﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ﴾ ‏(‏البروج‏:4)‏

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة البروج‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها ثنتان وعشرون‏(22)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقول ربنا ـ تبارك وتعالي‏:‏ ﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ ﴾
ويدور المحور الرئيسي لهذه السورة المباركة حول قضية العقيدة الإسلامية‏,‏ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية‏,‏ مركزة علي حادثة أصحاب الأخدود كنموذج لتجبر أهل الباطل علي أهل الحق‏,‏ ولثبات أهل الحق أمام فتن أهل الباطل انطلاقا من اليقين بأن الله العزيز الحميد قد أقسم بعظيم قدرته وبطلاقة إرادته بالدفاع عن عباده المؤمنين‏,‏ وهذا القسم المطلق يشمل الزمان والمكان إلي قيام الساعة‏.‏
وتبدأ السورة الكريمة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ *‏ وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ *‏ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ *‏ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ *‏ النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ *‏ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ *‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ *‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾‏ (البروج‏:1‏ ـ‏9).‏
والقسم بالسماء تنبيه لنا إلي دقة بنائها‏,‏ واتساع أبعادها‏,‏ وإحكام حركات أجرامها‏,‏ وانضباط كل أمر من أمورها‏;‏ ووصفها بذات البروج تأكيد علي كل ذلك لأن البروج هي التجمعات النجمية الإثنا عشر التي تحيط بالكرة السماوية كحزام لها عند دائرة البروج‏,‏ وهي الدائرة الكبري التي يقع فيها مستوي مدار الأرض حول الشمس الذي يعرف باسم المستوي البروجي ويعرف بأنه المستوي الذي يشمل الخط الواصل بين كل من مركز الشمس ومركز ثقل نظام الأرض والقمر‏,‏ واتجاه دوران مركز ثقل هذا النظام حول الشمس‏(‏ وهو يقع في نقطة تقدر بنحو‏4700‏ كم بعيدا عن مركز الأرض أي علي عمق يقدر بنحو‏1700‏ كم تحت مستوي سطح الأرض‏).‏
وعلي الرغم من ذلك‏;‏ فإن الإحداثيات البروجية في الأرصاد الفلكية تنسب كلها إلي مركز الأرض من قبيل التقريب‏.‏ وتتأرجح هذه الإحداثيات بدورة يقدر طولها بنحو الشهر حول مستوي البروج‏,‏ وذلك باختلاف طفيف بسبب دوران كل من الأرض والقمر حول مركز ثقلهما المشترك‏.‏ ولهذا السبب فإن مدار الشمس الظاهري طوال السنة علي الكرة السماوية ينطبق علي دائرة البروج‏,‏ ووقوع الشمس الظاهري في كل برج من بروج السماء يحدد شهور السنة الإثني عشر‏,‏ كما يحدد طول السنة ذاتها‏,‏ ومن هنا كان القسم بالسماء ذات البروج‏,‏ ويشغل كل برج من هذه البروج نحو‏(30‏ درجة‏)‏ من دائرة السماء‏(‏ المقدرة بـ‏360‏ درجة‏),‏ وإتمام حركة الشمس الظاهرية فيها يحدد السنة الشمسية لأهل الأرض‏.‏ وهذه البروج الإثنا عشر تسمي مجازا بأسماء منها‏:‏ الحمل‏,‏ الثور‏,‏ التوءمان‏,‏ السرطان‏,‏ الأسد‏,‏ العذراء‏,‏ الميزان‏,‏ العقرب‏,‏ القوس‏,‏ الجدي‏,‏ الدلو‏,‏ والحوت‏.‏
