﴿ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ ‏(‏ مريم‏:42,41)‏


هاتان الآيتان القرآنيتان الكريمتان جاءتا في خواتيم النصف الأول من سورة مريم‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ثمان وتسعون‏(98)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم تكريما للسيدة مريم البتول‏,‏ التي جاءت معجزة حملها بابنها عيسي من أم بلا أب‏,‏ ووضعها إياه رضيعا يتكلم وهو في المهد كأحد أهم أحداث السورة‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة مريم حول قضية العقيدة الإسلامية القائمة علي أساس من توحيد الله ـ سبحانه وتعالي ـ توحيدا مطلقا‏,‏ وتنزيهه عن الشبيه‏,‏ والشريك‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏,‏ وعن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏.‏
هذا‏,‏ وقد سبق لنا استعراض سورة مريم‏,‏ وما جاء فيها من ركائز العقيدة‏,‏ والإشارات العلمية والتاريخية‏,‏ ونركز هنا علي ومضة الإعجاز العلمي والتاريخي في وصف سورة مريم للحوار الذي تم بين أبي الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأبيه‏,‏ وهو الحوار الذي لم يشر إليه أي من كتب الأولين‏.‏

الإعجاز العلمي والتاريخي في ذكر حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه‏:‏
جاء ذكر حوار إبراهيم ـ عليه السلام ـ مع أبيه في أربع من سور القرأن الكريم هي‏:(‏ الأنعام‏:74‏ ـ‏78,‏ مريم‏:41‏ ـ‏50,‏ الأنبياء‏:51‏ ـ‏73,‏ الشعراء‏:69‏ ـ‏98),‏ وقد سبق استعراض ما جاء من هذا الحوار في سورة الأنعام‏,‏ ونركز هنا علي ما جاء منه في سورة مريم حيث يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ﴿ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياًّ * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِياًّ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِياًّ * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِياًّ * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياًّ * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ (‏مريم‏:41‏ ـ‏50).‏

أولا: من أوجه الإعجاز العلمي في هذا الحوار:-
(1)‏ أن الأصل في الإنسان ـ ذلك المخلوق العاقل‏,‏ الحر‏,‏ المكلف والمكرم ـ ألا يخضع بالعبادة إلا لمن هو أعلي منه وأقوي وأسمي وأعلم وأحكم‏,‏ أي‏:‏ لا تجوز عبادة الإنسان لغير الله ـ سبحانه وتعالي ـ وأن قمة الخير في الإنسان هي خضوعه بالعبادة لله ـ تعالي ـ وحده‏,‏ وذلك لأن الإنسان هو أعلي المخلوقات الأرضية‏,‏ وآخرها خلقا‏,‏ وأكملها بناء وعقلا‏,‏ ومن ثم فلا يجوز له أن يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا من أمثال النجوم والكواكب‏,‏ والأصنام‏,‏ والأوثان‏,‏ والشيطان‏,‏ والشهوات‏,‏ والمال‏,‏ والسلطان‏,‏ والذات‏,‏ كما لا يجوز له أن يعبد غيره من بني الإنسان الذين لا يملكون له من الأمر شيئا‏,‏ ولذلك قال إبراهيم لأبيه في أدب جم‏: ﴿...‏ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾
‏(‏ مريم‏:42).‏
