د. زينب عبد العزيز تكتب.. بنديكت 16 والتبشير الجديد !

كان من المفترض ان يقوم الفاتيكان بالإعلان عن إنشاء "مجلس بابوى جديد لتبشير أوروبا" ، إلا أنه تأجل إلى ما بعد زيارة بنديكت 16 لجزيرة قبرص (من 4 الى 6 يونيو2010) ، التى قدم خلالها وثيقة عمل "سينودس أساقفة الشرق الأوسط" الذى يهدف إلى إستخدام إمكانيات أوروبا السياسية وكل مؤسساتها المسيحية لتنصير المسلمين فى الشرق الأوسط.. وما أن تمت الإجراءات واستتبت الوسائل لتأخذ مجراها حتى تم الإعلان عن المجلس الجديد ، مع تغيير طفيف فى العنوان الذى أصبح "المجلس البابوى الجديد من أجل التبشير الجديد" !!


وقد أعلن عنه البابا باسلوب طنان جدير بأحد قياصرة الرومان أثناء الصلاة المسائية للقديسين بطرس وبولس يوم 28 يونيو 2010 قائلا : "لقد قررت إنشاء مجلس بابوى جديد تكون مهمته الأولى هى تنظيم تبشير جديد لأولى البلدان التى حصلت على الإيمان المسيحى والتى تعيش علمنة فى المجتمع هو نوع من كسوف معنى الله" !.. ومما لا شك فيه أن البابا من حقه أن يعلن ما يحلو له على أتباعه ، لكن من الغريب أن نلحظ تغييرا فى العنوان واختفاء عبارة "تبشير أوروبا" التى تم تغييرها الى عبارة معسولة تقول باسلوب تفسيرى "من أجل تنشيط المسيحية فى الغرب" . وهو ما يعنى ليس أوروبا وحدها وإنما كل البلدان التى تلقت الإيمان المسيحي و ألحدت وغرقت فى العلمنة ..



ويرجع قرار تنصير العالم الى مجمع الفاتيكان الثانى (1965) ، وفى عام 1974 عقد البابا بولس السادس مجمعا للأساقفة حول تبشير العالم المعاصر تبعه بخطاب رسولى بعنوان "تبشير الإنجيل". ثم أشار بنديكت 16 إلى البابا يوحنا بولس الثانى قائلا أنه كان بشخصه يمثل عملية التبشير الكنسية بكثرة أسفاره وبإصراره على إيجاد وسائل جديدة للتبشير، قائلا : "مما لا شك فيه أنه قد أعطى دفعة قوية للتبشير ، ليس فقط بكثرة تنقلاته وإنما بعمق روح التبشير التى ورثتها أنا منه فى مطلع هذه الألفية".. لذلك أضاف قائلا : "بإتخاذى هذا الميراث ، قلت فى بداية مهمتى البابوية أن الكنيسة شابة ومنفتحة على المستقبل . وأكررها اليوم ، أمام مقبرة بولس : إن الكنيسة تمثل أداة شاسعة للتجديد فى العالم ، ليس بقوتها الذاتية وإنما بقوة الإنجيل " .



ثم راح يشير إلى أن المجازفات الحالية تتعدى الإمكانيات البشرية مؤكدا : "أنه فيما وراء الجوع المادى يوجد الجوع الأعمق الذى لا يمكن أن يسده إلا الله. إذ ان إنسان الألفية الثالثة الذى يتطلع إلى حياة أصيلة وثرية ، بحاجة الى الحقيقة والحرية والحب المعطاء , ففى صحراء عالم أصابته العلمنة ان الروح البشرية متعطشة الى الإله الحىّ . وتوجد مناطق فى العالم ما زالت تنتظر ان يتم تبشيرها لأول مرة ، بينما توجد مناطق أخرى بحاجة إلى تبشير عميق . وبعض البلدان ذات التراث القديم المسيحى تخضع منذ عدة قرون وبأساليب مختفة لمنهج العولمة الذى نجم عنه خسارة كبيرة لمعنى الإيمان والإنتماء الكنسى" ولعله من المفيد التعليق على أهم المعطيات التى سطرت انا تحتها وهى :

* الحاجة الى الحقيقة والحرية والحب المعطاء : حينما يكون المرء بمثل هذه الثقة بحاجة الناس إلى الحقيقة والحرية والحب المعطاء ، فلا يحق له أن يفرض عليهم نصوصا مكوّنة من التزوير والتحريف المتراكم عبر العصور ، ولا يحق له محاصرتهم بمؤسسات التبشير وبجماعات من مختلف الأشكال والأعمار ، حتى بفرق من الأطفال المبشرين ، لتنصيرهم قهرا بأى وسيلة وبأى ثمن بزعم الحب المعطاء !



