ
فصلاة من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبْلُغه وإن كان بعيدا فإن صلاته تُعرَض على النبي صلى الله عليه وسلم .
ولا إشكال في ذلك ، وكيفية ذلك لا تُعلَم ، لأن هذا من ألأمور الغيبية التي لا عَهْد للإنسان بها ، ولا بِكيفيتها .
وإثبات حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره لا يُسوِّغ دعاءه ، ولا يُجيز التوسّل به صلى الله عليه وسلم ، إذ لو كان ذلك جائزاً لَدَلّ أمته عليه .
فإن كان دَلّ أمته عليه ، فأين هو الدليل ؟!
وإن لم يكن فهو من قبيل الممنوع ، إلا حَسب زعم الصوفية أن الأولياء فوق درجة الأنبياء ! فيجوز حينئذ عندهم أن يفعل الوليّ ما لم يأذن به النبي ! وهذا هو الكفر بِعينه !
وهذا لَعمر الحقّ هو التنقّص للنبي صلى الله عليه وسلم من أقوام زعموا محبته ! والإزراء به عليه الصلاة والسلام .
يقول قائل الصوفية :
مقام النبوة في برزخ *** فُويق الرسول ودون الولي !

وأمرٌ آخر أشار إليه الحافظ ابن حجر ، وهو أن الله أثبَت حياة الشهداء ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .
وممن قُتِل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه ، وهو عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أسد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لا يَسُوغ أن يُدعى ، ولا أن يُتبرّك به ، وإن كان حيًّـا حياة برزخية .
ولو جاز أن يُتبرّك به ، أو يُدْعَى أو يُستشفَع به لَدَلّ النبي صلى الله عليه وسلم أمّته عليه ، فلما لم يَدُلّ أمته عليه عُلِم أنه غير مشروع .
ومن قال بجواز التوسّل بالأموات ، أو التبرّك بهم ، فإنه يستدرك على النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ويتّهمه بالتقصير في البلاغ .

6 – الاستدلال بمشروعية زيارة القبور على شدّ الرِّحال ، والاستدلال بآية النساء :
حيث جاء في السؤال قول صاحب الشُّبْهَة :
[وقال الإمام أحمد بن زيني دحلان في كتابه الدرر السُّنية في الرد على الوهابية : اعلم رحمك الله أن زيارة قبر نبينا صلى الله عليه وسلم مشروعة مطلوبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}
دلت الآية على حث الأمة على المجيء إليه صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم وهذا لا ينقطع بموته.اهـ]

أولاً : أحمد دحلان هذا لا يَرقى لمراتب العلماء فضلا عن أن يُوصَف بالإمامة !
ثانياً : زيارة القبور لا يُجادَل فيها ولا يُمارَى ، وهي مشروعة ، وليس المقصود منها التبرّك بالأموات ، ولا التوسّلأ بهم ، بل مقصودها الأعظم نَفْع الزائر نفسه ، ولذا قال عليه الصلاة والسلام : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإن في زيارتها تَذْكِرة . رواه أبو داود وغيره ، وأصله في صحيح مسلم .

ثالثاً : ما يتعلّق بِشَدّ الرِّحال إنما يكون لِمسجده صلى الله عليه وسلم ابتداء ثم يُزار قبره ، امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومسجد الأقصى . رواه البخاري ومسلم .
رابعاً : الاستدلال بالآية لا يُسلَّم ، وذلك من خمسة أوجه ، سبق بسطها وبيانها هنا :
مسألة في قوله تعالى(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)
ولم يثبت أن أحداً من أهل العلم استدلّ بها على ما زعمه "دحلان " ، ولا فَعَله أحد من الصحابة رضي الله عنهم .

وأما حديث : " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم " . فهو حديث ضعيف لا تقوم به حجّة ، كما بينه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة .
وقد ورد مختصرا بلفظ : تُعْرَض عليّ أعمالكم كل خميس . وهو حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قول [رواه البزار ورجاله رجال الصحيح كما قال الحافظ الهيثمي في مجمعه]
فهذا تدليس على القرّاء ! وإيهام تصحيح الحديث !
وقول الحافظ الهيثمي لا يُعتبر تصحيحاً للحديث ، فإن قوله : رجاله رجال الصحيح . لا يقتضي صِحّة إسناد الحديث ، بل ولا يقتضى اتِّصال إسناده ، بل الوصف لِرجال الإسناد دون الإسناد نفسه ، وهذا يَعلمه من له أدنى معرفة بمصطلح الحديث وطُرُق الأئمة في كُتبهم .
فقول الحافظ الهيثمي مثلا : رجاله ثقات ، أو رجاله رجال الصحيح ، ونحوها ، لا يُقتضي صِحّة الحديث ، بل الوصف مُتعلّق بِرجال الإسناد ، دون تصحيح الإسناد ، ودون تصحيح مَتْن الحديث .
والحدث ضعيف كما علمت .

