﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ (‏ النحل‏:123)‏



هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم سورة النحل وهي سورة مكية وآياتها مائة وثمان وعشرون‏(128)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي النحل‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة شأنها في ذلك شأن كل السور المكية‏.‏
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة النحل وما جاء فيها من ركائز العقيدة والإشارات الكونية ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في ثناء الله تعالي علي عبده ونبيه إبراهيم عليه السلام مؤكدا كلا من وحدة رسالة السماء والأخوة بين الأنبياء حيث يقول وقوله الحق‏:‏

﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ (‏النحل‏:120‏ ـ‏123).‏


من أوجه الإعجاز التاريخي في النص الكريم:-
جاء ذكر نبي الله إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم تسعا وستين‏(69)‏ مرة‏,‏ وذلك للتأكيد علي حقيقته التاريخية‏,‏ ويثني ربنا تبارك وتعالي علي هذه الشخصية التاريخية بأن إبراهيم عليه السلام كان أمة بمفرده‏,‏ لأنه كان إماما يقتدي به وكان مثالا للإنسان الذي يحترم عقله فيوظفه توظيفا راجحا في التعرف علي خالقه من خلال التأمل في بديع صنعه في الكون‏,‏ وكان نموذجا للإنسانية كلها في التعرف علي الله سبحانه وتعالي وطاعته وشكره‏,‏ والإنابة إليه من خلال النظر في الكون من حوله علي الرغم من إغراق أهله وقومه في الشرك بالله وعبادة الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب‏,‏ فخالفهم إبراهيم في ذلك إلي عبادة الله تعالي وحده‏,‏ فكان إماما للتوحيد الخالص يقتدي به في هذا المنهج الاستقرائي للكون من أجل معرفة خالقه‏,‏ ومن هنا قال ربنا تبارك وتعالي‏:‏ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا‏..‏ لأن لفظ‏(‏ الأمة‏)‏ هنا هو تعبير عن معلم الناس الخير الذي يتركز في أعلي مراتبه في أمر الدين‏,‏ وبذلك كان إبراهيم أمة وحده لأنه كان الموحد الوحيد لله تعالي وسط قومه المشركين فدعاهم إلي توحيد الخالق سبحانه وتعالي‏,‏ فما آمن معه إلا أقل القليل‏.‏
وكان إبراهيم عليه السلام في ذلك نموذجا للهداية والطاعة والشكر والإنابة والخشية لله تعالي‏,‏ لأن‏(‏ القانت‏)‏ هو الخاشع المطيع و‏(‏الحنيف‏)‏ هو المائل قصدا عن الشرك بالله تعالي إلي التوحيد الخالص لله الخالق البارئ المصور‏,‏ ولهذا قال ربنا تبارك وتعالي في وصف هذا
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ (‏النحل‏:120).‏
ومن هنا فلا يجوز أن يتمحك أو يتمسح به المشركون في كل زمان ومكان كما هو حادث في أيامنا هذه تحت عنوان ما يسمي زورا باسم العقيدة الإبراهيمية‏(The Abrahamic Faith)‏ والذين يحاولون الانضواء تحتها هم من عتاة المشركين‏..!!‏ ولذلك وصف الله تعالي عبده إبراهيم بقوله وقوله الحق‏:‏ شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلي صراط مستقيم‏(‏ النحل‏:121).‏
ومن معاني ذلك أن إبراهيم كان شاكرا لأنعم الله بالقول والعمل لا كهؤلاء المشركين الذين يحاولون نسبة أنفسهم إلي إبراهيم وهم يجحدون نعمة الله قولا ويكفرونها عملا بالإصرار علي الشرك بالله تعالي‏,‏ وهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد‏.