* وتوجد مناطق فى العالم ما زالت تنتظر ان يتم تبشيرها لأول مرة : ليس من الضرورى ان يكون القارئ ذكياً ليدرك ان المقصود بهذه العبارة هم المسلمون الذين يبلغ تعدادهم أكثر من مليار ونصف من المؤمنين، الذين يرفضون تماما عملية تأليه السيد المسيح التى تمت عام 325 م ، كما يرفضون فكرة الثالوث والشرك بالله عز وجل . وللعلم ، فإن المسلمين لا يرفضون السيد المسيح وإنما يؤمنون به كأحد الأنبياء ، ويؤمنون بنبوّته ، وإلا لما كمل إسلامهم : وذلك منصوص عليه فى القرآن الكريم بوضوح شديد. فيسوع إنسان نبىّ كما يقول هو عن نفسه فى الأناجيل ويفرق تماماّ بينه وبين الله سبحانه وتعالى ، (وليقرأ الأناجيل من يود التأكد وخاصة تلك الأرقام التى افلتت من الرقابة بعد تأليهه ولا تزال موجودة). لذلك أكرر أنه لا يحق لأى إنسان إقتلاع المليار والنصف من المسلمين المؤمنون بالتوحيد الصافى ليفرض عليهم نصوصا و عقيدة ثابت تحريفها بكل المقاييس .



* بعض البلدان ذات التراث القديم المسيحى(...) تخضع للعولمة التى نجم عنها خسارة كبيرة لمعنى الإيمان والإنتماء الكنسى : من الواضح أن المعنى بهذه العبارة هى بلدان أوروبا وغيرها فى الأمريكاتين ، وأنه قد تم تغيير اسم المجلس البابوى الذى كان مقترحا لكى لا يثير غضب العديد من الأتباع الذين بدأوا مغادرة الكنيسة منذ ما قبل عصر التنوير بكثير وفقدوا ثقتهم فيها من كثرة ما فرضته من تغيير وتحريف وتبديل منذ نشأتها وحتى يومنا هذا . وكان من الأكرم أن يتم التساؤل عن سبب هذه الهجرة والإبتعاد عن الكنيسة ، والرجوع إلى معهد ويستار (Westar) وإلى أبحاثه العلمية التى أجراها أكثر من 200 عالم متخصص فى اللاهوت واللغويات وغيرها من العلوم ليخرجوا بنتيجة أن 82 % من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم ينطق بها ، وإن 86 % من الأعمال المسندة إليه لم يقم بها . ولا نقول شيئا عن الأبحاث التى تدور حول يسوع التاريخى ويسوع الأسطورى ويسوع المكونة سيرته من خليط من المتناقضات لتدعيم مكانة مؤسسة تنعم بلا حدود بإمكانيات لا حصر لها ولا علاقة لها بالرحمة أو بحب القريب من أجل السلطة ..



وهنا لا بد من الإشارة الى مؤسستين من المفترض أن لهما نفس المهمة : "لجنة تنصير الشعوب" التى تم إنشاءها فى مجمع الفاتيكان الثانى ، و"المجلس البابوى من أجل التبشير الجديد" . فالأولى مسئولة عن إدارة وتنسيق عملية التبشير فى العالم أجمع ، وهدفها الأساس هو قيادة الكنائس الشابة الموجودة فى بلدان حديثة التنصير أو ضعيفة ومساندتها ، وهو ما يعنى ضمنا التدخل فى الشئون الداخلية للبلدان المسلمة أو غير المسيحية. وكذلك فهى تقوم بتنظيم وجود وعمل المبشرين فى العالم ، وتقدم للبابا اسماء المرشحون للكيان الكنسى ، ومسئولة عن تكوين الإكليروس المحلى والرعاة.. أما اللجنة الثانية أو الحديثة التكوين فمن المفترض أنها تقوم بنفس المهام .. فهل ستكون هناك منافسة بينهما أم أن ذلك سيؤدى إلى إلغاء الأولى ؟ من السابق لأوانه التنبؤ بهذا التغيير إلا أن المؤسسة الأولى قد تمت إدانتها حديثا باختلاسات مالية أدت إلى عزل رئيسها وكان بدرجة الكاردينال ، إضافة الى التهمة المتزايدة الإيقاع بالإعتداءات الجنسية.