فانظر إلى فِقه القوم ودعاوى المحبة ، حيث يستدلّون بالضعيف والموضوع المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! زعما منهم أنهم ينصرون سُنّته ، وأنهم يُحبّونه .
وهذا مثل استدلال من يستدلّ بحديث : إذا سألتم الله فاسألوه بِجاهِي ، فإن جاهي عند الله عريض . وهو حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا تجوز روايته ، ولا يَحِلّ تناقله إلا على سبيل التحذير منه .
وسبق بيان ذلك هنا :

ما صحة حديث : أن آدم عليه السلام قد توسل برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
http://www.almeshkat.net/index.php?pg=fatawa&ref=832

ما حُكم التوسّل بِجاه النبي صلى الله عليه وسلّم ، أو بِحَـقِّه ؟
http://www.almeshkat.net/index.php?pg=fatawa&ref=833

7 – الاستدلال بالحديث الضعيف مرة أخرى ، في التوسّل والسؤال بِحق السائلين ! حيث جاء في الشُّبْهَة :
[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال إذا خرج إلى المسجد: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا ، فاني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، فأسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك . رواه ابن ماجة وأحمد والطبراني والبيهقي]
فهذا ليس فيه مُا يَتمسّك به دُعاة دُعاء الأموات ! من وجهين :
الأول : ضَعف الحديث ، كما بيّنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة .
الثاني : أن هذا الحديث لو صحّ لم يَجُز أن يُتعدّى إلى كل توسّل ممنوع ، بل يُقتصر على ما وَرَدَ فيه ، هذا مِن جِهة ، ومن جهة أخرى فإن الداعي يدعو ربه ، وبما أوجَب رب العزّة على نفسه ، لا يَدعو الأموات من دون الله ، فتأمّل !
فإن الداعي يقول : " أسألك بِحقّ السائلين عليك " فلو صحّ الحديث لم يَكن فيه دعاء أموات ، بل فيه دعاء الله بما أوجَب على نفسه .
هذا لو صحّ ، كيف والحديث ضعيف ؟!

8 – قول القائل :
[ألف علماء الإسلام الكتب في الاستشفاع والتوسل نذكر منها:
1 - كتاب الوفاء في فضائل المصطفى لابن الجوزي ، أفرد بابا حول التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبابا للإستشفاء بقبره الشريف.
2 - شفاء السقام لتقي الدين السبكي حيث تعرض لمسألة التوسل بشكل تحليلي معتبر.
3 - مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام لمحمد بن نعمان المالكي وغيرهم كثير]

وهذا مردود من وجوه :
الأول : أن كلام العالم يُستدَلّ له ، ولا يُستَدلّ به ، فليست العصمة لأحد بعد الأنبياء ، وكلّ يُؤخَذ من قوله ويُترَك إلا محمد صلى الله عليه وسلم .
ثانياً : أن ابن الجوزي رحمه الله ليس ممن تُؤخَذ عنه العقيدة ، فقد وقع في التأويل المذموم ، ويُقال مثله عن السُّبْكي .
وقديما قيل : اعرف الحقّ تَعرِف أهله .
وهؤلاء يُريدون قلب القاعدة !
فهم لا يَعرفون الحقّ إلا إذا جاء عن فلان أو فلان !
ثالثاً : أن كتاب " مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام " مما تستدلّ به الرافضة والصوفية ! وقد رأيت بعض مواقع الرافضة تُشيد بهذا الكتاب !
وحسبك أن الكتاب خَدَم أعداء الإسلام ، ولم يَخدم أهل الإسلام !

وليست العبرة بالتأليف بِقدر ما تكون العِبرة بمحتوى الكتاب ومضمونه ، فإن قُطْب الصوفية ! ابن عربي ألّف كتابا في الشِّرْك والْكُفْر ! وقد قال عنه الإمام الذهبي : ومن أردأ تواليفه كتاب (الفصوص) فإن كان لا كـُـفْــر فيه فما في الدنيا كفــر!!! نسأل الله العفو والنجاة . فواغوثاه بالله ، وقد عَظَّمَه جماعة وتكلّفوا لما صَدَرَ منه ببعيد الاحتمالات . اهـ .