ويأتي بعد القسم بالسماء ذات البروج‏,‏ قسم ثان يقول فيه ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ﴿وَالْيَوْمِ المَوْعُود﴾ِ وهو يوم القيامة الذي يتم فيه تدمير الكون وإعادة خلقه‏,‏ ثم بعث الأموات وحشرهم‏,‏ وعرضهم الأكبر أمام خالقهم للحساب والجزاء‏,‏ وهو اليوم الذي وعد الله ـ تعالي ـ به عباده‏,‏ وحذرهم من أهواله‏.‏
ثم يأتي القسم الثالث الذي يقول فيه الحق ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ ‏ والشاهد من الشهادة بمعني الحضور أو الشهادة علي الغير‏,‏ والمشهود هو الحاضر أو من يشهد عليه‏,‏ والمعني‏:‏ وأقسم بالأنبياء الذين يشهدون علي أممهم بالحق‏(‏ وعلي رأسهم خاتمهم وإمامهم أجمعون سيدنا محمد ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي جميع أنبياء الله ـ‏)‏ وأقسم بالمشهود من الخلق الذين سوف يتم بعثهم من قبورهم‏,‏ وسوقهم إلي أرض المحشر للحساب والجزاء‏,‏ وجميع أعمالهم التي اقترفوها في الدنيا منشورة يشهدون عليها‏,‏ ويجازون عليها‏,‏ كما أقسم بما في ذلك كله من الشدائد والأهوال التي حذرت الخلائق جميعا منها‏.‏
ويأتي جواب هذا القسم المثلث بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏ ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ﴾ أي‏:‏ لقد لعنوا أشد اللعن‏,‏ وطردوا من رحمة الله شر الطرد‏.‏ وأصحاب الأخدود هم قوم من مشركي اليمن الذين نقموا علي إيمان المؤمنين‏,‏ وتوحيد الموحدين من بينهم‏,‏ فقاموا تحت التهديد بإحراقهم في النيران التي سعروها في الأخدود الذي حفروه إلي الجنوب من وادي نجران بمحاولة ردهم عن دينهم‏,‏
فلما رفض عباد الله المؤمنون هذا التهديد قام أصحاب الأخدود بإلقاء الرافضين للشرك بالله في سعير نيران هذا الأخدود ظلما وتجبرا وعدوانا علي حقوقهم الشرعية في اختيار الدين الذي يريد كل منهم أن يدين نفسه به لله ـ تعالي ـ‏,‏ ولذلك أتبع الله ـ سبحانه وتعالي ـ إسقاط لعناته علي أصحاب الأخدود بقوله العزيز‏:‏ النار ذات الوقود وهي جملة بدلية بدل اشتمال من الأخدود الممتلئ بالنيران المشتعلة في الحطب وغيره من صور الوقود الذي أشعلوه في أعماق الأخدود لعذاب المؤمنين الموحدين بالله ـ تعالي ـ حرقا بالنيران‏,‏ وهؤلاء المشركون المتجبرون جلوس حول ذلك الأخدود الممتلئ بالنيران المشتعلة وهم يتشفون بإلقاء المؤمنين في جمرة النيران حتي يتم إحراقهم أحياء فيها‏,‏ وهم من غلظة قلوبهم‏,‏ وشدة إجرامهم يتهللون ويضحكون كلما ألقي في النار أحد من المؤمنين‏,‏ وما كرهوا منهم إلا توحيدهم لله ـ تعالي ـ‏,‏ وتنزيهه عن الشريك‏,‏ والشبيه‏,‏ والمنازع‏,‏ والصاحبة والولد‏,‏ وعن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلاله‏,‏ وإعلانهم أن الله ـ تعالي ـ هو خالق كل شيء‏,‏ وهو رب كل شيء ومليكه‏,‏ ولذلك فلا تجوز عبادة غيره‏,‏ ولا أن يخشي عقاب غيره‏,‏ ولا أن يرجي الثواب من غيره‏,‏ فهو ـ وحده ـ له ملك السماوات والأرض‏,‏ وهو ـ تعالي ـ وحده الذي علي كل شيء شهيد‏,‏ يشهد علي جميع أعمال خلقه‏,‏ ويجازي كلا بعمله‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏﴿إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ *‏ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *‏ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾‏ (البروج 6-9).