وانطلاقا من نجاح إبراهيم عليه السلام في التعرف علي خالقه من خلال التأمل في بديع صنع هذا الخالق العظيم في الكون فإن الله تعالي اجتباه‏,‏ أي اختاره‏,‏ وهداه إلي صراط مستقيم‏,‏ وهو صراط التوحيد الخالص القويم الذي نادي به الإسلام من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي قيام الساعة‏,‏ واصطفاه للنبوة وجعلها في ذريته إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏,‏ وكلهم قد بعث بالإسلام العظيم علي الرغم من تمحك عدد من أصحاب المعتقدات المعاصرين بادعاء الانتساب إلي إبراهيم عليه السلام وتمسحهم به وهم أبعد ما يكونون عن ملته‏.‏
وتقديرا للدور الرائد الذي قام به إبراهيم عليه السلام بعدم إتباع والده وقومه في عبادة كل من الأصنام وأجرام السماء فإن الله سبحانه وتعالي قد أكرمه في الدنيا بأن جعله إماما للهدي ناطقا بالحق وداعيا إليه كما أكرمه بعدد من المعجزات التي أجراها علي يديه ونجاه من النار التي حاول قومه إحراقه بها ورفع ذكره في الدنيا وجعله في الآخرة من الصالحين‏,‏ ورزقه علي الكبر الذرية الصالحة التي جعل فيها عددا من الأنبياء كان منهم ذبيح الله إسماعيل عليه السلام الذي ختمت النبوات في نسله ببعثة الرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم وكان منهم اسحاق عليه السلام الذي كان من نسله كل من يعقوب‏,‏ يوسف‏,‏ شعيب‏,‏ أيوب‏,‏ موسي‏,‏ هارون‏,‏ ذو الكفل‏,‏ داود‏,‏ سليمان‏,‏ إلياس‏,‏ اليسع‏,‏ يونس‏,‏ زكريا‏,‏ يحيي‏,‏ وعيسي ابن مريم عليهم جميعا من الله السلام‏,‏ وأكرم الله تعالي عبده ونبيه إبراهيم بأن بوأ له مكان البيت وشرفه هو وابنه إسماعيل برفعه من قواعده كما أكرمه بالأذان بالحج وهي الدعوة المستجابة منذ أربعة آلاف سنة إلى اليوم وإلي أن يشاء الله‏,‏ وأكرمه باستجابة دعوته لمكة المكرمة بأن جعلها بلدا آمنا ورزق أهلها من الطيبات ولذلك قال تعالي‏:‏ ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ ‏(‏ النحل‏:122).‏
وتأكيدا علي وحدة رسالة السماء وعلي الأخوة بين الأنبياء جاء التوجيه الإلهي إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين بالنص التالي: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ ‏(‏ النحل‏:123).‏
فانطلاقا من الإيمان بالإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي‏(‏ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد كان التأكيد علي أن هداية الله سبحانه وتعالي لخلقه جميعا لابد وأن تكون واحدة علمها لأبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه ثم أنزلها علي سلسلة طويلة من أنبيائه‏,‏ وأكملها وأتم نعمته علي خلقه جميعا في بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين‏,‏
ولذلك تعهد بحفظ هذه الرسالة الخاتمة فحفظها في القرآن الكريم وفي سنة خاتم النبيين وحفظها في نفس لغتها العربية التي أوحيت بها حتى لا تتعرض لشيء من التحريف والتبديل والتغيير الذي تعرضت له جميع الرسالات السابقة التي فقدت صلتها تماما بلغات وحيها‏,‏ وتعهد ربنا تبارك وتعالي بهذا الحفظ تعهدا مطلقا إلي ما شاء الله حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين ويبقي حجة الله البالغة علي جميع خلقه‏.‏ ويبقي هذا الأمر من الله تعالي إلي خاتم أنبيائه ورسله صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ تأكيدا علي أن هداية الله تعالي لجميع خلقه واحدة من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم‏,‏ وكل خروج عن هذا الوحي السماوي الذي اكتمل في القرآن الكريم‏,‏ وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين هو خروج عن منهج الله الذي لا يرتضي من عباده دينا سواه‏.‏
