يذهب الدعاة.. وتبقى الدعوة



في زمان كثرت فيه الفتن، وعظمت فيه المحن، واستأسد الباطل وأهله، وتخلى أهل الحق عن حقهم، وباتت الأمة في أمس الحاجة لمصابيح الهدى، الذين ينيرون طريقها، ويمسكون بزمام أمرها، ويحولون بين الحق وبين كل أمر دخيل عليه، في هذه الظروف، نرى الأمة تفقد كل يوم فذاً من أفذاذها، وعلماً من أعلامها، وقائداً كان يملأ الكون بصيحة الحق، ونور العلم، وإشراق التفاؤل، وبفقد هؤلاء الأئمة، فُتحت في الصفوف ثغرات، ونقصت في كوادر الأمة كفاءات، وأحسَّ الكثير بشيء من الإحباط والضعف، بل قد وصل الأمر بالبعض إلى القنوط.
حين أرسل الله رسله وأمرهم بتبليغ رسالته، أمرهم بتبعات هذا التبليغ، وأن يبذلوا في سبيل دعوتهم كل شيء، وأن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولم يكن عدل الله يقتضي أن يُسأل هؤلاء الأنبياء والرسل عن النتيجة، لهذه المهام المناطة بهم، أو الثمرة التي هي نتاج وحصاد ما زرعوه بأيديهم وأنفسهم، وسقوه بدمائهم ودموعهم.
فالعمل والتبليغ والجهاد مطلب شرعي، كلف الله به عباده، ولكن النصر والثمرة شيء اختص الله به يضعه فيمن يشاء، ويعطيه من يشاء، لا يُسأل عما يفعل سبحانه وهم يُسألون، ومع هذا فقد أذن لنا أن نطلب الثمرة والنتيجة، فإن وصلنا إليها فبفضله، ونعمته، وإن فاتتنا فبحكمته، وإرادته، ولذلك لم تكن حياة الدعوة مرتبطة بحياة أحد، ولا بموت أحد، فلو كانت كذلك، لكان عمر الدعوة قد توقف بموت رسول الله ص، لأن الدعوة لا ترتبط بأحد كارتباطها بخير داعية أرسله الله، وهو محمد بن عبدالله ص.
ولكن الله أراد أن يثبت هذه القاعدة العظيمة، وأن يرسمها في قلوب المؤمنين، والرسول بين ظهرانيهم يعلمهم هذه القاعدة ويربيهم عليها.
ولقد فهمها أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وعقلها في اللحظة التي طاشت عقول عمالقة الإسلام بموت المصطفى ص، ومع شدة حب أبي بكر لرسول الله، إلا أنه كان أكثر الناس ثباتاً في هذا الموقف لأنه علم يقيناً أنه لابد من أن يأتي يوم لا يجدون فيه الرسول الكريم بينهم، وأن الدعوة ستبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها: إنك ميت وإنهم ميتون.
وما أعظم هذا الموقف الذي وقفه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ليقرر للناس، ما قرره الله ورسوله ص، أن الدعوة طريق، قد مضت عليه الرسل جميعاً، فذهبوا وبقيت، وما محمد إلا واحد من ركب هذا الطريق، وها هو يمضي إلى ربه والذي تكفل بالدعوة قبل مجيئه ص، هو الذي سيحفظ الدعوة بعد ذهابه.
"إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ..
إن الدعوة أقدم من الداعية: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، والعميقة في مناقب التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق، وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية، فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق سبحانه يتوجه إليه المؤمنون.. وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه، ويرتد عن هدى الله" (الظلال).
نعم، إن الدعوة لا يرتبط بقاؤها ومضاؤها بالأشخاص أبداً، ولقد تكفل الله بها وبحفظها مهما تخلى عنها الخوَّارون، أو مات عنها الصادقون، أو حاربها المجرمون، وهذه القاعدة قد اختلت موازينها في قلوب الدعاة وعقولهم، حتى إذا مات عالم أو قائد، بدأت الثغرات والفجوات تفتح أبوابها للأعداء، لتصبح مدخلاً سهلاً، وفجوة في صف الدعاة المؤمنين، بل ترى الذين يتجمعون حوله ويتلقون عنه، ويستظلون بقيادته، قد أصبحوا أشتاتاً، وترى وحدتهم فرقة، وتذهب ريحهم، وتذبل دعوتهم، وتذهب أدراج الرياح.