ثم تنتقل الآيات إلي تقرير عدد من الأحكام الإلهية المستمدة من هذه الواقعة المفزعة‏,‏ و التي هي في الوقت نفسه أحكام مطلقة تؤكد لكل ذي بصيرة أن الدنيا الغابرة هي رحلة قصيرة إلي الآخرة الأبدية الباقية‏,‏ ولا يمكن لعاقل أن يضحي بآخرته من أجل دنياه‏,‏ وفي ذلك تطمين للمؤمنين الذين حرقوا في أخدود مشركي أصحاب الأخدود‏,‏ وتهديد للذين قاموا بهذه الجريمة البشعة‏,‏ وفيه تطمين لكل مسلم ومسلمة يتعرض أو تتعرض لفتن المشركين في كل مكان وفي كل حين‏,‏ بأن مصيرهم الخلود في جنات النعيم‏,‏ وفيه ـ في الوقت نفسه ـ تحذير‏(‏ للذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا‏)‏ من مغبة أعمالهم التي قد تخلدهم في نار جهنم إلي أبد الآبدين‏.‏
وتستعرض الآيات عددا من صفات الله ـ تعالي ـ المؤكدة علي طلاقة قدرته ونفاذ إرادته‏,‏ وفي ذلك تقول‏:‏ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ * ذُو العَرْشِ المَجِيدُ *فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ (البروج 10-16)
وتؤكد الآيات أن الذين ابتلوا المؤمنين والمؤمنات في دينهم بالإيذاء والتعذيب الشديدين ـ كما فعل أصحاب الأخدود مع موحدي زمانهم‏,‏ وكما يفعل المشركون المتجبرون علي الخلق في كل زمان ومكان ـ ثم لم يتوبوا عن جرائمهم ويكفروا عن ذنوبهم تلك‏;‏ فإن الله ـ تعالي ـ يتهددهم بعذاب جهنم وحريقها
كما عذبوا عباده الموحدين بنيران الدنيا‏.‏ وشتان بين نار الدنيا الآنية الضعيفة‏,‏ وهي للحظات ثم تنتهي‏,‏ ونار الآخرة التي لا تبقي ولا تذر‏,‏ وتظل كذلك لآماد لا يحددها إلا خالق الوجود ومدبر أمره‏.‏ و‏(‏الفتنة‏)‏ من‏(‏ الفتن‏)‏ وأصله إدخال خام الذهب في النار لصهره وتخليصه من شوائبه‏,‏ ثم استعمل في التعبير عن الاختبار والابتلاء بالمحن والشدائد‏,‏ وبالمنح واللطائف التي تظهر معدن الإنسان‏,‏ وحقيقة باطنه‏,‏ وإن كانت‏(‏ الفتنة‏)‏ غالبا ما تستخدم في الابتلاء بالشدائد والمحن التي تظهر للعبد حقيقة ذاته من انطواء علي الخير‏,‏ أو انطواء علي الشر‏,‏ وذلك ليقيم الله الحجة علي كل عبد بأعماله‏,‏ لأن الله ـ تعالي ـ يعلم كل شيء‏,‏ ولا يخفي ربنا علي علمه شيء في الأرض ولا في السماء‏,‏ وبالتالي فإنه ـ سبحانه وتعالي ـ لا يحتاج إلي فرض هذه الابتلاءات كي يحكم علي عباده بعدله المطلق‏.‏
وفي الوقت الذي تتهدد الآيات جبابرة الكفار والمشركين بعذاب جهنم الشديد‏,‏ فإنها تبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بجنات تجري من تحتها الأنهار‏,‏ وتصف ذلك بأنه هو الفوز الكبير‏,‏ أي‏:‏ الذي لا يدانيه فوز آخر‏,‏ لأن مجرد النجاة من النار فوز‏,‏ فيصبح الفوز بالجنة هو قمة الفوز الذي لا يدانيه فوز آخر‏.‏
وتنتقل الآيات بعد ذلك بالخطاب إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مؤكدة أن الله ـ تعالي ـ يبطش بالجبابرة والظلمة من عباده بطشا شديدا‏,‏ و‏(‏البطش‏)‏ هو الأخذ بالقوة التي لا تقاوم‏,‏ وبالشدة التي لا تحتمل‏,‏ وفي ذلك تحذير للغلاة الظالمين المتجبرين علي الخلق من الاستمرار في ظلمهم وتجبرهم لأن عاقبة ذلك وخيمة‏.‏
وفي ذلك أيضا تطمين للذين ظلموا بأن حقوقهم لن تضيع عند رب العالمين‏,‏ وهو ـ تعالي ـ الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ وهو الغفور الودود‏,‏ أي كثير المغفرة لكل من تاب إليه من عباده بصدق ـ مهما عظم الذنب‏,‏ وكبرت المعصية ـ‏,‏ وهو ـ تعالي ـ كثير الود لكل من آمن بجلاله‏,‏ ونزهه عن جميع صفات خلقه‏,‏ وعن كل وصف لا يليق بجلال ألوهيته‏,‏ وربوبيته‏,‏ ووحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ وأطاع أوامره‏,‏ واجتنب نواهيه ما استطاع إلي ذلك سبيلا‏,‏ وكان مستخلفا ناجحا في الأرض‏.‏
ووصف الله ـ سبحانه وتعالي ـ ذاته العليا بوصف‏ ﴿ ذُو العَرْشِ المَجِيدُ *فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ أكيد علي جميع المعاني السابقة في سورة البروج لأنه ـ تعالي ـ هو خالق العرش ومالكه‏,‏ وهو ـ سبحانه ـ العظيم في ذاته وصفاته‏,‏ وأسمائه‏,‏ وأفعاله‏,‏ وفي كل ما ينسب إلي جلاله‏;‏ وهو المهيمن علي جميع خلقه‏,‏ والمتفضل عليهم جميعا من جوده‏,‏ وفضله‏,‏ وكرمه‏,‏ ورحمته‏,‏ والذي لا يتخلف شيء عن إرادته‏.‏
وتختتم سورة البروج بخطاب موجه من الله ـ تعالي ـ إلي خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يذكره بأمتين من الأمم التي كفرت بأنعم ربها فأهلكهما الله وهما كل من أمة فرعون‏,‏ وقبيلة ثمود‏,‏ حتي يكون في ذلك إنذار لكفار ومشركي قريش‏,‏ ولكل كافر ومشرك من بعدهم‏, وفي ذلك تقول الآيات‏:‏ ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ (‏ البروج‏:17‏ ـ‏22).
