حكم إحداث الكنائس والبيع في بلاد الإسلام:
لا شك أن بناء الكنائس في البلدان الإسلامية أمر خطير جدا, وذلك أن هذه الكنائس يتم من خلالها نشر التنصير، وبث العقائد الفاسدة في المجتمع المسلم. ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه اختلاط الكفار بالمسلمين ونشاط النصارى في بناء الكنائس في كثير من البلاد الإسلامية. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم بناء الكنائس في البلاد الإسلامية، -كما سيأتي قريبا- ومساهمة في الدعوة إلى الله، وإنكار المنكر، أوردت هذا البحث على النحو التالي: ذكر الآثار عن الصحابة، ذكر نصوص الأئمة أصحاب المذاهب، ذكر أقوال العلماء المحققين.
ذكر الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم:
عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا كنيسة في الإسلام". رواه أبو عبيد في كتاب الأموال.
وعن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا؟ فقال أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله عز وجل على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما في عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم". رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة.
قال السبكي في فتوى له في منع ترميم الكنائس: "قد أخذ العلماء بقول ابن عباس وجعلوه مع قول عمر وسكوت بقية الصحابة إجماعا".
وقد ورد في الشروط المشهورة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن لا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاية."
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: "وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها".
قال أبو بكر الطرطوشي المالكي في كتاب سراج الملوك: "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع أن تحدث كنيسة، وأمر أن لا تظهر عليه خارجة من كنيسة ولا يظهر صليب خارج من الكنيسة إلا كسر على رأس صاحبه، وكان عروة بن محمد يهدمها بصنعاء، وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين".
ذكر نصوص الأئمة أصحاب المذاهب:
المذهب الحنفي: جاء في اللباب في شرح الكتاب: "ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام".
وجاء في بدائع الصنائع: "و لهذا يمنعون من إحداث الكنائس في أمصار المسلمين".
وفي شرح كتاب السير الكبير: "ويمنعون من إحداث الكنائس بعدما صار مصراً من أمصار المسلمين".
وجاء في الهداية: "ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام".
وأما ما يعزى إلى الإمام أبي حنيفة من القول بإحداث الكنائس في القرى فيقول السبكي في فتواه في منع ترميم الكنائس، ما نصه: "لعل أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القرى التي ينفردون بالسكنى فيها على عادتهم في ذلك المكان، وغيره من العلماء يمنعها، لأنها في بلاد المسلمين وقبضتهم، وإن انفردوا فيها فهم تحت يدهم فلا يمكنون من إحداث الكنائس لأنها دار الإسلام، ولا يريد أبو حنيفة أن قرية فيها مسلمون فيمكن أهل الذمة من بناء كنيسة فيها. فإن هذه في معنى الأمصار فتكون محل إجماع". وفي حاشية رد المحتار وهو من كتب الحنفية ما نصه: "لا يجوز إحداث كنيسة في القرى، ومن أفتى بالجواز فهو مخطئ، ويحجر عليه نقل تصحيحه في الفتح عن شرح شمس الأئمة السرخسي في الإجارات، ثم قال: إنه المختار، وفي الوهبانية: إنه الصحيح من المذهب الذي عليه المحققون، إلى أن قال: فقد علم أنه لا يحل الإفتاء بالإحداث في القرى لأحد من أهل زماننا بعدما ذكرنا من التصحيح، والاختيار للفتوى وأخذ عامة المشايخ، ولا يلتفت إلى فتوى من أفتى بما يخالف هذا، ولا يحل العمل به ولا الأخذ بفتواه، ويحجر عليه في الفتوى، ويمنع، لأن ذلك منه مجرد اتباع هوى النفس، وهو حرام، لأنه ليس له قوة الترجيح، لو كان الكلام مطلقا، فكيف مع وجود النقل بالترجيح والفتوى، فتنبه لذلك، والله الموفق.
المذهب المالكي: أما أصحاب مالك فقال في الجواهر إن كانوا في بلدة بناها المسلمون فلا يمكنون من بناء كنيسة وكذلك لو ملكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرا وليس للإمام أن يقر فيها كنيسة بل يجب نقض كنائسهم بها.
وقال ابن الماجشون ويمنعون من رم كنائسهم القديمة إذا رثت إلا أن يكون ذلك شرطا في عقدهم فيوفى لهم ويمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة.
وجاء في المدونة: "قلت: أرأيت هل كان مالك يقول: ليس للنصارى أن يحدثوا الكنائس في بلاد الإسلام؟ قال: نعم كان مالك يكره ذلك".
وجاء فيها أيضا: "وقال مالك: أرى أن يمنعوا من أن يتخذوا في بلاد الإسلام كنيسة إلا أن يكون لهم عهد فيحملون على عهدهم".
