د. زينب عبد العزيز تكتب ..الفاتيكان وتحريف الحقائق !

بعد أن اقرّت الكنيسة الكاثوليكية أو الفاتيكانية فضائح قساوستها واعتداءاتهم الجنسية المتواصلة لمدة عقود ممتدة على آلاف الأطفال والشبان الأبرياء ، واعتبرت هذه الأفعال الإجرامية التى يعاقب عليها القانون "أفعال مخجلة وفاضحة " ، بل وبعد أن أعرب البابا بنديكت 16 عن أسفه لكل ما تكشف من جرائم ، ها هى المؤسسة العاتية تلجأ لنفس الأساليب التى مارستها على مدى تاريخها لتقوم بتحريف الحقائق وتتراجع عن موقفها لتتخذ موقفا هجوميا ضد المجتمع المدنى حماية للمجتمع الكنسى وسمعة "الكنيسة العالمية" كما يقولون.

وقد بدأت ملامح ذلك التحول يوم الأربعاء الموافق 31 مارس 2010 ، حينما أدان أسقف فرنسا الكاردينال فانتروَا ، ما أطلق عليه "العمليات الهجومية التى ترمى الى زعزعة مكانة البابا ، ومن خلاله زعزعة مكانة الكنيسة" ! كما أدان ما أطلق عليه "عمليات الدعاية الفظة" .. ثم توالت المقالات الصادرة بتوجيه واضح من قساوسة الفاتيكان لمختلف هيئاتها لتلقى بتهمة الفضائح على المجتمع المدنى فى كل مكان، قائلين ان نسبة الفساد والإنحرافات الجنسية به تبلغ 80 % فى كافة المستويات، أى ما معناه أن كل هذه الأرقام المتعلقة بالقساوسة والتى تعد بالآلاف ليست شيئا يُذكر مقارنة بما يوجد فى المجتمع المدنى من فساد !



واللافت للنظر أن أحداً لم يعلق على هذه التهمة الفجة إلا بضعة أصوات خافتة تعد على أصابع اليد الواحدة ، طالبت بإستقالة البابا ثم تاهت فيما يُطلقون عليه "صمت الموت" ..



ويوم الأحد ، وقبل قداس عيد الفصح مباشرة ، خرج الكاردينال أنجلو سودانو، عميد هيئة الكرادلة، وأطاح بكل الأعراف والبروتوكولات الكنسية ليعلن مساندته للبابا قبل إلقائه الخطاب الرسمى وفى حضوره ، مؤكدا له تأييد كافة الكرادلة والعاملين فى المؤسسة الكنسية والأساقفة المتناثرين فى العالم وكل شعب الكنيسة " الذى لا يتأثر يمثل هذه الثرثرة الدائرة والمحن التى تقلق أمة المؤمنين" ، ثم ختمها قائلا موجها كلامه للبابا بنديكت 16:

"أيها المسيح الوديع فى الأرض، إن الكنيسة معك" !!



وتفر الكلمات هلعاً وإشمئزازاً من مثل هذا التملق الذى هو الكفر بعينه ، حتى وإن كانت عملية تأليه المسيح وإطلاق عبارة "ربنا يسوع" عليه هى كفر فى حد ذاتها وشرك بالله عز وجل. لكن الغريب هنا أيضا الصمت الذى أحاط بهذه الواقعة إلا أصوات معدودة منها مجلة "جولياس" المسيحية التى وصفت موقف ذلك الكاردينال ب "الوقاحة" فقط لا غير.. ومن الواضح ان سيطرة المؤسسة الكنسية على الإعلام فى الغرب وفى كل مكان لا تزال مثلما كانت عليه أيام محاكم التفتيش ، حتى وإن لم تعد تستخدم القتل والحرق حياً فى العصر الحديث ، فهى تجيد فرض الصمت الذى يطلقون عليه عبارة "أومرتا" (Omerta) أى صمت الموت !