(2)‏ تقديم السمع علي الإبصار في النص القرآني السابق الذي يقول الله فيه‏:‏ ﴿ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ﴾ ‏(‏ مريم‏:42). ومن الثابت علميا أن المنطقة السمعية في المخ تتكامل عضويا قبل المنطقة البصرية في مراحل الحمل وبعد الولادة‏.‏
(3)‏ أن عبادة الإنسان لغير الله ـ تعالي ـ أو إشراكه هذا الغير في عبادة الخالق العظيم هي انحطاط بإنسانية الإنسان‏,‏ وإهدار لكرامته‏,‏ فضلا عن كونه شركا بالله وكفرا به‏.‏ ومن هنا كان هذا النقد النافذ من إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأبيه وقومه وقد كانوا يعبدون الكواكب والنجوم‏,‏ والأصنام والأوثان‏,‏ كما فعل غيرهم من الكفار والمشركين عبر التاريخ‏,‏ ولا يزالون إلي قيام الساعة‏.‏
(4)‏ أن الإنسان ـ مهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنة‏,‏ ومهما حصل من العلوم المكتسبة ـ هو محتاج إلي وحي السماء في الأمور الغيبية من مثل معرفة ذاته‏,‏ وخالقه‏,‏ ورسالته في الحياة الدنيا‏,‏ ومصيره من بعدها‏,‏ ولذلك قال إبراهيم لأبيه في احترام‏,‏ ووداعة‏,‏ وحلم بالغ‏,‏ وتواضع جم‏:‏﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِياًّ ﴾
‏(‏مريم‏:43).‏
(5)‏ إثبات حقيقة نبوة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهي حقيقة دينية وتاريخية يؤكدها القرآن الكريم في العديد من الآيات‏.‏
(6)‏ التأكيد علي عدم وجود أية غضاضة في أن يتبع الوالد ولده إذا كان الولد علي اتصال بمصدر أعلي من الوحي أو العلم النافع من العلوم المكتسبة‏.‏
(7)‏ التأكيد علي أن أي انحراف عن إخلاص العبادة لله ـ تعالي ـ وحده‏(‏ بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولا صاحبة ولا ولد‏)‏ هو انصياع لوساوس الشيطان أو عبادة مباشرة له‏,‏ ووجود شياطين الإنس والجن هو من حقائق كل من الدين والتاريخ‏,‏ وأولياء الشيطان خسروا الدنيا والآخرة‏,‏ وسيبقون في هذا الخسران المبين لأن الشيطان يغويهم دوما بالخروج علي منهج الله‏.‏
(8)‏ الإشارة إلي تملك العقيدة من قلوب وعقول تابعيها حتى لو كانت عقيدة فاسدة‏,‏ ولذلك سمع إبراهيم ـ عليه السلام ـ‏(‏ وهو النبي الموصول بالوحي‏)‏ من أبيه‏(‏ عابد الكواكب والنجوم والأصنام‏)‏ هذا التهديد الصارم‏,‏ والوعيد الجازم الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِياًّ ﴾ ‏(‏ مريم‏:46).‏ من هنا كانت ضرورة الاهتمام بأمر العقيدة ودراستها بعمق قبل اعتناقها والتمسك بها‏,‏ أو إتباع الآباء إتباعا أعمي في قبولها‏.‏
(9)‏ التوجيه بضرورة معاملة الوالدين بالإحسان حتى ولو كانا علي الكفر‏,‏ وجابها الأبناء المؤمنين المهذبين بالصلف والغلظة والقسوة‏.‏ وهذا التوجيه مستمد من رد نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ علي غلظة أبيه المشرك بقوله الرقيق المؤدب المهذب الممتلئ بالإيمان بالله تعالي وذلك و ذلك بالنص التالي‏:‏ ﴿ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِياًّ * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِياًّ ﴾ ‏(‏ مريم‏:48,47).‏