ووصف ربنا ـ تبارك وتعالي ـ وحيه الخاتم بهذا الوصف الرائع‏:‏ ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ هو تأكيد علي شرف القرآن الكريم لأنه كلام رب العالمين‏,‏ وعلي صدق كل ما جاء فيه من ركائز الدين‏,‏ وأخبار الأمم السابقة‏,‏ وعلي أنه محفوظ بحفظ الله ـ تعالي ـ في الأرض وفي الملأ الأعلي‏.‏ وعلي الرغم من ذلك كله فإن كفار ومشركي قريش قد كذبوا به‏,‏ كما كذب ويكذب به كثير من الكفار والمشركين عبر التاريخ إلي اليوم‏,‏ وسوف يظلون كذلك حتي قيام الساعة‏,‏ وحينئذ يدركون الحقيقة ساعة لا يجدي الإدراك‏,‏ ويندمون ساعة لا يجدي الندم‏,‏ والقرآن باق‏,‏ صامد لكل التحديات‏,‏ ومحفوظ بحفظ الله‏,‏ لا يزول ولا يحول إلي أن يشاء ربنا تبارك و تعالي ـ وهو صاحب الحول والطول والأمر كله‏.‏


من ركائز العقيدة في سورة البروج:
(1)‏ الإيمان بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض‏,‏ والذي هو علي كل شيء شهيد‏,‏ والذي له البطش الشديد‏,‏ وهو ـ وحده ـ الذي يبدئ ويعيد‏,‏ وهو ـ تعالي ـ الغفور الودود‏,‏ خالق العرش ومالكه‏,‏ العظيم في ذاته‏,‏ وصفاته‏,‏ وأسمائه‏,‏ وأفعاله‏,‏ وأنه ـ سبحانه وتعالي ـ صاحب الإرادة المطلقة في هذا الكون وهو الفعال لما يريد‏,‏ وقدرته محيطة بكل شيء في هذا الوجود‏.‏
‏(2)‏ اليقين باليوم الموعود ـ وهو يوم القيامة ـ الذي وعد الله ـ سبحانه وتعالي ـ به جميع خلقه‏,‏ والتصديق بكل ما سوف يحدث فيه من تدمير كامل للكون وجميع ما فيه من كائنات‏,‏ ثم إعادة خلق كل ذلك‏,‏ وما سوف يستتبعه الخلق الجديد من بعث للأموات‏,‏ وحشر‏,‏ وحساب وجزاء‏,‏ ثم خلود‏;‏ إما في الجنة وإما في النار‏.‏
‏(3)‏ التسليم بأن الخلق سوف يعرضون أمام خالقهم في يوم القيامة‏,‏ لا تخفي من أي منهم خافية‏,‏ وأن أعمال كل فرد منهم سوف تعرض عليه بتفاصيلها ليشهد كل إنسان بنفسه علي أعماله‏.‏ وكذلك الأمم سوف تعرض علي الله ـ تعالي ـ أمة أمة‏,‏ وسوف يشهد علي كل أمة نبيها‏,‏ كما سيشهد خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ علي أمته‏,‏ ثم يشهد هو وأمته علي بقية الأمم‏.‏
‏(4)‏ التصديق بحتمية الصراع بين الحق والباطل‏,‏ وبمحاولة أهل الباطل دوما فتنة أهل الحق عن دينهم‏,‏ والفلاح الحق هو لمن يثبت من عباد الله المؤمنين في مثل تلك الفتن‏.‏
‏(5)‏ الإيمان بأن النجاة من النار‏,‏ والفوز بالجنة هو أكبر صور الفوز في حياة الفرد من الخلق المكلفين‏.‏
‏(6)‏ اليقين بكفر المكذبين بالقرآن الكريم من كفار قريش إلي كفار غيرهم من الأمم حتي قيام الساعة‏.‏
‏(7)‏ التسليم بأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين‏,‏ في صفائه الرباني‏,‏ وإشراقاته النورانية‏,‏ ولذلك لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏,‏ ولذلك أيضا فهو كتاب متناه في الشرف والرفعة‏,‏ وهو محفوظ بحفظ الله ـ تعالي ـ في الأرض وفي ملأ الله الأعلي‏.‏
من الإشارات العلمية والتاريخية في سورة البروج
(1)‏ القسم بالسماء ذات البروج‏,‏ والبروج هي من وسائط تحديد الزمن لأهل الأرض‏.‏
‏(2)‏ في القسم باليوم الموعود تأكيد علي حتمية الآخرة‏.‏
‏(3)‏ وفي القسم بالشاهد والمشهود تأكيد علي حتمية البعث‏,‏ والحشر‏,‏ والحساب والجزاء‏.‏
‏(4)‏ الإشارة إلي الحقيقة التاريخية لأصحاب الأخدود والوصف الكامل للواقعة ذاتها‏.‏