وفى السابع من إبريل 2010 قام ساندرو ماجيستر ، المسئول عن أحد المواقع الفاتيكانية ، بالدفاع عن بنديكت معتبرا أن محاولة المساس به هى حملة مغرضة وعلى غير أساس ، وذلك فى الوقت الذى تقدم فيه أحد المحامين فى أمريكا برفع قضية ضد البابا وإتهامه بالأدلة والوثائق بأنه آثرالصمت والمداراة على هذه الفضائح حين كان أسقفا فى ألمانيا ثم رئيسا لمحاكم التفتيش التى تغيّر إسمها حاليا ليصبح "لجنة عقيدة الإيمان" .. وقد طالب المحامى أن يقوم البابا بالمثول أمام المحكمة ليشهد بعد تأدية اليمين القانونية علنا بأنه يقول الحق بعد إسقاط الحصانة عنه بصفته رئيسا لدولة الفاتيكان، التى هى ليست دولة حقيقية وإنما لافتة تعاون الكنيسة الرومية على التدخل فى الشئون الدولية للتحكم والسيطرة عليها.



أما ساندرو ماجستير فقد تناول المواقف الستة التى أدت إلى زوابع مختلفة منذ ان تولى البابا بنديكت 16رئاسة الفاتيكان فى 19 إبريل 2005 ، وتم تحويلها الى مكاسب فى صالح البابا بفضل مهارته الفكرية والعلمية على حد وصفه. وهذه المواقف الستة هى :



1 ـ محاضرة راتسبون التى سب فيها عمدا متعمدا الإسلام ورسوله ، صلوات الله عليه ، فى 12

ديسمبر 2006 ؛

2 ـ قيام طلبة جامعة "لا سابيينتسا" فى روما بإتهام البابا بأنه عدو المنطق ورفضوا إستقباله؛

3 ـ إتهامه فى 22/12/2005 بمعاداة إنفتاح بعض قرارات مجمع الفاتيكان الثانى عند سماحه

بعودة القداس الى اللغة اللاتينية ؛

4 ـ إعادته للمنشقين عن الفاتيكان وتراخيه فى عملية توحيد الكنائس ؛

5 ـ القضية التى اثارها القس ريتشارد ويليامصن برفضة المحرقة ؛

6 ـ إتهام البابا بأنه قام بالتعتيم على الفضائح الجنسية حينما كان رئيسا للجنة عقيدة الإيمان.



ولا يسع المجال هنا للتعليق على أسلوب عرض هذه المواقف لتوضيح كيف تقوم الكنيسة بلىّ الحقائق وتحريفها، لكننى سأتناول القضية الأولى المتعلقة بمحاضرة راتسبون التى عرضها كاتب المقال الدفاعى قائلا :

"لقد تم إتهام بنديكت 16 بأنه عدو للإسلام ومؤيد حاسم لصراع الحضارات ، وهو الذى يتحلى ببصيرة وشجاعة فريدتين، إذ أنه أوضح أين تغوص جذور العنف ، فى عقيدة عن الله مبتورة تنقصها العقلانية (ويقصد بها كاتب المقال الإسلام) ، وأوضح أيضا كيف يمكن محاربتها (...) والدليل على صحة أقوال البابا هى تلك الخطوة التى أدت إليها الخطوات التالية فى مجال الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والإسلام ، وهى خطوات لم تتم ضد محاضرة راتسبون وإنما بفضلها. ومن نتائجها الأكثر ثمارا ووعودا ذلك الخطاب الموجه إلى البابا بعد أن وقّع عليه 138 من عقلاء المسلمين" !!



أى إن محاضرة راتسبون كانت من أجل إتهام الإسلام بأنه يتضمّن جذور العنف وان الإسلام عقيدة وليس دينا مستقلا بذاته وتنقصه العقلانية ، كما أوضح البابا فى خطبته هذه كيفية محاربة الإسلام. وليس هذا القول تجنى من جانبى على البابا وإنما توضيحا لوصف أحد رجاله لمعنى محاضرة راتسبون !!