(10)‏ التأكيد علي أن جزاء الإحسان إلي الناس هو الإحسان من الله ـ تعالي ـ فلما اعتزل إبراهيم ـ عليه السلام ـ أباه وقومه‏,‏ واستنكر عبادتهم الأصنام والكواكب والنجوم‏,‏ وهجر ديارهم‏,‏ أكرمه الله ـ سبحانه وتعالي ـ بإيمان نفر من أهله وصحبتهم له في هجرته‏,‏ ووهب له ذرية صالحة‏,‏ تحركت فيها النبوة إلي عدد من الأجيال‏,‏ كما وهب لهم الله ـ تعالي ـ من رحمته التي آنستهم في هجرتهم‏,‏ وعوضهم بها عن الأهل والديار‏,‏ وجعلهم من الصادقين في دعوتهم إلي الله‏,‏ يسمع لهم ويطاع وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي‏:‏ ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياًّ * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياًّ ﴾ ‏(‏ مريم‏:50,49).‏‏


ثانيا‏:‏ من أوجه الإعجاز التاريخي في حوار نبي الله إبراهيم مع أبيه‏:
أن هذا الحوار علي أهميته وموضوعيته لم يتعرض له أي من كتب الأولين التي ذكرت إبراهيم ـ عليه السلام ـ عشرات المرات‏,‏ وتعرضت لنسبه‏,‏ ولأعمار أسلافه‏,‏ وأبناء إخوته‏,‏ وزوجه‏,‏ دون التعرض للخلاف العقيدي بينه وبين والده وقومه‏,‏ وهو من الأمور الفاصلة في حياته‏,‏ وكان السبب الذي دفعه إلي الخروج من أرضه‏,‏ ومفارقته لقومه‏,‏ بل ذكرت تلك الكتب خروج كل من إبراهيم وزوجه ووالده وابن أخيه لوط من بلدة أور عاصمة الكلدانيين للذهاب إلي أرض الكنعانيين‏(‏ فلسطين‏),‏ ولكنهم توقفوا في مدينة حران‏,‏ حيث مات والد إبراهيم ودفن‏,‏ ثم واصل هو ومن كان معه السير إلي أرض الكنعانين‏,‏ ثم إلي النقب‏,‏ ثم إلي مصر‏,‏ ثم عاد إلي فلسطين ليدخل في معركة عسكرية لإنقاذ ابن أخيه لوط‏,‏ ثم الادعاء بحصوله علي عهد من الله ـ تعالي ـ بجعل أرض فلسطين ملكا أبديا لإبراهيم ولذريته من بعده‏(‏ وهذا بالطبع من نسج خيال الصهاينة‏,‏ ومن دسهم علي الله‏)‏ ولم ترد إشارة واحدة في كتب الأولين عن سبب مغادرة إبراهيم ـ عليه السلام ـ أرض ميلاده ومسقط رأسه‏.‏
وذكرت كتب الأولين أن إبراهيم أمر بذبح ابنه إسحاق‏(‏ وليس إسماعيل‏),‏ وهذا أيضا من دس الصهاينة‏,‏ وذكرت تلك الكتب أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ ذهب إلي بئر السبع‏,‏ وتحدثت عن زواجــه امــرأة اسـمها كيتوراه ‏(Keturah)‏ أنجبت له عددا من الأبناء لم يرد لهم ذكر من بعده‏,‏ ثم مات ودفن في مقبرة المكفيلة بمدينة الخليل الفلسطينية وهذه الكتب لم تذكر شيئا عن علاقة إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأبيه‏,‏ ولا عن خلافه الديني معه‏,‏ ولا عن حواره حول ذلك‏,‏ ولا عن حسن القيام بمفارقته‏,‏ ولا عن الحكم المستفادة من حواره مع أبيه‏,‏ وهنا يتضح الفارق بين كلام الله ـ سبحانه وتعالي ـ المحفوظ بحفظه وبين كلام البشر الذي ظل يتناقله الناس مشافهة جيلا بعد جيل عبر مئات من السنين‏,‏ أضافوا إليه‏,‏ وحذفوا منه‏,‏ ونسوا ما نسوا‏,‏ وحرفوا وبدلوا وغيروا‏,‏ ثم دون هذا التراث الشعبي حين دون بأيدي نفر من بني آدم الذين هم ليسوا بأنبياء ولا بمرسلين‏,‏ ومن ثم فهم ليسوا بمعصومين فيما كتبوا‏,‏ ولذلك ظلت كتاباتهم عرضة للمراجعة تلو المراجعة‏,‏ وللتحرير والتطوير‏,‏ وللحذف والزيادة إلي يومنا هذا‏,‏ وستبقي كذلك إلي أن يشاء الله‏.‏