﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾

هذا النص القرآني الكريم جاء في بداية العشر الثاني من سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها مائتان وست وثمانون‏(286)‏ بعد البسملة‏,‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق‏,‏ ويدور محورها الرئيسي حول قضية التشريع الإسلامي‏.‏ وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة‏,‏ وما جاء فيها من تشريعات‏,‏ وعقائد‏,‏ وأخبار‏,‏ وقصص‏,‏ وقواعد أخلاقية وسلوكية‏,‏ وإشارات كونية‏,‏ ونركز هنا علي ومضة الإعجاز الإنبائي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال‏.‏

من أوجه الإعجاز الإنبائي في النص الكريم‏:‏

يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ في محكم كتابه‏:‏

﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ‏(‏ البقرة‏:35)‏

وأكد ربنا ـ تبارك اسمه ـ علي نفس المعني في مقام آخر من القرآن الكريم قال ـ عز من قائل‏:‏ ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ‏(‏ الأعراف‏:19)‏

وقد اختلف المفسرون في تحديد الجنة التي أدخل إليها أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ هل هي جنة المأوي المعروفة باسم جنة الخلد وهي دار جزاء وخلود‏,‏ لا يخرج داخلها منها أبدا‏,‏ أم هي جنة في الأرض أعدها الله ـ سبحانه وتعالي ـ لهما‏,‏ وجعلها دار ابتلاء واختبار‏,‏ والواضح من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة أنها كانت جنة علي الأرض أي‏:‏ منطقة مرتفعة علي هيئة ربوة تعلو ما حولها‏,‏ زاخرة بالأشجار المثمرة‏,‏ ذات الظلال الوارفة‏,‏ والنضرة والبهجة الدائمة‏,‏ ولذلك وصفها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ موجها الخطاب إلي أبينا آدم ـ عليه السلام ـ قائلا له‏:‏

﴿ إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى . وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ﴾ (‏طه‏:119,118)‏
هذا بالإضافة إلي أن الجنة التي أسكنها آدم وحواء تم تكليفهما فيها ألا يأكلا من شجرة معينة‏,‏ وابتليا فيها بذلك‏,‏ والأرض هي دار الابتلاء‏,‏ وجنة الخلد هي دار الجزاء التي وعد الله ـ تعالي ـ المتقين بدخولها في الآخرة‏,‏ وهي ليست دار ابتلاء‏.‏

كذلك فإن إبليس دخل علي أبوينا آدم وحواء جنتهما الأرضية‏,‏ وهو محروم من الدخول إلي جنة المأوي‏,‏ وأن مجرد إخراج أبوينا آدم وحواء من الجنة التي أسكنا فيها ينفي عنها أن تكون جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخلها أبدا‏.‏

والاحتجاج بتعريف‏(‏ الجنة‏)‏ التي سكنها أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ لا يدل أبدا علي أنها جنة المأوي‏,‏ وذلك لأن الألف واللام هنا للتعريف‏,‏ وليسا للتعميم ويستدل علي ذلك من وصف القرآن الكريم لعدد من جنات الأرض بالتعريف‏,‏ وذلك من مثل قوله ـ تعالي‏:‏

﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ ‏(‏ القلم‏:17)‏

وكذلك فإن الاحتجاج بأن ذكر‏(‏ الهبوط‏)‏ من الجنة التي أدخل إليها أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ يمكن أن يشير إلي النزول من السماء إلي الأرض لا سند له علي الإطلاق‏,‏ وذلك لأن الهبوط قد يكون من مرتفع علي الأرض إلي ما دونه‏,‏ كما قد يكون هبوطا معنويا في مثل قوله ـ تعالي ـ‏:‏

(1) ﴿...‏ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ (‏البقرة‏:36)‏

‏(2)‏ ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ (‏البقرة‏:38)‏
‏(3)‏ ﴿ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ (‏الأعراف‏:24)‏

أو من السفينة إلي البر‏,‏ ودليلنا علي ذلك أقوال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ التي منها‏:‏

‏(1) ﴿...‏ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ‏..‏﴾ ومنه الآيات‏:‏

‏(2) ﴿...‏ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ ‏..﴾ (‏ هود‏:48)‏

ويؤكد حقيقة أرضية الجنة التي أدخلها أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ أنهما خلقا من طين الأرض وللخلافة في الأرض‏,‏ ولم يرد أنهما رفعا إلي السماء‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏

‏(1)‏ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ ‏(‏ البقرة‏:30).‏

‏(2)‏ ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴾ ‏(‏ السجدة‏:7).‏

‏(3)‏ ﴿ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين‏ ﴾ (‏ ص‏:71).‏

ويؤكد ذلك أيضا من أقوال المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قوله الشريف‏:‏ إن الله ـ تعالي ـ خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض‏,‏ وجاء بنو آدم علي قدر الأرض‏:‏ فجاء منهم الأحمر‏,‏ والأبيض‏,‏ والأسود‏,‏ وبين ذلك‏,‏ والسهل والحزن‏,‏ والخبيث والطيب‏(‏ أخرجه من أئمة الحديث‏:‏ أحمد‏,‏ وأبو داود‏,‏ الترمذي‏,‏ والبزار‏,‏ وابن حبان‏).‏