9 – الاستدلال مرة ثالثة بالحديث الضعيف ! وفي غير ما دلّ عليه ! يقول صاحب الشُّبْهَة :
[أخرج البزار من حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله ملائكة سياحين في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله]
فالحديث أولاً ضعيف ، لا تقوم به حُجّة ، ولا يُعوّل عليه ، كما بيّنه الشيخ الألباني في تخريج " الكلِم الطيب " وفي " السلسلة الضعيفة " .
وقول الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات . لا يُعتَبر تصحيحاً له . فتوثيق الرِّجال لا يَلزم منه صِحّة الإسناد ، وصِحّة الإسناد لا يَلزم منها صِحّة الحديث . وهذا مبني على قواعد وأصول بيّنها العلماء في مصطلح الحديث .
ومثله حديث : إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة ، فليناد : يا عباد الله احبِسُوا عليّ ، يا عباد الله احبِسُوا عليّ ، فإن لله عز وجل في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم . فهو ضعيف أيضا .
ومثله أيضا حديث : " إذا أضلّ أحدكم شيئًا أو أراد عونًا وهو بأرضٍ ليس فيها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني" وفي رواية " أغيثوني " ، " فإن لله عبادًا لا ترونهم " . فهو ضعيف أيضا .

ولو صحّ الحديث فليس فيه مُسْتَمسَك لمن يستدلّ به على التوسّل بالأموات ، فإن الاستغاثة بالحي فيما يَقدِر عليه لا تُنكَر ، وقد مضى هذا في آية القصص (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) .
فالشخص يُنادي حيًّـا قادراً ، ولا يُنادي ميّتا . فغاية ما في هذا الحديث – لو صَحّ – أن يكون الإنسان يستعين بِـ " حَيّ قادر " على أمر يستطيعه .
وهذا كأن ترى إنسان قادم من بعيد وأنت تريد ردّ الدابة فتُنادِيه وتصيح به : رُدّ الدابة .

10 – تحريف الكلم عن مواضِعه ! والزيادة في النصوص لتخدم أهواءهم ! يقول صاحب الشُّبْهَة:
[روى البخاري في الأدب المفرد ما نصه : حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن أبي اسحق عن عبد الرحمن بن سعد قال : " خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل : اذكر أحب الناس إليك فقال : يا محمد "ا.هـ . وقد ذكر البخاري هذا الحديث تحت عنوان: "باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله]
أولاً : الحديث ضعيف ، ففي إسناده أبو إسحاق السبيعي ، وهو قد اختلط وتغيّر بأخرة ، وهو مُدلّس أيضا . فالحديث ضعيف كما بيّنه الشيخ الألباني في تخريج " الكلِم الطيب " وفي "ضعيف الأدب المفرَد " .
ثانياً : ليس في الحديث عند البخاري في الأدب المفرد حرف النداء ( يا ) بل ( محمد ) بدون يا النداء .
ثالثاً : لو صحّ الأثر ليس فيه مُستمسك على الاستغاثة بالأموات ولا بالتوسّل بهم ، بل غاية ما فيه ذِكْر اسم من تُحبّ .
ولم يَقُل ابن عمر – ولا غيره من الصحابة – بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد أغثني ، ولا يا محمد اشفِ مريضي ، أو اقضِ حاجاتي ، ولا حتى في هذا الحديث لم يَقُل : يا محمد أزِل الْخَدَر عن رِجْلِي !
فابن عمر رضي الله عنهما لم يَدعُ النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسأله الشفاء ، كما يفعله بعض الجهال .
ووَرَد هذا الأثر عن ابن عباس ، وذَكَره شيخ الإسلام ابن تيمية في " الْكَلِم الطيب " وحَكم عليه الألباني بالضعف الشديد .

11 – الاستدلال بما في كُتب التواريخ دون النظر إلى مناهج مؤلِّفيها ، ودون النظر في أسانيدها
حيث جاء في السؤال :
[في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الذي تحبه الوهابية في المجلد الذي فيه الجزء السابع والثامن ص 104-105 يذكر فيه عن بلال ابن الحارث المزني الصحابي الذي قصد قبر النبي وطلب منه ما لم تجري به العادة وتوسل به، وفيه يقول: "إن أهله طلبوا منه أن يذبح لهم شاة فقال ليس فيهِنَّ شيء فألحوا عليه فذبح الشاة فإذا عظمها حُمُرٌ فقال: "يا محمداه"]