‏(5)‏ التأكيد علي وجود مرجعية عليا للكون بإثبات أن لله ملك السماوات والأرض‏,‏ وأن الله علي كل شيء شهيد‏.‏
‏(6)‏ إثبات أن الله ـ تعالي ـ هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده‏,‏ وهذه الحقيقة كما تنطبق علي الخلق الأول ثم البعث بعد الإفناء‏,‏ فإنها تجري علي جميع أحداث الكون الحالية من ميلاد ووفاة‏,‏ وخلق وإفناء مما يجدد الكون بما فيه ومن فيه‏(‏ ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏).‏
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف أقصر الحديث في المقال القادم علي النقطة الرابعة من القائمة السابقة والمتعلقة بالإعجاز التاريخي في الإخبار عن قصة أصحاب الأخدود في كل من كتاب الله وسنة خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين .



هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في مطلع سورة البروج‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها اثنتان وعشرون‏(22)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقسم من الله ـ تعالي ـ يقول فيه‏:‏ والسماء ذات البروج‏.‏

ويدور المحور الرئيسي لهذه السورة المباركة حول قضية العقيدة الإسلامية‏,‏ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية‏,‏ مركزة علي حادثة أصحاب الأخدود كنموذج لتجبر أهل الباطل علي أهل الحق‏,‏ ولثبات أهل الحق علي إيمانهم بالله الواحد الأحد‏,‏ الفرد الصمد‏,‏ مهما بلغت فتن الباطل وأهله‏,‏ انطلاقا من اليقين الراسخ بأن خالق الخلق وموجد الوجود كله هو رب هذا الكون ومليكه‏,‏ وأنه لا سلطان لمخلوق بجوار سلطان الله العزيز الحميد الذي أقسم بعظيم قدرته‏,‏ وبطلاقة إرادته علي معاقبة كل من يؤذي عبدا من عباده الموحدين‏,‏ وهذا القسم الإلهي المطلق يشمل الزمان والمكان إلي قيام الساعة‏.‏
هذا‏,‏ وقد سبق لنا استعراض سورة البروج‏,‏ وما جاء فيها من ركائز العقيدة‏,‏ والإشارات العلمية والتاريخية‏,‏ ونركز هنا علي ومضة الإعجاز التاريخي في وصف حادثة أصحاب الأخدود‏..‏
من جوانب الإعجاز التاريخي في ذكر القرآن الكريم حادثة أصحاب الأخدود:
أولا‏:‏ رواية رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ للواقعة‏:‏
في شرح هذه الواقعة أخرج الإمام مسلم عن صهيب أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال‏:‏ كان ملك فيمن كان قبلكم‏,‏ وكان له ساحر‏,‏ فلما كبر قال للملك‏:‏ إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر‏,‏ فبعث إليه غلاما يعلمه‏,‏ فكان في طريقه‏,‏ إذا سلك‏,‏ راهب‏,‏ فقعد إليه وسمع كلامه‏,‏ فأعجبه‏,‏ فكان إذا أتي الساحر مر بالراهب وقعد إليه‏,‏ فإذا أتي الساحر ضربه‏,‏ فشكا ذلك إلي الراهب‏,‏ فقال‏:‏ إذا خشيت الساحر فقل‏:‏ حبسني أهلي‏,‏ وإذا خشيت أهلك فقل‏:‏ حبسني الساحر‏.‏ فبينما هو كذلك إذ أتي علي دابة عظيمة قد حبست الناس‏,‏ فقال‏:‏ اليوم أعلم ألساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرا فقال‏:‏ اللهم‏!‏ إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة‏,‏ حتى يمضي الناس‏,‏ فرماها فقتلها‏,‏ ومضي الناس‏,‏ فأتي الراهب فأخبره‏,‏ فقال له الراهب‏:‏ أي بني‏!‏ أنت اليوم أفضل مني‏,‏ قد بلغ من أمرك ما أري‏,‏ وإنما ستبتلي‏,‏ فإن ابتليت فلا تدل علي‏.