نحو فهم أعمق لغائية العبادة في الإسلام

محمد حلمي عبد الوهاب

لا يخرج المعنى العام للعبادة في الإسلام عن إظهار الخشوع والخضوع لله عز وجل. كما أن فيها معنى أساسيا لا يجوز أن يغفل عنه المؤمن، ألا وهو: أن ممارستها تأتي بعد الإيمان بالله الذي شرعها، وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي بلغها وبين تفاصيلها، وأن القيام بها تنفيذ لأمر الله ورسوله الذي جاءنا من عند الله بالعقيدة والعبادة، بالشريعة والشعيرة، بالدين والمعاملة: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا».
وهذا الأمر يدل له، أو عليه، فهم العبادة في اللغة، حيث لا تخرج عن معنى: الطاعة. فأصل العبودية الذل والخضوع، يقال: تعبّد فلان لفلان، إذا تذلل له. ومن ثم فإن كل خضوع ليس فوقه خضوع فهو عبادة، طاعة كانت للمعبود أو غير طاعة. كما أن كل طاعة لله من جهة التذلل والخضوع تسمى عبادة. فالعبادة نوع من الخضوع لا يستحقه إلا المنعم بأعلى أجناس النعم: كالحياة، والفهم، والسمع، والبصر. والتعبيد: التذليل. يقال: طريق معبّد، أي ممهد للمشي عليه. والتعبد: التنسك، تفرق بين المعاني بحسب الاشتقاق. أما معنى قوله تعالى: «فادخلي في عبادي»؛ أي في حزبي، حيث أضاف سبحانه معنى جديدا للعبادة وهو الولاء. ولذلك فإن العبادة والخضوع والتذلل والاستكانة قرائب في المعاني.

وإلى جوار المعنى الأصلي للعبادة في اللغة - وهو غاية الطاعة والخضوع - يبرز شيخ الإسلام ابن تيمية معنى آخر لا تتحقق العبادة إلا به، ألا وهو الحب! حيث يقول في رسالة «العبودية» ما نصه:

«إن الدين يتضمن معنى الخضوع والذل. يقال: دنته، فدان، أي أذللته فذل. ويقال: يدين الله، ويدين لله، أي: يعبد الله ويطيعه، ويخضع له. فدين الله: عبادته، وطاعته، والخضوع له. والعبادة أصل معناها: الذل أيضا. يقال: طريق معبد، إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام. لكن العبادة المأمور بها، تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى، بغاية المحبة له. كما أن آخر مراتب الحب هو التتيم. يقال: تيم الله، أي عبد الله، فالمتيم: هو المعبد لمحبوبه. ومن خضع لإنسان مع بغضه له (كحال الاضطرار) لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له، لم يكن عابدا له».

وقد تابعه في قوله هذا تلميذه ابن القيم، حيث أكد أن أصل العبادة محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه. وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها؛ فهي إنما تتحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه. والواقع أن مراتب العبادة في الإسلام تضم إلى جانب هذا الأصل أصلين آخرين هما: الخوف، والرجاء. والأخير - بحسب ابن القيم - هو عبارة عن: حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب (وهو الله والدار الآخرة) ويطيب لها السير. وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وعلامة صحته: حسن الطاعة، والنظر إلى سعة رحمته تعالى.

أما الخوف من الله تعالى، فيلازم الرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استطاع أن يتحرك ويطير، وإذا اختل أحدهما حيل بينه وبين ذلك. وهو ما عبر عنه المولى عز وجل حين قال: «أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا».. حيث اشتملت هذه الآية على درجات الإيمان الثلاثة التي لا يقوم بناؤه إلا عليها، ألا وهي: الحب، والخوف، والرجاء. فابتغاء الوسيلة إليه يعني: طلب القرب منه سبحانه بالطاعة والعبادة. كما اشتملت آيتا سورة الحجر أيضا على عاملي: الخوف والرجاء: «نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم». ومعناها: أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الإيمان؛ فإنه من غلب عليه رجاؤه عطله، ومن غلب عليه خوفه أقنطه من روح الله «إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون».

لكن الإمام محمد عبده يرى أن الذي يميز العبادة عن غيرها من مختلف ألوان الخضوع وأنماط التذلل وضروب الانقياد الأخرى، ليس هو درجة الطاعة والخضوع - كما يقول اللغويون الذين يرون العبادة هي أقصى درجات الطاعة والخضوع - وإنما العمدة في توضيح ذلك يكون بالنظر إلى منشأ هذا الخضوع، فإن كان منشؤه وسببه أمرا ظاهرا كالملك والقوة ونحوهما، فلا يسمى عبادة، وإن كان منشؤه الإقرار بعظمة المعبود وأنه يمتلك قدرة تعلو على قوى الإدراك والحس معا، فذلك ما يصح أن يطلق عليه لفظ «العبادة».

ويتساءل الإمام في تفسيره قول الله تعالى: «إياك نعبد وإياك نستعين»، ما هي العبادة؟ يقولون: هي الطاعة مع غاية الخضوع. وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل، وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه، ويعرفون الحقيقة برسومها، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها. وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لـ«عبد» وما يماثلها ويقاربها في المعنى كخضع وخنع وأطاع وذل، نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي «عبد» ويحل محلها ويقع موقعها! ولذلك قالوا: إن لفظ «العباد» مأخوذ من العبادة، فتكثر إضافته إلى الله تعالى، ولفظ «العبيد» تكثر إضافته إلى غير الله تعالى، لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى. ومن هنا قال بعض العلماء: إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى، ولكن استعمال القرآن يخالفه.

فعلى سبيل المثال: يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، فضلا عن سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة. فما هي العبادة إذن؟! ويجيب الإمام عن تساؤله السابق بالقول: تدل الأساليب الصحيحة، والاستعمال العربي الصريح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود، لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها، وماهيتها، وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده، وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا، وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء بكرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا. وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية من دون الله! وينتهي الإمام إلى تقرير أن لكل عبادة من العبادات الصحيحة أثرا في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، وأن الأثر إنما يكون على تلك الروح والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة [على الحقيقة]، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا. ويضرب الإمام مثلا لذلك بعبادة الصلاة المطلوب إقامتها وليس مجرد الإتيان بها، وما يرتبط بذلك من بيان غايتها على نحو ما قال سبحانه: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر». كما توعد سبحانه الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيه، المؤدي إلى غايتها بقوله سبحانه: «فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون»، فسماهم مصلين لأنهم أتوا بصورة الصلاة ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي: توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته، والمشعر للقلوب بعظيم سلطانه، ثم وصفهم بأثر هذا السهو، وهو: الرياء ومنع الماعون.

والرياء ضربان: رياء النفاق ورياء العادة، وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته وملاحظة من يعمل له ويتقرب إليه به. وهو ما عليه أكثر الناس، فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولة، عندما يراه يصلي يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل وليس لله شيء في هذه الصلاة. وقد ورد في أحاديث كثيرة أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا، وأن صلاته تلف كما يلف الثوب البالي ويضرب بها وجهه.

* كاتب مصري