أولاً : من يُسمّيه الكاتب ( الوهابية ) هم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وهم يُحبّون كُتُب السلف ، بل وكُتُب الْخَلَف ، ويأخذون منها ما هو نافع ، وما وافَق الحق أخذوا به

ثانياً : قال ابن كثير في البداية والنهاية :
ثم روى سيف عن مبشر بن الفضيل عن جبير بن صخر عن عاصم بن عمر بن الخطاب أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة فقال : ليس فيهن شيء ، فألَحُّوا عليه فذبح شاة فإذا عظامها حمر فقال يا محمداه ... . اهـ .
وهذا أولاً سياق تاريخي ، وكُتُب التواريخ يَتسمّح فيها العلماء ما لا يتسمّحون في غيرها .
هذا من جهة
ومن جهة ثانية أن العلماء كانوا يَرون إبراز وإظهار الإسناد إبراء للعُهدة ، فابن كثير أحال في هذه القصة على رواية راوٍ أخباري ضعيف ، وهو سيف بن عمر . فأقواله غير معتبرة في الحديث فضلا عن أن تكون مُعتبرة في العقائد !
قال عنه الإمام الذهبي : ضَعَّفَه ابن معين وغيره .
وقال عنه ابن حجر في التقريب : سيف بن عمر التميمي ، صاحب كتاب الرِّدّة ، ويُقال : الضبي ، ويُقال غير ذلك ، الكوفي ، ضعيف الحديث ، عمدة في التاريخ ، أفحش ابن حبان القول فيه . اهـ .
فهو في الحديث ضعيف ، فلا يُستدَلّ بما رواه في الأحاديث فضلا عن أن يُستَدَلّ بما رواه في العقائد .
أما في التاريخ فأمرها يسير ، إذ لا يُبنى عليها أحكام ، ولا يُعوّل على ما في كُتُب التواريخ والسِّيَر غالباً ، ولذا قال الإمام أحمد : ثلاثة كتب ليس لها أصل : المغازي والملاحم والتفاسير .
قال الخطيب في جامِعِه : وهذا محمول على كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها وزيادات القصاص فيها ، فأما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة ، وليس يصح في ذِكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة ، وأما كتب التفاسير فمن أشهرها كتابا الكلبي ومقاتل بن سليمان ، وقد قال الإمام أحمد في تفسير الكلبي : من أوله إلى آخره كذب . قيل له : فَيَحِلّ النظر فيه ؟ قال : لا . وقال أيضا : كتاب مُقَاتِل قريب منه . انتهى ... وأما المغازي فمن أشهرها كتب محمد بن إسحاق ، وكان يأخذ عن أهل الكتاب .
وقال الشافعي : كُتُب الواقدي كذب ، وليس في المغازي أصحّ من مغازي موسى بن عقبة . انتهى .
وكذا ما يُذْكَر من القبور بجبل لبنان في البقاع أنه قبر نوح عليه الصلاة والسلام لا أصل له ، وإنما حدث في أثناء المائة السابعة ! وكذلك القبر المشهور الذي يُنْسَب لأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه بالجانب الشرقي من دمشق ، مع اتّفاق العلماء على أنه لم يَدخلها ، فضلا عن دفنه فيها ! وإنما مات في المدينة . وكذلك المشهد المنسوب لعبد الله بن سلام رضي الله عنه في قرية " سقبا " من الغوطة لا أصل له هنا ، وإنما مَدْفَنه بالمدينة كما ذكره العلماء المعتبرون ، منهم النووي . وكذلك المكان المنسوب لابن عمر من الجبل الذي بالمعلاة مقبرة مكة لا يصح أصلا ، وإن اتّفَقُوا على أنه تُوفّي بمكة . والمكان المنسوب لعقبة بن عامر رضي الله عنه من قرافة مصر ، بل منام رآه بعضهم بعد أزمنة متطاولة ! والمكان المنسوب لأبي هريرة رضي الله عنه بعسقلان ، إنما هو قبر حيدرة بن خيشنة على ما جَزَم به بعض الحفاظ الشاميين ، ولكن جزم ابن حبان وتبعه الحافظ ابن حجر بالأول . وكذلك المكان المشهور بالمشهد الحسيني من القاهرة فليس الحسين مَدفوناً فيه بالاتفاق ، وإنما فيه رأسه كما ذكر بعض المصريين . قال الحافظ ابن حجر : ونفاه بعضهم ، ومنهم ابن تيمية فإنه بالغ في إنكار ذلك وأطال ، كما نقله عنه السخاوي .
وقال الإمام محمد بن الجزري : لا يصح تعيين قبر نبي غير نبينا عليه الصلاة والسلام ، نعم قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في تلك القرية لا بخصوص تلك البقعة . انتهى . اهـ . نَقَله العجلوني في كشف الخفاء .