وهذا مصير الذين علقوا دعوتهم بالذوات والشخصيات مهما كانت صالحة، ويستمدون طاقاتهم من أسباب الأرض لا من أسباب السماء، أما الذين ساروا على طريق الارتباط المباشر بالله دون وسيط، فإن موت الأفراد والجماعات أو حياتهم، لا يزيد في المنهج والطريق، ولا يغض منه أبداً، وكم من لحظات تمرُّ، يظن الظانُّ أن الأرض خلت من كل داعية، وأن الدعوة ضاعت في سراديب الفتن، وفي أزقَّة الحياة، ولكن الله هو الذي يحفظها ويمنعها، حين يفنى الدعاة، ويذهب الباطل يتبجَّح ويتغطرس، وإذا بالبعث الجديد الذي يخرج من تحت أنقاض المعركة قوياً فتياً، تجري في عروقه أهازيج النصر، وآيات الفرقان، من أين أتى؟ من أين خرج؟ وكيف نشأ؟ ومن رعاه وكمَّله؟! إنه الله الذي تُستمد منه القوة، والذي يحفظ الدعوة.
إن المشكلة الحقيقية، ليست بموت أحد، ولا نكوص أحد أبداً، إنما المشكلة أن نعلق مصير الدعوة بأشخاص لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً.
ولست أدعو إلى إهمال الأشخاص، ولست أدعو إلى تهميش الأدوار والمهام التي كلف الله بها عباده، فإن سنة الله في هذه الدعوة أن يصطفي لها رجالاً، ويهيئ لها أفذاذاً يحيون بها، ويقيمونها في العالمين، ولكن أن تصبح الدعوة معلقة بأفراد دون آخرين، أو شخص من دون الناس، فإن هذا ضياع وتضييع وإهمال، وتفريط في جنب الله عز وجل، أن يتخلى الجميع ولا يحمل الأعباء إلا النفر القليل.
وكم هو مغبون وخاسر، ذلك الذي يسقط على جنبات الطريق، أو ذلك الذي يقف حائراً مكانه، والقافلة تسير إلى حيث أمرها الله.
ولقد حدث مثل هذا بالفعل، ولكن الله حقق فيهم قوله: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم 38 (محمد)
ولقد حدث للصحابة يوماً، أن علَّقوا دعوتهم وحياة الدعوة بشخص رسول الله ص، فتوقفوا عن العمل، وهم في خضم المعركة، لأنهم فقدوا من كانوا يظنون الأساس لوجود هذه الدعوة، وقد أنساهم شدة الهول حين سمعوا بمقتل الرسول ص في معركة أحد، أن الرسول ما هو إلا مبلغ، وأن الله هو المتكفل بحفظها وبقائها.
وفهم بعض الصحابة هذا المبدأ العظيم، حين فُقد رسول الله في المعركة، فقال رجل منهم: "إن رسول الله قد قتل فارجعوا إلى قومكم فيؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلوا البيوت، وقال رجال منهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا. فقال أنس بن النضر: إن كان رسول الله قد قتل، أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء؟"(1).
ثم عاتب الله عز وجل من أسقط في أيديهم، وانكسرت همتهم، لما أشيع أن الرسول مات، ما كذلك يسلك أصحاب العقائد، إنهم أتباع مبادئ لا أتباع أشخاص.(2)
... لقد جمع محمد الناس حوله على أنه عبدالله ورسوله، والذين ارتبطوا به، عرفوه إماماً لهم في الحق وصلة لهم بالله.(3).
وكم هو تعيس من بنى طريقه ودعوته على حياة أحد، أو على وجود أحد، لأن كل أحد ما هو إلا أجير لله في هذه الأرض، وسيمضي كما أتى ويبقى من هو أحق من يُرجى وأحق من يبتغى ومن عنده الملك والقدرة والبقاء، وهو الذي ارتضى لعباده هذه الملة وأمرهم بالاستمساك بها وهو حافظها وهو على كل شيء قدير.

الهوامش
1 ـ عيون الأثر لابن سيد الناس.
2 ـ بل أتباع أشخاص عندما يكونون أنبياء والشيخ إنما يعني هذا الأمر، إلا أنه أراد بقوله من يتبعون الأشخاص دون اتباع ما يحملون.
3 ـ فقه السيرة للغزالي

منقول للفائدة
.