‏ وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء‏,‏ فسمع به جليس للملك كان قد عمي‏,‏ فأتاه بهدايا كثيرة‏,‏ فقال‏:‏ ما هاهنا لك أجمع‏,‏ إن أنت شفيتني‏,‏ فقال الغلام‏:‏ إني لا أشفي أحدا‏,‏ إنما يشفي الله‏,‏ فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك‏,‏ فأمن بالله‏,‏ فشفاه الله‏,‏ فأتي الملك فجلس إليه كما كان يجلس‏,‏ فقال له الملك‏:‏ من رد عليك بصرك؟ قال‏:‏ ربي‏,‏ قال‏:‏ أولك رب غيري؟ قال‏:‏ ربي وربك الله‏,‏ فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل علي الغلام‏,‏ فجيء بالغلام‏,‏ فقال له الملك‏:‏ أي بني‏!‏ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل‏,‏ فقال‏:‏ إني لا أشفي أحدا‏,‏ إنما يشفي الله‏,‏ فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل علي الراهب‏,‏ فجيء بالراهب‏,‏ فقيل له‏:‏ ارجع عن دينك‏,‏ فأبي فدعا بالمنشار‏,‏ فوضع المنشار في مفرق رأسه‏,‏ فشقه به حتى وقع شقاه‏,‏ ثم جيء بجليس الملك فقيل له‏:‏ ارجع عن دينك فأبي‏,‏ فوضع المنشار في مفرق رأسه‏,‏ فشقه به حتى وقع شقاه‏,‏ ثم جيء بالغلام فقيل له‏:‏ ارجع عن دينك‏,‏ فأبي‏,‏ فدفعه إلي نفر من أصحابه فقال‏:‏ اذهبوا به إلي جبل كذا وكذا‏,‏ فاصعدوا به الجبل‏,‏ فإذا بلغتم ذروته‏,‏ فإن رجع عن دينه‏,‏ وإلا فاطرحوه‏.‏ فذهبوا به فصعدوا به الجبل‏,‏ فقال الغلام‏:‏ اللهم‏!‏ اكفنيهم بما شئت‏,‏ فرجف بهم الجبل فسقطوا‏,‏ وجاء يمشي إلي الملك‏,‏ فقال له الملك‏:‏ ما فعل أصحابك؟ قال‏:‏ كفانيهم الله‏,‏ فدفعه إلي نفر من أصحابه فقال‏:‏ اذهبوا به فاحملوه في قرقور‏,‏ فتوسطوا به البحر‏,‏ فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه‏,‏ فذهبوا به‏,‏ فقال‏:‏ اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرفوا‏,‏ وجاء يمشي إلي الملك‏,‏ فقال له الملك‏:‏ ماذا فعل أصحابك؟ فقال‏:‏ كفانيهم الله‏,‏ ثم قال للملك‏:‏ إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به‏,‏ قال الملك‏:‏ وما هو؟ قال الغلام‏:‏ تجمع الناس في صعيد واحد‏,‏ وتصلبني علي جذع‏,‏ ثم خذ سهما من كنانتي‏,‏ ثم ضع السهم في كبد القوس‏,‏ ثم قل‏:‏ باسم الله‏,‏ رب الغلام‏,‏ ثم ارمني‏,‏ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني‏.‏ فجمع الملك الناس في صعيد واحد‏,‏ وصلب الغلام علي جذع‏,‏ ثم أخذ سهما من كنانته‏,‏ ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال‏:‏ باسم الله‏,‏ رب الغلام‏,‏ ثم رماه فوضع السهم في صدغه‏,‏ فوضع الغلام يده في صدغه في موضع السهم‏,‏ فمات‏,‏ فقال الناس‏:‏ آمنا برب الغلام‏,‏ آمنا برب الغلام‏,‏ آمنا برب الغلام‏,‏ فأبي الملك فقيل له‏:‏ أرأيت ما كنت تحذر؟ قد‏,‏ والله‏!‏ نزل بك حذرك‏,‏ قد آمن الناس‏.‏ فأمر الملك بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران‏.‏
وقال‏:‏ من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها‏,‏ أو قيل له‏:‏ اقتحم‏,‏ ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها‏,‏ فتقاعست أن تقع فيها‏,‏ فقال لها الغلام‏:‏ يا أمه‏!‏ اصبري‏,‏ فإنك علي الحق‏(‏ صحيح مسلم‏:‏ المعجم‏3005/17).‏


ثانيا‏:‏ رواية المؤرخين عن الواقعة‏:‏