فالعقائد بل والأحكام لا تُؤخَذ من كُتُب التواريخ ابتداءً ، وإنما يُستأنس بما فيها .
وأصحاب تلك الْكُتُب لهم مناهِج وطُرُق في الرواية ، فيَروون في تلك الكُتُب ما لا يَروونه في كُتبهم الأخرى .
فابن جرير الطبري – مثلاً – لم يُعوّل على رواية " أبي مِخنف " في التفسير ، بل ولم يَلتفت إليها في كُتُبه في العقيدة ، ككتاب " صَرِيح السُّنة " .
ولكنه روى عنه في التاريخ ، في كتاب " تاريخ الأمم والملوك " ، لأن له مَنْهَجاً في التفسير وفي العقيدة غير منهجه في التاريخ .
فمن أراد الاستدلال من كُتُب أهل العلم فلا بُدّ أن يكون عالما بمناهج أهل العلم ، وإلا زَلّ فَضَلّ وأضَلّ ، وربما نَسَب إلى العالِم ما لم يَقُلْه ، وما لم يَقُل بِه .

ثم لو صَحّتْ نِسبة ذلك القول إلى الصحابي ، فليس فيه ما يُستَنَد إليه !
فقول : " يا محمداه " ليس فيه نداء استغاثة ، ولا توسّل به صلى الله عليه وسلم ، بل غاية ما فيه أن يكون كما في التشهّد " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " ، فهو من باب استحضار الْمُخَاطَب ، لا من باب دعائه .
ويَدلّ على هذا قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه : إن الله هو السلام ، فإذا صلى أحدكم فلْيَقُل : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ؛ فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض . رواه البخاري ومسلم .
أي أصابه ذلك السلام ، ولم يَقُل : إنكم تَدعون كل عبد صالح ، ولا أنه يسمعكم كل عبد صالح
وهذا كما يُسلّم على الأحياء يُسلّم على الأموات .
ولا يُنكَر أن يأتي آتٍ ويُسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه ، بل على عامة أموات المسلمين ، فالسلام مشروع من الأحياء للأحياء ، ومن الأحياء للأموات ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : لا تَقُل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الموتى . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
فقول : " يا محمداه " من باب استحضار الْمُخاطَب ، وليس من باب الدعاء في شيء ، كما يقول القائل : وا مُعتَصِماه ، وهو لا يَدعو " المعتَصِم " ولا يُريد منه نُصرَة ! وكما يقول القائل : أين أنت يا صلاح الدّين ؟ فهو لا يَدعو " صلاح الدّين " ويَعلم عِلم يَقين أن صلاح الدين لا يَرجِع إلى الدنيا ، ولا يَملك لِنفسه ولا لغيره ضَرًّا ولا نفعاً ولا موتا ولا حياة ولا نشوراً .
وإنما هو يستحضر شَخص ذلك الْمُخاطَب ، وهذا أسلوب معروف عند أهل العربية .

12 – الاستدلال بحديث ربيعة بن كعب رضي الله عنه ، حيث قال :
[روى مسلم في صحيحه أن ربيعة بن كعب الأسلمي الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله من باب حُبّ المكافأة:"سلني"، فطلب من رسول الله أن يكون رفيقه في الجنة، فقال له: أسألك مرافقتك في الجنة، فلم يُنكر عليه رسول الله بل قال له من باب التواضع:" أو غير ذلك" ، فقال الصحابي : هو ذاك ، فقال له : " فأعني على نفسك بكثرة السجود " ]

وهذا حق ّلا مِرية فيه ، ولكن لا بُد لكل استدلال من أمرين :
الأول : صِحّة الدليل .
والثاني : صِحّة الاستدلال .

