﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏ ﴾ (‏الحج‏:26)‏


هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في آخر الثلث الأول من سورة الحج‏،‏ وهي سورة مدنية‏،‏ وآياتها ثمان وسبعون‏(78)‏ بعد البسملة‏،‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الأمر فيها من الله - سبحانه وتعالي - إلي عبده إبراهيم - عليه السلام - أن يؤذن في الناس بالحج‏،‏ وهي السورة القرآنية الوحيدة التي جمعت بين سجدتين من سجدات التلاوة‏،‏ ويدور المحور الرئيسي لسورة الحج حول عدد من التشريعات الإسلامية‏،‏ شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية‏،‏ وإن احتوت السورة الكريمة علي عدد من ركائز كل من العقيدة والأخلاق الإسلامية‏.‏
هذا وقد سبق استعراض سورة الحج‏،‏ وما جاء فيها من تفصيل للعبادات المفروضة لأداء شعيرة الحج‏،‏ وما أوردته من قيم أخلاقية‏،‏ وركائز عقيدية‏،‏ وإشارات كونية‏،‏ ونركز هنا علي الإعجاز التاريخي والإنبائي والعلمي في قول ربنا - تبارك وتعالي -‏:‏ ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ ﴾ ‏(‏الحج‏:26‏ -‏29).‏


أولا‏:‏ من جوانب الإعجاز التاريخي‏:‏
‏(1)‏ في قوله - تعالي -‏:‏ ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ... ﴾ أي ساويناه له وهيأناه‏،‏ أو جعلناه‏(‏ مباءة‏)‏ أي مرجعا له - عليه السلام - يرجع إليه للعمارة والعبادة‏،‏ والأمر بتطهيره من الأرجاس الحسية والمعنوية من مختلف صور الشرك‏،‏ والكفر‏،‏ والابتداع‏،‏ والضلالات‏،‏ والمقصود بمكان البيت هنا هو موضع أساسات الكعبة المشرفة‏،‏ بيت الله الحرام الذي حرمه ربنا - تبارك وتعالي - يوم خلق السماوات والأرض‏،‏ وهو أول بيت وضع في الأرض‏،‏ وذلك لقول ربنا - تبارك وتعالي -‏: ﴿‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ‏(‏آل عمران‏:96).‏
والواضح من كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أن الذي بني هذا البيت ابتداء هم الملائكة الذين بنوه بأمر من الله - سبحانه وتعالي - في هذه البقعة المباركة التي حرمها الله بعلمه وحكمته وإرادته يوم خلق السماوات والأرض‏،‏ وذلك تهيئة لخلق أبوينا آدم وحواء - عليهما من الله السلام - ويقدر تاريخ خلقهما علي الأرض بحدود أربعين ألف سنة مضت‏،‏ بينما يقدر عمر الكون بحوالي‏13.7‏ بليون سنة‏.‏
لذلك يخبرنا رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بأن أول من طاف بالبيت الحرام هم الملائكة‏،‏ ثم آدم - عليه السلام -‏،‏ وبعد ذلك أنبياء الله الذين كان منهم نوح‏،‏ وهود‏،‏ وصالح وشعيب - عليهم السلام - ونفر من الذين آمنوا معهم‏،‏ وإذا كان نبي الله إبراهيم - عليه السلام - قد عاش في الألفية الثانية قبل الميلاد‏،‏ فإن الفارق الزمني بين كل من آدم وإبراهيم - عليهما السلام - هو في حدود‏36000‏ سنة‏،‏ وفي خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة تهدم البيت الحرام‏،‏ وضاعت معالمه‏،‏ لذلك بعث الله - سبحانه وتعالي - ملائكته الكرام لتبين لعبده ونبيه إبراهيم مكان البيت‏،‏ ولذلك قال ربنا - وهو أصدق القائلين -‏:‏ ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ... ﴾ (‏الحج‏:26).‏
أي أظهرنا له قواعد البيت الحرام بشيء من السوية حتي يسهل تعرفه عليها‏،‏ فيبدأ برفع قواعد البيت منها عندما نأمره بذلك انطلاقا من قول ربنا - تبارك وتعالي -‏:‏ ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ (البقرة‏:127).‏
وجميع الآثار في الحرم المكي تؤكد أن الذي رفع القواعد من البيت هو نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل - عليهما السلام - خاصة أن بالحرم المكي مقام إبراهيم‏،‏ وبئر زمزم‏،‏ والحجر الأسود‏،‏ وقبري كل من نبي الله إسماعيل وأمه - عليهما السلام - في حجر إسماعيل‏،‏ والعديد من الآثار المتعلقة بهذين النبيين الكريمين من أنبياء الله‏،‏ ولم ترد في كتب الأولين أية إشارة إلي أن كلا من إبراهيم وولده إسماعيل - عليهما السلام - قد رفعا القواعد من الكعبة المشرفة‏.‏


