بسم الله الرحمن الرحيم

( 2 - 3 )
تاريخ شعب الجزيرة العربية
بين
جغرافية التوراة اليهودية و" كتبة التاريخ الجدد"

إن ربط تاريخ بني إسرائيل (نسل النبي يعقوب عليه السلام) بالجزيرة العربية هو في الأصل أمر طبيعي جدا... لماذا ؟
لأن يعقوب هو بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام جميعا ً) وإبراهيم ابن آزر [وليس تارح كما تذكر أسفار اليهود]- أصله آرامي (أرمي) = أعرابي (عربي)، فذرية سيدنا إسرائيل (يعقوب) بن إسحاق بن إبراهيم (ع)....كذرية سيدنا إسماعيل (ع) هم في الأصل عرب خرجوا من جنوب الجزيرة مثل غيرهم من العرب ، و نحن نعلم أن سيدنا إبراهيم (ع) كما اخبرنا القران الكريم- اسكن من ذريته بمكة المكرمة عند بيته الحرام وهو إسماعيل- قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ[37:إبراهيم]..قال (مِـن) وليس كل ذريته إذ اسكن إسحاق(ع) في الشام.
أما إسماعيل (ع) فقد سكن مكة وكانت لغة إبراهيم وابنيه وذريتهما لغة واحدة في ذلك الوقت وهي تقريباً لغة الكثير من أهل المنطقة العربية في داخل الجزيرة وما حولها من الممالك المرتبطة بها : الشام والعراق و مصر والمغرب ...
أما وقوع افتراق اللغة بين نسل إسحاق ونسل إسماعيل فيما بعد إلى (العبرية و العربية الفصحى وغيرهما) فذلك أيضا ًأمر طبيعي..
لأن أي جماعة إنسانية يتكلم أفرادها نفس اللغة و اللهجة إذا ما افترقت إلى جماعتين منفصلتين جغرافياً لمدة من الزمن (جيلين فأكثر) فإن الاختلافات تبدأ بالظهور ثم تزداد مع مرور الزمن حتى يحصل التمايز التام بين لسانيِّ الجماعتين...وهذا أمر معلوم يدرك بأدنى تأمل لمن يتفكر فيه.
ومما زاد من هذا الاختلاف هو اختلاط نسل إسحاق عليه السلام بالعجم غير العرب فسقط من لغتهم عدة حروف أما أبناء سيدنا اسماعيل عليه السلام فقد بقيت الثماني والعشرون حرفاً مثل باقي شعب الجزيرة وبرغم أن سيدنا إبراهيم قد ولد وتربى في آور الواقعة ضمن مناطق الاختلاط العرقي والإثني (الفرس و العرب) إلا أن سيدنا اسماعيل في وقت مبعثه رسولاً إلى جرهم وعماليق وأهل اليمن كان أفصح العرب لساناً على الإطلاق[باللسان العربي في ذلك الوقت] ذلك لما تقتضيه النبوة والرسالة من قوة البيان وطلاقة اللسان وبلاغة المقال..
وبالنسبة للغة العربية الفصحى[لهجة القرآن الكريم] فلم تكن هي نفسها التي كان يتكلم بها في ذلك الوقت سيدنا إسماعيل سلام الله عليه ولا كان- كما يدعي البعض- هو أول من تكلم العربية الفصحى وكذلك لم يكن جدنا (يـعـرب) يتكلم بها ولا هو أول من تكلم بها...
فما هذه المقولات إلا ادعاءات ناتجة عن تعصبات مُتوهَـمة (عدنانية قحطانية).... فلا قيمة لها لأن اللغة الفصحى(لغة القران) لم تكن اختراع شخص ولا قبيلة ولا شعب ولا هبطت على أحد من السماء....
بل لغة القران (اللهجة الفصحى الحديثة) إذا ما اجتهدنا لوضع تعريف لها فهي:
صورة ثبتها الله دون غيرها من الصور التي مرت بها لغة ولهجة اغلب عرب الجزيرة في مرحلة زمنية معينة... مع تمييزها عما كان مفارق للهجة قريش مفارقة بينة كالعبرية والآرامية و الحميرية والحبشية والسريانية والقبطية.....
فهذه الصورة (اللهجة) التي تم تثبيتها صارت قالبا ً للأجيال اللاحقة ولازماً لفهم الدين الإسلامي(القران والحديث) والعمل به، و بذلك حُفظت هذه الصورة، وهي بهذا صارت- في الواقع - لغة دين(الإسلام) لا لغة قبيلة أو شعب أو أمة أو قومية معينة.... كما صارت العبرية في مرحلة ما لغة دين وكما صارت الآرامية التي كتبت بها ما يسمى بالأناجيل بالنسبة لأهل الشام ... وكما حفظت القبطية التي كتب بها العرب المسيحيون في مصر قديما ًما يتعلق بالدين المسيحي وما قبله من التراث القبطي........ وقس على ذلك العديد من اللغات في العالم بقيت كما هي تقريباً إلى وقتنا الحاضر بسبب ارتباطها بالعقيدة الدينية التي كتبت نصوصها بهذه اللغة... يعني أن النصوص الدينية أبقت على اللغات كما هي و حفظتها كما كانت فالأديان سبب أو عامل قوي لإبقاء اللغة حية ومتداولة ولكن ليس هو كل الأسباب فهناك أسباب أخرى كالعزلة الجغرافية التي حفظت مثلاً لغة البربر الأمازيغية وغير ذلك من الأسباب....
ولهذا فالعربية (الفصحى) والمهرية والعبرية والآرامية والحبشية وأيضا القبطية والامازيغية والأكدية...الخ كلها في الأصل لهجات أو لغات متعددة لأقوام أصولهم الاثنية عرب وربما يفضل البعض تسمية (ساميين) فليكن كمصطلح .
وعليه فإن بني يعقوب (إسرائيل) هم عرب عرقياً ولا خلاف على ذلك لأنهم من نسل إبراهيم (ع) إلا إذ كان هناك من يعتبر إبراهيم غير عربي فهذه وجهة نظر تخصه خرافاتية لا قيمة....