وفي التاج والإكليل: "عن ابن القاسم: يمنع أهل الذمة من إحداث الكنائس في بلدة بناها المسلمون".
المذهب الشافعي: قال الشافعي في المختصر: "ولا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعا لصلواتهم".
وجاء في المهذب "ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع والصوامع في بلاد المسلمين".
وفي روضة الطالبين: "ما أحدثه المسلمون -من البلاد- كبغداد والكوفة والبصرة فلا يمكن أهل الذمة من إحداث بيعة وكنيسة وصومعة راهب فيها ولو صالحهم على التمكن من إحداثها فالعقد باطل".
وفي فتاوى السبكي: "إن الكنائس الحادثة في الإسلام لا تبقى في الأمصار إجماعا ولا في القرى عند أكثر العلماء".
ونقل السبكي رحمه الله أيضا الإجماع على أن الكنيسة إذا هدمت ولو بغير وجه لا يجوز إعادتها".
المذهب الحنبلي: جاء في الشرح الكبير لابن قدامة: "ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ولا يمنعون رم شعثها وفي بناء ما استهدم منها روايتان".
وفي أحكام أهل الذمة: قال عبد الله بن أحمد وسمعت أبي يقول ليس لليهود والنصارى أن يحدثوا في مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا في مكان لهم صالح وليس لهم أن يظهروا الخمر في أمصار المسلمين.
وقال أبو الحارث سئل أبو عبد الله عن البيع والكنائس التي بناها أهل الذمة وما أحدثوا فيها مما لم يكن ؟ قال تهدم وليس لهم أن يحدثوا شيئا من ذلك فيما مصره المسلمون يمنعون من ذلك إلا مما صولحوا عليه".
وقيل لأبي عبد الله: إيش الحجة في أن يمنع أهل الذمة أن يبنوا بيعة أو كنيسة إذا كانت الأرض ملكهم وهم يؤدون الجزية وقد منعنا من ظلمهم وأذاهم؟.
قال: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما مصر مصرته العرب".
ذكر أقوال العلماء المحققين:
قال ابن القيم: "وهذا الذي جاءت به النصوص والآثار هو مقتضى أصول الشرع وقواعده فإن إحداث هذه الأمور إحداث شعار الكفر وهو أغلظ من إحداث الخمارات والمواخير (بيوت الرِّيبةِ ومَجْمَعُ أَهل الفِسْق والفَساد) فإن تلك شعار الكفر وهذه شعار الفسق ولا يجوز للإمام أن يصالحهم في دار الإسلام على إحداث شعائر المعاصي والفسوق فكيف إحداث موضع الكفر والشرك فإن قيل فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون قيل هي على نوعين:
أحدهما: أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر فهذه تزال اتفاقا.
الثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ثم يمصر المسلمون حولها المصر فهذه لا تزال والله أعلم".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أما ما أحدث بعد ذلك -بعد فتح المسلمين- فإنه يجب إزالته ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس، كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه ألا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا لا قَلاَّيَة (وهي من بيوت عبادتهم).. وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار ومذهب جمهورهم في القرى وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين فهدمها بصنعاء وغيرها".
وقال رحمه الله: "فالواجب على ولي الأمر فعل ما أمره الله به وما هو أصلح للمسلمين من إعزاز دين الله وقمع أعدائه وإتمام ما فعله الصحابة من إلزامهم بالشروط عليهم ومنعهم من الولايات في جميع أرض الإسلام لا يلتفت في ذلك إلى مرجف أو مخذل يقول: إن لنا عندهم مساجد وأسرى نخاف عليهم فإن الله تعالى يقول: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز".
وبهذا العرض يتضح وجه الصواب في هذه المسألة، وهو تحريم إحداث الكنائس في البلدان الإسلامية، وأما القول بالجواز بناء على رعاية مقاصد الشرع ومصالح الخلق -فلا أدري أي سياسة أو مقصد أو مصلحة في إشاعة الكفر، وبلبلة أفكار المسلمين، وإفساد عقيدتهم عن طريق هذه الكنائس التي خصصت جانبا مهما من جهودها وطاقاتها لهذا الغرض. وإذا اتضح هذا فالمشاركة أيضا في بناء هذه الكنائس غير جائزة، وهو من المشاركة في إقامة أماكن يكفر فيها بالله تعالى، والكنائس لا تتخذ إلا لذلك. ثم وجدت فتوى للإمام القرافي ذكرها صاحب حاشية رد المحتار، أنه أفتى بأنه لا يعاد ما انهدم من الكنائس وأن من ساعد على ذلك فهو راض بالكفر، والرضا بالكفر كفر. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.