فالدليل صحيح لا إشكال فيه ، ولا غُبار عليه ، وإنما الاستدلال هنا لا يُسلّم لِمن استَدَلّ به .
فسؤال النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أمراً مُمكِناً لا يُنكَر ، فهل أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ضَمَانة إلى الجنة ؟
وهل قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أدْخَلْتُك الجنة ؟
الجواب : لا ، فلا صُكوك غفران في الإسلام ، وإنما هذا في النصرانية وفي دِين الرافضة !
وإنما أحَالَه عليه الصلاة والسلام على عَمَلٍ يُدخِله الجنة ، وهو " كثرة السجود " .
ولذلك بوّب عليه الإمام النووي في شرح مسلم بـ " باب فضل السجود والحث عليه " .
ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم مُؤيّد بالوحي ، فإذا أخبر أن شخصا بِعينه في الجنة ، فإنما يكون ذلك بما أوحاه الله إليه .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لأقرب الناس إليه : يا أم الزبير بن العوام عمة رسول الله ، يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله لا أملك لكما من الله شيئا ، سَلاني من مالي ما شئتما . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : لما أنزلت هذه الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، فاجْتَمَعُوا ، فَعَمّ وخَصّ ، فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك لكم من الله شيئا ، غير أن لكم رَحِمًا سَأبُلّها ببلالها .
قال الإمام النووي : ومعنى الحديث سَأصِلُها ، شُبِّهَتْ قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة ، ومِنه : " بُلّوا أرحامكم " أي صِلُوها . اهـ .
وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم : ولكن لهم رَحِم أبُلّها ببلالها . يعني أصِلُها بِصِلَتِها . رواه البخاري .
فهذا إعلان منه صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه - فضلا عن غيرهم - أنه لا يَملِك لهم شيئاً ، إلا ما يكون من صِلَة الرّحِم ، وما كان يستطيع أن يُعطيهم من مالِه ، فقال لعمّته وابنتِه : " سَلاني من مالي ما شئتما " رواه البخاري ومسلم .
وقال لِقَرَابته : " فإني لا أملك لكم من الله شيئا ، غير أن لكم رَحِمًا سَأبُلّها ببلالها " .

13 – الاستدلال بما جاء عن موسى عليه الصلاة والسلام ، حيث قال :
[وكذلك سيدنا موسى عليه السلام سألته عجوز من بني إسرائيل أن تكون معه في الجنة ، ولم يُنكر عليها ذلك ، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها أي طلبها.. رواه ابن حبان والحاكم والهيثمي وصححوه .. ولفظ الحديث أنه قال: "دلوني على قبر يوسف ، قالت : حتى تعطيني حكمي ، قال: ما حكمك ؟، قالت : أن أكون معك في الجنة ، فَكَرِه أن يعطيها ذلك ، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها ". فماذا يقولون بعد هذا ؟؟]

أولاً : قال ابن كثير عن هذا الحديث : وهذا حديث غريب جدا ، والأقرب أنه موقوف . اهـ .

ثانياً : لم يُصحِّحه الإمام الهيثمي ، كما يُوهِمه قوله أعلاه ، بالإضافة إلى خطأ منهجي يَدلّ على ضعف علم من استدلّ به ! وهو قوله : " رواه ابن حبان والحاكم والهيثمي " فالهيثمي لا يُقال في حقِّه : رواه الهيثمي ؛ لأنه لا يَروي الحديث بإسناده ، بل يُورِده مُختَصَراً .
ومع ذلك فلم يُصحِّح الهيثمي الحديث ، بل قال فيه : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح . اهـ .
وهذا لا يُعتَبَر تصحيحاً عند الْمُحدِّثِين ، فالْحُكم على الرِّجال ليس حُكما على الإسناد ، والْحُكم على الإسناد لا يَعني تصحيح الحديث ، فقد يكون متن الحديث مُنْكَراً ، وقد يكون مُعللاً ، وقد يكون شاذًّ ، كما هو معلوم عند أهل هذا الفنّ .
ومع ذلك فالهيثمي مُتَعّقّب في كثير من أحكامه ، ومنها هذا ، فهذا الحديث على شرط مسلم وحده ، فإن " يونس " لم يُخرِّج له البخاري في صحيحه . كما بيّنه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " .

ثالثاً : إحقاقاً للحقّ – وحتى لا يُقال تغافل عمّن صحّح الحديث - فالحديث صحّحه الشيخ الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " .

رابعاً : فِقه الحديث :
1 - ليس فيه ما يَدلّ على دعاء الأموات ، فإن تلك المرأة سألت موسى عليه الصلاة والسلام أن تكون معه في الجنة ، فأمره الله أن يُعطيها سؤلها ، وهو أن تكون معه في الجنة ، وموسى عليه الصلاة والسلام مُؤيّد بالوحي ، فلا يُقاس غير الأنبياء على الأنبياء ، وهي لم تَطلب ذلك من يوسف عليه الصلاة والسلام وهو في قَبره مع معرفتها بِقَبْرِه ، بل طلبت ذلك من نبيّ حيّ يُوحى إليه ، وقد أوحى الله إليه أن يُعطي تلك المرأة ما سألتْ .
هذا من ناحية .
2 - ومن ناحية أخرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم ساق تلك القصة شحذاً للهِمم ، ويُؤيِّد هذا ما جاء في أول الحديث .
قال أبي موسى رضي الله عنه : أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابياً فأكرمه ، فقال له : ائتنا . فأتاه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : سَلْ حاجتك . قال : ناقة نركبها ، وأعْنُز يحلبها أهلي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل ؟ قالوا : يا رسول الله ، وما عجوز بني إسرائيل ؟ قال : إن موسى عليه السلام لما سار ببني إسرائيل من مصر ضَلُّوا الطريق ، فقال : ما هذا ؟ فقال علماؤهم : إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا مَوثِقاً من الله أن لا نَخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا . قال : فمن يعلم موضع قبره ؟ قال : عجوز من بني إسرائيل ، فَبَعَثَ إليها ، فأتته ، فقال : دُليني على قبر يوسف . قالت : حتى تعطيني حُكمي . قال : وما حكمك ؟ قالت : أكون معك في الجنة . فَكَرِه أن يُعْطِيها ذلك ، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها ، فانطلقت بهم إلى بحيرة موضع مستنقع ماء ، فقالت : أنضبوا هذا الماء فأنْضَبوه ، فقالت : احتفروا ، فاحتفروا ، فاسْتَخْرَجُوا عظام يوسف ، فلما أقَلّوها إلى الأرض وإذا الطريق مثل ضوء النهار .
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كَرِه سؤال الأعرابي واقتصاره على متاع دنيوي زائل ، فأراد تعليق هِمم الناس بالنعيم المقيم ، فَضَرَب مثالا بتلك العجوز التي لم تسأل موسى عليه الصلاة والسلام شيئا من متاع الدنيا ، وإنما سألته أن تَكون معه في الجنة .
3 - ثم إن في هذه القصة ما يَرُدّ على من يَدعو الأموات ، أو يتوسّل بالأنبياء ، فإن تلك العجوز ، بل بني إسرائيل لم يتوسّلوا بنبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام ، ولا تبرّكوا به ، ولا ذُكِر أن تلك العجوز كانت تأتي مكانه – وهي تَعْلَمه – لتسأل حوائجها !
فَدَلّ هذا على منع التوسّل بالأموات ، ولو كان ذلك جائزاً لكان موسى عليه الصلاة والسلام قد دَلّ الناس عليه ، خاصة مع كثرة أنبياء بني إسرائيل ، وإخراجهم لِجَدَث يوسف عليه الصلاة والسلام .

14 – الاستدلال بِفعل عائشة في وضع قطعة من قميصه عليه الصلاة والسلام معها في قبرها ، حيث قال حيث قال صاحب الشُّبْهَة : [روى الإمام مرتضى الزبيدي في شرح الاحياء ( 10/ 333 ) عن الشعبي قال حضرت عائشة رضي الله عنها فقالت : إني قد أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثا ولا أدري ما حالي عنده فلا تدفنوني معه ، فاني أكره أن أجاور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدري ما حالي عنده ثم دعت بخرقة من قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ضعوا هذه على صدري وادفنوها معي لعلي أنجو بها من عذاب القبر]

ولا يُنكَر التبرّك به عليه الصلاة والسلام في حياته ، والتبرّك بآثاره بعد وفاته ، وهذا ثابت عن غير واحد من الصحابة .
أما في حال حياته صلى الله عليه وسلم فالأحاديث والآثار الواردة في ذلك كثيرة جداً ، منها التبرّك بِشَعْرِه صلى الله عليه وسلم وآثاره ، من فَضْلَة وضوء ، ومِن فَضْلَة سؤر ، ومن تبرّك بريقه صلى الله عليه وسلم في تحنيك المواليد ، إلى غير ذلك ، مما هو معلوم مُتّفق عليه بين الجميع
وأما تبرّك الصحابة بآثاره بعد موته صلى الله عليه وسلم ، أو طَلَب البركة في آثاره صلى الله عليه وسلم لتكون مع أحدهم في قبره ، فكثير أيضا ، ومن ذلك :
ما رواه البخاري من حديث سهل بن سعد قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَة ، فقالت : يا رسول الله أكسوك هذه ، فأَخَذَها النبي صلى الله عليه وسلم مُحْتاجًا إليها فلبسها ، فرآها عليه رجل من الصحابة ، فقال : يا رسول الله ما أحسن هذه فاكْسُنِيها ، فقال : نعم ، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامَـهُ أصحابه ، قالوا : ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها مُحتاجًا إليها ثم سألته إياها ، وقد عَرَفْتَ أنه لا يُسْأل شيئا فيمنعه ، فقال : رَجَوتُ بَركَتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لَعَلِّي أُكَفَّن فيها .