وفى نهاية هذا العرض الخاطف حول "المجلس البابوى الجديد من أجل تبشير جديد" ، من المهم الإشارة إلى جملة أخيرة حول تقديم بنديكت 16 لهذا المجلس قائلا : "هذه المذكرة تهدف إلى ان نُذكر الجميع بهوية وقيمة ومعنى مؤسسة حيوية بالنسبة للكرسى الرسولى وللكنيسة الكاثوليكية بأسرها، كما أنها استجابة للأمر الصادر عن يسوع والقائل : "اذهبوا الى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مرقص 16 : 15) !!



وهنا يؤسفنى اضافة أن هذه الجملة او هذا الرقم تحديدا من عمليات التزوير التى تذخر بها نصوص الأناجيل التى لم تكن مكتوبة أيام يسوع عليه السلام ، إذ أن أولى محاولات كتابتها ترجع الى أكثر من خمسين عاما بعد صلبه ، كما تقول المؤسسة الكنسية. ثم ان نفس هذه الجملة أو هذا الرقم من انجيل مرقص لا يوجد فى أقدم نص محفوظ للعهد الجديد بصيغته الكاملة والمعروف باسم "مخطوطة سيناء" أو "Codex Sinaiticus " التى ينتهى فيها الإصحاح 16 من انجيل مرقص عند الرقم 8 وليس عند الرقم 20 الحالى .. وهو ما يعنى أن الأرقام من 9 الى 20 هى إضافة لاحقة ! ونفس هذه المخطوطة تتضمن 14800 إختلافا عن العهد الجديد المتداول حاليا بين الأتباع. ومنها انها لا تذكر شيئا عن مريم ، ولا عن مذبحة الأطفال التى أمر بها الملك هيرود ، كما لا تذكر شيئا عن بعث يسوع ولا عن صعوده الى السماء. وكل هذه الأجزاء الناقصة من مخطوطة سيناء تنقص أيضا من مخطوطة الإسكندرية، ومن مخطوطة الفاتيكان، ومن مخطوطة بيزاى، ومن مخطوطة لاتينية قديمة لإنجيل مرقص يشير اليها العلماء بحرف "K " .. ورغمها تقبّلت المؤسسة الكنسية عمليات التحريف ببعث يسوع وجعلت منها القاعدة الأساسية لعقيدة المسيحية الحالية !!



أليس من الأصدق والأكثر إنسانية وأمانة وقف عمليات التبشير والتنصير وترك المسلمين فى سلام فلا يحق لأحد أن ينتزعهم من عقيدتهم الراسخة خاصة من اجل بضعة نصوص مزيفة ؟ فما من إنسان يجهل ان المسيحية الأولى لم تنزّل إلا حينما حاد اليهود عن رسالة التوحيد وعادوا لعبادة العجل وقتل الأنبياء ، فأتى عيسى عليه الصلاة والسلام كما قال : " لم اُرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة " (متى 15 : 24). وحينما حادت الكنيسة عن رسالة التوحيد وغاصت فى الشرك بالله بتأليه يسوع فى مجمع نيقية عام 325 ثم باختلاق بدعة الثالوث تنزّل الإسلام على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين و ليعيد هذه الخراف الضالة الى رسالة التوحيد الصافى . ترى هل من الصعب إدراك ذلك الذى حدث باختصار ؟ فالنصوص واضحة ، خاصة القرآن الكريم الذى لم يتبدل منه حرفا واحدا وسيحفظه الله عز و جل كما وعد الى يوم الدين ...