تروي لنا كتب التاريخ أنه في القرن السادس الميلادي حكم بلاد اليمن أحد ملوك حمير باسم ذو نواس‏,‏ وكان كافرا مشركا‏,‏ متجبرا متغطرسا‏,‏ وإن نسب نفسه إلي الديانة اليهودية‏.‏ وكان من شدة عدوانيته أنه أراد إكراه الناس من حوله علي اعتناق دينه المحرف والقائم علي عبادته هو من دون الله الخالق البارئ المصور‏.‏ علما بأن اليهودية بعد أن تم تحريفها قامت علي العنصرية المقيتة التي لا تقبل أحدا من غير الأصول اليهودية التي يعتقدون بعلوها فوق غيرها من الأعراق انطلاقا من دعواهم الكاذبة بأنهم شعب الله المختار‏,‏ وأبناء الله وأحباؤه‏,‏ وأن باقي البشر عبارة عن حيوانات خلقت في هيئة آدمية حتى يكونوا لائقين للقيام بخدمة اليهود‏.‏
وانطلاقا من عدوانية ذي نواس شن عددا من الحروب علي جيرانه‏,‏ وكان من أبرزهم زعيم باسم ذي الشنائر انتصر عليه وقتله‏,‏ وبالتالي وطد ذو نواس ملكه في صنعاء‏,‏ وفرض معتقداته المحرفة علي كل اليمن‏.‏ ثم بلغه أن رسالة التوحيد التي دعا إليها نبي الله المسيح عيسي ابن مريم ـ عليهما السلام ـ قد وصلت إلي أهل نجران‏,‏ وقد آمن بها غالبية الناس حتى من كان منهم علي دين اليهود‏,‏ وعلي أثر هذا الخبر قرر ذو نواس أن ينكل بالذين آمنوا تنكيلا شديدا حتى ينفضوا عن إيمانهم بالله ـ تعالي ـ ويعودوا إلي معتقداته المحرفة‏,‏ وبالفعل جهز جيشا جرارا‏,‏ وخرج علي رأسه إلي نجران فحاصرها حصارا شديدا حتى استسلم أهلها‏,‏ فأرعبهم بقواته التي استباحت الأرض ومن عليها‏,‏ ثم جمع زعماء المدينة وخيرهم بين الردة عن الإيمان بالله أو القتل حرقا بالنيران‏,‏ فرفض غالبية المؤمنين الردة إلي الشرك بالله ـ تعالي ـ فأمر ذو نواس بحفر أخدود عميق علي هيئة حفرة مستطيلة كبيرة ملئت بالحطب وأضرمت فيها النيران حتى تأججت‏.‏ ثم جاء ذو نواس وزبانيته من الحاشية والجنود وجلسوا علي حافة هذا الأخدود المتأجج بالنيران‏, ثم نودي علي كل مؤمن ومؤمنة‏,‏ ليساوموا كل فرد منهم علي دينه‏,‏ ومن يرفض يلقي وسط النيران حيا ليموت أمام تهليل وضحكات ذو نواس وزبانيته‏,‏ وتشفيهم بإحراق عباد الله المؤمنين بالنيران في أعماق الأخدود‏,‏ وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ (‏ البروج‏:1‏ ـ‏9).‏
والآيات تثبت اللعنات والطرد من رحمة الله علي أصحاب الأخدود‏(‏ وهم ذو نواس وزبانيته‏)‏ وجواب القسم محذوف وتقديره‏:‏ إن كفار ومشركي قريش سوف تلحقهم لعنة أصحاب الأخدود لتشابه مواقفهم من الحق وأهله‏.‏
وبعد هذه الجريمة البشعة التي اقترفها ذو نواس وزبانيته سلط الله ـ تعالي ـ عليهم جيشا حبشيا بقيادة أبرهة الأشرم الذي غزا اليمن انتقاما لما تعرض له أهل نجران‏,‏ واستمرت الحرب عامين كاملين‏,‏ ولما يئس ذو نواس من تحقيق أي قدر من النصر نزل بجواده إلي البحر الأحمر منتحرا غارقا كي لا يقع في الأسر بأيدي أعدائه‏.‏
وبعد انتصار أبرهة الأشرم علي ذي نواس وجنده حكم اليمن باسم ملك الحبشة‏,‏ وبني بها عددا من الكنائس كان أهمها القليس بصنعاء‏,‏ كما قام بترميم سد مأرب بعد تصدعه‏,‏ وكان آخر الترميمات له‏.‏ وكان أبرهة الأشرم هو الذي قام بمحاولة فاشلة لغزو مكة المكرمة من أجل هدم الكعبة المشرفة لتحويل أنظار العرب وأموالهم إلي الأسواق التجارية في صنعاء وإلي كنيسة القليس‏.‏

ثالثا‏:‏ رواية الآثاريين عن الواقعة‏:‏