وجاءت الرواية علي لسان ابن عباس - رضي الله عنهما - علي النحو التالي‏:‏
أول ما اتخذ الناس المنطق من قبل أم إسماعيل‏،‏ اتخذت منطقا لتعفي أثرها علي سارة‏،‏ ثم جاء بها إبراهيم وابنها إسماعيل وهي ترضعه‏،‏ حتي وضعهما عند مكان البيت‏،‏ عند دوحة فوق مكان زمزم في أعلي مكان من موضع المسجد‏،‏ وليس بمكة يومئذ أحد‏،‏ وليس بها ماء‏،‏ فوضعهما هنالك‏،‏ ووضع عندهما جرابا فيه تمر‏،‏ وسقاء فيه ماء‏،‏ ثم قفي إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت‏:‏ يا إبراهيم؟ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا‏،‏ وجعل لا يلتفت إليها‏،‏ فقالت له‏:‏ آلله أمرك بهذا؟ فقال‏:‏ نعم‏،‏ قالت‏:‏ إذن لن يضيعنا‏،‏ ثم رجعت‏،‏ فانطلق إبراهيم حتي إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه مكان البيت‏،‏ ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يده قائلا‏:‏ ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ ‏(‏إبراهيم‏:37).‏
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من سقاء الماء حتي إذا نفد ما في سقاء الماء عطشت وعطش ابنها‏،‏ وجعلت تنظر إليه‏،‏ فوجدت الصفا أقرب جبل يليها‏،‏ فقامت عليه‏،‏ ثم استقبلت الوادي تنظر هل تري أحدا؟ فلم تر أحد‏،‏ فهبطت من الصفا حتي إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها‏،‏ ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتي جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها‏،‏ ونظرت هل تري أحدا؟ فلم تر أحدا‏،‏ وفعلت ذلك سبع مرات‏،‏ قال ابن عباس‏:‏ قال النبي - صلي الله عليه وسلم -‏:‏ فلذلك سعي الناس بينهما‏،‏ فلما أشرفت علي المروة سمعت صوتا فقالت‏:‏ صه‏،‏ تريد نفسها‏،‏ ثم تسمعت فسمعت أيضا‏،‏ فقالت‏:‏ لقد سمعت إن كان عندك غوات‏،‏ فإذا هي بالملك عند موضع زمزم‏،‏ فبحث بعقبه - أو قال‏:‏ بجناحه - حتي ظهر الماء‏،‏ فجعلت تحوضه وتقول بيديها هكذا‏،‏ وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف‏.‏
قال ابن عباس‏:‏ قال النبي - صلي الله عليه وسلم -‏:‏ "يرحم الله أم إسماعيل‏!‏ لو تركت زمزم لكانت عينا معينا‏،‏ وأضاف ابن عباس قوله‏:‏ فشربت وأرضعت ولدها‏،‏ فقال لها الملك‏:‏ لا تخافي الضيعة‏،‏ فإن ها هنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه‏،‏ وإن الله لا يضيع أهله"‏.‏
والروايتان لهما أصل واحد‏،‏ ولكن شتان بينهما‏،‏ وكلتاهما تبينان الإعجاز التاريخي فيما سجله القرآن الكريم من أن نبي الله إبراهيم وابنه النبي إسماعيل - عليهما السلام - هما اللذان رفعا القواعد من البيت الحرام في مكة المكرمة‏.‏