ليس هذا فقط‏,‏ بل إن هناك من أقوال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ ما يشير إلي أن جنة الخلد ستكون في الأرض الجديدة التي سوف تتبدل عن أرضنا الحالية وسوف تحتوي كل ذراتها بالكامل وذلك من مثل آياته ـ تعالي ـ‏:‏

*‏ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(‏آل عمران‏:133).‏
*‏ ﴿ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ ‏(‏ الأعراف‏:25).‏

*‏ ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ﴾
(‏إبراهيم‏:48).‏
‏*‏ ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾
(‏طه‏:55).‏
‏*‏ ﴿ وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ ﴾ (‏الزمر‏:74).‏
‏*‏ ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ﴾ (‏الحديد‏:21).‏
‏*‏ ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً . ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ﴾ (‏نوح‏:17,18).‏
كل هذه الأدلة تؤكد أن الجنة التي سكنها أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ كانت ربوة مرتفعة علي الأرض ذات أشجار نضرة‏,‏ وثمار يانعة‏,‏ وظلال وارفة‏,‏ تتوفر لهما فيها جميع حاجاتهما دون عناء أو تعب‏,‏ فلما خالفا أمر ربهما وأكلا من الشجرة التي نهيا عنها أهبطا إلي أرض الابتلاء والنصب‏,‏ والشقاء والتعب‏,‏ والكدر والنكد‏,‏ ولذلك قال ـ تعالي ـ‏:‏

﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ . فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ ‏(‏ البقرة‏:36,35).‏

وهذا الحين هو أجل كل منهما‏,‏ وأجل كل فرد من ذريتهما إلي قيام الساعة‏,‏ ولا يعني ذلك أبدا أنهما كانا خارجين عن حدود الأرض‏,‏ فقد خلقا منها‏,‏ وأدخلا الجنة عليها‏,‏ وأهبط بهما من تلك الجنة الأرضية هبوطا معنويا من مقومات الرعاية الإلهية الكاملة التي لا تكلف الفرد أية مسئولية عن توفير احتياجاته كلها‏(‏ الضرورية منها والكمالية‏)‏ إلي واقع الكدح الحقيقي من أجل توفير شيء من تلك الاحتياجات‏,‏ وتحمل المسئولية الكاملة عن تحقيق ذلك‏,‏ لأن أبوينا آدم وحواء مخلوقان ابتداء للحياة علي هذه الأرض‏,‏ ولذلك قال ـ تعالي ـ‏:‏

﴿...‏ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ‏..﴾ (‏ البقرة‏:30).‏
والتجربة التي مر بها أبوانا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ كانت تربية لهذين المخلوقين اللذين استخلفهما الله في الأرض‏,‏ وإعدادا لهما من أجل فهم حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة عبد الله‏,‏ يعبده ـ تعالي ـ بما أمر‏,‏ ومستخلفا في الأرض مطالبا بعمارتها وإقامة عدل الله فيها‏,‏ كما هو مطالب بمقاومة كل محاولات الشيطان من أجل إغوائه عن تحقيق رسالته في هذه الحياة الدنيا‏,‏ حتي تكون هذه الحياة بحق هي دار ابتلاء للإنسان وفترة اختبار وامتحان يثبت لنفسه في نهايتها استحقاقه بالخلود في الجنة أو في النار‏,‏ وبذلك يقيم الحجة علي نفسه بنفسه‏,‏ وإلا فإن علم الله المحيط بكل شيء غني عن هذا الاختبار حتي يميز أهل الجنة عن أهل النار‏.‏

من هنا كانت حكمة الله من إدخال أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ في الجنة حتي يدركا شيئا من نعيمها‏,‏ ثم يعرضهما ربهما لمحاولة من إبليس من أجل إغوائهما عن الالتزام بأوامر الله‏,‏ ثم ييسر لهما التوبة إلي الله‏,‏ والندم علي مخالفة أمره‏,‏ ومعرفة حقيقة العدواة بين الشيطان والإنسان حتي يحتاط كل إنسان عاقل لنفسه من غواية شياطين الجن والإنس‏,‏ ويعرف كيف يعود إلي ربه إذا غلبه الشيطان علي نفسه‏,‏ فلا ييأس الإنسان من رحمة الله‏,‏ ويتعلم كيف ينتصر علي عدوه الأول إذا شاء الانتصار عليه‏,‏ ويعرف مصيره إذا سمح للشيطان بالانتصار عليه‏!!‏

وقصة أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ كما جاءت في كتاب الله هي من أوجه الإعجاز الإنبائي في القرآن الكريم‏,‏ وهو إنباء غيبي لأن أيا من بني آدم لم يشهد خلق أبويه آدم وحواء‏.‏

من هنا يتضح أن قصة خلق أبوينا آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ كما جاءت في القرآن الكريم لم تنقل من كتب الأقدمين‏,‏ وإن كان بعض التشابه في القصة يؤكد أن أصلهما واحد‏,‏ وإن كان أحدهما قد تعرض للتشويه البشري‏,‏ وبقي الآخر بروايته الربانية‏.‏ فالحمد لله علي نعمة الإسلام‏,‏ والحمد لله علي نعمة القرآن‏,‏ والحمد لله علي بعثة خير الأنام سيدنا محمد النبي العربي‏,‏ وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه‏,‏ ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.