وفي هذا الأمر الإلهي إلي خاتم الأنبياء والمرسلين بإتباع ملة إبراهيم أي شريعته السمحة القائمة علي أساس من الإيمان بالإله الواحد الأحد‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد‏)‏ وتنزيهه سبحانه وتعالي عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله وإخلاص العبادة له دون سواه‏,‏ وإتباع أوامره واجتناب نواهيه‏,‏ وهذا هو الإسلام الذي عبر ربنا تبارك وتعالي عنه في العديد من آيات القرآن الكريم‏(‏ ومنها النص الذي نحن بصدده‏)‏ بوصف الصراط المستقيم‏,‏ وهو الطريق المستقيم الواصل بين العبد وربه وهو الهداية الربانية للخلق أجمعين في القضايا التي يعلم الله تعالي بعلمه المحيط عجز الخلق فرادي ومجتمعين عن الوصول إلي تصور صحيح لأي منها وذلك من مثل قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات التي تشكل ركائز الدين والتي تعين الإنسان علي فهم كل من ذاته ورسالته في هذه الحياة‏:‏ عبدا لله الخالق مطالبا بعبادته بما أمر ومستخلفا في الأرض مطالبا بعمارتها وبإقامة شرع الله وعدله فيها‏,‏ ومن هنا كانت ضرورة الدين وكانت ضرورة أن يكون الدين بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من التصورات البشرية‏.‏ ومن هنا أيضا كان فشل كل حياة دنيوية لا تقوم علي أساس من هذه الهداية الربانية لأنها لا يمكن أن تكون حياة سوية حتى لو تمكن صاحبها من تحقيق قدر من النجاحات المادية لأن الحياة الدنيوية مهما طالت فإن نهايتها الموت وحياة القبر وحسابه ثم هول البعث والحشر والحساب والجزاء‏,‏ ثم الخلود إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏,‏ والخلود في الجنة يكون للذين اهتدوا إلي دين الله الحق فأقاموه في كل من قلوبهم وعقولهم ومجتمعاتهم أمرا واقعا في حياتهم ودعوا الناس إليه بالكلمة الطيبة والحجة البالغة أي‏:‏ بالحكمة والموعظة الحسنة‏,‏ كما أمر ربنا تبارك وتعالي‏,‏ والخلود في النار يكون للذين عرفوا الحق ثم حادوا باختيارهم عنه فضلوا وأضلوا أو للذين لم يحاولوا معرفة الحق أبدا فلم يعبدوا الله تعالي بما أمر‏,‏ بل عاثوا في الأرض فسادا وظلما واضطهادا لخلق الله‏,‏ ولم يقوموا بشيء من واجبات الاستخلاف في الأرض يمكن أن يشفع لهم في يوم الحساب عند رب العلمين‏.‏
وفي مقابل هذا المقام الكريم لنبي الله إبراهيم في القرآن المجيد نجد أن صورته في كتب الأولين مغايرة لذلك مغايرة كاملة‏.‏
فقد تحدثت هذه الكتب عن رحلة إبراهيم إلي مصر‏,‏ حيث ادعت عليه أنه أمر زوجته أن تكذب بالقول بأنها أخته لكي ينجو من القتل‏,‏ ويتربح من ورائها‏(‏ ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك‏)‏ وتروي الكتب قصتها مع فرعون مصر‏.‏ ثم تروي انفصال إبراهيم عن لوط وذهابه إلي موقع بلدة الخليل الحالية‏,‏ وذهاب لوط إلي سدوم‏,‏ جنوب البحر الميت من غور الأردن‏.‏
ثم تروي خبرا عن أسر لوط وإنقاذ إبراهيم له من الأسر‏,‏ وتكرر الادعاء بأن الله تعالي أعطي عهدا لإبراهيم يجعل به الأرض من نهر مصر إلي نهر الفرات ملكا أبديا لنسله من بعده‏(‏ وواضح أن هذا كذب‏.‏
ثم تتطرق بعض الكتب القديمة لقصة هاجر وإسماعيل‏,‏ ولعهد الختان‏,‏ ومرة ثالثة للعهد المفتري علي الله تعالي بإعطاء أرض الكنعانيين‏(‏ الفلسطينيين‏)‏ لنسل إبراهيم عليه السلام‏,‏ كما تعرض تلك الكتب لمعجزة حمل سارة وهي عجوز عقيم ولصلاة إبراهيم من أجل سدوم‏,‏ ولخراب كل من سدوم وعمورة‏,‏ ولقصة مفتراة علي نبي الله لوط وبنتيه بما لا يليق بأحط الناس قدرا في هذه الحياة فضلا عن نبي من أنبياء الله‏!!!‏
وبعد ذلك جاء ذكر كل من لقاء إبراهيم مع أبي مالك‏,‏ وميلاد إسحاق‏,‏ وطرد كل من هاجر وإسماعيل من أرض فلسطين‏,‏ وما سمي باسم ميثاق بئر السبع‏,‏ وامتحان إبراهيم‏,‏ وأبناء ناحور‏,‏ وموت سارة‏,‏ ثم ما كان من أمر إسحاق ورفقه إلي موت إبراهيم‏.‏
وفي كل هذا القصص لا نجد درسا واحدا يستفاد به من سيرة هذا النبي الصالح‏,‏ ولا عبرة تستخلص‏,‏ فضلا عن ركاكة الأسلوب‏,‏ والتكرار المخل والممل‏,‏ من هنا لا يمكن لعاقل أن يتقبل الادعاء الباطل الذي أثاره نفر من أعداء الله بأن القصص القرآني منقول عن الكتب القديمة‏,‏ وذلك لأن الفرق بين كلام الله وكلام البشر أوضح من الشمس في رابعة النهار‏,‏ والتشابه مرده إلي أن أصل القصة واحد‏,‏ رواها الناس فأساءوا وأخطئوا‏,‏ وسجلها رب العالمين في محكم كتابه فجاء بالحق اليقين‏...‏﴿ ... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ ‏(‏ النساء‏:122).‏
فالحمد لله علي نعمة الإسلام والحمد لله علي نعمة القرآن والحمد لله علي بعثة خير الأنام‏,‏ وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه‏,‏ ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