ثانيا‏:‏ من جوانب الإعجاز الإنبائي‏:‏
في قول ربنا - تبارك وتعالي - لعبده ونبيه إبراهيم - عليه السلام -‏:‏ ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ... ﴾ (الحج‏:27)‏ وجه من أوجه الإعجاز الإنبائي في كتاب الله‏،‏ لأن عدد الحجيج إلي بيت الله ظل في تزايد مستمر علي مدي القرون الأربعة عشر الماضية حتي وصل إلي قرابة أربعة ملايين نسمة في زماننا‏،‏ بالإضافةإلي عشرات الملايين من المعتمرين علي مدي السنة‏،‏ والذي ينظر إلي واقع مكة المكرمة في كل من زمن نبي الله إبراهيم وزمن خاتم المرسلين - صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين - ما كان يمكن له أن يتنبأ بذلك أبدا‏،‏ وسوف يظل عدد الحجاج والمعتمرين في تزايد إلي ما شاء الله - سبحانه وتعالي - تحقيقا لهذا الإنباء القرآني الكريم‏.‏
وفي قوله - تعالي -‏:‏ ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ... ﴾ أي ناد فيهم وأعلمهم بفريضة الحج‏،‏ وهي من أركان الإسلام‏،‏ وفي قوله - تعالي -‏:‏ ﴿...يَأْتُوكَ رِجَالاً... ﴾ أي مشيا علي أرجلهم‏،‏ ورجالا هو جمع راجل أو رجل‏،‏ وهو من ليست له وسيلة من وسائل الركوب أو المواصلات‏،‏ أي من ليس له ظهر يركبه‏،‏ وقد تحقق ذلك بالفعل‏.‏
وفي قوله - تعالي -‏: ﴿...وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ... ﴾ أي وركبانا علي كل حيوان مهزول بعير أو غيره أنهكته المسافات الطويلة التي سارها نظرا لبعد الشقة‏،‏ واللفظ ضامر هو اسم فاعل من ضمر يضمر ضمورا فهو ضامر‏،‏ أو ضمر ضمرا فهو ضامر‏،‏ وهذا الاسم يطلق علي كل من الذكر والأنثي‏،‏ وهذا من بلاغة التعبير القرآني‏،‏ وقد تحقق ذلك أيضا بالفعل‏.‏


ثالثا‏:‏ من جوانب الإعجاز العلمي‏:‏
في قوله - تعالي -‏: ﴿...مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ إشارة واضحة إلي كروية الأرض في زمن شيوع انبساطها وامتداداتها الأفقية نظرا لضخامة أبعادها‏، وذلك لأن الفج في اللغة هو الشقة الفسيحة بين جبلين‏،‏ وجمعه فجاج‏،‏ ووصف الفج بالعميق أي البعيد سفلا فيه إشارة ضمنية إلي كروية الأرض لأن الامتداد البعيد السفلي لا يكون إلا إذا كانت الأرض علي هيئة الكرة‏،‏ أو شبه الكرة‏،‏ وهو ما أثبته العلم‏.‏
والتعبير القرآني‏: ﴿...مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ فيه إشارة أيضا إلي ضخامة أبعاد الأرض‏،‏ لأن عميق يعني بعيدا من العمق‏،‏ وأصله البعد سفلا كما سبق أن أشرنا‏،‏ ومنه بئر عميقة‏،‏ أي غائرة أو غائر قاعها إلي أسفل‏،‏ وبالإضافة إلي أن وصف الفج بالعمق فيه إشارة إلي كل من كروية الأرض‏،‏ وضخامة أبعادها‏،‏ فإن التعبير فيه إشارة أيضا إلي أن الناس سوف يقصدون الحج من مختلف أماكن الأرض المكورة‏،‏ مهما تباعدت المسافات‏،‏ واختلفت وسائل المواصلات‏،‏ وقد تحقق ذلك بالفعل أيضا‏.‏
وأوجه الإعجاز التاريخي‏،‏ والإنبائي‏،‏ والعلمي في هذه الآيات الأربع‏،‏ مع روعة البيان‏،‏ وجمال النظم والدقة البالغة في اختيار الألفاظ مما يشهد للقرآن الكريم بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏،‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏،‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه اللغة العربية‏،‏ وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا إلي أن يشاء الله - تعالي - حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين بأنه كلام رب العالمين‏،‏ وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏،‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏،‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏،‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام - صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏،‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