وأول ما الفت النظر إليه هو كيف يقوم الفاتيكان بتحريف الحقائق ويطلق على من قبلوا التنازل عن الإنتماء لدينهم جهلا أو عن عمد من المسلمين الذين صاغوا الخطاب المشئوم ، وأطلق عليهم صفة "العقلاء" وليس مسمى "المفرطون فى حق دينهم" .. وهنا لا يسعنى إلا الإشارة إلى مقال سابق كتبته آنذاك تحت عنوان "خطاب ال 138 والفاتيكان"* لأوضح فيه كيف تلاعب الفاتيكان بناء على طلب البابا بعد ما رأى ردود أفعال المسلمين فى كل مكان فى العالم ، وتولّى لعبة صياغة هذا الخطاب الذى خرج الفاتيكان بموجب ما به من تنازلات بأننا نعبد نفس الإله ، والعياز بالله، أى أننا كمسلمين نعبد "ربنا يسوع المسيح الذى عُذب وصُلب ونزل الجحيم ثلاثة أيام ثم صعد إلى السماء وجلس على يمين الله الذى هو نفسه" ، مستشهدين بنصف سورة الإخلاص ، أى بالنصف الذى يتمشى مع مغالطة الكنيسة التى تقول "أن الآب والإبن والروح القدس الثلاثة واحد" ، واستبعدوا النصف الآخر من السورة الكريمة التى تقول "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" ، وهو النصف الذى ينفى ويرفض عملية التثليث تماما ويدين عملية التحريف لرسالة التوحيد التى قامت بها الكنيسة فى القرن الرابع الميلادى بتأليه يسوع عام 325 فى مجمع نيقية الأول وابتعادها عن رسالة التوحيد بالله.



أما الموقف الرابع الذى أثاره الكاتب الكنسى ساندرو ماجيستر ، وهو التهمة الموجَهة إلى بنديكت 16 بأنه يهمل عملية توحيد الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما ، فواقع الأمر أن عملية توحيد الكنائس هذه تتم سراً وبهدوء شديد ، مع مراعاة التعتيم عليها، مثلما كانت تتم عمليات التبشير لتنصير المسلمين قبل ان تصل إلى الفجوج المعروف حاليا ، وذلك لعدم تعرضها لهجوم ما أو لرفض من جانب المدافعين عن كيانهم الأورثوذكسى.

والدليل على ذلك إحتفال كافة الكنائس المسيحية هذا العام بعيد الفصح فى نفس اليوم ، مع مراعاة أن كافة التعليقات الإعلامية اكتفت بالإشارة الى ان المصريين يحتفلون بعيد شم النسيم وعيد الفصح ، ولم يقم أى فرد بتعليق جاد حول مغزى التوحيد العالمى لتاريخ عيد الفصح الذى يمثل ، فى واقع الأمر ، ركنا أساسيا فى تواريخ الكنيسة الأورثوذكسية وإختلافا عقائديا بينها وبين كنيسة الفاتيكان .. وليست تلك الخطوة بالتنازل الوحيد فزيارة رئيس الكنيسة الروسية هذا الأسبوع لم تكن من قبيل المجاملة وتبادل التحيات وإنما للحث على تقديم مزيد من التنازلات للفاتيكان ، طالما أن هذا التقارب يتم من أجل محاربة الإسلام ـ كما أعلنها البابا السابق يوحنا بولس الثانى فى كتابه عن "الجغرافية السياسية للفاتيكان" ..



وفى واقع الأمر لم يكن هذا العام أول مرة ، وإنما جرت التجربة الأولى منذ سنوات معدودة ، وحينما سألت الأنبا باخوميوس وكنا معا فى أحد المؤتمرات الخاصة بالحوار فى إيطاليا ، إن كانت هذه هى بداية لتوحيد الكنائس التى تسعى إليها روما ؟ أجابنى نفياً بأن تلك ظاهرة فلكية تحدث كل ثمانمائة وخمسون عاما ! .. وياللعجب ، أن تتكرر نفس "الظاهرة الفلكية" بعد خمس أو ست سنوات ولا يعلق عليها أحد ، أو لا يشير إلي أنها تعنى بداية تنازلات الكنيسة القبطية ، ولم يفتح أحد الغلاة فمه من أولئك الأقباط الذين ترتفع أصواتهم لكل ما يؤدى إلى المساس بالإسلام أو بالوحدة الوطنية المزعومة !



وإن دلت هذه المواقف الستة غير الأمينة فى عرضها عن شئ ، والتى أشار إليها ساندرو ماجيستر ، وكل ما أحاط ويحيط بمحاولة تحويل قضية الإعتداءات الجنسية على الأطفال عن مسارها ، فهى تدل يقينا على قدرة المؤسسة الفاتيكانية على لىّ الحقائق وتحريفها لكى تصل إلى مبغاها بكل ما تملك من نفوذ سياسى ، وقوى إعلامية وترويعية ، وتواطؤات محلية ، لتقوم بتشييد "الكنيسة العالمية" التى يسعى إليها..

13 إبريل 2010