يقول الآثاريون إن الأخدود مدينة أثرية مهمة تقع في منطقة نجران في قرية تعرف باسم القابل إلي الجنوب من وادي نجران‏,‏ وإن عظام ورماد الذين أحرقوا علي أيدي ذي نواس من عباد الله المؤمنين لا تزال موجودة في هذا الأخدود حتى اليوم شاهدة علي صدق الواقعة‏.‏ ومن الثابت أن دين الله ـ تعالي ـ كان قد وصل إلي أهل اليمن علي زمن نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ الذي عاش في الفترة من‏(985‏ إلي‏932‏ ق‏.‏م‏)‏ وكان حكمه في الفترة من‏(969‏ إلي‏932‏ ق‏.‏م‏).‏
كذلك تدل دراسة الآثار في بقايا مملكة سبأ بجنوب اليمن علي وجود ذكر للملكة بلقيس‏(1000‏ ـ‏950‏ ق‏.‏م‏)‏ التي حكمت تلك المملكة وسافرت إلي مدينة القدس للقاء نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ الذي أسلمت علي يديه كما جاء في القرآن الكريم‏(‏ سورة النمل‏:22‏ ـ‏44).‏
وبناء علي إسلام ملكة سبأ آمن شعبها بالله الخالق البارئ المصور‏,‏ وانتشر التوحيد في أرض اليمن بعد أن كان أهلها يعبدون الشمس من دون الله‏.‏ وكانت مملكة سبأ أقدم الممالك العربية اليمنية‏.‏ وجاء ذكر الملكة بلقيس في بعض النقوش التي خلفها الملك سرجون ملك آشور‏(720‏ ـ‏705‏ ق‏.‏م‏),‏ كما جاء ذكر عاصمة ملكها مأرب في تلك النقوش‏.‏
وكانت صلة ملكة سبأ بنبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ سببا في عودة التوحيد إلي شبه الجزيرة العربية من جديد‏,‏ بعد أن كان أهلها قد انحرفوا عن ملة كل من أنبياء الله هود وصالح وإبراهيم وولده إسماعيل ـ عليهم السلام ـ‏,‏ ولذلك عبدوا الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب وغيرها‏.‏
ومن هنا أيضا شاع التوحيد الذي دعا إليه كل من أنبياء الله موسي وهارون‏,‏ وداود‏,‏ وسليمان في عدد من الجيوب في الجزيرة العربية‏,‏ وكان من أهمها أرض اليمن‏.‏ كما يشاع بأن اثنين من أبناء نبي الله سليمان قد حملا دين الله ـ سبحانه وتعالي ـ إلي بلاد الحبشة‏,‏ ومن هنا كانت صلة الأحباش بأهل اليمن‏.‏ وكان ملوك الدولة الحميرية في اليمن علي دين نبي الله موسي ـ عليه السلام ـ وكانوا يعرفون باسم‏(‏ التبابعة‏)‏ لأن اللقب‏(‏ تبع‏)‏ كان يطلق علي كل ملك من ملوكهم‏,‏ وكان أول التبابعة هو حسان بن أسعد بن أبي كرب الذي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد‏,‏ وجعل كلا من مأرب‏(‏ حيث السد المشهور‏)‏ وظفار عاصمتين لملكه‏,‏ وينسب إليه أنه كان أول من أمر بكسوة الكعبة المشرفة‏.‏
هذا الاستعراض النبوي والتاريخي والآثاري يؤكد علي صدق الإشارة القرآنية إلي أصحاب الأخدود‏,‏ وثابت تاريخا أن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ لم يزر منطقة نجران أبدا‏,‏ فضلا عن أن أحدا من معاصريه لم يكن يعلم بتفاصيل قصة أصحاب الأخدود‏,‏ وورودها في كل من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو صورة من صور الإعجاز التاريخي في الكتاب والسنة تشهد لكل ذي بصيرة بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية دون أن يضاف إليه أو أن ينتقص منه حرف واحد‏,‏ وتعهد ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتى يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام الله الخالق‏,‏ وشاهدا للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