أما لغة بني يعقوب كما أسلفنا كانت(في البداية) نفس لغة غيرهم من العرب ومع مرور الوقت صارت مغايرة لها - كمغايـَرةِ لهجة أهل مصر في وقتنا هذا للهجة أهل البحرين مثلاً ، ولهجة أهل اليمن للهجة أهل لبنان....- ثم ازداد التباين مع الوقت إلى ما صار إليه..
فمن هنا لا غرابة إذا قلنا أن السيدة بلقيس ملكة سبأ لم تحتج لمترجم لتفهم رسالة سيدنا سليمان (ع) ولا للتفاهم معه حين سارت للمثول بين يديه ، وفي نفس تلك الأيام ظهر هناك ملك مصر الأمازيغي (وهو من بربر ليبيا) شيشنق الذي خَـلَـف الملكَ(بسوسنس الثاني) وكان شيشنق زوج إحدى ابنتيه أما الأخرى فقد زوجها بسونسس لسليمان(ع)[1]،ولا غرابة كذلك إذا قلنا أن ملك مصر الذي سبق هذا العصر لم يحتج لمترجم ليفهم رسائل (بورنابورياش) ورسائل ولاة الشام إليه... والسبب لكل ذلك هو أن اللغة السائدة في ذلك الزمن كانت واحدة تقريباً مع اختلافات (لهجوية) غير كبيرة...
فلم تكن اللهجات قد تحولت إلى لغات متباينة بقدر يصعب أو يستحيل معه التفاهم والتواصل بين العرب أهل المنطقة العربية ،....
كلامنا هذا طبعا ً- بغض النظر عن طريقة الكتابة– فطرق الكتابة كما أرى كانت متعددة واللغة تقريباً واحدة ومما يؤكد لنا أن الكتابة كانت متعددة - على سبيل المثال- أننا نرى الملك (آشوربنيبال) وهو يقص سيرة حياته- في نص مسماري- نراه يقول{..و استقيت المعارف الخاصة بالكتبة..}..ثم بعد ذكره لعدة أمور أخرى تعلمها يقول{.. وأتقنت فن الكتابة السومرية، والكتابة الأكدية البالغة الصعوبة..}[2] قوله هذا جاء كما بينا- بعد أن قال في بداية النص أنه استقى (المعارف الخاصة بالكتبة)،وبغض النظر عما عساها تكون تلك الكتابة التي تعلمها قبل المسمارية– (الكتابة الأكدية و السومرية)- فان النص يفيد أن طرق الكتابة كانت متعددة....
ولا أريد أن أتشعب أكثر وسنتحدث عن هذا النص ودلالته التاريخية في مقال آخر.... المهم أن بني إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم بن آزر عرب من الناحية العرقية فإبراهيم (ع) ولد في العراق ومن قبل كان قد هاجر قومه - من داخل الجزيرة واستوطنوا(أور) ضمن إحدى موجات الهجرة (********* في النصف الأول من الألف الثالث ق.م .
واستوطن جزء من هؤلاء الأرام (العرب) من نفس الموجة في بلاد الشام ومن الطبيعي أن ينقلوا معهم الكثير من الأسماء للمناطق والقبائل والعشائر العربية القديمة وأطلقوها على المناطق الجديدة التي استوطنوها في العراق والشام وغيرهما ولقد سبقهم إلى الاستيطان في تلك المناطق قبائل عربية: منهم من تسميهم كتب التاريخ بالكنعانيين- وإذن فإبراهيم حين انتقل من أور بالعراق إلى جرار في فلسطين مع أهل بيته كان غريباً كما تشير أسفار اليهود لكن غربته تلك كانت غربة مكان لا غربة قوم أو لسان فالجميع كانوا عرباً جاءوا من موطنهم الأول الجزيرة العربية،وهذه المنطقة بلاد الشام وما حولها كانت محل استقرار سيدنا إسحاق(ع) وبنيه فترة من الزمن وبعد وفاته كانت بادية الشام أو سيناء هي المنطقة التي سكنها يعقوب وأهل بيته وبنيه قبيل انتقالهم إلى مصر في عهد سيدنا يوسف(ع)،وهذا ما أشار إليه القران الكريم بقوله تعالى على لسان يوسف.. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ. [من الآية 100 يوسف] قوله(من البدو) أي كانوا في بادية=منطقة شبه صحراوية وانتقلوا منها إلى مصر ومكثوا فيها زمناً ثم خرج بنو إسرائيل مع موسى- ومعهم كما تذكر أسفار اليهود[ 3] بشر آخرون كانوا مستعبدين في مصر- إلى برية سيناء وساحوا فيها أربعين عاما ًولا داعي للتفصيل فالقصة معروفة..
ونهاية القوم أن العقيدة العنصرية التي اختلقوها هي التي غربتهم عن الله وعن البشر جميعاً وعن إنسانيتهم إذ اعتقدوا أنهم الشعب المختار .... فصاروا بعقيدتهم العنصرية أعداء لله ولأنفسهم ولغيرهم مكروهين منبوذين أينما حلوا وارتحلوا والكلام ها هنا عن بني اسرائيل كيهود (جماعة عقائدية) لا عن بني إسرائيل (جماعة اثنية) ولقد ازداد عدد اليهود بدخول آخرين من غير بني إسرائيل فيهم بسبب انتشار دين بني إسرائيل وقت الانبياء (دين موسى وهارون وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء) وهو(الإسلام) قبل تحوله إلى اليهودية العنصرية وانحرافه بمن آمن به واعتبر اليهود من غير بني إسرائيل أنفسهم من نسل إسرائيل وصاروا يعتبرون أنفسهم من ضمن(الشعب المختار) لذلك فقد لعن الله اليهود (من بني إسرائيل وغيرهم) ولم يلعن (بني إسرائيل لذاتهم) لأن منهم كثير من الأنبياء والصالحين وآخر أنبياءهم هو سيدنا المسيح (ع) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [78:المائدة]