وروى البخاري من طريق ثمامة عن أنس أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نِطْعًا فيقيل عندها على ذلك النطع . قال : فإذا نام النبي صلى الله عليه وسلم أخَذَتْ مِن عَرَقِه وشَعْرِه فجمعته في قارورة ، ثم جمعته في سُكّ . قال : فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أن يُجِعَل في حَنوطه من ذلك السُّك . قال : فَجُعِل في حَنوطه . ورواه مسلم مُختَصراً .

قال ابن حجر في فتح الباري : قوله : " أخَذَتْ مِن عَرَقِه وشَعْرِه فجعلته في قارورة " في رواية مسلم : " في قوارير " ولم يَذكر الشعر ، وفي ذكر الشعر غرابة في هذه القصة ، وقد حمله بعضهم على ما ينتثر من شَعْرِه عند التَّرَجّل ، ثم رأيت في رواية محمد بن سعد ما يزيل اللبس ، فإنه أخرج بسند صحيح عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حَلَق شَعْرَه بِمِنى أخذ أبو طلحة شعره فأتى به أم سليم ، فجعلته في سُكّها . قالت أم سليم : وكان يجيء فَيَقِيل عندي على نَطع ، فَجَعَلْتُ أسْلُت العرق .. الحديث . فيُسْتَفاد من هذه الرواية أنها لما أخذت العرق وقت قيلولته أضافته إلى الشعر الذي عندها ، لا أنها أخذت من شَعْرِه لما نام . ويستفاد منها أيضا أن القصة المذكورة كانت بعد حجة الوداع ، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حَلَق رأسه بِمِنى فيها . اهـ .

هذا على سبيل المثال لا الْحَصْر ، والآثار كثيرة في الباب .
ولا يُمكن التبرّك بما يُنسَب إليه صلى الله عليه وسلم من أثر من شَعر أو غيره في زماننا هذا ، لِعدَم اليقين بأن هذه من شَعره ، أو تلك من ثوبه وقميصِه صلى الله عليه وسلم .
ولأن من وجد شيئا من آثاره عليه الصلاة والسلام لا يُؤثِر بها غيرَه ، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما للنبي صلى الله عليه وسلم : ما كنت لأوثِر بنصيبي منك أحداً يا رسول الله . رواه البخاري ومسلم .
هذا من جهة .
ومِن جِهة أخرى من يستطيع أن يَجزم في الأزمنة المتأخِّرة أن ما وُجِد ونُسِب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه من آثاره عليه الصلاة والسلام فِعلاً ؟
ونُدرة آثاره عليه الصلاة والسلام كانت في القرون الفاضلة ، ويَدلّ عليه ما رواه البخاري عن ابن سيرين قال : قلت لَعَبِيدة : عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أصبناه من قِبَلِ أنس ، أو مِن قِبَلِ أهل أنس . فقال : لأن تكون عندي شَعْرَة منه أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها .
وهذا في زمن التابعين ، وهم أقرب الناس إلى الصحابة .

وفي زمان الخليفة المهدي جاءه رجل وفي يده نعل ملفوف في منديل ، فقال :
يا أمير المؤمنين ، هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهديتها لك !
فقال : هاتها .
فدفعها الرجل إليه ، فقبّـل باطنها وظاهرها ، ووضعها على عينيه ، وأمَرَ للرجل بعشرة آلاف درهم ، فلما أخذها وانصرف ، قال المهدي لجلسائه :أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَرها فضلا علن أن يكون لبسها ؟! ولو كذّبناه لقال للناس : أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردّها عليّ ، وكان من يُصدّقه أكثر ممن يدفع خبره ، إذ كان من شأن العامة ميلها إلى أشكالها ! والنصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالما ! فاشترينا لسانه وقبلنا هديته وصدّقناه !ورأينا الذي فعلناه أنجح وأرجح .

فيُقال لمن زَعم أن ذلك الثر من آثاره صلى الله عليه وسلم : أثبِتْ العرش ثم انقُش !
أثبت أولاً أن ذلك الأثر من آثاره صلى الله عليه وسلم ونحن نوافقك على التبرّك به .