وقد انتشر الإسلام دين داوود وسليمان في اليمن والسبب الرئيسي هو إسلام السيدة بلقيس ملكة سبأ على يد سيدنا سليمان عليه السلام ... لكن القيادة الدينية الفكرية لمن آمنوا بهذا الدين في اليمن وغيرها كانت في بني اسرائيل ولهذا فقد انحرف هذا الدين إلى اليهودية بعد تحريفه من قبل الذين كفروا من بني إسرائيل الذين كانوا يمثلون القيادة الفكرية للناس في ذلك الوقت فانحرفوا على إثرهم وحال من آمن من أهل اليمن في تلك الفترة حال غيرهم في البلاد والشعوب والقبائل العربية وما حولها...

ولكن البعض خدمةً لأهداف سياسية وتعصبية وخدمة للصهيونية يحاول أن يذر الرماد على العيون ويجعل من تشابه عدد من الأسماء في التوراة مع بعض المناطق في الجزيرة العربية، ومن وجود ثلاثة نقوش– فيها إشارة إلى أسماء علم يهودية [ 4](من أكثر من اثني عشر ألف نقش)– دليلاً على أن بني إسرائيل وغيرهم ومملكتهم وتاريخهم - كان في وسط الجزيرة واليمن لا في فلسطين وان أهل (اليمن وعمان...) القدماء هم الذين ابتدعوا اليهودية وأن هذه العقيدة العنصرية نشأت في بيئة عربية خالصة...إن مثل هذا الكلام مرفوض و إن كان سيبقى محض وهمٍ وخيال وكذب.


يتبع ( 3-3) .... >




الهوامش:
[ 1]-الأسفار اليهودية: سفر الملوك [3: 1- 2]
[ 2]- انظر طه باقر المقدمة في تاريخ الحضارات القديمة جـ1 صـ404
[ 3] - الأسفار اليهودية سفر الخروج [12: 38]
[ 4]- من المضحك استدلال بعض كتبة التاريخ الجدد بنقوش المسند مع أن الطائفة اليهودية في اليمن مازالت جزء من المجتمع اليمني وأبناؤها يتسمون بأسماء عبرية إلى اليوم والحال كذلك مع يهود المغرب ويهود لبنان و مصر و إيران وغيرهم فما تزيد أسماء عبرية وردت في النقوش من ضعف قولهم و لا تنقص لكن كما يقول المثل الشعبي اليمني: " ما دواء البشم؟ قال:ارزم ارزم" أو بصغية اخرى " قال:اشكي من القضع قال: قُم نوِّش"